من مصر: عن دعوى الاستقرار

الثلاثاء 08 شباط 2011

بقلم أحمد زكريا

Photo by Nasser Nouri, licensed under Creative Commons

هى دعوى و ليست دعوة ، لأنها قابلة للنظر و ربما القبول أو الرفض كما يحدث في القضايا !!
دعونا نتفق في البداية أن ما يحدث في مصر الأن هو حدث تاريخي ” فارق ” و “كاشف ” لا يمكن تغافله أو الغفلة عنه.

فهو كاشف لأنه :
–         كشف معدن الشعب المصري الذي قيل عنه الكثير و عن سلبيته، و قد كنت من ضمن مئات بل ألاف قالوا ذلك .
–         كشف حقيقة كانت غائبة عن الكثيرين ، وهي  أن التغيير لا يأتي من خلال قيام كل المجتمع ، بل تقوم جماعة معينة ربما لا تعرف بعضها لكن الهدف الأكبر هو الذي يجمعها
–         كشف أمرًا مهمــًا يرتبط بثقافة القطيع التي تنساق وراء أشياء فردية، حيث تنتشر أفكار مثل ” مرتب الشهر الذي تعطل بسبب المظاهرات ” ، هنا سيطرت ثقافة القطيع على المجتمع وفي الوقت نفسه كل فرد لم يبحث عن الأخرين، فالمرتب لا يؤثر على الجماعة ، وهذا يوضح مشكلة خطيرة ألا وهي مسألة الفردية التي تعصر الكثيرين بداخلها و تجعلهم لا يفكرون في مصلحة الجماعة الكبرى لأنهم يفكرون في مصالحهم الضيقة .

و فارق لانه :
–         لأن المصريين قبل الخامس والعشرين من يناير ليسوا هم المصريين بعد هذا اليوم المجيد
–         لأن المصريين وعوا أين حقوقهم و ماهي واجباتهم دون أي تربية سياسية من الدولة لهم
–         لأن المصريين علموا كيف يديرون حياتهم بدون الدولة وذلك عن طريق اللجان الشعبية مثلا التي نظمت المرور ومثلت حصن الدفاع عن الأحياء ، وبالتالي قام المواطن العادي بدور الدولة وبكل سلاسة دون أدني مشكلة .
–         كشف حقيقة دور الدولة الذي يجب أن تقوم به ، وهو حماية المواطنين لا قتلهم ، وهذا ما لم يكن يدركه المصريون حتى رأوا بأعينهم ماذا يفعل البوليس بهم بدلاً من حمايتهم .

لماذا يدعو إخواننا للاستقرار ؟
دعوى الاستقرار التي انتشرت كالنار في الهشيم منذ خطاب حزني غير مبارك دوافعها عديدة جدًا ، وسوف نحاول أن نرصدها قدر الاستطاعة، وذلك بعد أن انهكت في أحاديث و مجادلات مع الكثيرين من مؤيدي الاستقرار والراحة وعودة كل شيئ إلى سابق عهده :

–         “مبارك ده زي أبونا و ما ينفعش يتهان ويخرج بره”: بطبيعة الحال هذه الفكرة ترتبط بالشعوب التي تعيش في بيئة مستقرة أغلب الوقت، فجغرافيتها لا تسبب لها حوادث طبيعية مثلا كالسيول أو الزلازل ، حدودها السياسية مأمونة بقدر كبير إما لعلاقاتها الجيدة أو قوة جيشها ، وبالتالي فالشعب يصير مرتبطــًا ارتباطــًا وطيدًا بحاكمه فيصير في لحظات كالأب وهذه هي الفكرة التي تحدث عنها أفلاطون ” السلطة الأبوية ” إذ يعتبر كل من الشعب والحاكم نفسهما كالابن والأب وبالتالي عندما ينهر الأب ابنه يجب أن يصمت هذا الطفل لأن الأب في النهاية لا يعمل سوى من أجل مصلحة الطفل الشقي الأهوج ، فهل يعقل عندما يكبر الأب ويهرم أن يأتي الإبن ويقوم بالحجر على أبيه ، يجب أن نكرم أبينا . في واقع الأمر  هذا المنطق قد عفا عليه الزمن ، فالحاكم هو رجل يعمل في الدولة ( موظف) لا يختلف عن غيره من المواطنين ، وبالتالي فالدعوى للأبوة باطلة و لاتجوز أن يكون لكل مصري أبين ، و خاصة عندما يكون واحد منهما يقتل أبناءه .

–         “ما الحكومة اتغيرت اهو و المطالب اتحققت” : هذه المسألة يراها الكثيرون أمرًا رائعـــًا لم يكن ليحدث لو ذهبنا جميعــًا للحرم المكي وطلبنا من مبارك فعله لما فعل ، وبالتالي يجب علينا الانتظار والتمهل ، فالحكومة يجب أن تعمل في مسارها ، و هاقد تحققت المطالب. في واقع الأمر الحكومة التي تغيرت هى تغيرت من خلال بعض الوجوه في حين أن الأغلبية العظمى هى نفس الوجوه التي تعودنا عليها، فأنس الفقي وعائشة عبد الهادي ومحمد حسين طنطاوي (من غير مشير ولا مشيرة ) وسامح فهمي ، باتوا كجرعة دوائية نحصل عليها يوميــًا قبل النوم حتى ننام لكننا نظل ساهرين دون نوم . كما ان المطالب لم يتحقق منها أي شيئ حتى الأن مع العلم أن المطالب الفعلية للجماهير لم تصل لاذن الحكومة وبالتالي فهي تغير أشياء والناس تطلب أشياء أخرى تمامــًا . أيضــًا لماذا لم يعين الرئيس حكومة متعددة التوجهات طالما الحزب الوطني قد فقد البرلمان بعد اعلان الرئيس طلبه من مجلس الشعب والقضاء بالنظر في الطعون المقدمة في عضوية المجلس ، وبالتالي لو كان مبارك قد شكل حكومة وطنية من كافة التيارات لكان الشارع قد هدأ .

–        ” ما هو الريس ساب الحزب ومشي”: انجاز غير مسبوق أن يرحل مبارك من الحزب ويصير رئيســًا لا ينتمي لحزب، رئيس مصر فقط وليس رئيس الحزب الوطني ( هو أه رئيس لـــ 38 حاجة تانية زي القوات المسلحة، والقوات الجوية، والحاكم العسكري بس الحزب الوطني برضه له هيبة كده ) ، يا أيها السادة لقد رحل مبارك من الحزب بعد أن تم قتله ، بعد أن تم اغتيال الحزب فعليــًا من خلال حرق المباني الخاصة به ، فلو كان الحزب ميتــًا في الشارع منفصلا عن الناس منذ سنوات فهو الأن فقد انتفى من وجه البسيطة ، أضف لذلك أن المعروف بعد تولى رئيس حكومة أو رئيس دولة  المسئولية وكان منتمــيــًا لحزب ما ،يجب أن يستقيل من الحزب وذلك لضمان النزاهة والعمل للصالح الوطني وليس لمصلحة حزبية ، الرئيس أدرك المصلحة الوطنية بعد 30 سنة ولسبب قاهر : حرق الحزب الوطني !!

–          “الاجانب دخلوا البلد وهما اللي بيحركوا الشباب” : لا يمكن إخفاء وجود أجانب كثيرين في مصر ، وهذا طبيعي جدًا فمصر بلد سياحي ، أضف لذلك أن الاجانب في مصر منذ مئات السنين منذ الاحتلال الانجليزي والاجانب اعتبروا مصر بلد جاذبــًا ، على مر التاريخ و مصر تصهر في داخلها كل الكيانات ليخرج لنا في النهاية كيان اكبر ملئ بالتنوع غير شاذ، ما حدث في 25 يناير وما بعدها من دخول اجانب في قلب الثوار وليس المحتجين أمر طبيعي فهناك الكثيرون الذين باتوا جزءًا من مصر حتى لو لم يحصلوا على الجنسية ، وهناك من ينتهزون الفرصة لدراسة الشعوب عندما يصنعون ثوراتهم ويؤرخون لها ويوثقون لها ، كما أن هناك نقطة هامة جدًا كيف يمكن لمئات أو حتى ألاف من الاجانب أن يحركوا مئات الألاف بل الملايين الذين في معظمهم يجهلون اللغات الاجنبية !!

–         “العيال بتوع التحرير هما اللي خربوا البلد” : ترددت هذه  الكلمات بعد خطاب مبارك بشدة ،نظرًا لما يراه المؤيدون لمبارك من أن الجالسين في ميدان التحرير متعنتون للغاية و لا يبتغون الانتظارحتى تتحسن الأوضاع خلال ثمانية أشهر ، وأن ما يفعلونه هو : وقف حال البلد وخرابها ، يبدو كلامــًا معقولاًَ وذا منطق، لكن من أوقف الحياة ومنع الدم من التحرك في جسد مصر هو النظام عندما أراد ذلك بسحب الأمن وحظر التجول ، وعندما وجد أن متظاهرى التحرير لن يرحلوا أراد أن يعيد الحياة مرة أخرى وبالفعل ها نحن في اليوم الثاني والحياة عادية في الشوارع وعادت القاهرة لشكلها الطبيعي المزدحم القمئ أحيانــًا ، يبدو أن القرار الوحيد الصحيح للنظام في الاسبوعين الماضيين هو : حظر التجول حتى نرى القاهرة في أبهى ثيابها !!

–        “الناس في التحرير بتاكل كنتاكي” : منطقي جدًا أن يكون من الثوار أشخاص ميسوري الحال يمكنهم أن يأكلون الوجبات السريعة مثل كنتاكي ، لكن للاسف هذا لم يحدث كما روج سفهاء النظام ، فللاسف قد اختاروا كنتاكي الذي كان رمزًا لتزوير الانتخابات وتقريبا نسوا أن كل محلات الطعام مثل كنتاكي وهارديز قد أغلقت في الميدان ، ربما يأتي الطعام للمتظاهرين “ديلفري”. مثل هذه الشائعات من السذاجة بمكان أن يتم الرد عليها لأنها تعبر عن ضحالة تفكير المروج لها ، هل يعقل بشخص قابل الموت أمام قوات الشرطة أو أصيب وظل صامدًا أن يكون وراءه وجبة كنتاكي وحفنة من اليوروهات ؟

–        ” الاخوان هيحكموا مصر لو الثورة نجحت” : كلام موزون لا يمت لأي شيئ بأي صلة، فالاخوان التنظيم الاقوى في مصر والذي يتخطى عمره الثمانين عامــًا مثل مبارك ، لا يختلف عن النظام السياسي، كلاهما مهترئ ، فالاخوان المسلمون الذين كانوا يتحدثون عن تنظيمهم وقوتهم في الشارع ، ظهروا على أرض الواقع أنه لا يؤثرون على الشارع بالقوة التي تحدث الكثيرون عنها، فالاخوان الاقوياء كانوا هكذا بسبب ضعف الشارع والاحزاب ، فالاخوان في حقيقة الامر انصهروا في نسيج الشارع المصري الغير مسيس في معظمه مما جعلهم غير قادرين على فرض أي سيطرة لهم !!

–         خطر التهديد الخارجي  : بمجرد معرفة أن هناك انفجار خط غاز في مدينة ابو زويد بالسويس اتجهت كل الانظار نحو اسرائيل ، وهذه كلمات لها منطقها ،لكنه للاسف غير مكتمل الأبعاد ، فاسرائيل وايران والولايات المتحدة حاليا لا يمكنهم القيام بمثل هذه التحركات ، فاسرائيل والولايات المتحدة يعتبران مبارك الحليف الأول والأقوى لهم في المنطقة وبالتالي لا يمكن أن يفعلا ذلك خاصة في ظل تشككهم وعدم تيقنهم للحظة أن مبارك فشل أو نجح في قمع الثورة ، فالتخلي عنه لن يكون إلا بعد ضمان وجود وجه أخر غير مبارك يسير على نفس نهجه أو يكون متواطئــًا أكثر منه .

–         دومينو الثورة : دعاة الاستقرارسواء داخل مصر أو خارجها يعون مدى خطورة موقع مصر الاستراتيجي و كيف يؤثر على كل دول المنطقة وبالتالي فأي تغيير في مصر يؤثر على بقية الدول خاصة لو كان هذا التغيير يأتي في أبهى و أرفع صوره :الثورة، و هذا ما حدث بالفعل في دول عربية وغير عربية ، فالاردن قام الملك بتغيير الحكومة ،واليمن الرئيس لن يترشح ثانية ، مما يشير إلى أن الدعوى للاستقرار قد تكون تخديرية حتى يستطيع النظام لم شتاته وإعادة تنظيم نفسه !!

الدروس المستفادة :
–         من دعا للاستقرار أراد أن يزيح عن كاهله التفكير فيما بعد مبارك ، وهذا حقه ، لكن في الوقت نفسه ، هو غير مطالب بالتفكير في مرحلة ما بعد مبارك طالما لا يمتلك أدوات تفكير سليم ، كما أن الحديث عن مبارك باعتباره رمز لهذا الوطن فتلك كلمات واهية لا معنى لها فمبارك لم يكن يومــًا مصطفى كامل أو سعد زغلول ، و من يتحدث عن مشاركته في حرب اكتوبر فمئات الألاف من المصريين شاركوا في هذه الحرب ولم يكن مبارك وحده هو من صنع هذا النصر بل المصريين ، فلا أقبل أن نقول إن استمرار قمعه للمصريين وقتلهم وإذلالهم من أجل عيون حرب اكتوبر !!

–         الدعوى للاستقرار تبرز فئة كبيرة هي في حقيقة الأمر لم تشارك في صناعة الحدث أو نزلت الميدان ، وهذا طبيعي ، فهم لم يروا أي شيء ، ومصدر معرفتهم لا يخرج عن التلفاز الذي لا ينقل الحقيقة كاملة أو حية ، فلا يمكنني أن ألوم الذين لم ينزلوا الميدان أو يشاركوا في التظاهرات عندما يريدون عودة الحياة طبيعية : اللي شاف بعينه غير اللي سمع بودانه !!

–         كشفت الاحداث أن الشعب المصري ليس شعب حريف ثورات ، لكنه سريع التعلم ، إذ أن الثورات في مصر معدودة ، فاحداث 1952 ليست ثورة بل انقلاب حاز تأييدًا شعبيــًا، وثورة 1919 كانت ضد احتلال اجنبي ، أما الثورة الحقيقية ضد حاكم فكانت عام 1805 عندما اطاح المصريون بخورشيد وجاءوا بمحمد علي ليحكم مصر!!

–         مقاومة التغيير ليست أمرًا سهلا ، وهذا ما يقوم به دعاة الاستقرار وهذا حقهم ، و ذلك يصعب من مهمة الراغبين في التغيير ،خاصة في مجتمع مثل مصر ، هو مجتمع مستقر على مر تاريخه تقريبــًا بسبب طبيعة حياته الزراعية ، وكما تقول النظريات السياسية إن حياة المزارع تبدو محدودة الأفق لا تتخطى أرضه ومحصوله وقوت يومه وبالتالي من الصعوبة بمكان أن يعكر صفو حياة المزارع إلا أمر جلل يمس هذه الأشياء الثلاثة ، وهذا ما حدث مع المصريين خلال الاف السنين عندما سقطوا فريسة للاستقرار،فلما رأوا تغييرًا حدثت من خلاله تضحيات وخسائر لم يصدقوا ما يرونه لأنهم دائمــًا يرون الامور هادئة ومستقرة و على ما يرام !!

لقد تعلم المصريون جميعــًا من هذه الثورة الكثير والكثير ، فهذه الثورة كالصدمة الحضارية التي حدثت للعرب والشرق في القرن الثامن والتاسع عشر عندما شاهدوا أوروبا وهى تسير بسرعة الصاروخ ، هاهم المصريون يمرون بصدمتهم الحضارية ليعلموا أين هم ؟ وماهي حقوقهم وما هي واجباتهم ؟ ليعلموا حقــًا ما هو معنى الحرية ؟ لتتكشف لهم كل يوم حقيقة عن نظام أفسد عقولهم وغيبها ، لينكشف النقاب عن كل مضلل وأفاك تلاعب بمصير هذا الشعب ، ليخرج المصريون من عباءة الخنوع والذل التي عاشوا داخلها لعشرات بل مئات السنين ، ليقولوا نعم للاستقرار الحقيقي ولا للاستقرارالزائف

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية