جنود الله: عن الله الذي لم يمت وحروبه المهلكة

السبت 03 آب 2013

بقلم محمد عمر

تنويه: ما سأكتبه لاحقاً، وما كتبته سابقاً وما سوف أكتبه مستقبلاً، هو تدوين. والتدوين هو مجرد انطباعات ويوميات شخصية، وليس نقداً أو مراجعة منهجية.

في 31-7-1979، وبعد فصلي من الجامعة الاردنية إثر تظاهرات صاخبة ضد اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع إسرائيل، وللمطالبة بإعادة اتحاد طلبة الجامعة، حملت نفسي وهربت إلى لبنان، وانضممت لصفوف المقاتلين الفلسطينيين في جنوب لبنان.

كان هروبي قراراً فردياً، لم أُعلِم به أهلي. وعندما وصلت هناك بقيت عدة أشهر دون الاتصال معهم بعمّان وإخبارهم بمكاني.

كنت في التاسعة عشرة من عمري، وكنت متحمساً للعمل العام، من أجل تحرير الأرض والإنسان، هكذا كان الكثيرون من أبناء جيلي. لذلك لم يكن صعباً على أهلي أن يعرفوا بأنني هربت إلى لبنان. وذات يوم تلقيت اتصالاً من مسؤولي العسكري يبلغني بضرورة الذهاب إلى دمشق لأن اهلي حضروا من عمان يسألون عني، وأنهم عانوا مشقة السفر والسؤال ولا بد من رؤيتهم وطمأنتهم.

ذهبت إلى دمشق والتقيت أبي وأمي، وبقيت معهم عدة أيام، لكني رفضت طلبهم مني العودة إلى عمان والعودة الى جامعتي. ودّعتهم وعدت ثانية إلى جنوب لبنان، وهم عادوا سالمين إلى عمان بعد أن اشتروا هدايا بسيطة من دمشق “بزورات، مناشف، فواكه مجففة…الخ”.

تذكرت نفسي وشبابي وتمردي وهربي للانضمام الى المقاومة الفلسطينية في لبنان، وأنا أقرأ رواية “جنود الله” للسوري فواز حداد صاحب رواية “المترجم الخائن”.

هذه المنطقة كانت ولا زالت “تعيد نفسها”. في شبابي كنا نهرب للانضمام للمقاومة الفلسطينية وفي أيامنا هذه يهرب الشباب للانضمام الى “ساحات الجهاد” في العراق وسوريا واليمن.

كنّا مؤمنيين بأننا وكلاء الخير وبأننا سنقيم جنة الله على الارض، و”جنود الله” اليوم مؤمنون بأنهم وكلاء الله الذين سوف يرسلون الناس إلى جنته في السماء.

الرواية تدور حول “أب” سوري في الخمسينيات من عمره، علماني، كان ماركسياً سابقاً، وكان “ثائراً” متمرداً التحق في شبابه بالمقاومة الفلسطينية هارباً من دمشق ومن أهله. تزوّج ثم تطلق من رفيقته المتمردة سابقاً مثله، والمرتدة الى الإسلام في خريف عمرها.

الأب هذا وبعد أن اصبح أبا ولديه عائلة، وبعد “هزيمة” الفكر الماركسي والاشتراكية والمقاومة الفلسطينية، سوف يتخلى عن أحلامه في تحرير الإنسان، وسيرضى بعمل في إحدى الفضائيات الخليجية كمحلل سياسي، وسيتعرف على امرأة مطلقة مثله تحمل بجنين من علاقة حب لم يكن يعتقد انه سوف يقع فيه، فالغرام في عمر الخمسينيات مجرد بطر.

لكن ابنه البكر “سامر” الذي يدرس في إحدى جامعات لبنان، سيعيد تجربة الأب، لكن هذه المرة على الطرف الآخر. فالأب كان “علمانياً ملحداً”، وأيامه كانت الثورة الفلسطينية والأحزاب الماركسية هي “آفة” عصره، حيث يهرب إليها الشباب المتمرد. فيما الابن سيكون “مؤمناً سلفياً جهادياً”، وأيامه ستكون “القاعدة” هي “آفة” عصره التي سيلجأ إليها المتمردون الجدد من الشباب.

الأب العلماني الملحد الذي كان يعتقد في شبابه أن “الله مات”، أي أن المد الديني كان في تراجع وكان في حالة موات، بسبب مد الحداثة والأفكار العلمانية، سوف يتفاجأ بأن “الله” بعث حياً وسدد للعلمانية ضربة قاتلة، ذلك بعد ان يرى المد الاصولي السلفي الذي اجتاح المنطقة مع نهاية سبعينات القرن الماضي وتعزز بعد احتلال امريكا للعراق.

الابن “سامر” سينتمي إلى الفكر السلفي وسيلتحق بتنظيم “القاعدة” في العراق، وسوف يصبح مسؤولاً مهما في التنظيم، مشرفاً على إعداد “الانتحاريين” الذين يأتون إلى العراق من كل بلدان العالم، كما هو الحال اليوم في سوريا.

وصل عدد الأردنيين “السلفيين” الذين قتلوا في سوريا نحو أربعين شاباً. ومات أضعاف هذا العدد في العراق وأفغانستان والشيشان واليمن وغيرها من “ساحات الجهاد” الجديدة.

بالمناسبة وصل عدد الأردنيين “السلفيين” الذين قتلوا في سوريا نحو أربعين شاباً. ومات أضعاف هذا العدد في العراق وأفغانستان والشيشان واليمن وغيرها من “ساحات الجهاد” الجديدة. وقصص بحث الاهالي عن أبنائهم الهاربين إلى ساحات الجهاد كثيرة.

لن ينتظر “الأب” كثيرا ولن يألوَ جهداً في البحث عن ابنه “الجهادي”، وبتنسيق مع المخابرات السورية والاستخبارات الاميركية سيسافر إلى العراق بحثاً عن ولده.

يصل “الأب” الى العراق ويبقى في “المنطقة الخضراء”، وهنا يبدأ الراوي الأب في السرد التاريخي، فيحشد كماً كبيراً من الاخبار، تكاد تتحول معه الرواية إلى نشرة أخبار، كالنشرة التي نسمعها على رأس كل ساعة من قناة “الجزيرة” او “العربية” أو غيرها.

لكن الراوي “الأب” يميل من خلال سرده إلى محاولة ابراز الحرب الدائرة في العراق كـ “حرب الرب”، أو حرب على كسب “رضى الرب”، هي إذن حرب أصوليات. عودة لله الذي كان الأب العلماني اعتقد أنه مات ودفن.

“جنود الله” المتقاتلين في العراق هم من جميع الأطياف، السنة في تنظيم “القاعدة”، الشيعة في التنظيمات الشيعية المتطرفة والحرب الطائفية، والجنود الاميركيون، وجنود أو مرتزقة شركة “ميترا كورب”، اسم الشركة هنا قد يكون كناية عن شركة “بلاك ووتر” الشهيرة التي عملت في العراق وارتكبت فظائع ومجازر عنيفة.

لا يستثني الراوي الجنود الاميركيين أو مرتزقة الشركة القادمين من دول عدة من “حرب الرب”، اذ يخضع هؤلاء لعملية مسح دماغ من قسيس إنجيلي متطرف “توماس باركلي” مؤمن بمعركة الرب الاخيرة “معركة ارمجدون” التي سوف ينتصر فيها “الرب” على “الله” في “مجدو” الواقعة جنوب يافا في فلسطين المحتلة بعد ظهور المسيح الدجال وبعد مجازر ومعارك عنيفة ضد أتباع الديانات الأخرى.

على أي حال، لن يترك حداد روايته تستمر على هذا المنوال. في الجزء الثالث والأخير من الرواية سيلتقي الراوي بابنه، او بالأحرى سيلتقي بذاته، لتتحول الرواية بعدها إلى “الذات” المتصارعة بين نفسها. ذات الراوي العلماني الملحد، الذي سيتعرض لمحن شديدة خلال بحثه عن ابنه “سامر”، وسيختبر خلالها قوة أفكاره العلمانية مقابل “الإيمان” الخفي في جزء من هذه الذات الذي سوف يظهر في لحظات الخوف.

في اللحظات الحرجة، التي سوف يصل فيها الراوي “الأب” حافة الموت والقتل ذبحاً على ايدي التنظيم المتطرف الذي اختطفه، سيجد نفسه “مؤمناً” يعود لله أو يعود الله اليه، يبتهل بالدعاء لله بأدعية طويلة، ويتفاجأ بكيفية أنه حفظ كل هذه الأدعية وهو العلماني الذي دفن الدين ودفن كل اعتقاد بالله.

لكن الرواية لا تنتهي هنا، ولا يعود الله هكذا ببساطة. فالرواي سيترك الرواية مفتوحة على أسئلة: ما الفرق بين الإيمان بسبب الخوف والإيمان بسبب الطمع، الطمع الجنة، التي يصورها ابنه “سامر” للانتحاريين المفترضين بحسية شديدة وكانها زارها او تمثلت له في حلم او رؤية ليلية؟

وما الفرق بين ان يكون الانسان علمانياً ملحداً وأن يكون “مؤمناً” بالله او بآلهة أو بأي إيمان آخر؟

ما الفرق بين الله والله، بين إسلام وآخر. إسلام يلقي بنا إلى التهلكة والحروب المهلكة باسم الله وإسلام متصالح مع نفسه متسامح؟ وأيهما الاسلام الصحيح؟

لن يستطيع الأب اقناع ابنه بترك “القاعدة” والعودة إلى سوريا، والراوي نفسه سيقع في حيرته وشكّه من كل شيء وفي كل شيء.

فقدان الذاكرة هنا قد لا يكون سوى كناية عن أن ذاكرة الناس في بلادنا هي ذاكرة السمكة، فالحروب معادة، والصراعات على المصالح والعقائد معادة

يعود الرواي مصاباً بجروح وفاقداً للذاكرة إلى دمشق. وفقدان الذاكرة هنا قد لا يكون سوى كناية عن أن ذاكرة الناس في بلادنا هي ذاكرة السمكة، فالحروب معادة، والصراعات على المصالح والعقائد معادة، والحوادث نفسها مكررة، وكأنها “العود الابدي” النيتشوي. لكن من يتعظ ويتذكر؟

الرواية الصادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر عام 2010، أي قبل عام على اندلاع الثورة السورية وتحولها الى حرب مهلكة، يتبنأ فيها الرواي على لسان القس الانجيلي المتطرف “باركلي” بأن المرحلة الثانية من خطة الله، معركة  ارمجدون” ستكون في دمشق التي ستشهد حربا مدمرة قبل ان يظهر المسيح الدجال.

والابن “سامر” سيكون في الرواية مسؤولاً أيضاً عن تنظيم القاعدة، أو منسقا للتنظيم بين العراق وسوريا، والآن بعد انتقال القاعدة إلى سوريا، وتاسيس تنظيم دولة العراق والشام الإسلامية، وبعد “حرب الله” الجديدة وبعد أن كانت سوريا ممرا للجهاديين نحو العراق وصارت مقرا لهم، فهل سيكتب فواز حداد جزءً ثانياً؟

أنا الآن في الرابعة والخمسين من عمري، كنت شاباً متمرداً علمانياً ولا زلت، هربت إلى لبنان وهناك قابلت فتاة سورية هي الأخرى كانت هربت من بطش النظام إلى لبنان دون علم أهلها، ستجمعنا نفس الفكرة والخندق وستربطنا علاقة حب تنتهي بزواج دام طويلاً لكنه لن يصمد لاحقاً مع تبدل الافكار وتقلب المشاعر. وسوف ننتهي كما انتهى الراوي وزوجته كل في خندق مختلف ولكل فكره. ولدي بنتان، مؤمنات بالله، يصمن رمضان. ولا أدري ماذا لو كان لي ابن ذكر، ربما كان سيعيد تجربتي لكن من جهة الرب هذه، وربما ذهبت بحثاً عنه في إحدى ساحات الجهاد.

تنذكر وما تنعاش…!

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية