السراب: تحولات جماعة الإخوان المسلمين ومآلاتها

الثلاثاء 17 أيلول 2013

بقلم محمد عمر

قبل عام تقريبا قرأت رواية أو كتاب “السراب” لابراهيم غرايبة، وعدت إليها من جديد قبل أيام، ففي “السراب” وجدت “الإمتاع والافادة”. بصراحة أستغرب قلة الاهتمام المحلي بهذا العمل الابداعي في السرد والفكر. ربما لأن ابراهيم، أو فدعوس، كما يطلق على نفسه في الرواية، لا يملك شبكة علاقات عامة، أو “شلة” تهلل له، أو “سلطة” على صفحة ثقافية، أو على منفذ للمنفعة، تصنع منه نجماً. ناهيك عن الصد والملاحقة الأمنية التي تعرض لها الكاتب سابقاً.

المهم…

من الصعب تصنيف “السراب”، فلا هي رواية، بالمعنى “الكلاسيكي” للرواية، ولا هي أيضا كتاب أو مبحث في التاريخ. مع ذلك فهي كل ذلك، وأكثر : “إنها رحلة عبر الذاكرة والمخيلة في وقت واحد… عبر الذات والكتب.”

يصف “وائل”، البطل والسارد الرئيسي للمقاطع الروائية “السراب” بأنها رواية عن جماعة الإخوان المسلمين، ويقول، مثلاً (ص 338): لماذا أقحم الحديث عن إسرائيل واليهود في رواية عن الإخوان المسلمين؟”. “وائل” يبرر هذا الإقحام بـ”التزامن الظرفي” لنشأة الإخوان وإسرائيل، وانشغال الجماعة بإسرائيل، وهو انشغال لم يكن مفترضاً فيه أن يكون شاغلاً للجماعة، بحسبه.

لكن ليس موضوع اسرائيل واليهود، تحديداً، هو ما أريده بهذا القول السابق، ما أريد أن اقوله أن الرواية، بما هي عليه عن جماعة الاخوان فهي تذهب كل مذهب في عرض وتحليل الجماعة ذاتها، كما وكل الظروف، المحلية والاقليمة والدولية، التي رافقت نشأة الجماعة، و”تطورها” الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والفكري والدعوي، وهي لذلك فيها إفادة أو فيها الفائدة المعرفية التي يتوخاها قارئ يريد أن يعرف أكثر، بشرط، أيضا أن يتخلى عن “نمطياته” وعن “أفكارة وصوره المسبقة الصنع”، سواء كان “مع” الجماعة أو “ضدها”، فالروائي نفسه يبدأ من “الجهل”، يبدأ مما لا يعرف، من الشك، ليصل إلى المعرفة.

وهكذا سنجد في الرواية، في الجانب التاريخي منها، عرضا، وتوثيقا، وتحليلا لظروف نشأة وتطور جماعة الإخوان المسلمين، في مصر والعالم العربي، لكن الرواية تركز أكثر على الجماعة في الأردن، وتكشف، فيما تكشف، عن صفحات مجهولة، ليست معروفة لأكثر الناس، بمن فيهم أعضاء كثر في الجماعة نفسها.

لكن “السراب” ليست “رواية” إثارة، فلن يجد فيها القارئ حبكات بوليسية ومؤامرات وتجسس أو ما شابه، مثلما كان الحال، مثلاً، في كتب أخرى مثل “سر المعبد” لثروت الخرباوي.

فالروائي هنا يتعامل مع جماعة الإخوان بوصفها ظاهرة اجتماعية اقتصادية سياسية، وليس تشكيلا سريا مؤامراتيا، وبوصفها هكذا، فهي قابلة، ككل تشكيل سياسي اجتماعي، للتحليل باستخدام مناهج وأساليب البحث والتحليل العلمية.

ولذلك سنجد في الرواية/الكتاب، تحليلا لبنية الجماعة التنظيمية الداخلية، وعلاقاتها “الحزبية” سواء من خلال أدبيات الجماعة كنظامها الأساسي أو من خلال عمليات “الانتخابات” الداخلية، إن وجدت، أو اختيار مراقبيها أو مرشديها العامّين، أو حتى من خلال علاقات القوى والمصالح التي تشكلت داخل أطر الجماعة، التي أدّت في النهاية، ضمن أمور اخرى، إلى أن تصبح جماعة الإخوان، جماعات إخوان، وقد تكون في “مرحلة انحسار وأفول”.

 ولا يغفل الروائي هنا عن تناول التركيب الطبقي للجماعة، والمتغيرات التي طرأت عليه، وأدّى إلى التغيير في الجماعة.

ففي الأردن مثلا، يحلل كيف انتقلت الجماعة من تركيب يغلب عليه التجار والوجهاء، والقوى التقليدية المحافظة عند النشأة، إلى “الطبقة الوسطى”.

من يتحكم في قرار الجماعة هو من يملك مواردها

وفي إطار التحليل الطبقي هذا، أو الاقتصاد السياسي للجماعة، سنرى كيف ستؤثر المصالح الاقتصادية، أو المنافع المالية، في تطور ومصير الحركة، فمن يتحكم في قرار الجماعة هو من يملك مواردها، في الأردن، هم جماعة “جمعية المركز الإسلامي” التي تدير مصالح بالمليارات، وتوظف الآلاف القادرين على حسم أي عملية انتخابات داخلية، وهذا ما أظهرته تجربة حزب جبهة العمل الإسلامي، ولاحقاً الانتخابات التي جرت داخل الجماعة وأبعدت “الإصلاحيين” أو الحمائم بحسب الإعلام عن المراكز القيادية للجماعة لصالح تيار “الصقور” المسيطر على جمعية المركز.

لذلك، فان الروائي سيجد نفسه “منبوذا ومحاربا” من قبل الجماعة ليس لنقده لها، أو ليس لنقد تطورها الفكري والسياسي، بل لأنه مسّ ما لا يجب أن يمس، لأنه مسّ المصالح والمنافع المالية، وهو هنا يستشهد بكارل ماركس في جنون الكنيسة عندما يصل النقد الى خزائنها.

طبعا، هناك خط أحمر آخر لنقد الجماعة في الأردن، ألا وهو حركة حماس، التي ستتناول الرواية/الكتاب نشأتها وتطورها وعلاقتها بجماعة الأخوان ككل، بشكل عام، وفي الأردن بشكل خاص، وتأثيرها، وتأثير موظفيها في الجماعة على الجماعة.

هذه الحركة ممنوعة من النقد، خاصة وأن الجماعة، بانتقالها من العمل الدعوي الإصلاحي الى العمل السياسي، وتأثرها بنهج حماس السياسي، أصبحت في النهاية، في عرف الكثيرين في الجماعة، وفي الدولة، جماعة لتمثيل الاردنيين من أصل فلسطيني.

ناهيك عن أن حماس فرضت رؤيتها ومواقفها من الصراع العربي أو الإسلامي مع اليهود وإسرائيل على الجماعة ككل، وعلى إخوان الأردن بشكل أكثر التصاقا.

حماس فرضت رؤيتها ومواقفها من الصراع العربي أو الإسلامي مع اليهود وإسرائيل على الجماعة ككل، وعلى إخوان الأردن بشكل أكثر التصاقا

لكن ما هو أبعد من فرض رؤية حماس ومواقفها على إخوان الاردن، هو أن الجماعة بالتصاقها بحماس ابتعدت وأبعدت نفسها عن العمل الاجتماعي والمبادرة، وتخلت عن أن تكون “جماعة وطنية”، مشغولة بالهم المحلي للبلد، وانشغلت بالسياسة “الخطابية”، طبعا، لتحرير الاقصى، ما جعلها هدفا معزولا.

ثم إن الرواية/الكتاب سوف تتناول أيضا التحولات الفكرية عند الجماعة، وأهم هذه التحولات هو انتقال الجماعة من تبني أطروحات حسن البنا الإصلاحية، ثم اطروحات سيد قطب في كتابه “العدالة الاجتماعية”، إلى تبني أطروحاته “المتشددة” في كتابه “معالم في الطريق”، وهكذا سوف ينزاح العمل الدعوي الإصلاحي للجماعة، وينزاح معه جيل “العدالة الاجتماعية” ليحل محله جيل “الدولة الإسلامية” والعمل السياسي ومعه التشدد والعزلة.

والجماعة بانتقالها هذا صارت تعاني خللا جوهريا في “ماهيتها”، أو في تعريفها لنفسها.”فالحركة الاسلامية تبدو وكأنها لم تكتشف بعد ذاتها”، وهي بذلك ولذلك، تعيش تناقضا داخليا، أدى إلى تفتتها إلى جماعات، وصارت أيضا، غير معروفة وغير مقبولة، فهي من جهة لا ترضي “المتشددين” أو “جماعات العنف والتطرف” بوصفها جماعة مهادنة للسلطات،  بأقل تعبير، ولا ترضي السلطات لأنها أيضا متشددة في عرف هذه السلطات، كما لم تعد ترضي حتى قواعدها. أضف إلى هذا كذلك الغضب الذي ظهر مؤخرا لدى قطاع واسع من الناس، بسبب الحوار وعلاقات الجماعة مع الولايات المتحدة والغرب، هذه العلاقة الملتبسة التي استغلت كما لاحظنا مؤخرا في شيطنة الجماعة بعد الانقلاب في مصر.

“إن امتداد العمل الاصلاحي إلى العمل السياسي جعل الحركة الإسلامية الواحدة تشتغل بالمشاركة السياسية والنيابية والعمل النقابي والدعوي والخيري، وهذا أدى إلى فساد واستبداد واحتكار للعمل العام وصدام مع الحكومات”.

وقد غلب على العمل السياسي للجماعة “السلبية والتردد والبلاهة والغياب والمأساوية والرومانسية” ما أدى الى ارتباك وحيرة لدى الجماهير التي أولت الحركة الاسلامية ثقتها.

فالجماعة بانتقالها من مجال العمل الدعوي، الذي لم يعد له سوق أيضا بعد زيادة التدين في المجتمعات العربية، إلى العمل الاجتماعي، الذي أدى أيضا إلى تكوين جماعات مصالح في الجماعة الى العمل السياسي والمشاركة في الحكومات أو حتى الفوز بها من خلال الانتخابات، وهو انتقال أسهم أيضا في تفتيت الجماعة لعدة أسباب، ليس أقلها تضارب الاجتهادات الفقهية في الجماعة نفسها، واستشراء الفساد والاستبداد الداخليين.

“إن الحركة الاسلامية لم تعد جماعة اجتماعية واحدة تعبر عن مشروع إصلاحي سياسي واجتماعي تحمله طبقة اجتماعية كانت تاريخيا هي الطبقة الوسطى، ولكنها مجموعة من الجماعات الاجتماعية التي لا يمكن جمعها معا في برنامج واحد، أو اتساقها معا في كتلة اجتماعية سياسية، وأصبح الأمر شبيها بخلاف على تسيير مركبة في شارع المطار أو شارع الاردن وليس خلافا على السرعة”.

وقبل الانتقال من تحليل الرواية/الكتاب للجماعة بحد ذاتها، نشأتها، تطورها، بنيتها التنظيمية، تركيبها الطبقي، تحولاتها الفكرية والسياسية، إلى التحولات الكبرى والجذرية التي كانت قائمة، والتي تقوم اليوم، في البيئة المحيطة بالإخوان وشكلت وتشكل مداخل لإعادة صياغة الجماعة وأعادت وتعيد تعريفها في كل مرة، لا بد من الإشارة للفائدة المعرفية المتحصلة عن التوثيق الذي يرد في سياق التحليل.

ضمن الظروف الموضوعية، أو التحديات الكبرى، كما يطلق عليها الكاتب، المحيطة في بيئة الإخوان والمتفاعلة معها والمؤثرة والمتأثرة بها، فإن الكتاب/الرواية يأخذنا في فصول متعددة إلى تحليل الصراع العربي الإسرائيلي، والمتغيرات في إسرائيل نفسها، والمتغيرات على ايديولوجيتها الصهيونية، وإلى مكانة إسرائيل في فكر الاخوان وصراعهم، وكذلك اليهود في الفكر الاسلامي وفي المجتمعات الاسلامية. وإلى الثورة الإيرانية، والحرب على الإرهاب، وبروز قوى “العنف والتطرف”، والقتال في أفغانستان، والحوار مع الولايات المتحدة الاميركية، والمتغيرات في السياسيات الدولية وفي المشهد السياسي العربي، والمتغيرات في السياسيات والنهج الاقتصادي في الدول العربية، وخاصة الأردن، وتبني سياسات النيوليبرالية وتاثيرها، وكذلك تغير المجتمعات واقتصادياتها، وظهور الانترنت ووسائل الاتصال الحديثة، واقتصاد المعرفة، الموجة الثالثة بعد الزراعة والصناعة…

وفي كل هذه المتغيرات والتحديات يمتلك الكاتب رؤية وتحليل قد يخالف تصوراتنا المسبقة، خاصة عندما يحلل بروز “قوى التطرف والعنف”، كما يطلق عليها إعلاميا، أو في تحليله للقتال في أفغانستان، وفي عرضه للقوى السياسية المؤثرة هناك، وتشكل تنظيمات “السلفية الجهادية” ودور العرب في القتال في افغانستان وتشكل تنظيم “القاعدة”. وبعيدا عن التحليل العميق، الذي لا يتفق مع التصورات النمطية البسيطة والساذجة التي عممتها “الميديا” فإن ابراهيم يقدم معلومات غزيرة جدا وبعرض شيق لكل هذا، بحيث يصعب عرض الرواية/الكتاب بإنصاف.

الواقع سيؤدي حتما إلى إعادة صياغة الحركة الاسلامية وإنتاجها من جديد

وفي مآلات الجماعة، فطالما أن العمل السياسي أدى إلى الفساد والاستبداد وحيرة وارتباك جماهير الحركة الاسلامية وغضب وتسلط الدول والحكومات، وطالما أن العمل الدعوي لم يعد له تُير في ظل أسلمة وتدين المجتمعات، وفي ظل الخلاف على معنى الإسلام، وعلى أنه كدين ليس شرطا لإقامة العدالة الاجتماعية من تلقاء نفسه، فإن غرايبة يخلص الى أن: “الواقع سيؤدي حتما إلى إعادة صياغة الحركة الاسلامية وإنتاجها من جديد لتكون جماعة سياسية تشتغل في القضايا والهموم الميدانية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وستتحول من رمز رومانسي وإيديولوجي معلن إلى جماعة ومؤسسات مطالبة بالإصلاح الاقتصادي وإدارة الموارد والخدمات الاجتماعية والصحية والعلاقات الخارجية وهي في ذلك معرضة للنجاح والفشل…”.

الرواية…

يسرد غرايبة روايته بأصوات متعددة، مرة بصوت السارد الرئيسي “وائل”، الذي كان من أوائل المنتمين للحركة، أو بصوته هو، ابراهيم غرايبة نفسه، عندما يتحدث عن رحلته الذاتية التي أكلت ربع قرن من عمره في جماعة الإخوان المسلمين، ليكتشف انه كان يطارد سراب وأنه: “تكتشف بعد فوات الأوان أنك أخطأت في اختلافك عن الآخرين ومعهم، وإن كنت تواصل اعتقادك بصواب فكرتك وموقفك، ولكنه اكتشاف متأخر لا يمكن إصلاحه، فعندما تحاول أن تنتمي إلى المجموع لا تجد لك مكانا، فلا أنت مستمتع بما أنت عليه ولا أنت قادر على ألا تكون غير ذلك!”.

كما يسرد الرواية بأصوات ابن وائل وزوجته وحماته، وابنة وائل أيضا، وهو يريد بذلك أن يعرض لأجيال متعاقبة من الجماعة من النشأة وحتى اليوم.

وفي الرواية، التي لا تقل في قيمتها المعرفية عن الكتاب، يحلل غرايبة ويعرض للتاريخ المشترك، وللفكرة الواحدة المنشأة للفكر والدين في حوض نهر الاردن.

يجمع غرايبة في منزل واحد الدكتور وائل وزوجته الاميركية، الدكتورة ميرا وأبناءهما وأحفادهما، المحامي كريم وائل وزوجته داليا المحامية الاسرائيلية الاميركية وابنتهما سارة، والدكتور سالم وائل وزوجته اسماء ابنة الدكتور أحمد الجواهري، أحد قادة “القاعدة” وأبناءهما ايمن واسامة وتماضر، وثريا، المربية الافغانية، والفنانة التشكيلية ومهندسة التصميم يارا، ابنة وائل وزوجها المهندس طارق، وتشاركهم التجمع ارويت، عضو الكنيست الاسرائيلي، ووالدة داليا. إنها اعادة تشكيل للعالم، قبل أن يحل الدين في السياسة وتنفجر قنبلته النووية عندما وضعها بأيدي طائشين وجهلة، إنها جمعة لاحفاد الفكرة الواحدة، لكنها الحروب التي زرعت المحن بين ابناء الفكرة الواحدة: “لماذا يرغب الناس في خوض الحرب؟ ماذا يمكن فعله لمنع الحرب؟”.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية