في ذكرى لمعة

الجمعة 27 كانون الثاني 2012

عمر الرزاز

في ذكرى مرور سنة على رحيل الوالدة، لمعة بسيسو الرزاز، نذكرها بآخر ما كتبه مؤنس عنها سنة 2001، و مقتطفات من بعض ما كتبته هي من رسائل لمنيف في معتقل الجفر (1957-1963)، ومن مذكراتها عن الأقامة الجبرية في العراق. ككل الأمهات، مخزون هائل من الحب والعطاء، وقدره مذهله على التحايل على الألم واليأس للمحافظه على حيز ما من الأمل حتى في أحلك الظروف وأصعبها. رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه

من مؤنس،2 /2/ 2001

لمعة! ما تبقى لي من صخرة أسند لهاثي اليها.
من أين تستمدين هذة القوة الجبارة؟
وأي “جينات” تفادتني، كي لا أرث اقبالك العنيد البهيج المصمم… على الحياة؟
تتصرفين، وكأن الدنيا حصانك البري، الذي تحترفين ترويضه.
الخطوب العنيفة قطط! تهدئي من روعها بصحن حليب من ثدي ارادتك وأبتسامتك.
يا لهذا الكبرياء الذي تعجين به.
طوبى لهذة الرقه. يا لهذة الكيمياء المذهلة.

مقتطفات من رسائل لمعة لمنيف وهو في معتقل الجفر (1957، 1963)

منيفي الحبيب،

لست ادري متى ستصل إليك رسالتي هذه آمل أن تصلك في اقرب وقت. البيت خال بدونك وحتى رنين ضحكات عمر لا تخفف كثيراً من شعور مؤنس وشعوري بالوحشة و بالوحدة .. وهو يحس بان شيئا غير عادي قد حدث فينقطع لعبه ليركض إلي ويقول ” انت دح انت حبيبتي لأ إزعلي “. وهو يسأل عنك باستمرار. واليوم صباحاً عندما صحا من نومه سألني ” مين هادا بيشخر. بابا؟ فقلت لا مؤنس فعاد ليسال وين بابا؟ أما مؤنس فأعصابه من حديد وهو رجل البيت بكل معنى الكلمة لقد نضج نضوجاً كبيراً وقد أتت حادثة الأمس لتنقله تماماً من عالم الطفولة اللاهي إلى عالمنا هذا.

كيف كانت رحلتك؟ وكيف كانت الطريق؟ وكم ساعة استمرت ؟ يقولون أن هناك طريق معبدة مريحة ! فهل سلكتموها ….أنني اشعر بدوامة كبيرة تلفني فقد كانت الصدمة مفاجئة وكان ذهابك غير متوقع ولكنه تأثير لن يستمر وستعود للنفس قوتها وللأعصاب احتمالها فلا يكن لك أي ريب في هذا وستكون رسائلنا القادمة أكثر حيوية . مرسلة إليك الجرائد والمجلات ، ولك حبي وقبلاتي وأرجو أن تكتب كثيراً . تحياتي لجميع الرفاق.

منيفي الحبيب،

انك تظن بأني اتحمل الكثير وان المشاكل المالية تضايقني.. وانت غلطان جداً فهذه المشاكل وقتية وهي لا تحمل من تفكيري واعصابي اكثر من اي مشكلة روتينية اخرى كتصليح ساعة الماء ودفع فاتورة الكهرباء والتليفون والأكل والنوم.. أشياء روتينية نتحملها ولكن بدون ضيق فهي امر لابد منه ومشاكلنا المالية امر لابد منه! واما تساؤلك كيف تخفف عني هذا فلست أدري إن كان ذلك حله في يدك.. فرسائل كثيرة طويلة متوالية تفعل في نفسيتي فعل السحر وتحملني لجو قريب منك.. وقريب جداً فأشعر بالراحة وبالثقة تعود إلى نفسي.. وبالقلق والضياع يضمحلان وبتلاشي اثرهما في أعماقي..

صحوت ليلة البارحة على صوت.. كان صوت نزول الأمطار وبشكل غزير ولأول مره طبعاً.. وبين النوم والصحو شعرت بقبضه قاسية تعتصر قلبي وبألم غريب ووحشة .. هاهي الامطار تعود وأنت لم تعد.. هاهي الفصول تتعاقب وأنت لا تعود ! لم ولأي جريمة ارتكبتموها؟؟ جريمة حق الانسان بأن يفكر!

ابنك هذا فظيع وربنا يساعد معلمته عليه! المهم انه كبر وكبر جداً وهو ينتظر أن تحضر عيد ميلاده! وقد اعترف لي بأنه كان يحبك أكثر مني سابقا ولكنه يحبني أكثر الآن ! فقلت له ” اطلع من هالمعط يا عفريت بس عشان بابا مش هون بتضحك علي ” فضحك وقال ” لا والله مضبوط صرت أحبكم زى بعض لأنك بعض المرات بتلعبيني زي بابا” ! ما رأيك؟ على الحالتين أنا على الرف معه فيما يظهر!! ولد عاق!

لمعة تكتب عن الأقامة الأجبارية في بغداد (1979-1984)

أي عمان.. مدينتي الغالية .. التي عاشت في أحلامي ارحل إليها بفكري على أمواج الخيال لنُدخل السلام إلى جحيم الحياة التي أعيشها في تلك المدينة الغريبة..أطل من وراء الأسوار.. أرى النخيل الرائع يرتفع بزهو إلى الأعالي ..أحدق وأحدق ..لا شيء سوى السكون ونباح الكلاب التي يمارس الحرس حولنا لذة إيذائها وجلدها وملاحقتها ثم بالركل لصغارها وتقطيع الآذان والأذناب والانتشاء بسماع عواءها وأنينها المأسوي .. تلتمع عيونهم بلذه وحشيه ويختفي بياض العين بالحمرة وتتفتح الشفاه وتصر الأسنان وكأنهم فازوا في معركة مع.. جراء الكلاب البائسة..التي دفعها مصيرها التعس أن تستظل بظل سورنا وأشجار السرو حولنا!..
أصم أذاني.. أحاول أن أتظاهر بعدم المبالاة ثم اركض والغضب يمزقني لأحاول حماية الصغار التي لا حول لها ولا مهرب من المصير التعس..!
ونحن..بين هذه الجدران الأربع…في هذا السجن وتلك العزلة المفروضة…
…….

خارج الزمن … معلقون..
جدار عازل يلفنا..
نطرق بأيدينا ..
هل هناك أحد خلف
الجدار ؟!
الصمت يجيب ..
وتلفنا الظلمات ..
أيامنا نسيان ..
أيامنا نجترها ..
نجتر ماضينا ..
يوم بيوم
وتدق أيدينا ..
وتدق قلوبنا ..
نحن أحياء .!!
أحياء في عالم
الأموات ..
عالم الأغنام
والخراف..
تجري مذعورة
مبهورة..
تخاف سكين الجلاد.
خارج الزمن ..
نتنفس
فنعرف أننا أحياء ..
هل نحن أحياء
في عالم مات من فيه ..
ليس من صوت .. ليس
من همسة .. ليس أثر
للحياة ..
أترانا أحياء في عالم
مرصود ..
رصده مارد جبار
يحي ويميت
ويتحكم في الرقاب !!
أترانا أحياء
في عالم منسي ..
خارج الزمن ..
زجاج عازل يغلف
الأشياء ..
يغلف الوجوه ..
يغلف الأجسام ..
أمد يدي .. أتلمس ..
فلا أجد إلا الخواء ..!!
أصابعي تلمس الأيدي
ولا تحسها ..
عيني ترى الوجوه ..
وجوه دماؤها
مخنوقة بالرعب الأزرق .!
وأفواه مختومة
بالصمت الأبدي.!

والزيف يطفو في العيون
والزيف يزعق في الأكف
والزيف ينخر في القلوب
وفي الضمائر !!

لمعة تكتب في وداع منيف 16-9-1984

لم تقل وداعاً ..
لم تقسو نظراتك ..
يدك السمحة بقيت في يدي ..
أصابعك الحنونة تداعب وجنتي ..

لا ترحل .. لا ترحل
ففي صدرك الكبير
يرقد الحلم الأكبر ..

لا ترحل ..
فالأصداف مدفونة
في صدرك ..
تحتضنها .. تخاف عليها
من سمك القرش ..
الشواطئ بعيدة ..
والأمواج عاتية..
والجزارون ينتظرون
سكاكينهم مسنونة ..
ينتظرون..
والضحية .. تقذفها
الأمواج .. تتلقى..
سكاكينهم ..
الضحية .. في وجهي..
ووجهك ..
والسكاكين مشرعة ..
وليس من مرفأ …

نور الصغيرة .. لم تقل لها وداعاً..
تنتظرك .. تسأل
ترقب الهاتف ..
ترفع السماعة..
جدي… جدي …
ويصمت كل شيء
وتلح ..وتلح
تريد أن تراك ..
ودون ذلك المستحيل ..
فقد رحلت..
والغصة في الصدر ..
والجرح ينزف
كما نزف صدرك ..
وأنت قريب .. وأنت هناك ..
وأنت معي أحسك في
شراييني وتنفسي..
أضيع..
ولا أجدني ..
معلقة أنا في الزمان ..
أين أنت …؟
لا يمكن أن تذهب هكذا ..
دائماً كنت تذهب …
والفراغ يمتلئ بك
نابضاً حياً … وتعود ..
تعود إلينا ..
معك تباشير الربيع
والعشب يبعث من جديد !
واليوم تسأل عيناك ..
ولا من مجيب ..
ويتفطر صدرك ..
ولا من مغيث ..
وحدك ملقى على السرير
وحدي أسابق الريح
والزمن …
تكل قدماي
وارادتي الساحقة
تجلدني بسياط
كاوية …
لايمكن… أن لا تكون ….
لا يمكن أن أفلت
هذا الخيط
واه … متقطع …
يتقطع بين أصابعي
و(الملمة) بعناد .. بإصرار
الفجيعة ..
مستحيل … مستحيل
رحيلك هكذا…

يدك الدافئة.. دافئة أبداً
لن أمسك بها..
لن أحس البرودة فيها..
لا يمكن إلا أن تكون
يدك الدافئة أبداً..
أمسك بها بين أهدابي …استند إليها ..
أستريح .!!

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية