مزاجية اتخاذ القرار في الأردن: “التحقيق” في الباص السريع نموذجاً

الأربعاء 24 آب 2011

في خضم الحراك السياسي الذي يمر به الأردن والحديث عن الإصلاح ومحاربة الفساد بكافة أشكاله، برزت في هذه المرحلة بعض الظواهر التي تنم عن تخبط ومزاجية في آلية اتخاذ القرار، حيث أصبح خلط الأوراق عنواناً واتخاذ قرار في موضوع معين أمراً لا يجرؤ على فعله إلا قلة من المسؤولين.

هناك العديد من الأمثلة التي تُظهر هذه الحالة إلا أنني سأتحدث في هذا المقال على موضوع الباص السريع، كوني عملت في أمانة عمّان الكبرى مدة عامين ونصف العام وشهدت بدايات هذا المشروع والآليات التي اتبعت للسير به منذ نشوء الفكرة وحتى بدء التنفيذ. وسأركز هنا على آليات العمل والإجراءات المتبعة لا على فكرة الباص السريع بحد ذاتها ومدى جدواها في عمّان (وهو موضوع كنت قد تطرقت إليه في مقالي الذي نشر في “العرب اليوم” قبل عدة أسابيع).

تبلورت فكرة الباص السريع خلال قيام الأمانة بدراسة المخطط الشمولي للحركة والنقل في عمّان في عامي 2008 و2009 وهي دراسة تضمنت إجراء تعدادات مرورية على مختلف شوارع العاصمة ودراسات لخطوط النقل العام فيها وإجراء استبيان على نحو عشرة آلاف أسرة للحصول على معلومات تساعد في التخطيط لشبكة النقل والمرور المستقبلية في المدينة، فتضمنت المعلومات التي جرى جمعها في الاستبيان مستوى الدخل وملكية السيارات ومكان السكن والعمل والبعد عن أقرب موقف باصات وعدد الرحلات التي يقوم بها كل فرد من افراد اي اسرة في اليوم الواحد ووسائط النقل التي يستخدمها في كل رحلة وأجورها وفترة التنقل وغيرها من المعلومات.

أجريت هذه الدراسة من قبل شركة عالمية متخصصة بالتعاون مع إحدى الشركات الاستشارية المحلية، حيث أحيل عطاء إجراء هذه الدراسة كأي من العطاءات في أمانة عمّان وذلك بعد تقييم عروض تقدمت بها عدة شركات وائتلافات وعرض النتائج خلال اجتماع لجنة العطاءات المنبثقة عن مجلس أمانة عمّان في جلسة تم بثها – كغيرها من جلسات تلك اللجنة – مباشرةً على شبكة الانترنت، وجاء تمويل هذه الدراسة عن طريق منحة مقدمة من الوكالة الفرنسية للإنماء.

وخلُصت هذه الدراسة إلى ضرورة إنشاء شبكة نقل عام عصرية في عمّان تلبي احتياجات المدينة الحالية والمستقبلية، وأظهر النموذج التحليلي الذي تم بناؤه لدراسة أحجام الطلب باستخدام البيانات المختلفة أنّ تقنية الباص السريع (أو الحافلات ذات التردد العالي) هي التقنية الأمثل للمرحلة الأولى، فتم تحديد المسارات التي ستسلكها الحافلات والتي يعرفها معظمكم، كما أوصت الدراسة بإنشاء شبكة من القطارات على المدى البعيد وذلك على محاور أخرى في عمّان.

وهنا أخذت الأمانة بتوصيات هذا المخطط وبدأت بإجراء دراسة أكثر تفصيلاً لنظام الباص السريع، فأحالت عطاء الدراسة – وبنفس الإجراءات سالفة الذكر – على شركة متخصصة في تصميم أنظمة الباص السريع وبالتعاون مع شركات استشارية محلية.

مهمة الائتلاف الذي تم اختياره تضمنت في البداية إجراء تحليل مفصل للجدوى الاقتصادية والمالية للمشروع ودراسة لأحجام الطلب المتوقعة على الباص السريع وعدد الحافلات المطلوب تشغيلها وتردداتها خلال اليوم وتحليل للأثر البيئي خلال التنفيذ وخلال فترة التشغيل، ومن ثم إعداد التصاميم الهندسية النهائية لنظام الباص السريع بأكمله، من مسارات (بطول 32 كيلومتراً) ومحطات ومجمّعات وتقاطعات.

وخلال إجراء الدراسة فقد كان يتم تقديم عروض توضيحية من قبل فريق عمل المشروع إلى مجلس أمانة عمّان لإطلاعه على النتائج وعلى سير العمل، حيث أبدى المجلس في حينة إعجابه بفكرة المشروع وثقته بنجاحه وبأهميته لمدينة عمّان، كما جرت مشاورات خلال تلك الفترة مع الوكالة الفرنسية للإنماء والتي أبدت استعدادها لتمويل تنفيذ المشروع بقرض ميسّر وذلك بعد الإطلاع على نتائج الدراسات المختلفة وبالأخص دراسات الجدوى الاقتصادية والمالية والأثر البيئي.

وهنا يجدر بالذكر أن إحدى مراحل الدراسة تضمنت عقد جلسات حوار (focus groups) مع مجموعات مختلفة من المواطنين، فعقدت مثلاً جلسة مع مستخدمي السيارات الخاصة وأخرى مع مستخدمي النقل العام، وذلك لمعرفة المشاكل التي يعانون منها في تنقّلهم داخل عمّان، كما أجرت الأمانة قبل بدء الدراسة استبياناً على ما يزيد عن 700 طالب وطالبة في الجامعة الأردنية تضمن أسئلة حول كيفية وصولهم إلى الجامعة وعدد وسائط النقل التي يستخدمونها وفترة الانتظار وما إلى ذلك.

وبعد إنهاء هذه الدراسات، تم إعداد التصاميم الأولية للباص السريع، ومن ثم شرع الفريق الاستشاري في إعداد التصاميم الهندسية النهائية لمقاطع مختلفة بحيث يتم إحالة عطاء التنفيذ لكل مقطع حال الانتهاء من تصميمه, فبدأ تنفيذ المقطع الأول على شارع الملكة رانيا العبدالله في تموز من العام الماضي، ومرة أخرى أحيل عطاء التنفيذ بنفس الإجراءات التي أحيلت بموجبها عطاءات الدراسات المختلفة.

ومن دون الإسهاب كثيراً في التفاصيل فإن ما أريد تسليط الضوء عليه هو ما يلي:
1. إحالة عطاءات الدراسات والتنفيذ جرت باعتماد الطرق والأساليب المنصوص عليها في الأنظمة المعمول بها في دائرة العطاءات بالأمانة.
وهنا يجدر بالذكر أن ديوان المحاسبة كان عضوا في لجان العطاءات المختلفة، حيث راقب عمل هذه اللجان وصادق على قراراتها.

2. تمّت المصادقة على قرارات الإحالة من قبل مجلس أمانة عمّان ومن ثم من قبل رئاسة الوزراء.

بعد إتمام كل هذه الدراسات والسير بالإجراءات القانونية، خرج البعض (وبالتحديد بعض أعضاء مجلس النواب) ليقولوا بأن مشروع الباص السريع غير مجدٍ وغير مناسب لعمّان، ومن ثم رأينا رئيس الوزراء يشكّل لجنة للتحقيق في هذا المشروع رغم أن رئاسة الوزراء كما ذكرت سابقاً كانت قد صادقت على مراحله المختلفة.

ومن جانب آخر خرج ديوان المحاسبة (الذي كان أيضاً قد صادق على القرارات المتعلقة بالمشروع) بتقرير يدّعي فيه أن مشروع الباص السريع غير مجدٍ اقتصادياً، وكأن إجراء دراسات الجدوى أصبح من اختصاص ديوان المحاسبة!

أتساءل بعد كل هذا: إذا كان السير بمشروع كهذا بالأطر والإجراءات القانونية يؤدي إلى تعثره، فكيف لنا أن ننجز شيئاً في هذا البلد؟ وكيف لنا أن نميّز ما هو صحيح عمّا هو غير ذلك؟ ما هو المقياس إذا كانت العطاءات المفتوحة والدراسات العلمية والإحصاءات غير كافية؟ هل المقياس مجرد أن يقول أحدهم “الباص السريع مشروع فاشل”؟

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية