شارع الرينبو

الأحد 29 آب 2010

بقلم عمر خليفة

تصوير ربى العاصي

عمان تمتلك شارعا.
تفرد الرينبو أمام عينيها، متشحا بالبياض، والسواد، وما بينهما.

أصبح لعمان شارع.

قبل أن يكون لها شاعر.

كل شيء في الرينبو، كالرينبو: خليط، بلا هوية، بلا شكل، بلا أسماء.
يظهر ويختفي، دون أن يمنحك الوقت فرصة لتذكره.

تسافر، ترجع، تسافر، ترجع.

والرينبو شيء واحد فقط: رينبو.

الرينبو على كل لسان: تسأل الطلاب أين يسهرون. “شارع الرينبو.” يمشي الناس في الرينبو. يأكلون في الرينبو. الرينبو ازدحام. قلق. أصوات.نساء. عيون. دخان. كحول. أرصفة. أغنياء. فقراء. جارا. القدس. بطاطا. “شاورماما”. “شاورمايز ات”.

تلتقط اختلاف الرينبو سريعا. تشعر أن عمان فيه تنتقم لماض ما. ماض جعل منها “اللا-بيروت”. عبر الرينبو، تحاول عمان بناء تاريخ من “الداون تاون” في سنوات قليلة.

مختلف الرينبو.
حتى الشرطة فيه مختلفة. أين، في الأردن، يمكن أن تشاهد رجال شرطة لطيفين؟ تبتسم الشرطة هناك. كيف لا؟ الكل يبتسم.
ابتسم
أنت في الرينبو.

بين الدوارالأول، ونهاية شارع الرينبو، تختصر عمان كل ما يمكن، ومالا يمكن، أن تقدمه.
نماذج إنسانية، بكل تناقضاتها.

الرينبو غال جدا، لكن الفقراء يجدون الوسيلة التي تسمح لهم بالانتماء إلى المكان.
الجلوس في شارع الرينبو دليل على شيء ما.
في مقهى “جرين تيرتل” أمام المجلس البريطاني عبارة: أنت في جبل عمان، إذن أنت فايع.

أنت في الرينبو. أنت فايع.

ثمة حاجة تجلس أمام مقهى جارا، مع بناتها، يأكلن الصبر ويشربن قهوة أحضرنها معهنّ من البيت، حتى لا يدخلن إلى مقهى ويدفعن فاتورة تعادل نصف إيجار الشقة.

هذه الحاجة، بمعنى ما، فايعة.

اليسار الأردني، على فرض وجوده، فايع أيضا بطريقته في شارع الرينبو.
يفضل المثقفون اليساريون الذهاب إلى مقهى “جرين تيرتل”، وهو أغلى من أي مقهى دخلته في نيويورك. عبارات كثيرة تملأ المقهى، مليئة بالافتعال والتشبيح، كما يقول الأردنيون.
“تع بورد”
اليسار الأردني، بالمناسبة، برجوازي.

الأرجيلة تخترق الرينبو، بكل ألوانه. لا ترى الوجوه في المقاهي. لا ترى الشفاه. لا العيون. الدخان يحميها. الدخان حجاب أمام التواصل، أو هو التواصل ربما.

في الرينبو أراجيل ببربيش طبي.
الأردنيون، في الرينبو، اكتشفوا خطر الأرجيلة.
لتجاوز الخطر، كان بإمكانهم ألا يدخنوا. لكنهم رفضوا. قرروا التحايل على الخطر.
اكتشفوا البربيش الطبي.
مقابل دينار ونصف زيادة فقط، يمكنك أن تدخّن تدخينا صحيا تماما.

قبل الأرجيلة، أو بعدها، لا بد من الطعام.
الرينبو شارع الطعام. طعام الرينبو، كالرينبو أيضا، يأتي سريعا، ويغيب أثره سريعا.
ليس هناك طعام أردني حقيقي في الرينبو، سوى الشاورما والفلافل.
ليس هناك منسف.
رينبو بلا منسف.
إهانة للرينبو، أم للمنسف؟

أرخص ما يمكن تناوله، سريعا، ساندويش فلافل من مطعم القدس.
40 قرشا، تشعرك للحظات أن هذا الشارع ليس مختلفا تماما عن باقي عمان.
صاحب المحل لطيف جدا، يقول “عمي” دائما، مثل “أبو محجوب”.
يراقبه العمال جيدا، ليتأكدوا أنه لم يخطئ في عدّ النقود.

من معه المال يجلس داخل الأماكن.
من لا يرغب في الدفع يجلس على الأرصفة.
لكن الجميع رينبو.

نساء يملأن الرينبو. نساء بكل الأشكال. حجاب. فياعة. حجاب موديرن. تنانير. جينز. شعر. روائح. نهود. غزل. نساء على الأرصفة. نساء في المكان. خارج المكان. في القلب. خارج القلب. نساء للصمت. نساء الرغبة. نساء للبقاء.
لكن التواصل قليل. الأردنيون، إجمالا، خجولون، كما علّق أحد أصدقائي من غير الأردنيين

في الرينبو مطعم اسمه “بطاطا”. كتب الاسم بالانجليزية طبعا. أغلب الأشياء في الشارع مكتوبة بالانجليزية. الانجليزية شرط الرينبو. على مدار أكثر من شهر، كنت أشاهد فتيات محجبات يجلسن خارج “بطاطا” ويأكلن منه.
ما السر؟ لا أدري.
الحجاب، في الرينبو، مذهل في جماله.
غطاء أبيض للرأس، مع جينز، وبلوزة ضيقة.
الحجاب، في كثير من أشكاله، لا يقلّ إثارة.
لكنه، في النهاية، حجاب.
ليس إغواء.
حجاب.
يجلسن على الرصيف. يضحكن. يمددن الأرجل. رائحتهنّ عطرة. وجوههنّ عطرة. شفاههنّ عطرة.
كل هذا، والرجل في مطعم “بطاطا”، مستمر في بيع البطاطا.

الازدحام في الرينبو أصبح جزءا من ثقافة المكان.
بعض السيارات لا تمرّ في الرينبو لتذهب إلى جهة أخرى.
المرور في الرينبو، هو المقصد.
نزهة. ينظر السائق وأصدقاؤه إلى ما حوله.
يعلّق. يعاكس. يصل إلى آخر الرينبو. يلفّ، يرجع مرة أخرى إلى الرينبو.
أين يذهب؟ إلى الرينبو. أين يرجع؟ إلى الرينبو. عبر ماذا؟ عبر الرينبو. لماذا؟ لأنه الرينبو.

هذا الازدحام يجعل من الرينبو لعنة على سوّاقي التاكسي.
حاولت مرارا أن أوقف تاكسي، وأطلب منه الذهاب إلى الرينبو.
“يبعث الله” كان يقول. لا يحب التاكسي الدخول في الشارع، مع كل ما يغري به الشارع.
أحيانا، يوافق السائق، مرغما، ويبدأ، طوال الطريق، بالحديث عن الضرر الذي سيلحقه بلاط الشارع بسيارته.
أحاول التدخل قائلا إنني لا أرغمه على الذهاب. لكنه يذهب. يتأفف طوال الطريق، في طريقة غير مباشرة لطلب بخشيش.

لماذا لم تمنع الأمانة السيارات من دخول الشارع؟ لا أدري.

في منتصف الشارع تقريبا، مسجد الصفدي.

حضور المسجد، والأذان المنبعث منه، يكمل مشهد الرينبو.
المسجد ابن شرعي للمكان. عمره من عمر الشارع ربما. قبل أن يصبح الرينبو شارعا مهما، كان المسجد. بعد أن أصبح الرينبو رينبو، بقي المسجد.

الأذان الجميل يختلط بكل شيء في الشارع. يقطع كل شيء.
دخان الأرجيلة. الفتاة الجميلة التي تهمس لصديقها بأذنه. الرجل الذي يشتم ازدحام الرينبو. عازفو الجيتار أمام مقهى جارا. بائع الصبر وهو ينادي. مناقشات اليساريين حول الفرق بين الــ “تاباس” الإسبانية والمعجنات العربية. شاربو البيرة في بار “لا كايي”. مثليو الجنس في “البوكسات كافيه”. القبلات على الدرجات الموصلة لمقهى “وايلد جوردان”. الشعر الملتهب بالتهاب الصيف. زوامير السيارات. الجسد المرتمي على قارعة الحب. العابرون. الماضون. الواقفون. معلم الفلافل في مطعم القدس.

الرينبو جميل.
عمان مقبرة جميلة، يقول محمود درويش.
الرينبو ليس مقبرة.
هو كل شيء،
ولا شيء.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية