تقييم مستوى الحياة في أحياء المدينة

الأربعاء 26 أيلول 2012

The article is available in English here

بقلم محمد شجاع الأسد (نشر بالتعاون مع طريق)

 لدينا جميعنا آراء واضحة عن مستوى أو نوعية الحياة في أحيائنا، ولكن التحدي يكمن في كيفية تقييمها.

سأبدأ بتعريف الحي من ناحية المساحة. لا يوجد تعريف واحد معتمد للحي. فالحي للبعض لا يتعدى مجموعة من المساكن التي تحد جزءاً من الشارع الذي يقطنونه.  وهو للآخرين أكبر من ذلك بكثير. إن حيّك يتكوّن من المنطقة المحيطة بمنزلك التي تشعر بأنها مألوفة لك وأنه يسهل الوصول إلي أجزائها المختلفة. في الكثير من الأحيان، تتضمن هذه الرقعة دائرة وهمية مركزها مسكنك ونصف قطرها كيلومتر واحد. إن مسافة الكيلومتر الواحد هي مسافة يستطيع الكثيرون مشيها بسهولة على الأقدام. ولكن يجب أن لا ننسى أن هذه المسافة قد تكون طويلة بعض الشيء للمشاة في عمّان إذ أن المدينة مليئة بالحواجز التي تجعل عملية المشي فيها صعبة، مثل غياب الأرصفة أو عدم صلاحية ما هو موجود منها، بالإضافة إلى صعوبة أو حتى استحالة عبور الشوارع ذات حركة السير الكثيفة.

إذاً كيف نقيّم مستوى أو نوعية الحياة في مثل تلك المنطقة التي قد تصل مساحتها إلى ما يقارب الثلاثة كيلومترات مربعة؟ على المستوى الأساسي، يحتاج الناس إلى خدمات تتعلق بتوفير المياه والكهرباء والصرف الصحي وجمع النفايات. ولا يقل أهمية عن كل ذلك توفير الحماية من العنف، سواء كان سببه الجريمة أو غير ذلك. وإذا لم تتوفر هذه الخدمات وهذه الحماية، فإن الحياة الحضرية تتعرض للإنهيار.

وإذا توفرت هذه الخدمات الاساسية، فإن نوعية الحياة في أي حي يعتمد على تنظيمات استخدامات الأراضي وعلى كفاءة تنفيذها. فهذه التنظيمات تحدد الكثافة السكانية التي يمكن لحي معين أن يحتويها. وبذلك تحدد المساحات التي يمكن بنائها وتلك التي يجب أن تبقى غير مبنية أو أن تخصص للشوارع. وبالنسبة للمساحات المبنية، فإن تنظيمات استخدامات الأراضي تحدد حجم البناء من ناحية المساحة الطابقية والإرتفاع، وتحدد أيضاً الإستعمالات المسموحة في أبنية الحي وفي مساحاته غير المبنية.

وإذا احتوى الحي على عدد كبير من الشوارع التي تحوي حركة سير كثيفة وسريعة، فإن الحياة اليومية فيه تصبح غير آمنة وصعبة للغاية. كذلك، إذا لم يكن بالإمكان احتواء السيارات التي تحتاج إلى الإصطفاف على أطراف شوارع الحي، فسيكون ذلك سبباً لإزدحامات كثيفة، وسبباً للتوتر لسكانه.

إن المخططين هذه الأيام يفضلون تنظيمات استعمالات الأراضي التي تسمح لكثافات سكانية عالية نسبياً ولخلط مدروس للاستعمالات في أحياء المدينة. فتوفير خدمات البنية التحتية لعدد كبير نسبياً من السكان في منطقة صغيرة أسهل من توفير هذه الخدمات لنفس العدد من السكان إذا توزعوا على منطقة أكبر. إن الكثافات العالية تسمح أيضاً للسكان أن يقطعوا مسافات أقصر حتى يصلوا إلى الخدمات المختلفة التي يحتاجونها، أي أنه يمكنهم الوصول إليها على الأقدام. ولذلك ستكون المتاجر والمطاعم والعيادات الطبية وأماكن العمل وأماكن العبادة وأماكن الترفيه جميعها قريبة من أماكن سكنهم. وللاستفادة من هذا التقارب، من المهم أن يستطيع سكان الحي أن يمشوا بأمان ويُسْر في أحيائهم. وهذا يتطلب وجود أرصفة ذات مواصفات جيدة ويتطلب أيضاً القدرة على عبور الشوارع بسهولة وبأمان.

وهناك بالطبع حد لما يمكن أن يتحمله أي حي من كثافة سكانية. وإذا زادت الكثافة السكانية عن الحدود المعقولة، فإن خدمات البنية التحتية في الحي لن تعمل بكفاءة، مما يجعل الحياة هناك صعبة. والكثافة التي تتعدى الحدود المعقولة تعني أن خدمات تزويد المياه والصرف الصحي والكهرباء لن تتوفر للجميع بمستوى مقبول، وتعني أن النفايات لن تُجمع بكفاءة، وأن الشوارع وأرصفتها لن تتمكن من تحمّل عدد السيارات والمشاة. وبالرغم من كل ذلك، لا يمكن الإستخفاف بقدرة المدينة على تحمل الكثافات العالية. ومن أفضل الأمثلة على ذلك دولة سنغافورة التي هي في الواقع مدينة واحدة تحتوي على عدد من الجزر مساحتها حوالي 710 كيلومتراً مربعاً (أي أقل من نصف مساحة عمّان) و يفوق عدد سكانها الخمسة ملايين نسمة، ولكنها تقدم لهم مستوى متميز من الحياة الحضرية.

أما فيما يتعلق بالخلط بين النشاطات والخدمات المختلفة المختلفة في ذات الحي، فمن البديهي مثلاً عدم وضع مصنع للكيماويات بقرب حضانة أطفال. ويجب أخذ الحيطة والحذر وجراء ترتيبات خاصة قبل السماح بترخيص أي نشاط تنتج عنه مستويات عالية من حركة السير والنفايات والضجيج والتلوث أينما كان موقعها، وخاصة إذا كانت في المناطق السكنية أو بالقرب منها.

كذلك يجب على تنظيمات استعمالات الأراضي أن تضمن كميات كافية من المساحات العامة الخضراء. إن هذه المساحات ليست ترفاً، خاصة وأن غالبية سكان المدن اليوم يسكنون في شقق سكينة. إن الجميع بحاجة إلى هذه المناطق الخضراء على المستويين البدني والنفسي، والأطفال بالذات يحتاجون إلى هذه الساحات لللعب وليتفاعلوا فيها مع أصدقائهم ولأن ينفّسوا عن طاقاتهم الكامنة.

وأخيراً، يحتاج الناس إلى أن يكونوا على دراية ووعي بقدرتهم على التأثير على التطورات والتغيرات التي تصيب أحيائهم، سواء كانت تغيرات تتعلق بإستخدامات أو أبنية أو شوارع جديدة. ويمكن تحقيق ذلك على أفضل وجه من خلال جمعيات الأحياء التي تجمع السكان ليناقشوا الأمور التي تهمهم ويتخذوا قرارات بخصوصها ويتواصلوا مع السلطات المختصة على نحو جماعي.

لذلك، إن أردنا أن نقيّم نوعية ومستوى الحياة في حي ما، علينا أن نجيب عن الأسئلة التالية:

– هل تتوفر الخدمات الأساسية المرتبطة بالصحة العامة والأمان؟

– هل هناك تنظيمات جيدة لاستعمالات الأراضي تُنفّذ بكفاءة وتتحكم بما يمكن بناؤه ومكان بناءه؟

– هل تسمح هذه التنظيمات بكثافات جيدة وبخلط مدروس لاستعمالات الأراضي وهل تؤمن كميات كافية من المساحات الخضراء العامة؟

– هل تحمي هذه التنظيمات سكان الحي من الاستعمالات المؤذية، مثل تلك التي تتسبب بمستويات عالية من التلوث والضجيج والنفايات وأزمات السير؟

– هل يمكن لسكان الحي أن يؤثروا على ما يحدث في حيّهم من خلال مؤسسات مثل جمعيات الأحياء؟

إن توفرت الشروط التي تضعها هذه الأسئلة، فهذا يعني أن الأسس اللازمة لتأمين نوعية جيدة من الحياة لسكان أي حي موجودة. ولكن إن لم تتوفر، فإن مستوى الحياة الحضرية في الحي سيتآذى، وقد ينهار.

إن المدن وأحياءها أماكن تحوي أناساً من خلفيات مختلفة وتضعهم بقرب بعضهم بعضاً. ومدن العالم العظيمة تاريخياً هي تلك التي احتوت تنوعاً واسعاً في سكانها. ولكن سكان المدن وأحيائها يحتاجون إلى التوصل إلى ترتيبات تسمح لهم أن يعيشوا بهذا القرب وأن يتشاركوا في استعمال أجزاء المدينة المختلفة وأن يحافظوا بنفس الوقت على أنماط حياتهم. وهذا كله يتطلب الكثير من الأخذ والعطاء ومن التقبّل للغير. ولكن إذا انسحب عدد كبير من سكان المدينة كل إلى عالمه الخاص وتجاهلوا أماكن المدينة العامة، أو إذا قام الكثيرون من سكان المدينة بفرض أنماط حياتهم على المدينة وعلى غيرهم من سكانها، فإن مستوى التحضّر ومستوى الحياة عامة في المدينة سيعانيان كثيراً، وهذا سيعرّض المدينة لتراجع قد لا تستطيع التعافي منه لفترة طويلة. وبناء على تجارب مدن العالم المختلفة عبر التاريخ، فإن ذلك يمكن أن يحصل بسهولة وبسرعة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية