فيلم أردني طويل

الخميس 12 تموز 2012

الديمقراطية عندما تختزل في صندوق الاقتراع

خدعوك فصوروا الدولة البوليسية كدولة ديمقراطية باستخدام قناع رخيص استنفذ اغراضه 

بقلم موسى الشقيري

يعيش الشعب الأردني مجموعة من الكذبات بشكل يومي ويتبناها بقناعة يحسده عليها قطيع من الخرفان. فمن كذبة الأمن والأمان إلى الشرعية التاريخية للنظام إلى الاصول والمنابت وصولاً إلى الكذبات الصغيرة مثل “دعم” الخزينة للمحروقات ومبادرة مدرستي، يبقى الفيلم الأكبر هو “الديمقراطية البرلمانية”.

دخل مصطلح “الديمقراطية” أو “عودة الحياة السياسية” إلى الاردن عام 1989 كتعبير عن انتهاء فترة الأحكام العرفية، ولم يكن المقصود من استخدام اللفظة أن مجرد إجراء انتخابات نيابية لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً كفيل بنقل الاردن من دولة قيدت أبسط حقوق الانسان (بمثال للتذكير: آلاف الاردنيين الممنوعين من السفر لنشاطهم السياسي) إلى دولة حكم الشعب للشعب. من البديهي أن انتخابات 1989 لم تكن سوى الخطوة الأولى نحو الانتقال من الدولة البوليسية ذات الحاكم الأوحد إلى الدولة العصرية.

إلا أن النظام وكعادته انقلب على اصلاحاته (لأنها تهدد وجوده) بعد أن حقق أهدافه من تلك الخطوة بجس نبض الشارع وتنفيس احتقانه، فعمل وبشكل تدريجي وممنهج وعلى مدى عشرين عاماً على إجهاض المؤسسة البرلمانية ونزع أدوات عملها، ونجح بإفراغها من محتواها. فأصبحت المؤسسة، التي كان من المفترض أن تكون عماد الحياة السياسية، نكتة يتداولها الأردنيون بحسرة، وحجة يستخدمها مطبلو الديكتاتورية لإثبات أن الشعب غير “مؤهل” لتحييد الحاكم الأب الأوحد الرمز وحكم نفسه بنفسه.

لقد خانت الدولة الاردنية الأمانة وبدلاً من أن تقوم بواجبها بالأخذ بيد المواطن الذي حرمته من خبرة ممارسة العمل السياسي (بما فيها الانتخاب) على مدى عقود وإعادة تأهيله (من خلال القوانين بالدرجة الأولى) ليصبح قادراً على اختيار أفضل من يمثله ويمثل مصلحة وطنه، صبّت الدولة جهودها في الاتجاه المعاكس وعملت على إفساد الحياة السياسية، بهدف الوصول إلى الوضع الحالي الذي يضمن برلمانات غير قادرة على أداء واجباتها الدستورية، لسنوات عديدة قادمة، وبغض النظر عن قانون الإنتخاب.

تظهر نوايا الدولة الاردنية في إفساد الحياة السياسية من خلال المظاهر التالية، وعلى سبيل المثال:

-صاغت الدولة لقوانين (قانون الصوت الواحد) لعبت على نزعات المجتمع العشائرية والمناطقية وحتى الدينية، فتغلبت هذه الداوفع، وبالتدريج، على الدافع السياسي لاختيار الممثل.

-شجعت الدولة النواب على تكريس أنفسهم كنواب مناطق بتلبية طلباتهم الخدماتية لقواعدهم الانتخابية، فتعزز دافع الناخب لانتخاب “قريبه”، واصبح حتى لا يرضى ببديل سياسي عنه.

-تدخلت الدولة وسلطاتها التنفيذية كلها بعمل النواب وبالقرارات التي تصدر عن المجلس (باعتراف النواب)، وتلاعبت أجهزة الدولة بنتائج الانتخابات (تزوير مباشر أو نقل أصوات أو دوائر وهمية) لإيصال الرسائل للمرشح أن وصوله للبرلمان مرهون بالتزامه بالتعليمات التي تصدرها.

-تسميم “الناخب الجديد” مبكراً، بتدريبه على التعصب المناطقي في الجامعات من خلال الصوت الواحد في انتخابات مجالسها، والتزام الدولة بمبادئ مدرسة المخابرات السابقة القاضية ببذل كل جهد ممكن لمنع الطلاب من الانخراط بالعمل السياسي والتضييق عليهم. (من منطلق أن من لم يتسيس شاباً جامعياً أثناء تشكل وعيه، لن يتسيّس عندما تبدأ متطلباته المعيشية بالإزدياد).

-تقديم طبقة جديدة من “النواب” (من خلال التزوير المباشر، أو غض النظر عن شراء الأصوات أو نقلها)  مكونة بالمجمل من السماسرة والمقاولين والمهربين وضباط الأجهزة الأمنية وتجار المخدرات ورجال الأعمال، لتصبح هذه الشخصيات في الوعي الجمعي هي “الطبقة السياسية” (أو رجال الدولة، بديلاً عن أصحاب الفكر والايدولجيا)، فتصبح هذه الشخصيات ومن شابهها الخيارات الاولى للناخب البسيط، بحكم العادة والألفة.

-المحافظة على نظام داخلي لمجلس النواب يحد من فعاليته، فطريقة اختيار لجان المجلس وآلية التصويت على القوانين وغيرها من التفاصيل تحتاج إلى تطوير كان لا بد له أن يتم تدريجياً مع كل مجلس على مدى العشرين عام الماضية.

-تشويه صورة المجلس من خلال دس بعض عناصر تخلق الفوضى لتعطي الانطباع أن مجالس النواب ليست أكثر من ساحات للتهريج، وبالتالي غير قادرة على إنتخاب حكومات برلمانية.

لقد عمل النظام على تدمير كافة أركان المؤسسة البرلمانية من الناخب إلى المرشح إلى شخصية البرلمان الاعتبارية، وبالتالي فإن رفض قانون الانتخاب الحالي هو ليس مجرد اعتراض على قانون الصوت الواحد بقدر ما هو اعتراض على رفض النظام أخذ الخطوة الاولى نحو إعادة بناء الحياة السياسية في الاردن، الخطوة التي تأخرت عشرين عاماً. لا بد من التذكير أن هذه الخطوة لا يمكن أن تقتصر على تغيير القانون وإنما يجب أن يصاحب هذا القانون “النية الحقيقية” لبناء حياة سياسية، لأن تمسك النظام بأدواته التقليدية على حساب شرعية الشعب تجعله وأدواته قادرين على جعل أي قانون انتخاب بلا معنى. في ندوة مع أحد نواب الزينة (النسبة الضئيلة من الحزبيين الذين يسمح بتواجدهم في المجالس لأغراض الديكور) رد النائب الحزبي المتحمس لقانون انتخاب عصري على سؤال “من يحكم الاردن؟” بالرد التقليدي الذي أصبح كل طالب إبتدائي أردني يعرفه: “الديوان والمخابرات والحكومة، وبنسب مختلفة حسب المراحل”. فإذا كان النائب يعترف أن مجلسه (في أحسن حالاته) يملك سلطة رقابية على ثلث السلطة التنفيذية (في أحسن حالتها) فهل هناك مسخرة أكبر من قضاء شهور في جدال حول قانون انتخاب، مهما كان شكله؟ وهل هناك مشهد محزن أكثر من وجود نائب معارض يلعب دور ثانوي في فيلم من طراز الكوميديا السوداء؟

في الجانب المشرق، وحتى لا نفقد الأمل ونغرق في السلبية، من الواضح أنه لا القانون راح يتغير، ولا في نية حقيقية ولا وهمية لتغيير شيء، والوضع هيك تمام، ويكفينا نعمة الأمن والأمان، ونحو أردن أخضر عام ألفين، ويا محلى النصر بعون الله.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية