الارتحال إلى الفناء

الأحد 19 كانون الثاني 2014

بقلم بسمة عبدالله عريقات

يتكون الفراغ الحضاري التقليدي من طبقات تاريخية تترسب عبر الأزمان، يكشف الحفر بأعماقها خطّية الزمن والأحداث ويوفر معرفة الماضي بما تبقى له من أثر في الحاضر.  لكن هنالك العديد من العناصر التي ذابت مع الزمن ولم يعد لها وجود في نسيج الحاضر بسبب مبدأ البقاء للأقوى وحقيقة أن التاريخ إنما يكتب من قبل الأقليات ذات السلطة والقوة. فمحاولة إيجاد هوية حاضرة من خلال الماضي الأحفوري إنما يضعنا في فخ التراتبية ويجعل من الإنسان المعاصر كيان طفيلي على الطبقات الملتصقة، يحاول عبثياً أن يستخرج مكونات لبناء مستقبله من مزيج غير قابل للتنقية والتصفية من العوامل الفانية التي أدت إلى تكوين هالة الماضي العظيم. فيجد الإنسان المعاصر المتشبت بسلطة التاريخ نفسه يدور حول أصنام لا يمكنها أن توفر له الإجابات عن تساؤلاته الوجودية.

أما فراغ الإنتاج المعاصر، وذلك تبعاً لمدرسة الاختلاف الفلسفية وأحد أعمدتها الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، فهو عبارة عن فراغ واسع أملس وزلق، لا نهائي كالصحراء الخاوية. يتكون من رمال مركبة هي مزيج غير متجانس من الجزيئات التاريخية والثقافية والحضارية، لا مكان فيها للتراتبية أو الطبقية الزمنية. هو فراغ  مليء بالمنحدرات والإزاحات التي تحمل في طياتها فتاتاً فكرياً يتطلب التقاطه مهارة وقدرة على التحرك بشكل عشوائي ودوراني وبسرعات متفاوتة. لكن يكمن في هذه الحركة خطر التيه والضياع الضروري لكي يتم اكتشاف مناطق فكرية جديدة للإنتاج والإبداع ضمن منظومة الحياة والموت والفناء والخلود.

فوسيلة الإبحار ضمن الفراغ الأبدي الصحراوي المعاصر وإيجاد مناطق الاتصال بين الجزيئات المتحركة المختلفة من فنون وعلوم وفكر وتكنولوجيا التي تتحرك بسرعات ودورانات مختلفة هو الفكر المرتحل الدولوزي. الترحال هو حركة فكرية مستمرة، جريئة وتائهة، تسمح لنفسها أن تبحر في فراغ قاحل مستمر، أخصب من أي أرض محروثة ومحززة لا تسمح للفكر بأن ينمو إلا ضمن خطوطها المسبقة الرسم، وتقلع الأفكار الحشائشية الدخيلة كي لا تؤثر على المسار التنموي المخطط. فالمبدع بدوي مرتحل يجد إلهامه ضمن فراغ التيه الأبدي، يتحرك بسرعة عالية وينزلق على الرمال الناعمة ويلتقط غبارها بحركته الحرة ليصنع منها أشكالاً عضوية لا تعرف الحدود ولا الأشكال. بعكس الفلاح الذي يزرع ويحصد ضمن مقاومة التربه وبخضوع لقدرات وسرعة نمو نباتاته التي لا تزدهر إلا ضمن ما يناسبها من الظروف والعوامل، المرتحل ينتقل من نقطة إلى أخرى لكن حياته تكمن في الفراغ ما بين البداية والنهاية. فهاتان نقطتان محددان ومعرفتان وسريعتا الزولان، بينما الفراغ ما بينهما هو الفراغ الممتد الذي يحمل في طياته إمكانيات النمو والاكتشاف والخلق.

المعرفة والخلق والانتاج المعاصر ليس الغوص في الطبقات التاريخية المترسبة بهدف إعادة استخراجه لاستخدامه كقاعدة للبناء، فالتراث إن كان جميلاً ومتيناً فهو لا يمكن أن يكون أكثر من ذلك. لكن الإنتاج الجديد هو الذي يمكنه الإبحار في الصحراء الخاوية سطحياً لكي يتمكن من إظهار ما يكمن في داخله من خلال الحركة الدورانية العنيفة التي تعيد تشكيل الطبوغرافيا الثقافية.

ولكي يتم الترحال لا بد من اعتناق الفناء. الفناء ليس بمعنى الموت. فالموت والاستشهاد والمقتل والاغتيال والوفاة كلها مرادفات إنسانية لمفهوم واحد وهو انتهاء الحياة. وكل مرادف يحمل معنى ثقافي مختلف تتداوله أخبارنا وأحاديثنا لكي تعطي تفسيراً للحدث الاعتباطي. لكن الموت يحمل معه أفكاراً راديكالية من الخير والشر والطمع والتضحية والقضية والوطنية والحب والكراهية كلها تدعي الحياة لكنها لا تتردد في القتل في سبيل تحقيقها. فالموت لا يمكن أن يكون نبيلاً إذا ادعى أنه في سبيل الحياة، لكن يمكن للحياة أن تصبح عظيمة إذا أصبحت في سبيل الفناء.

فالفناء لا يعرف المتضادات من الخير والشر ولا يدرك الأهداف النبيلة والقضايا العالمية. الفناء المقصود هو موت الكاتب عند الفيلسوف جاك دريدا، وهو الكتابة كتعليق الموت عند المفكرة والروائية هيلين سيكسو. فحسب دريدا، عندما يطلق المبدع عملاً يتوجب على الكاتب أن يموت بالنسبة للعمل لكي يتحرر المنتَج من سلطة المبدع ويحصل على كينونة خاصة به، تسمح له بأن يجوب صحراء الترحال لكي يلتقي الأعمال والآثار الفكرية المرتحلة الأخرى ليصنع علاقات تطورية وإبداعية تتعدى طاقات المنتج الأصلي. فلا يمكن أن يتطور العمل الإبداعي إذا ما بقيت كل الأعمال مسيّرة ومسيّسة من قبل صانعها. أما بالنسبة لسيكسو، فالإبداع تعليق للموت لأنه يعطي المبدع والمتلقي الحياة بشكل مؤقت، عندما يأخذنا في جولة ترحالية في فراغ الإنتاج تغمرنا فيه متعة الاتصال والحياة، وتعيدنا إلى واقع الموت المحيط بنا من كل الجهات عندما نحط من حركتنا الدورانية الانزلاقية. فالإبداع كالحلم الذي يعوم بمتعته الإنسان قبل أن يستيقظ لواقع يملؤه الموت في سبيل القضايا والمتضادات الأخلاقية والمذهبية التراثية. لكن هذا الحلم الذي ينتج الأعمال والفن هو مفتاح الخلود الفكري، فالأعمال تخلد لكن بمعزل عن صانعها، وهي تخلق بفنائه.

فالإبداع هو التنقل المستمر بين الأسطح المعرفية والثقافية الممتدة، وهو الدوران الحر في فضاء لا نهائي لا يعرف الحدود ولا القضايا ولا المسائل الدوغمائية، وهو البحث عن الفناء في العمل والهروب من الموت من خلال الترحال، والاستسلام لسلطة العمل الإبداعي لكي يتمكن الإنسان من الارتحال إلى فضاءات أبعد، فيجد كيانه من جديد ويخلق من خلال الفناء.  فالإبداع رقصة في الفضاء المعلق ما بين الحياة والموت يلمس كلاهما في لحظات معينه ويبقى في السديم المعلق كما يبقى الإنسان العربي الآن في ظل الصراعات الدامية المحيطة.

فالبيئة المعاصرة تتذبذب ما بين الأمل واليأس والحياة والموت والمبادئ والخيانات والعنف والحب والتطور والتخلف بتردد قد يودي إلى الصمم الفكري والشلل الإنتاجي. لكن بإتقان مهارة الانزلاق واعتناق الفناء كمبدأ للحياة، وباكتساب القدرة على الدوران والتقاط الغبار، يمكن أن يتم صنع تاريخ جديد يتعدى مفاهيم الموت والحياة في سبيل القضايا وينتقل إلى فراغ لا نهائي من الخلق والأنتاج الحر النابع من واقع أليم. يبقى الخيار أن يصبح الألم مخاضاً لحياة جديدة، أم ألم عضال ينهش بالأرواح ليدفنها في التربة، وتصبح طبقة من طبقات جيولوجيا التاريخ.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية