سلّم عالوالد

الأربعاء 23 آذار 2011

بقلم هادي*

وأنا في الصف الخامس ظهرت موضة مسيرات الولاء التي كان يمشيها الطلاب أحتفالا بالأعياد الوطنية المختلفة. كانت المسيرات تنطلق من جميع مدارس عمان الحكومية باتجاه المدينة الرياضية. كان الاسبوع الذي يسبق المسيرة في المدرسه أشبه بأفلام الرعب. فالطابور الصباحي ليس إلا كلمه واحده فقط يلقيها المدير يحذر فيها من التخلف عن المسيرة ويتوعد فيها من يتغيب عن أداء الواجب الوطني. وفي ذلك الاسبوع طبعا تكون اول خمس دقائق من كل حصه عباره عن تذكير من أستاذ المادة بضرورة الحضور لكي نجنب انفسنا وأهلنا ما لايحمد عقباه مع ذكر قصة أو قصتين عن مصائب حدثت لطلاب تخلفو في اعوام سابقه لأخذ العبرة.

أذكر أنه وفي صباح المسيرة حضرت إلى المدرسه بكامل نشاطي فلم يكن يهمنى بصراحة ألا أن الحصص قد ألغيت وأني سأقضي اليوم في شوارع عمان مع أصدقائي وبدون رقابة أمي. قبل بدء المسيره اقترب مني المدير وقرأ اسمي ليتأكد من حضوري. وفجأه ارتسمت على وجهه ابتسامة غريبة.
“انت ابن الدكتور فلان”، سألني المدير.
“نعم استاذ”، جاوبت.
“سلم عالوالد. خلص روح رّوح انت ما في داعي تمشي للمدينه. لا تنسى تسلم عالوالد،” قال المدير.

وفعلا عدت يومها للبيت ولم أخرج في المسيرة. في اليوم التالي تغيب معظم طلاب المدرسه عن الدوام بسبب ضربات الشمس وحالات الاعياء التي اصابتهم من الحرارة العاليه والتدافع بين الطلاب. هذا بالاضافه الى بعض الاصابات الغير معلن عنها والتي نتجت عن التحرشات التي تعرضوا لها من ابناء مدارس أخرى.

في الصف السادس ب، دخل علينا المدير بعريضة للتوقيع على ولائنا لجلالة الملك. طلاب صف سادس ممن لم يوقع معظمهم على أي ورقه في حياته مطلوب منهم الآن أن يوقعوا على ولائهم للملك. يومها أشار مساعد المدير، المعروف بين الطلاب تحببا ب “أبو صفوح”، وبعد أن لاحظ عدم قدرة طلاب الصفوف الابتدائية على التوقيع، أنه من الافضل أن يبصم الطلاب. وفعلا تم احضار علبة حبر من الاداره ليبصم الطلاب.

لازلت اذكر كيف دخل المديرعلينا ذلك اليوم مع أبو صفوح. من الواضح انه كان غاضبا لان بعض طلاب السادس أ ابدى امتعاضه من تلويث يديه بالحبر الازرق الدائم قبل الفرصة. قال المدير: “كل واحد يطلع حافره ويبصم وما بدي حكي زياده بلاش أفلت عليكم ابو صفوح”. يومها نظرنا جميعا الى وجه أبو صفوح وقررنا انه – ومن باب عدم القاء النفس الى التهلكه ولكي لا يفلت علينا أبو صفوح – أن نبصم. الغريب في الامر انه عندما وصل المدير الى مقعدي ابتسم نفس الابتسامه القديمه وقال: انت ما في داعي تبصم وتوسخ ايدك قبل الفرصة، خلص بس اكتب اسمك .. سلم عالوالد.

في وقت لاحق من ذلك العام وفي طابور الصباح لاحظ المدير أن معظم طلاب الصف السادس بجميع شعبه لا ينشدون السلام الملكي مع الموسيقى التي تعزفها فرقة المدرسة. في البداية أعتقد المدير أن الطلاب يحاولوون التعبير عن موقف سياسي ما أو إعلان العصيان المدني. فقرر اتخاذ خطوات حاسمة لوأد الفتنة في مهدها وقام بعزل طلاب الصف السادس عن باقي المدرسة وأحضر مساعده أبو صفوح ومجموعه من أساتذة الرياضه والمهني بالاضافة للآذن مدججين بالعصي والحبال وأمرنا أن ننشد السلام الملكي طالبا طالبا. وكم كانت مفاجأته عظيمة عندما اكتشف أن أكثر من ثلثي الطلاب لا يحفظون من السلام الملكي غير أول كلمتين “عاش المليك” حفظوها من كثرة تكرارها في كل صباح على مدى ستة اعوام قضوها في ربوع المدارس الحكومية.

لتدارك الموقف قام المدير بطبع السلام الملكي كاملا على ورقة وتوزيعها علينا على أن يتم التسميع أمام المدير في اليوم التالي.

تمت عملية التسميع لنا في غرفة الاداره. كان الواحد منا يدخل ليجد اللجنه المكونه من المدير وأبوصفوح واستاذ الفن يجلسون أمامه ويطلبون منه ان يغرد. بعض الطلاب اصابه انهيار لأنا كنا سمعنا بكاء طلاب السادس أ الذين لم يحفظوا القصيده وهذا ترافق طبعا مع انتشار بعض الشائعات غير اللطيفه عما كان يحصل في داخل الغرفة. أذكر يومها أن أحد الطلاب، ويدعى مصعب والذي كان يعرف بتمرده، لم يحفظ القصيده وقرر أن “يخفف دم” مع المدير. فما كان من أبو صفوح يومها ألا أن وضع الورقه في فمه وطلب منه أن يعض عليها بينما تكفل أستاذ الفن بجلده على قفاه بعد ان تم تثبيته بالوضعية المناسبة على طاولة المدير من قبل الآذن. أسر لي أحد الاصدقاء لاحقا انه وبعد هذه الواقعه، اضطر مصعب ان ينام لمدة اسبوع على بطنه بعد ان تدهن له والدته الفازلين على مكان الاصابه. مسكين مصعب، لم يعد بعدها ابدا كما كان، لقد قتلت ثورته في قفاه.

عندما جاء دروي دخلت الى غرفة المدير. لا زلت اذكر رائحتها لليوم. مزيج من رائحة العرق والدخان الكثيف وآثار الدموع وبعض قطرات الدم المجهولة المصدر على طاولة المدير. وقفت امام اللجنه، نظر إلي المدير، ثم نظر ألى المساعد وقال: هاظا هادي ابن الدكتور فلان، حافظ يا هادي؟
“نعم استاذ”، جاوبت
“خلص اطلع على صفك. سلم عالوالد.” قال المدير
“الا تريد مني التسميع ؟ لقد قضيت اليله باكملها احفظ في القصيده؟” سألت أنا
“خلص ما في داعي. سلم عالوالد” أردف المدير

صعدت يومها الى صفي والفضول يقتلني لأعرف لمذا يخاف المدير من والدي. على رأي نضال صديقي، ن والدي أكيد “كاسر عين” المدير. اتضح لي لاحقا ان شقيقة
المدير الحجه شفيقه تتعالج عند والدي في العيادة. كان هاذا هو سبب خوف المدير من أبي. على كل حال لم اذكر يوما اني أوصلت سلام المدير للوالد.

أسوق هذه المشاهد من ذاكرتي فقط كأمثله على الطريقه التي يزرع فيها الولاء في قلوب اطفالنا، فهو ليس بالمجان، بل نمشي من اجله تحت الشمس حتى تحترق جلودنا، نبصم عليه بحوافرنا، نعض عليه باسنانا ونجلد من اجله على قفانا، هذا هو ثمن الانتماء في بلدي. طبعا إلا أذا كان والدك طبيب فعندها يكفي فقط ان … “تسلم على الوالد”.

*طالب صيدلة أردني في جمهورية مصر العربية

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية