تحرير فلسطين مدنيا*: من الخارج والداخل

الإثنين 20 حزيران 2011

بقلم بشار حميض/ باحث في مجال المقاومة المدنية والطاقة

“الوجوم والقلق كان باديا على وجهه”.. هكذا وصفت صحيفة هآرتس (17/6/2011) حالة شمعون بيريس خلال الاحتفال بالسنة الرابعة لتقلده منصب الرئاسة في إسرائيل. تصريحات غير مسبوقة نقلت عنه خلال الحفل حول “أننا على وشك أن نصطدم بالحائط” وأن مستقبل إسرائيل محكوم عليه بالفشل في حال عدم قدرتها على التوصل لسلام مع الفلسطينيين يتيح لها “المحافظة على هويتها اليهودية”، وأن عدم الاعتراف بحدود عام 1967 سيعطي مزيدا من المبررات لحركة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل المتنامية عالميا في الوقت الحالي، مبينا أنه قد بدأت بالفعل بعض الموانئ العالمية برفض البضائع الإسرائيلية، وأن ذلك يمكن أن يزيد في المستقبل القريب.

هناك موضوعان غاية في الأهمية فيما نقل عن بيريس، الأول موضوع هوية إسرائيل كدولة لليهود والثاني حركة مقاطعة إسرائيل، وهما أمران مترابطان ويشكلان دعامتين أساسيتين للمقاومة المدنية ضد النظام الصهيوني في إسرائيل. فحتى إذا تم توصل إلى صيغة لدولة فلسطينية على أساس حدود 1967، وبقي النظام محافظا على دولة ذات هوية وأغلبية يهودية فإنه سيواجه مشكلة عميقة مع الوجود الفلسطيني في حدود عام 1948. ومن هنا إصرار إسرائيل على أهمية الاعتراف الفلسطيني والعربي بيهودية الدولة، تمهيدا للتخلص من الوجود الفلسطيني داخل إسرائيل. لكن، كل هذا التصورات لا تشكل حلولا مستدامة، وكلها نشأت من عقلية مصابة بغرور القوة، نفس ذلك المرض الذي أصاب الأنظمة العربية المتداعية واحدة وراء الأخرى. إنها الحلول التي يقدمها أصحاب القوة متجاهلين الناس والوقائع على الأرض، لكن الوقائع تتجاوز هذه الحلول ليسقط في النهاية النظام القائم. لذا يبدو “عقلاء” الطرف الإسرائيلي اليوم قلقين أكثر من أي وقت مضى، فهم يعلمون أنهم جزء من هذه المنظومة القمعية في المنطقة الآيلة للسقوط.

“هذه القلعة لا تؤخذ إلا من الداخل”

هذه العبارة التي قالها خليل الوزير (أبو جهاد) القيادي في حركة فتح في الستينيات من القرن الماضي، تلخص الشرط المهم الذي سيعجل سقوط النظام الصهيوني وإقامة نظام بديل أكثر عدالة ومساواة واستدامة. فهذا المبدأ لايزال مهما جدا من الناحية الاستراتيجية إلى يومنا هذا، وهو ما سيغير ميزان القوة، مثلما استطاعت منظمة فتح أن تغير موازين القوى وتبعث القضية الفلسطينية من جديد بعد أن كادت تذهب أدراج الرياح في بداية الستينيات من القرن الماضي. حينها كان أبوجهاد يقصد بـ“الداخل” أرض فلسطين التاريخية، التي كانت المقاومة خارج حدودها، أما اليوم فالداخل هو الأراضي المحتلة عام 1948. وكان أبو جهاد يسعى حينها لنقل المقاومة العسكرية إلى الداخل، لذا بدأ بتدريب عناصر للدخول في العمق الإسرائيلي، وكان تتويج هذه الاستراتيجية عام 1988 بعملية تفجير مفاعل ديمونا التي كادت أن تحقق هدفها و قررت إسرائيل بعدها اغتيال أبو جهاد. لكن ما نقصده اليوم هو نقل المقاومة المدنية إلى الداخل.

لقد كانت مشكلة خطط المقاومة المطروحة إلى الآن أنها تجاهلت دور فلسطينيي 1948، وذلك على اعتبار أن وضعهم خاص كونهم يحملون الجنسية الإسرائيلية ولا يمكن أن يطلب منهم الانخراط في عمل عسكري. ولكن هذا التعامل الخاص مع فلسطينيي 1948 نجده أيضا مطروحا من قبل دعاة المقاومة المدنية. ولكن يجب أن يتوقف ذلك اليوم. فالظروف الآن مهيئة لتعميم المقاومة لتشمل أراضي 1948، وهو ما بدأت بوادره مع تصاعد النشاط من جديد في الداخل منذ ذكرى النكبة الأخيرة.

ربط الداخل بالخارج

إن انتهاج المقاومة على كامل أرض فلسطين ممكن ولكن فقط في حال كانت هذه المقاومة مدنية. فهذا النوع من المقاومة ينقل الصراع إلى داخل هذا الكيان ويتيح لقطاعات المجتمع الفلسطيني في كل أنحاء فلسطين من البحر إلى النهر المقاومة بشكل فاعل وبالالتحام مع القوى اليهودية غير الصهيونية، فضلا عن إمكانية اجتذابه لعدد هائل من فلسطينيي المهجر الحاصلين على جوازات سفر تتيح لهم الدخول إلى قلب الكيان وكذلك اجتذاب المتضامنين مع القضية الفلسطينية من شتى دول العالم، وبهذا تتكامل حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل والتضامن مع فلسطين مع حراك مدني داخلي.

وهناك نقطة هامة يجب الانتباه لها هنا، وهي أن الحراك الفلسطيني المقاوم في الستينيات والسبعينيات كان مرتبطا عضويا مع الحراك اليساري العالمي ضد الإمبريالية. أما اليوم فإن حراكنا الفلسطيني يجب أن يكون مرتبطا بالحراك العالمي المدني، وهو ما بدأ يتعزز بشكل واضح في السنوات الأخيرة. وهذا التطور له أهمية كبيرة، فعلاقة إسرائيل بالدول الكبرى تستند بشكل أساسي على مبدأ أخلاقي هو مقاومة ظلم العنصرية النازية في أربعينيات القرن الماضي، وأن إسرائيل هدفها من بناء كيان “عصري” و“ديمقراطي” يلجأ إليه ضحايا الرايخ الألماني الثالث. أي أن دور الضحية هو عنصر أساسي لاستمرار هذا الكيان بالوجود واكتساب الشرعية العالمية. وعند ممارسة العنف وبالخصوص العنف الأعمى ضد هذا الكيان فإن ذلك يكسبه المزيد من التضامن العالمي معه ويستحضر الرأي العام الغربي حينها صورة اليهودي الضحية وليس صورة الصهيوني الجلاد. أما عند استخدام المقاومة المدنية فإن الصورة تتغير ولا يستطيع أحد الجدال بأن الإسرائيلي معرض للقتل أو التهجير.

ربما يشكك البعض بجدوى التضامن الشعبي مع الفلسطينيين ويقول أن ذلك لم يؤد إلى شيء لأن “اللوبي الصهيوني مسيطر على كل الأمور”. لكن الواقع أثبت غير ذلك. فالسياسيون الغربيون أضعف مما يظن الكثيرون ويمكن التأثير فيهم خصوصا عند وجود عمل تضامني منسق ومنظم ومستمر. فالتنظيم والتأثير والاستقطاب من خلال حملات طويلة المدى يؤدي فعله عليهم، وهذا هو ما يحصل حاليا من خلال حركة المقاطعة العالمية لإسرائيل ويحقق النجاحات يوما يعد يوم. آخر هذه النجاحات كان انضمام بلدية ماريكفيل في استراليا لحركة مقاطعة إسرائيل الشهر الماضي وتأييد الزعيم الجنوب الأفريقي ديسموند توتو لها في رسالة نشرها مؤخرا. كذلك تخلت بريطانيا عن رعاية أنشطة الصندوق القومي اليهودي بقرار من رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون.

إن هناك فئات مهمة متضامنة مع القضية الفلسطينية في بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا وغيرها. ويجب الانتباه إلى أن السياسيين في هذه الدول لا يستطيعون الوقوف أمام رأي عام معاد للصهيونية آخذ بالتشكل. القضية الفلسطينية لم تكسب قطاعات واسعة من المجتمع الغربي نتيجة لاستخدام العنف وإنما لأن العنف قد مورس ضد المدنيين والعزل من الفلسطينيين.. فالرباط بين إسرائيل والغرب قابل للتغيير، وما من وسيلة أكثر فعالية لفضح الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني من ممارسة مقاومة مدنية ذات قيم أخلاقية عالية وثابتة في وجهه. أما غير ذلك من وسائل فهي رغم مشروعيتها السياسية تبقى غير فعالة كما أثبتت التجربة مرات عديدة.

—————————

* هذه سلسلة مقالات منبثقة عن بحث حول استراتيجية للمقاومة المدنية لتحرير الإنسان على كامل أرض فلسطين. ستعالج المقالات بالترتيب المواضيع التالية: ماهية المقاومة المدنية وفلسفتها، العسكرة والمقاومة المدنية في التاريخ الفلسطيني، هل حان وقت المقاومة المدنية؟ فعالية المقاومة المدنية، أسس المقاومة المدنية في فلسطين، تمكين المقاومة بالثورة الخضراء والمدن والقرى المستقلة ذاتيا من حيث الطاقة والمياه والغذاء.

تُنشر هذه السلسلة هنا بالتنسيق والتعاون مع موقع “قديتا


رابط للمقال الأول
رابط للمقال الثاني
رابط للمقال الثالث: فلسطين التي نريد
رابط للمقال الرابع: دقت ساعة الانتفاضة
رابط للمقال الخامس: عائد إلى يافا
رابط للمقال السادس: تشويش على الإصلاح!
رابط للمقال السابع: الكيان القلق

رابط للمقال الثامن: مثل جنوب أفريقيا؟

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية