لا طريق إلى الجنة: أفول علم الدين وعلمائه

الإثنين 09 أيلول 2013

بقلم محمد عمر

قد لا تبدو روايات اللبناني حسن داوود، خاصة روايته الأخيرة، لا طريق الى الجنة، الصادرة مؤخراً لدى دار الساقي، سهلة وممتعة لقاريء مستعجل. فالروائي صاحب “مائة وثمانون غروباً”، الحائزة على جائزة المتوسط، مهووس بالتفاصيل الصغيرة. إنه روائي الأشياء الصغيرة.

لكن التفاصيل الصغيرة التي يسردها داوود في روايته ليست هي كل الرواية، انما هي ضربات فرشاة فنان تشكيلي يرسم لوحة كاملة.

عبر هذه التفاصيل الكثيرة يأخذنا داوود إلى حياة رجل دين “شيعي”، نتوقع أنه في منتصف العمر، فرض عليه أن يرث عن والده، الذي ورث هو بدوره عن أجداده، “مهنة” رجل الدين، كما هو الحال لدى الطائفة “الشيعية” التي تتوارث “علم الدين”.

“أنا أريد أن أدرس في الجامعة، وقد قبلوني”، يقول الراوي لوالده، الذي لن يصغي إليه، ويرسله إلى “النجف” حيث يدرس رجال الدين الشيعة علم الدين، وفي النجف سيعيش حياة جافة وصعبة ويتلقى علماً جافاً مفصولاً عن الحياة وهمومها.

سوف يشعر الراوي بعد أن يلبس العمة والجبة كأنه يعيش في ثياب غيره، ويحيى حياة أخرى، ليست هي الحياة التي يريدها، وهو، على أي حال، لا يقرر شيئاً فحتى زواجه وزوجته وبيته ونمط عيشه سوف يفرض عليه من قبل الأب، ثم من قبل مجتمع القرية الصغير الذي يتوقع منه أن يكون ال”سيد” وإمام الجامع الذي كان عليه أبوه وأجداده.

لكن “رجل الدين” لن يقابل توقعات ابيه وأهل قريته، فهو غارق في تناقضاته الداخلية بين رغباته ودوافعه العاطفية، فهو من جهة تتكالب عليه همومه بفعل مرضه العضال، وحياته مع ولدين أبكمين، وأب يرقد محتضراً، يحتاج لعناية خاصة، وزوجة صموت تكاد تكون بكماء، شكلاً وصوتاً. ومن جهة أخرى، سوف يشغف حباً بأرملة أخيه، هذا الحب الذي اعتقد الراوي انه سوف ينجيه مما هو فيه ويجعله “يعشق” أو يذوق طعم العشق ككل الناس، لكنه سيضيف إليه فصلاً آخر من فصول اغترابه، إذ سوف يتعذب مرتين، مرة لأنها ارملة اخيه، ومرة لأنه رجل دين ومتزوج لا يقبل منه المجتمع ما قد لا يكون مقبولاً حتى لإنسان عادي.

هكذا سوف يجد الراوي نفسه وسط “الصمت”، يحيط به الخرس من كل جانب، ويعيش حياة لا يريدها، ومسكونا بهاجس الموت الذي يحيق به بفعل مرضه، ولا يجد صاحباً أو صديقاً يتحدث اليه شاكيا أعباء الحياة أو متحدثاً عن عشقه، فيصير كما يقول الشاعر طرفة بن العبد: إلى أن تحامتني العشيرة كلها … وأفردت أفراد البعير المعبَد. منفرداً مثل بعير أجرب أبعد عن القافلة. هذا الانفراد يعكسه الرواي في ترديده لاغنية عبد الحليم “بتلوموني ليه”، بينه وبين نفسه كلما وجد نفسه في طريقه إلى بيت اخيه أو مفكراً في معشوقته.

ولا يجد الراوي، المفروضة عليه حياة التدين، ملجأ في الدين أيضاً، فهو لا يناجي ربه ولا حتى يعاتب أو يسأل ربه عن عذاباته، حتى عندما يشتد عليه المرض، أو عندما يصاب أحد ابنيه الأبكمين بمرض عضال في الكبد، يقول: لست من صنف الناس الذين يسائلون الله إن كان أتى به ليعذبه.

أخيرا، سوف يستسلم الراوي لرغباته و”لذاته”، بحسب طرفة بن العبد، وسيقرر أن يحلق لحيته والتخلي عن العمة والجبه وسبحة والده وكتبه التي سوف يمنحها لنمط جديد من رجال الدين، المتشددين التابعين للـ”أحزاب” التي بدأت تحتل جوامع و”حسينيات” القرى، وسيقرر أن يبدل حياته لكن لحياة اخرى لا يعرف ماهيتها بعد.

أفول علم الدين وعلمائه

على أن رواية حسن داوود لا تقرأ كرواية عن “اغتراب” حياة “رجل دين”، فرض عليه ما لا يريد أن يكونه وحسب.

فالرواية ممكن ان تقرأ على عدة مستويات. وبالنسبة لي ففي الرواية “قصة” أفول علم الدين وعلمائه، على ما يقول الباحث اللبناني وضاح شرارة في كتابه “دولة حزب الله”، الصادر لدى دار النهار.

يفرد شرارة في كتابه فصلا كاملاً عن أفول علم الدين وعلمائه لدى الطائفة الشيعية، وهو يرى أن هذا الافول مهد لسيطرة رجال دين جدد، رجال دين حزب الله، وربما “حركة امل” ايضاً، ما مهد بدوره لسيطرة الحزب “الالهي” على الطائفة ومناطقها.

يعتقد شرارة أن ما مهد لظهور رجال الدين الجدد، او الدعاة الجدد، كما هو حاصل مع الطائفة السنية، هو تراجع التحصيل العلمي الصعب والاجتهاد، لاسباب عدة منها تراجع التعليم الديني في الحوزات، وتخلفه عن مواكبة التطور في الحياة وجفافه وجفاف حياة التلاميذ. ورفض أبناء العائلات الشيعية التي كانت تتوارث هذا العلم عن تحصيل العلم الديني، هكذا حصل مع المفكر اللبناني حسين مروة صاحب المؤلف المرجعي “النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية”، الذي ذهب الى دراسة علوم الدين في النجف لكنه قرر التخلي عن أن يصبح رجل دين وتحول إلى “أستاذ” ثم إلى الماركسية التي رأى فيها مروة ربطاً بالحياة. إضافة الى ما يقوله مروة أيضا عن ان التخلي هذا عن “منصب” رجل الدين لا يخلو من دوافع عاطفية.

والحال ان الراوي عند حسن داوود يقرر ان يتخلى عن مكانته كرجل دين، وفي إلماحه لما يقول شرارة عن انتقال رجل الدين، كمروة، الى “الاستذة” والتعليم، يسأل ابو عاطف الصديق الوحيد لرجل الدين في الرواية الراوي عن ما اذا كان سوف يعمل أستاذا لمدرسة بعد تخليه عن العمة.

ولا يغيب تراجع علم الدين وعلمائه الذي حلله شرارة في كتابه، عن الرواية، فحسن داوود في “لا طريق الى الجنة”، يعقد مقارنات بين رجل الدين الراوي وبين أبيه وأجداده. فالراوي لا يبدو مهتماً مطلقا بهذا العلم، فهو لا يقرأ ولا يمتلك كتباً، وعندما يورثه أبوه كتبه يتخلى عنها ببساطة دون ان يتصفحها كلها أو يقرأ في إحداها. ولا يبدو مهتما بنقل علومه لـ”اتباعه”، فهو كسول نادرا ما يتردد إلى الجامع، ولا يكاد يجيب على اي سؤال، لا بل لا يتحدث الى الناس إلا لرد تحياهم.

على أن التراجع في علم الدين لم يبدأ من الابن، فالأب ايضا اكتفى بتحصيله العلمي في النجف، ولم يعد للقراءة وترك كتبه التي اورثها ابنه نهباً للغبار، فالابن لم ير أباه يقرأ يوماً، وعندما تصفح بضعة كتب لم يجد والده وقد خط اي شيء فيها، ناهيك عن انه لم يكتب شيئا بعكس الجد الذي كان “مرجعاً” في الاجتهاد له فتاوى، منها فتوى مثيرة للجدل عن طلاق البينونة الكبرى.

بعد أن كان “رجال السياسة يجلسون بخشوع في حضرة مجالس العلماء ويصلون خلف الإمام”، فقد الدين هيبته وجلاله وصار رجال السياسة يتصدرون المجالس

هذا التراجع أو الأفول في علم الدين وعلمائه، هو ما مهد لرجال الدين الجدد، رجال الثورة الإيرانية، بحسب شرارة، إلى السيطرة على الجامع، وتأميم الدين وجلبه للسياسة أو جلب السياسة،  وبعد أن كان “رجال السياسة يجلسون بخشوع في حضرة مجالس العلماء ويصلون خلف الإمام”، فقد الدين هيبته وجلاله وصار رجال السياسة يتصدرون المجالس ويسخرون الدين وعلمائه لخدمة برامجهم.

وهذا ما تعكسه الرواية ايضا، فالرواي عندما يطلب منه صديقه أن يتردد الى الجامع أكثر كي يمنع رجال الدين الجدد المتحزبين المسييسن من السيطرة عليه كما حصل في جوامع وحسينيات القرى الاخرى/ حيث يتصدرون الجامع ويقودون الناس، يتعامل الراوي بلا مبالاة، بل يستسلم لهم ويعطيهم في النهاية كتب والده التي ورثها والده عن أجداده، فيما يشبه تسليم رجال الدين التقليديين لرجال الدين الجدد المتحزبين، ومنحهم الدين كله لهم. يقول الراوي بعد تخليه عن الكتب المتوارثة، علم الدين: لم يترك تخلي عنها أثراً يقلقني، لا ندما ولا شعورا بالخسارة، كما أنني لم استصغر نفسي ولم أقل من أنا حتى أضيّع ما كتبه هؤلاء وحفظوه جيلا بعد جيل. ويقول: ليس من اجل الكتب فقط، بل لأنني اكون، بإعطائها لهم، اضع البصمة الاخيرة على تسليمي لهم.

على أن رجال الدين الجدد هؤلاء لا يمتلكون علم الأولين، فهم “مدرسيين” او كما يقال “سكولائيين”، الدين لديهم بسيط متكرر مجتر، بعيد عن الفلسفة والاجتهاد، وهم بذلك ولذلك اقل علما وقراءة فصديق الراوي، يسخر بشدة عندما سيراهم ينقلون الكتب، وكأنه على ثقة بانهم لن يفيدوا منها علماً.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية