الانتفاضات العربية بين مسطرتي ماركس وهيغل

الأربعاء 28 آب 2013

زمان، اي قبل عدة سنوات، كانت الامور واضحة “إما ابيض او اسود”، او هكذا كنا نعتقد. وكنا كما يقال “ننام على حرير اليقين”، جميعنا كنا نمتلك “الجواب”.

زمان، كانت الأحزاب والمفكرين والناس يعتقدون انهم يمتلكون رؤية واضحة “للأحداث”، ومعرفة لا يطالها الشك، وأدوات ومناهج تحليل “كلية القدرة”، ويفاخرون بأن التاريخ كان يأتي دائما “لإثبات صحة مواقفهم” أو تحليلهم للأحداث.

اليقين هذا ووضوح الرؤية والأجوبة السابقة بدأت تخلي مكانها لـ”السؤال” و”الشك”. والمعرفة الكاملة صارت جهلاً، كلما ازددت علماً ازددت جهلاً، وأدوات التحليل صارت ناقصة.

شكرا لـ”الربيع العربي”..

فهذا الحدث، أياً كان تفسير البعض له أو أياً كان موقفه، صار “الحدث الأبرز في التاريخ العربي الحديث”. وهو وإن كان لم يرتق لمستوى “الحدث التاريخي” كالثورة الفرنسية مثلاً إلى الآن، أو “الثورة الروسية” التي هزت العالم في عشرة أيام، إلا أنه فتح المجال لـ”السؤال”، وكتب وسوف يكتب الكثير في تحليله ومحاولة فهمه او دحضه أو التقليل منه وقد يؤدي، أو هو بدأ يؤدي إلى “صدمة وعي” في الفكر العربي.

“الربيع العربي” غيّرني.. وذهبت أبحث عن المزيد من المعرفة أو ربما عن “أجوبة” لكني لم أصل بعد، وربما لن أصل.

وما انا إلا من غزية، فقد كنت قبل عدة أعوام مثل غيري من الناس، لا يصل الشك إلى يقيني وأجوبتي ومعرفتي ووعيي، لكن “الربيع العربي” غيّرني وصرت “على قلق كأن الريح تحتي”. وذهبت أبحث عن المزيد من المعرفة أو ربما عن “أجوبة” لكني لم أصل بعد، وربما لن أصل.

ضمن بحثي هذا قرأت مؤخرا كتابين، الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ، للباحث السوري هاشم صالح. وكتاب “الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية”، للباحث اللبناني جلبير أشقر.

كتاب صالح سوف يحاول تناول الانتفاضات العربية وتفسيرها على ضوء فلسفة التاريخ عن الفيلسوف الالماني هيغل، بقراءة “ابستمولوجية” معرفية. فيما سيتناول أشقر الانتفاضة من منظور “الاقتصاد السياسي” الماركسي، اي من منظور ماركس، الذي هو في الأصل تلميذ نجيب لهيغل.

بالمناسبة فماركس قال ذات مرة: “كل ما فعلته،” أي كل فلسفته وفكره، “هو أنني قلبت ديالكتيك هيغل، وأوقفته على قدميه بدلاً من رأسه.” أي قلبه رأساً على عقب.

ماركس كان يصنف هيغل باعتباره فيلسوفاً “مثالياً” يعتقد أن الوعي سابق للظروف المادية التي يعيشها الإنسان. بينما هو يعتقد أن الوعي هو نتاج ظروف الإنسان المادية.

وعلى هذا الأساس فان الفرق بين كتابي أشقر وصالح هو في تناول الأول للظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى الانتفاضة فيما صالح يناقش حالة “الوعي” التي سبقت ورافقت وقد تنجم عن الانتفاضات.

ينطلق أشقر من مقولة أساسية لماركس، يحاول فيها ماركس تفسير الثورات الجذرية، أو تفسير انتقال المجتمعات من بنية اقتصادية اجتماعية إلى بنية أخرى، مثل الانتقال أو الثورة الرأسمالية على الإقطاع: “عند مرحلة معينة من تطورها، تدخل قوى المجتمع الإنتاجية (الانسان وأدوات العمل مثل:المواد الخام،الالات،الطاقة..الخ) في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة التي تتحول الى قيود تعيق هذه القوى، وعندئذ تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعية”.

استناداً إلى هذه المقولة الأساسية في الماركسية يحلل أشقر نمط الإنتاج النيوليبرالي الرأسمالي في المنطقة العربية، أو منظقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مينا، لكن أشقر يرى أن ضمن هذا النمط الأساس هناك “أنماط” أو “نمطيات”.

وما يميز نمطيات النيوليبرالية في منطقة (مينا) هو أنها “نيوليبرالية محدد سياسياً”، أي أنها ليست نيوليبرالية “خالصة” أو بعيدة جداً عن المذهب النيوليبرالي كمذهب وبعيدة أيضاً عن هذا “النمط” كما طبّق و”نجح” أو حقق نجاحات، وأصاب بعض التقدم في دول أخرى مثل شرق آسيا وحتى دول جنوب إفريقيا، فيما حصد فشلاً ذريعاً في الدول العربية.

بمعنى آخر فإن أشقر وبعد أن يحلل لماذا لم تتحقق التنمية في البلدان العربية، من خلال معطيات النمو والفقر والتفاوت الطبقي وغياب العدل والبطالة، خاصة بين النساء والشباب العرب، والتعليم والصحة وغيرها، يخلص إلى أن “النيوليبرالية” لوحدها لا تعطي سبباً كافياً لاعتبارها “علة” الثورات.

فالنيوليبرالية العربية “المحددة سياسياً” لم تعجز فقط عن تحقيق التنمية بل زادت من الفقر واللامساواة والبطالة، بعكس ما جرى عند غيرنا، لذلك فالأزمة قد لا تكون في النمط ذاته بل في النمطيات التي شهدها العرب وأدّت الى انسداد عام في نمط الإنتاج أعاق تطور الإنسان وجعل من موارده – وهي جزء من قوى الإنتاج – مثل النفط لعنة بدلا من ان تصبح نعمة ورافعة للتنمية.

وهكذا، فان “نمط” النيوليبرالية العربية المحددة سياسياً”، أي محددة بسياسات أدّت الى “رأسمالية المحاسيب والأقارب”، و”الدول التسلطية”، خلافا للنهج النيوليبرالي الذي “يستوجب” “ديمقراطية سياسية”، وأدّت كذلك إلى “دول ميراثية ودول نيوميراثية”، وإلى ابقاء الدولة الريعية أو الابقاء على عدة مظاهر منها. هذا الوضع هو ما أدّى الى انسداد ثم “انتفاض”.

وطالما أن نمط الإنتاج النيوليبرالي العربي المحدد سياسياً وعلاقات الإنتاج التي افرزها هو ما أدّى الى الانسداد، فالقوى “المنتجة” التي أعاقها هذه النمط من التطور بوصفها أكثر المتضررين منه هي التي كانت وقود الثورة أو الانتفاضة وهي محركها: الحركة العمالية العربية التي مهدت للانتفاضات عبر سلسلة طويلة من المظاهرات والاعتصامات، وعبر نقابتها مثل الاتحاد التونسي للشغل الذي كان له دور بارز في الانتفاضة. ثم الشباب الأكثر بطالة الذي استفاد من التكنولوجيات الحديثة، شبكات التواصل، والمرأة العربية وهي أيضاً من الفئات الأكثر تضرراً، وشرائح من “الطبقة الوسطى”.

الانتفاضة العربية نجحت في بعض هذه الدول في إسقاط “رأس نخبة السلطة” لكنها لم تسقط “نمط الانتاج”

بعد هذا التحليل يقدم أشقر “كشف حساب” للثورات العربية في مصر وتونس وليبيا والبحرين واليمن، ويخلص إلى أن الانتفاضة العربية نجحت في بعض هذه الدول في إسقاط “رأس نخبة السلطة” لكنها لم تسقط “نمط الانتاج”، فيما لم تفلح في دول اخرى.

وبهذا المعنى فإن الانتفاضة العربية لن تتجذر وتصل الى مرحلة “الثورة” طالما لم تحدث تغييراً جذرياً في نمط الإنتاج السائد “النيوليبرالية المحددة سياسياً” بقيادة “الدولة” التي يرى أشقر أنها، أي القطاع العام، في العالم العربي هي الوحيدة القادرة على إحداث تغيير جذري وقيادة التنمية العربية.

وقبل أن يختم أشقر كتابه بمحاولة استشراف مآلات “الانتفاضة العربية”، ويخلص إلى ضرورة تجذيرها من خلال مشاركة أكبر وتنظيم أكثر للعمال تحديداً، ومن خلال “الدولة” المستقبلية. يحلل أيضا صعود الإسلام السياسي في الانتفاضات وخاصة نجاحه في مصر، قبل ثورة 30 حزيران الأخيرة، وفي تونس وفي بقية البلدان.

يرى أشقر أن الإسلام السياسي، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، هم جزء من “النيوليبرالية العربية”، لكن “نيوليبرالية الإخوان”، التي يصفها بـ”الرأسمالية القصوى”، أي أنها ترفض أي دور للدولة في الاقتصاد، وهي بذلك تعتبر أكثر انسجاما مع “المذهب النيوليبرالي”، لا تسطيع فتح هذا الانسداد والانطلاق بالتنمية العربية.

لكن أشقر يرى أن سيطرة الجماعة الاسلامية هذه قد تكون ضرورة أو ربما حتمية فلن ينكشف عجزهم ولن تسقط الأوهام عنهم ما لم يصلوا الى السلطة. “وهي ستبقى، طالما كانت خارج الحكم، نموذجا مثالياً تغذّيه الإحباطات والمظالم الاجتماعية الدافعة للتطرف”. أو “لم يعد ثمة مناص من عبور هذه المرحلة التاريخية من عمر الشعوب العربية كي يتحول وعيها تدريجياً من الهوس المبالغ فيه بالهوية إلى وعي الواقع سياسياً واجتماعياً واقتصادياً”.

على أي حال، قد لا يكون أشقر قدم تفسيراً شافياً للانتفاضة العربية، ولكنه انتصر لها معتبراً أنها: “ليست سوى في بداياتها، والمستقبل يدوم طويلا”.

فلسفة التاريخ: وعي الذات

لا فرق بين ماركس وهيغل في أدوات التحليل، في المنهج. ماركس أخذ عن هيغل منهجة الجدلي في التحليل. لكنه بعكس هيغل أعطى الظروف المادية الأسبقية على وعي الانسان لذاته.

هيغل يرى أن التاريخ يتقدم إلى الأمام، إلى العقلانية، إلى وعي الذات، إلى السعادة في النهاية. لكن التاريخ لا يمكن له أن يتقدم إلى الأمام بدون أن يصطدم في الماضي، بدون أن يصفي حساباته مع هذا الماضي، وبدون أن يستخدم التاريخ الحاضر الماضي ليتقدم نحو المستقبل، وهو بهذا سوف يجعل من الانسان يعاني من “آلام الانفصال”.

كل الموت، المجازر، الظلامية، الأصولية، الطائفية، الهويات القاتلة.. هي ألم الانفصال التاريخي بين الماضي والمستقبل نحو وعي الذات

وهكذا فان كل ما يبدو لنا غير “عقلاني” أو حتى غير واقعي، هو بالنسبة لهيغل غير ذلك “كل ما هو واقعي عقلاني”، فطالما أن التاريخ لا يتقدم للأمام بدون أن يصفي الحساب مع الماضي وبدون أن يدفع الثمن، وبدون أن يصل الى “القاع” قبل التقدم، فكل الموت، المجازر، الظلامية، الأصولية، الطائفية، الهويات القاتلة..الخ هي: ألم الانفصال التاريخي بين الماضي والمستقبل نحو وعي الذات، هي الثمن الواجب دفعه قبل تحقيق العقلانية المطلقة.

إنه “مكر العقل أو مكر التاريخ” استخدام كل ما هو سلبي وظلامي للتقدم إلى الامام. هكذا حصل في اوروبا، في الثورة الفرنسية مثلاً. وهكذا حصل في عدة دول في العالم.

عندما تقرأ في كتاب المقريزي “اغاثة الامة في كشف الغمة”، ووصفه للمجازر في مصر في عصره، كيف كان المصريين الجوعى بسبب فيضان النيل والسياسات النقدية الفاسدة يقتلون بعضهم بعضاً وكيف كانوا يأكلون اطفالهم أو يجلسون على اسطح البيوت يلقون بالخطاطيف على المارة في الشارع لذبحهم وأكلهم. ممكن تفهم فكرة “عقلانية التاريخ” التي تناولها هاشم صالح في كتابه “الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ” بمعنى أن التاريخ يسير دائما نحو مزيد من العقلانية فمجازر اليوم قد لا تكون شيئا قياساً على مجازر الأمس، وموقف الناس من المجازر اليوم ليس هو موقفهم من مجازر الأمس. فالناس عموماً صاروا أكثر عقلانية وأكثر رفضاً وإدانةً للمجازر وأكثر فهما لحقوق الإنسان. الماضي ليس جميلاً، وكل ما هو واقعي عقلاني.

هذا ما استطعت تلخيصه من الفكرة الرئيسية لكتاب هاشم صالح. لكن صالح يرى أن الانتفاضات العربية لم تصل إلى مستوى “الحدث التاريخي” الذي مثلته الثورة الفرنسية، ذلك ان انتفاضاتنا بعكس الفرنسية لم تقطع مع رجال الدين ولم يسبقها ثورة وعي، ثورة تنويرية تقطع مع الماضي. لذلك فإن الانتفاضات العربية ركبها “رجال الدين” والأصولية الظلامية.

ورغم أن صالح يرى أن هذا كله وانطلاقا من فلسفة التاريخ “ضرورة حتمية”، فهو يدعو الى ثورة تنوير عربية، إلى مفكرين عرب بمستوى محمد اركون يعيدون قراءة التراث العربي بمناهج عقلانية، مفكرين بمستوى فولتير وهيغل وفيخته ومنتيسكو الذين مكّنوا الانتفاض من التحول إلى ثورات تقطع مع الماضي وتقيم “جنة الله على الارض”، كما يرى أوروبا حالياً.

على أي حال، حاول أشقر أن يمد مسطرة ماركس على الانتفاضات العربية، لكنه لم يكن “مدرسياً” في مسطرته، لذلك لم يفعل مثل أغلب الماركسيين العرب الذين رفضوا هذه الثورات أووقفوا ضدّها لأنها لم تاتي على مقاس معاييرهم ومساطرهم وفرجارهم، بل انطلق من “منهج” ماركس ليحل الخاص العربي، وبقي في المقابل أمينا لماركسيته عندما لم يجزم بشيء، لم يجزم بأن ما نشهده “ثورات” كاملة الأوصاف، بل “سيرورة” لا تزال في البداية قد تدوم قد تنجح وقد تفشل.

أما هاشم صالح، فكتابه كان بالإمكان اختصاره إلى 100 صفحة بالأكثر، فقد وضع مسطرة هيغل كاملة وقاس عليها الانتفاضات العربية، وأبقى القارئ على “أمل” ان كل ما نراه الآن عقلاني وأننا رغم ذلك نسير إلى الامام.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية