*تحرير فلسطين مدنيا

الإثنين 02 أيار 2011

(2)
* هذه سلسلة مقالات منبثقة عن بحث حول استراتيجية للمقاومة المدنية لتحرير الإنسان على كامل أرض فلسطين. ستعالج المقالات بالترتيب المواضيع التالية: ماهية المقاومة المدنية وفلسفتها، العسكرة والمقاومة المدنية في التاريخ الفلسطيني، هل حان وقت المقاومة المدنية؟ فعالية المقاومة المدنية، أسس المقاومة المدنية في فلسطين، تمكين المقاومة بالثورة الخضراء والمدن والقرى المستقلة ذاتيا من حيث الطاقة والمياه والغذاء.

——————————————————————-
بشار حميض/ باحث في مجال المقاومة المدنية والطاقة البديلة

الانقسام ليس سوى أحد تجليات الأزمة الفلسطينية كما تبين في المقال الأخير. فالأهم من إتفاق حركتي فتح وحماس في القاهرة على إنهاء الإنقسام هو الاتفاق على المقاومة وشكل هذه المقاومة. فلا يعقل أن تتبنى الحركات الفلسطينية استراتيجيات متناقضة يضر أحدها بالآخر، مثلما كان الحال منذ توقيع اتفاقات أوسلو. فالمقاومة المسلحة أضرت أحيانا بالمفاوضات، كذلك أضرت المفاوضات بالمقاومة المسلحة وحتى غير المسلحة وأعاقتها. في نفس الوقت لا يعقل أن نبقى في حالة اللاسلم واللامقاومة القائمة حاليا، والتي يبدو أن الفصائل الحاكمة قد استمرأتها واعجبها استفرادها بالسلطة، سواء في الضفة أو في غزة.

لمعرفة ما يجب أن يحدث علينا أن ننظر إلى ما حدث، وكيف خرجت الحركة الفلسطينية في أزمة أواسط الثمانينيات من القرن الماضي والتي تكونت بعد حرب لبنان 1982 . ومن الكتب المهمة التي درست تلك المرحلة كتاب المؤرخ الفلسطيني يزيد صايغ”الكفاح المسلح والبحث عن دولة”(2)  كذلك طرح الباحث توماس سميرلينغ عام 1988 بحثا مهما جاء فيه أن حرب لبنان “وضعت حدا لأي أوهام حول إمكانية نجاح الخيار العسكري الفلسطيني المستقل”.(3)  لذا رأينا انتفاضة الحجارة الأولى اعتمدت على أساليب غير عسكرية مثل الإضرابات والمقاطعة وتعزيز الاستقلال الذاتي الفلسطيني، ونشر الزراعة المحلية في المنازل والقرى، وتصاعد دور المنظمات والجمعيات الأهلية لتشغيل النساء. بذلك تحققت نتائج إيجابية وزعزعت صورة الكيان الصهيوني في الغرب، وذلك بشهادة كثير من الناشطين الألمان للقضية الفلسطينية الذين عملت معهم أثناء إقامتي هناك. حيث أكدوا أنه لم يكن من الممكن إيجاد تعاطف شعبي حقيقي مع الفلسطينيين قبل حدوث الانتفاضة الأولى التي عرت وجه إسرائيل القمعي. لكن خلال تجربتي في العمل للقضية الفلسطينية في أوروبا من عام 1999 إلى 2005 لمست بوضوح الآثار السلبية لعسكرة الانتفاضة الثانية عام 2000 على التأييد الشعبي الألماني للقضية.

في هذه المقالات أفترض أنه كلما انخفض مستوى العسكرة في العمل الفلسطيني جاءت النتائج أكثر نجاعة. آخر دليل على هذه المعادلة هو حملة أسطول سفن الحرية إلى غزة في مايو 2010، التي شنت أنجع حرب لاعنفية في تاريخ القضية الفلسطينية وتمكنت من فك الحصار عن غزة، وهو ما لم تستطع المقاومة العسكرية في غزة إنجازه من خلال إطلاق الصواريخ، رغم أن رفع الحصار كان ضمن الأهداف الأساسية لإطلاقها.

لكن التجربة الفلسطينية ليست وحدها الدليل على نجاعة اللاعنف، فالثورات العربية وضعت المقاومة غير العنيفة على أعلى الأجندة، بينما كان من يتحدث عنها قبل ثورات تونس ومصر يوصف بالحالم. فحينما تمت الدراسة التي انبثقت منها هذه المقالات في أكتوبر 2010 كان الكثيرون لا يزالون يرون أن هذا النوع من المقاومة لا يمكن أن يسقط أنظمة بوليسة فضلا عن نظام احتلال، وأن الطرح غير واقعي وليس هذا وقته. لكن الأمور تغيرت بسرعة لحسن الحظ وأصبح من يتحدث بالمقاومة اللاعنفية يلقى أذانا صاغية في معظم الأحيان.

وإذا ما نظرنا إلى التاريخ فسنجد أن مبدأ اللاعنف ضارب في القدم، وما هذا إلا دليل على نجاعته وارتباطه بما يعرف بـ “التشاعر” (Empathy) وهي قدرة الإنسان على الشعور بالآخر، وهي ظاهرة كثرت الأبحاث الأكاديمية حولها، ولعل أهمها بحث دي فال وبريستون في 2002 (Preston & de Waal). أما الديانات السماوية والهندوسية والبوذية والفلسفات القديمة فتناولت اللاعنف أيضا. وأرجعت النصوص القرآنية الأمر إلى بدء الإنسانية، حيث جاء في القرآن الكريم عن أول مواجهة عنيفة في التاريخ البشري بين هابيل وقابيل: “لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”(4)، ويمكن مراجعة أبحاث المفكر السوري جودت سعيد الذي أصّل موضوع اللاعنف إسلاميا للمزيد حول ذلك.

وليس في المقاومة المدنية خضوع للخصم، وإنما هو جهد ذكي لتغيير سلوكه، إما بالتأثير المباشر وتفعيل مشاعر غير عنيفة لديه، أو من خلال حصاره أخلاقيا أو نفسيا أو اقتصاديا بكسب أطراف أخرى إلى جانب الطرف المقاوم. ولا يقصد بالمقاومة المدنية عدم استخدام القوة. ففي المقاومة المدنية تستخدم القوة، لكنها ليست القوة العسكرية. ويقترب التعريف المطروح هنا للمقاومة المدنية لمفهوم “حرب اللاعنف”(5)  وهو “شن الصراع الحاسم على الخصوم المعاندين من خلال التحكم المقصود والمخطط بأدوات القوة السياسية لتحطيم إرادة الخصم باستخدام أسلحة لاعنفية قوية التأثير”. وشرط كل ذلك هو عدالة القضية، وهو ما يتوفر للقضية الفلسطينية ولكنه غير مستثمر إلى الآن بالشكل المطلوب.

ولا تعد مفاوضات السلام جزءا من المقاومة المدنية، بحسب التعريف الذي أطرحه هنا والمعتمد على تعريف الباحث الألماني في نظرية الحرب ألفريد فاغست الذي يقول إن “العسكرة ليست نقيضا للفكر السلمي وإنما نقيضها الحقيقي هو الفكر المدني Civilism” فالرغبة بالحرب هي نقيض الرغبة بالسلم، وهذا هو الفكر السلمي أو الجنوح للسلم في حالة المفاوضات. أما العسكرة فهي أكثر -وأحيانا أقل- من الرغبة بالحرب. فالعسكرة مرتبطة بكل النظم الفكرية والقيمية والمركبات الشعورية التي تضع المؤسسات والتشكيلات العسكرية في مرتبة أعلى. (6)  لذا فإن ما أقصده هنا بالمقاومة المدنية في الحالة الفلسطينية هو الاعتماد على مؤسسات وتشكيلات مدنية، أي أن الأساليب المتبعة يجب أن لا تشمل حمل السلاح أو أي مظهر آخر من المظاهر العسكرية التي تتضمن تصفية الآخر جسديا، وكذلك يجب أن تكون الأساليب دائما متاحة لقطاع واسع من الأهالي ودون تكلفة مادية عالية، وذلك بعكس الأساليب العسكرية التي تعتمد على القلة المدربة.

رابط للمقال الأول
————————–
هوامش:
1 “الكفاح المسلح والبحث عن دولة، الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993”، يزيد صايغ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2002، ص 761 2 المرجع السابق، ص 763 
3 „ إمكانيات قيام حركة لاعنفية في الضفة الغربية”. ورقة عمل لـ د. توماس سميرلينغ نشرت ضمن كتاب: المقاومة المدنية في النضال السياسي، مجموعة مؤلفين، منتدى الفكر العربي، الطبعة الأولى، عمان، 1988، ص 111
4 سورة المائدة، الآية28
5 حرب اللاعنف، أحمد عبد الحكيم وآخرون، الدار العربية للعلوم، 2007، ص 113
6„ Die Idee und der Charakter des Militarismus“, Vagts, Alfred, In: Volker Berghahn (Hrsg.) Militarismus. Neue wissenschaftliche Bibliothek, Köln 1975.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية