كيفَ صارَ الفلسطينيُّ أردنيّـاً … جذورُ الإشكال المُهملة

الأربعاء 22 آب 2012

بقلم ضياء اشتيّة

جولة جديدة من المناكفات المتبادلة تدور الآن في المملكة ونلمسُ تبعاتها وتداعياتها، محورها ذات المسائل القديمة الجديدة، عن المواطنة والهويّة والحقوق المدنية والدستورية، جدلٌ له مواقيتُ موسميّـة وأشراط تـُـنـبّئ به من حين لآخر، جدلٌ ينتهك حرمات البيوت دون إذن، ويجول صالونات النخب السياسية دون كلل. مساحات من الإعلام المنفلت، مقالٌ يلجمه مقال، ومبادرة تخاطب القصر، وقصر ينثر تطميناته الرومانسية على الشعب، شتمٌ وشتمٌ مُضاد، هذا يضع تعريفاً لـ “المواطنة” وذاك يخترع “الوطنيّة” شرطاً لها، وتجييشٌ سهلٌ للغرائز في بيئاتنا فقيرة التنوّع والتعايش، والغنية بكل أسباب الفرقة والتعصّب.

مأساة أن تعيشَ في مجتمع بذاكرة نازفة، ثـقوبها الجهلُ والسطحية والتعصّب المُسبق لرأي أو موقف، لم يتمّ تبنيه بناء على منهج علميّ سليم، وإنما عبر روايات تؤلفُ وتأوّلُ وتغنى في مجالسنا وركواتنا، أو عبر قصص تعمّم للردّ على قصص أخرى، والنتيجة التي وصلنا لها هي مجتمعٌ فاقدٌ لإرادة التعايش والسلم الأهلي بين مكوّناته.

تشخيصُ الدّاء نصفُ العلاج، وتوصيف المشكلة بطريقة موضوعية سيسهمُ حتماً في نهوضنا من مستنقعات التجهيل والانحطاط الفكري الضحلة التي تلوثنا بغـُبـنها ورائحتهل النتنة، ومعرض الحديث هنا عن الأردنيين ذوي الأصول الفلسطينية ثانية، وبالأخصّ أصل مسألة مواطنتهم وجذورها في المملكة الأردنية الهاشمية، في عودة لأساس الإشكال وبداياته، ضمن سياق سياسيّ وتاريخيّ نتحرّى فيه الموضوعيّة، علّ الإجابة عن هكذا مسألة تزيل بعضاً من الغشاوة عن أعيننا، وعلّ دروس الماضي تسعفنا هذه المرّة في رسم مستقبل أكثر عدلاً وسلماً فيما بيننا.

أفكـارُ تقـسـيـم البـلاد، وتـأييـد الإمـارة

مع تفجر الانتفاضات المسلحة ضد الانجليز واليهود في العام 1936، لجأت بريطانيا إلى إيفاد لجنة ملكية يرأسها اللورد (بيل) لتقييم المعضلة واقتراح الحلول، وتوصلت هذه اللجنة في تقريرها عام 1937 لمشروع تقسيم لأرض فلسطين بين العرب واليهود، وهي المرّة الأولى التي تظهر فيها هذه الفكرة على الملأ، رفض الفلسطينيون بهيئاتهم الوطنية المختلفة هذا المقترح، غير أنّ الأمير عبد الله أيّد التقسيم، فقط لأنه رأى في ذلك فرصة مواتية لتوسيع إمارة شرق الأردن التي يحكمها، في ظلّ أفول عرشيّ دمشق وبغداد عن ناظريه.

استنادا لوثيقة برلمانية بريطانية تعود للعام 1937 نقتبس “إن إحدى الدّولتين الجديدتين مرشحة لأن تكون دولة عربية مؤلفة من شرق الأردن والجزء العربيّ من فلسطين، والأخرى دولة يهودية“، كما يظهر من مذكرات السيد (كيركبرايد) المقيم البريطاني في شرق الأردن خلال الفترة ما بين (1939 – 1951) قوله حينها “أنّ الاقتراح القاضي بإمكانية ضمّ الجزء العربي من فلسطين إلى شرق الأردن كان شديد الإغراء لعبد الله إلى درجة جعلته غير قادر على تجاهله، فسارع إلى إعلان تأييده للتقسيم“.

فشلت بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية في إيجاد حلّ لمسألة فلسطين، وقرّرت إحالة الملف إلى الأمم المتحدة، والتي بدورها شكلت لجنة (أنسكوب)، حيث أصدرت الأخيرة بعد ذلك قرار التقسيم الشهير الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1947 تحت مسمى القرار 181، وينصّ على دولتين يهودية وعربية وبقاء القدس تحت الوصاية الدولية.

وتماماً كما حدث مع تقرير لجنة (بيل)، فإنّ العرب والفلسطينيين رفضوا هذا القرار، بينما أيّـده الملك عبد الله الأول – وإن بالخفاء – كما يذكر (كريكبرايد) في إحدى برقياته لمكتب الخارجية “أنّ عبد الله أسرّ له بأنه كان يُعارض أيّ حلّ قائم على تصور بقاء دولة موحدة في فلسطين“، كما يُـدعّم ذلك خطاب الملك لوزير الخارجية البريطاني آنذاك (بيفين) قال فيه إنه “كان ولأسباب سياسية وتكتيكية قد اضطر رسمياً لرفض التقرير“، موضحاً أن “شرق الأردن لم يكن – بوصفه الدولة الوحيدة المستفيدة من التقسيم – قادراً على أن يكون الدولة الوحيدة المؤيدة لذلك المسار“.

النكبة، وخطة الضابط الإنجليزيّ

أقتبس من كلام محمود درويش قوله: “وحثَّ السيرَ إلى وطنٍ … فقدناه بحادث سيْـر”، والقصدُ هنا أن يتجنب المواطن العربيّ قراءة نكبة عام 1948 من مناهج التعليم الرسميّة أو من كتـّـاب يفرضون على أقلامهم رقابة ذاتيّة مشدّدة، فالحقيقة أبسطُ مما نتخيّل، وأكثرُ ألماً وحسرة: المحتلّ الإنجليزي ينهي تواجده في فلسطين وينسحب دون تسليم فعليّ للسلطة، العصابات الصهيونية تعيث في القرى والمدن قتلاً وترويعاً بتضخيم إعلاميّ، الجيوش العربيّة تدخل – بحجة نجدة الفلسطينيين من المجازر – لتقاسم الحصة العربية من أرض فلسطين حسب القرار 181، ومتطوعو جيش الإنقاذ غير النظاميّ يبادون ويحاصرون دون دعم أو سلاح.

تفيد البرقيات المتبادلة بين مكتب الخارجية البريطانية و (كريكبرايد) أواخر العام 1947 وبداية 1948 بـ “ضرورة أنْ لا تعمّ الفوضى الأراضي الفلسطينية غداة الجلاء المزمع القيام به، كي لا تتضرر مكانة بريطانيا الإقليمية“، وتوصّـلت لندن لاستنتاج يقول حرفياً “إنّ الفيلق العربي (الاسم الذي أطلق على الجيش الأردني في تلك الفترة) إذا استخدمه عبد الله بذكاء في ذلك الجزء المخصص للدول العربية من فلسطين من قبل الأمم المتحدة … فإنه يستطيع فعلَ الشيء الكثير على صعيد الحيلولة دون انتشار الفوضى، والإسهام في إعادة إشاعة الأمن“، وكان (كريكبرايد) المراوغ يقترح تسويغ دخول الفيلق العربيّ بحجة حماية الفلسطينيين من المجازر، متعاوناً مع القوات الفلسطينية غير النظامية في المناطق اليهودية، لكن “دون أن يقوم هو نفسه بانتهاك الحدود اليهودية“. أما محضرُ اجتماع رئيس وزراء الأردن وقتها توفيق أبو الهدى مع وزير الخارجية البريطانية (بيفين) في شباط، 1948 فيفيد: “قام (توفيق باشا) بإبلاغ (بيفين) أنّ عبد الله اقترح إرسال الفيلق العربيّ عبرَ نهر الأردن فور انتهاء الانتداب لاحتلال الجزء المُخصّص للعرب من فلسطين، ونظراً لأن وزارة الخارجية كانت قد قررت أن تدعم قيام شرق أردن أكبر، بدلاً من ظهور دولة فلسطينية مستقلة، فإن ردّ (بيفين) كان إيجابياً، على الرغم من تحذيره من عبور حدود الأمم المتحدة إلى داخل الأماكن المخصصة لليهود“. وكتب (غلوب باشا) في آب 1948 يقول: “كان ثمّة خطة شرق أردنية معروفة من قبل بريطانيا تقضي بأن يقوم الفيلق العربيّ بعد إعلان الدولة اليهودية باحتلال الأجزاء العربية من فلسطين دون الدخول في أي صراع مع القوات اليهودية“.

المعركتين العسكريتين الوحيدتين اللتين خاضهما الفيلق العربيّ كانتا في اللطرون وباب الواد، وصمد فيهما، حيث قام بالتصدي لمحاولات الصهاينة تجاوز حدود الدولة اليهودية المقترحة وتهديد ومحاصرة المدينة المقدسة، التي أعطت الجنود الأردنيين زخماً معنوياً وروحانيّاً وحماساً منقطع النظير للدفاع عنها، رغماً عن رغبة (غلوب) الذي كان يُماطل بالتدخل، ففي رسالة (كريكبرايد) للندن بهذا الخصوص قال: “تعيّـنَ على (غلوب) أن يختار بين التوجه إلى الخارج، والقيام بعمليات تقوده في النهاية إلى منطقة يهودية من جهة، وبين التوجه إلى الداخل لرفع الضغط عن المناطق العربية من القدس من جهة ثانية، وقع اختياره على الاحتمال الثاني، وكان حكيماً في ذلك باعتقادي، فإنقاذ الأماكن المقدّسة في القدس كان من شأنه أن يُكسب شرق الأردن ميزة عظيمة في العالم العربي، مع توفير إمكانية إعطاء الجنود فرصة خوض المعركة التي رفعوا أصواتهم مطالبين بخوضها، دون التعرض لخطر التورط فيما كان يمكن وصفه بأنه عمل عدواني ضد الدولة اليهودية“، حتى السفير الأمريكي في لندن أكد حينها أنّ “الفيلق العربي لم يدخل إلى الدولة اليهودية، أما الهجوم على أجزاء من القدس فلم يكن إلا نتيجة خرق اليهود لوقف إطلاق النار. إننا واثقون أنّ الهجوم ما كان ليحصل لو أنّ اليهود قبلوا بالهدنة في القدس“.

إلغاء فلسطين من الخارطة

حدثت النكبة، وكان الذي كان من مأساة إنسانية، لكنّ الأخطر هو ما تبعَ ذلك من خطوات سياسية لا زلنا للآن ندفع ثمنها، فبريطانيا والكيان الصهيونيّ كانا مؤيدين بشدّة لفكرة الدّمج مع شرق الأردن، وذلك لإزالة اسم فلسطين من الخارطة السياسية. حاول الفلسطينيون لملمة شملهم على ما تبقى من أرض فلسطين، ودعمَ النظامُ الرسميّ العربيّ مُمثلاً بالجامعة العربية إقامة حكومة عموم فلسطين لامتلاك وضع شرعيّ وقانونيّ بيد الفلسطينيين، في مُحاولة لتخلص الأنظمة العربية من لعنة الهزيمة وعبء الوصاية، وبالفعل تمّ تشكيل الحكومة الفلسطينية في 23 أيلول عام 1948، والتي أعلنت قيام جمهورية ديمقراطية ذات سيادة على كل فلسطين، رداً على الإعلان الصهيوني بإقامة كيانه، واستمرت حكومة عموم فلسطين ومقرّها غزة ثلاثة أسابيع فقط، قبل أن تنقلب الجامعة العربية عليها، عملت خلال فترتها القصيرة على تعيين ممثليها في الجامعة العربية وهيئاتها، وإحياء جيش الجهاد المقدّس، وإصدار 14000 جواز سفر فلسطيني للسكان المحليين، وإرسال وفد رسمي إلى الأمم المتحدة (على الرغم من عدم اعتراف الأخيرة بها)، ولقد نالت هذه الحكومة اعتراف خمس دول عربية فقط، الأردن طبعاً ليس من ضمنها!! بل كانت لديه وجهة نظر مغايرة، فعارض الحكومة الفلسطينية، وتزامن هذا الموقف مع إجراءات وخطوات متلاحقة وتدريجية في الفترة (1948 – 1950) أطلق عليها اسم عملية (الضمّ الزاحف) لفرض أمر واقع جديد على تلك البقعة الجديدة التي وسّع النظامُ حكمه عبرها، وزاد من نفوذه على حساب اسم فلسطين:

كانون أول، 1948 – مؤتمر أريحا، والذي حشد له النظام كل أنصاره من المخاتير وأعيان المدن والإقطاعيين والموظفين الحكوميين والمتنفذين وأصحاب المصالح، والذين لطالما تحالفوا مع السلطة أيّـاً كانت، في سبيل الحفاظ على مكتسباتهم. نشير هنا أن حملة اعتقالات واسعة جرت على يد الأجهزة الأمنية الأردنية في مدن نابلس والخليل والقدس وغيرها، في صفوف المعارضين الوطنيين لهذا المؤتمر.

شباط، 1949 – منح الجنسية الأردنية لكل الفلسطينيين، دون مقدّمات أو أسباب أو مشورة أو مسوّغات قانونيّة.

آذار، 1949 – استبدال الحكم العسكري بحكم مدني مسؤول أمام الوزارات ذات العلاقة في عمان، وذلك في محاولة لإعطاء الانطباع للأحزاب والجمعيات بمزاولة العمل السياسي.

أيار، 1949 – تعيين ثلاثة وزراء فلسطينيين في الحكومة، لتكريس مبدأ المحاصصة مع الجغرافيا الجديدة.

آب، 1949 – زيارة الملك عبد الله للندن، وتلقيه تطميناً من الخارجية البريطانية حول تأييد الإنجليز لعملية ضمّ فلسطين العربية لشرق الأردن.

كانون أول، 1949 – إصدار قانون يتولى بموجبه الملك كل الصلاحيات والسلطات التي كانت سلطة الانتداب في فلسطين تتمتع بها.

آذار، 1950 – وقبل التصديق على “مرسوم الوحدة”، الملك يصدر قراراً نصّ على ضرورة الإشارة إلى المنطقة الواقعة تحت السيطرة الأردنية من الآن فصاعداً باسم (الضفة الغربية) فقط، وحظر استخدام كلمة فلسطين في أي وثيقة أو مراسلات رسمية.

نيسان، 1950 – إجراء انتخابات تشريعية في الضفتين الشرقية والغربية، وافتتح البرلمان يوم 24 نيسان. في اليوم التالي بادرت مجموعة من النواب الفلسطينيين (من أنصار القصر) بتقديم اقتراح يقضي بتوحيد ضفتيّ الأردن، وتمت الموافقة عليه بالإجماع، وهو التشريع الأول والأخير الذي أقرّه هذا البرلمان.

28 نيسان، 1950 – بريطانيا تعترف بعملية إلحاق الضفة الغربية بالحكم الهاشمي، وهي الدولة الوحيدة في هذا الكوكب التي أيّدت ذلك.

مما سبق نرى أن الفلسطينيّ المتواجد على ضفتيّ النهر صار مواطناً أردنيّاً، بجنسية وجواز سفر، دون طلب أو استجداء أو استعطاف من طرفه، بل على العكس كان معارضاً لأي مشروع إلحاق أو تضمين لكيانيته داخل النظام الرسمي العربي، وكانت حركته الوطنية التي هشمتها النكبة تسعى لأخذ زمام المبادرة من يد النظام الرسميّ العربيّ، والذي شبهه غسان كنفاني بعد الحرب بـ “الرّجل المخصيّ”.

أنصاف الحلول والمواقف المُـتخذة حالياً من قبل الدولة الأردنية بخصوص مسألة المواطنة لأردنيي الأصل الفلسطيني لا يحلّ الإشكال، وإنما يرحّـله لأجيال من المكونين الشرقي والغربي لم تخلق بعد وستحمل وزرَه وأثقاله، شأنه شأن الخزينة المنهوبة التي تنتظرهم أن يسدّوا عجزها، فالحزم في الحلّ كفيلٌ بإنهاء حالة الاشتباك الموسميّ الذي يحدث، وحين أقول الحلّ الحازم فإنه يشمل كلّ الاحتمالات، بدءاً من إسقاط الجنسية تدريجياً وبشكل مُعلن وشفاف عن الفلسطينيين (كل الفلسطينيين دون استثناء) واعتبارهم رعايا مقيمين مؤقتاً في الأردن، وليس نهاية بمساواتهم مع أشقائهم الشرقيين في الحقوق والواجبات، أمّا أن يخرج علينا بين غفوة وأخرى مهووسو الوطن البديل ومنظرو المؤامرة الإمبريالية والكارهون لعمّان فطريّاً، أولئك الذين يضعون العصيّ في دواليب الديمقراطية الحقيقية، ويشعلون إطارات التوطين في كل منعطف سياسيّ، ويعطلون العقول عن التفكير في واقع جديد يضمن بالضرورة انتزاع ما كسبوه من نفوذ وسلطة ومال بغير حق، ويضمن بالضرورة أيضاً مستقبلاً أكثر عدالة وإنصافاً لأتباعهم المثارين اليوم غرائزيّاً بفضل حشدهم ضد الآخر، فهو أمر لم يعد ينفع أحداً، وحتماً سيضرّ الجميع.

عذراً للإطالة، وعذراً للاختصار

المصادر:

عبد الله وشرق الأردن بين بريطانيا والحركة الصهيونية – ماري ولسن
الأرشيف الوطني البريطاني
الحركة الوطنية الفلسطينية (1949 – 1993) – يزيد صايغ

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية