سوريّا: حديث الثّورة والجنون

الثلاثاء 15 تشرين الثاني 2011

بقلم محمود عمر – مدونة سيرة لاجئ

هذا حديث من داخل سوريّا، عن الثّورة، وعن الجنون. تكتبه فتاة تعايش الأحداث، تجوب شوارع دمشق، يفتّشها الأمن، تركض هربًا من الشبّيحة، وتسمع صديقها الحمصيّ إذ يسرد لها في حديث مسائيٍّ مساوئ الثورة. هذا “روبرتاج” سريع يبعث به شخص من الدّاخل, تبعث به “جفرا”، وهو اسمها المستعار لا الحقيقي؛ فالدواعي الأمنيّة، حين يتعلّق الأمر بنظام فاشيّ كنظام البعث، حاضرة حتّى على شبكة الانترنت. لا يُنشر هذا النصّ هنا بغرض دعم أيٍّ من المواقف تجاه الثورة السوريّة، انما بغرض البحث عن تدرّج الرماديِّ، بين أبيض هؤلاء، وأسود أولئك.

تجربة واحدة مع الأمن السّوري تكفي لأن أكتب. مازلت أفتقد الكثيرَ من المشاهدات في التواجد في اماكن الموت في سوريا، لكنّ الأمر برمّته صعب جدًا. دمشق تنزف ببطئ. مخاض بطيئ، وأخشى أن يكون المولود ميتًا. كلّ الوجوه متعبة؛ التعب الذي لم ألاحظه بهذا العمق الا مؤخرًا. أكتافٌ منهكة تحمل يوميًا مبلغًا نقديّـًا صغيرًا ورقم شهداء أكبر من أن يُحتمل؛ أحدهم دائمًا يذكرني أنّ الـ “3 آلاف” تلك ليست مجرّد عدد؛ هم احمد ومحمد ويوسف وعلي ونور ومريم والاء. هم سوريّون أولاً، لكنّ اللعبة أكبر من أن نتغاضى عن كونهم مدنيين أو عسكريين، كي لا ننساق خلف اللعب الإعلامي أيّاً كانت اهدافه. مشاهدتي للأعمال الوحشيّة التي قام بها الأمن في جامعة دمشق ما هي إلا حلقة صغيرة من سلسلة جلاد لا نسطيع رؤية نهايتها، ولكن من الواضح أنّها ستمتدّ لفترة زمنيّة طويلة.

متى كانت المرّة الأخيرة التي ركضتَ فيها بالسرعة اللازمة لأن تنهك رئتيك وتعتقد أنّك ستموت من الألم وأنّ أنفاسك ستتوقف جرّاء التعب، هل تتذكر؟ أنا أتذكر. قبل فترة، ركضت خوفًا من ثلاثة “شبّيحة” كانوا يتبعونني في اليوم الذي ارتديت فيه الابيض مصادفةً – كانت المعارضة اتّفقت فيما بينها على ارتداء الأبيض في نفس اليوم – وتجوّلت في انحاء دمشق. اكتشفت في حينها أنني أملك لياقة في قدميّ، أمّا بقية أجزاء جسدي فتحتاج الى بعض التمرين. في نفس اليوم تمّ اعتقال خمسين شخص من منطقة الصالحية في وسط دمشق لنفس السبب (وملّا سبب ).

أشعر بالمغص عندما أفكر بالمعادلة التي تطرحها الحكومة حول المسلحين، خاصةً في حمص. في الحقيقة، لا املك أيّ تعليق إزاء حقيقة أنّ أحد أصدقائي الحماصنة تحوّل من معارض الى مؤيّد فجأة؛ لأنّه ببساطة يريد حمص كما كانت من قبل، ولأنّه يريد أن يقف فوق احد الاسطح وينظر الى حمص دون ان يتحول الى ضحية برصاص القناصة. الجميع ببساطة يغمض عينيه، يغلق أذنيه، ويضع يديه على أنفه حتى يشمّ أقل قدر ممكن من رائحة الموت.

بعد 4 أشهر على بدء الثورة لم أعد قادرةً على متابعة كلّ تفاصيلها, توقفت عن مشاهدة الاخبار على الانترنت ( لا أستطيع منع نفسي فعليًّا عن ذلك )، لم استطع اكمال فيديو يسلخ فيه الثوار احد الشبّيحة، لا أعرف إن كان الفيديو حقيقيًا ام انه منشور بغرض الاساءة للثوّار، لكنّ كميّة الألم كانت تكفي لأوقفه. فقداني الإيمان بإنسانيّتنا يفقدني توازني أمام كل الحقائق التي تحصل في سوريّا. يتكرر المشهد في قتل القذافي؛ القضيّة ببساطة أن مجموعةً من الأشخاص تستطيع تغيير حقائق على الأرض، من كره للديكتاتور الى التعاطف معه، ومن كره للجلاد الى الخوف من الفراغ من بعده.

يبدو لي أنّ تجربة مصر وتونس وليبيا لا تتكرر، تجربة الطائفيّة وحدها هي التي قد تتكرر في سوريّا؛ فما يحصل في حمص، نقلاً عن أهلها، يتعدّى النظام والمعارضة الى اغتيالات بصفات طائفية. رفع العلم القديم ليس من التطورات المريحة على صعيد الثورة، ولا الحظر الجوي الذي هو مرادف للتدخل، العقوبات المالية الأخيرة دفع ثمنها الشّعب وليس الدولة. الاتفاق الأخير بين النظام والجامعة العربية مجرّد حبر على ورق؛ 36 شهيد في اول ايام العيد. الافراج عن 553 معتقل من اصل 32 الف (الرقم غير مؤكد ) هو أيضًا مجرّد محاولة التفاف على موضوع الحوار دون الدخول فيه فعليًا.

ما يحدث هو جنون في جنون، لا أعلم أين ومتى تنهي جرائم الأمن ولا أعلم كيف سيسكت اهالي الشهداء، .. جنون .. الكثير من الجنون.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية