تحرير فلسطين مدنيا*: دقت ساعة الانتفاضة

الثلاثاء 17 أيار 2011

4

بشار حميض/ باحث في مجال المقاومة المدنية والطاقة

“دقت ساعة الانتفاضة” هذه هي العبارة التي يتداولها الناشطون في المواقع الاجتماعية هذه الأيام، وومرة أخرى يسبق الشباب الفلسطيني قياداته ويصنع طريقه نحو التحرر. فلولا اعتصام الشباب  في 15 مارس الماضي لما وضعت القيادات الفلسطينية تحت الضغط ووقعت اتفاق المصالحة. والآن في ذكرى النكبة نرى بوادر جديدة من شباب الداخل الفلسطيني الذين عزمو هذه المرة على إزالة التكلس الذي أصاب الفصائل الفلسطينية وذكرى النكبة التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مجرد مناسبة اجتماعية تمر كما تمر غيرها من الأيام، ونجحوا في بعث الانتفاضة المدنية في الداخل الفلسطيني من جديد.

إننا الآن كفلسطينيين في الشتات والداخل والضفة والقطاع أمام امتحان صعب، لكنني واثق أننا سنتجاوزه. فالدرب الذي ستنتهجه مقاومتنا والأهداف التي سنضعها ستكون بلا شك امتحانا وتجربة غير مسبوقة، لكنها ضرورية لنا وللمنطقة والعالم الذي سيراقبنا عن كثب، كما راقب الثورة المصرية  والثورات العربية الأخرى.

مدنية المقاومة مقابل عنف الدولة!

لعل أخطر مسلمة تسيطر على عقول كثيرين ممن يفكرون بالمقاومة هي أنه كلما ازداد عنف الدولة قلت إمكانية نجاح المقاومة غير العنيفة. هذه المسلمة تسيطر حتى على تفكير الكثير من المفكرين والنشطاء الغربيين الذين لا يزالون يعتقدون أن النظام النازي في ألمانيا أو غيره من الأنظمة الشمولية  البوليسية العنيفة لا يمكن مقاومتها بالوسائل المدنية. إلا أن هذه المسلمة تتعرض الآن لتشكيك في أوساط الباحثين في مجال اللاعنف، والسبب هو ما حدث في ثورتي مصر وتونس. ويشير بريان أوركهارت أن ثورتي مصر وتونس “يمكن أن تثبت أنها استثناء للقاعدة” (1). وشخصيا أتوقع أن ثورة فلسطين إذا ما شملت الأرض كلها من البحر إلى النهر ودعمها فلسطينيو الشتات ومناصروهم في كل العالم ستشكل الاستثناء التاريخي الكبير. بل أنني أجازف بالقول أن تسلح الكيان الصهيوني بأحدث الأسلحة في العالم وطبيعته العسكرية نفسها ستساعد على إسقاطه بالمقاومة المدنية الشعبية الشاملة. لكن من أجل أن ينجح ذلك يجب أن نفهم أولا من أي جاءت العسكرة إلى فكرنا، وكيف كرس عنف الدول الاستعمارية هذا الأمر حتى عمي علينا وجود بدائل له أكثر نجاعة.

من أين جاءت العسكرة؟

إن اتجاه المقاومة الفلسطينية إلى العسكرة مرتبط بظروف واتجاهات عالمية. فقبل الحرب العالمية الثانية نجد أن وسائل المقاومة الفلسطينية المدنية والاقتصادية كانت أكثر انتشارا. وقد شهد عام 1936 الإضراب الفلسطيني الكبير الذي عد حينها الإضراب الأطول من نوعه في العالم وامتد 176 يوما بدء التاسع عشر من ابريل  1936. (2)

لكن التنوع في وسائل المقاومة الفلسطينية تراجع في وقت لاحق لصالح الوسائل العسكرية. وقد بحثت حنة أرندت في كتابها “في العنف” ظاهرة التحول إلى العسكرة عالميا والتي كانت ذروتها اعتقاد أن العنف هو “القوة الأساسية المهيكلة للمجتمع”. (3) هذا الاعتقاد نجده تسرب أيضا إلى الأدبيات الفلسطينية والعربية العلمانية والإسلامية حتى يومنا هذا. حيث تكرر في أدبيات فتح وغيرها من الفصائل بأن تبني الكفاح المسلح هو “السبيل الحتمي والوحيد” (4).

وترجع أرندت ما تسميه بـ “تمجيد العنف” في القرن العشرين إلى كتابات جان بول سارتر وفرانس فانون وجورج سوريل. فرغم انتماء هؤلاء إلى اليمين واليسار إلا أنه تجمعهم فكرة “العنف كجوهر للإنسان يستطيع من خلاله إعادة خلق نفسه”. وتخلص أرنت إلى أن التركيز على العنف في الخطاب الثقافي لدى جيل الستينات والسبعينات مرده إلى “التغلغل الكثيف للعنف الإجرامي في العمل السياسي” على مستوى الدول والذي ارتبط بتطوير واستخدام أسلحة فتاكة في الحرب العالمية الثانية وما رافقها أيضا من عنف الدولة من خلال معسكرات الإبادة والاعتقال وأعمال التعذيب. ورغم أن ردة الفعل الأولى لجيل تلك الفترة كان الانضمام لحركة اللاعنف والاحتجاج على الحرب، إلا أن الأمور عادت وتبدلت وأصبح مناصرو اللاعنف في خط الدفاع لتتقدم أفكار فانون الذي خلص بعد دراسته لحال الفلاحين الجزائريين إلى أن “العنف وحده يفيد”. و كان فانون أحد الكتاب المهمين الذين أثروا في مثقفي القومية واليسار في العالم العربي والعالم الثالث عموما من خلال كتابه “المعذبون في الأرض” الذي صدر في عام 1961، والذي وضع فيه العنف في مرتبة المؤسس للأمة والأداة الأساسية للتخلص من الاستعمار. لقد كانت لأفكار فانون أثار واضحة على الحركات القومية اليسارية العربية ومن ثم الإسلامية، وترافق ذلك مع جعل الكفاح المسلح هدفا بذاته بدل أن يكون مجرد وسيلة من الوسائل.

دروب أكثر فعالية

الشاهد في هذا هو أن تمجيد السلاح والعسكرة ليس حالة طبيعية ناتجة عن غريزة بشرية لا يمكن الانفلات منها، بل هو أمر ناتج عن ظروف معينة ومرتبط بآيديلوجيا نتجت عن تداعيات الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وليس تمجيد السلاح والحرب بدرب لا محيص عنه، بل هناك دروب أخرى أكثر فعالية من الممكن أن تسيرها البشرية لتحقيق العدالة والتحرر.

وكما تقول أرندت فإنه سواء أخذنا النموذج الهندي أو النموذج الجزائري في التحرر فإن النتيجة ستكون هي ذاتها، وهي زوال الاحتلال. ذلك أن “الحكم بطريق العنف وحده لا يعني شيئا آخر غير اللعب بعد أن تكون السلطة قد فقدت”. وأن “إحلال العنف محل السلطة قد يحقق النصر لكن الثمن يكون مرتفعا جدا لأن من يدفعه لا يكون المهزوم وحده بل يدفعه كذلك الطرف المنتصر”. وحتى أننا نرى أن الشعوب التي استطاعت إسقاط أنظمتها الاستبدادية بطرق مدنية استطاعت أن تبني أنظمة أكثر عدالة فيما بعد. أما الشعوب التي ركزت على الطابع العسكري في المقاومة فغالبا ما سقطت في أتون الحرب الأهلية والأنظمة الثورية الاستبدادية فيما بعد.

إن الشرط الأساسي لنجاح المقاومة المدنية ضد الكيان الصهيوني هو تنسيق الجهود بين الفلسطينيين والنأي عن الفصائلية المقيتة. لقد بدأ الإدراك الفلسطيني يتسع  بأهمية ذلك، كما كتب مؤخرا زياد كلو الذي كان أحد الشخوص الأساسية التي ساهمت في فضح المفاوضات التي تجريها السلطة مع الاحتلال، حيث يقول: “شعب فلسطين بأكثريته يدرك أن الوفاق بين كل مكوناته يجب أن يكون الخطوة الأولى نحو التحرر الوطني. فالفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة، والفلسطينيون في إسرائيل، والفلسطينيون في المنفى، يتطلعون إلى مستقبل مشترك” (5). إن هناك جهودا مهمة من قبل قطاعات شبابية من الفلسطينيين في الداخل والضفة وغزة والشتات لانتخاب مجلس وطني فلسطيني يمثل المجتمع الفلسطيني في كل مكان ويهيئ لاستراتيجية مقاومة جديدة، وهذا أمر يبعث الأمل، خصوصا مع انطلاق بوادر الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية وما حولها من جديد.

————

* هذه سلسلة مقالات منبثقة عن بحث حول استراتيجية للمقاومة المدنية لتحرير الإنسان على كامل أرض فلسطين. ستعالج المقالات بالترتيب المواضيع التالية: ماهية المقاومة المدنية وفلسفتها، العسكرة والمقاومة المدنية في التاريخ الفلسطيني، هل حان وقت المقاومة المدنية؟  فعالية المقاومة المدنية، أسس المقاومة المدنية في فلسطين، تمكين المقاومة بالثورة الخضراء والمدن والقرى المستقلة ذاتيا من حيث الطاقة والمياه والغذاء.

رابط للمقال الأول

رابط للمقال الثاني

رابط للمقال الثالث

——————

هوامش:

1  Brian Urquhart, “Revolution Without Violence?” MARCH 10, 2011.

2 راجع مقال (1936–1939 Arab revolt in Palestine) في موقع وكيبيديا

3  في العنف، حنة أرندت، طبعة 1992، بيروت ص 15 وما بعدها

4  الفكر السياسي الفلسطيني 1964 – 1974، فيصل الحوراني، إصدار 1980، بيروت، ص 107 وما بعدها

5 من أجل حقوق الفلسطينيين ووحدتهم، زياد كلو، موقع الجزيرة.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية