نحو إصلاح «إصلاح المشهد الثقافي»

الأربعاء 22 كانون الثاني 2014

انطلقت يوم الأحد الماضي أولى فعاليات ما يسمى “ملتقى إصلاح الشأن الثقافي الأردني“. ولأن عدداً من القائمين على الملتقى أصدقاء مقربون، ولأنني أضعت فرصة مشاهدة مباراة المان يونايتد وتشيلسي فقط من أجل أن أتمكن من متابعة فعاليات الملتقى، ارتأيت أنه من الواجب عليّ أن أكتب رأيي فيما حدث، على الرغم من أن ما في جعبتي قد يغضب البعض.

يتميّز المشهد الثقافي عن باقي الشؤون المحلية في الأردن، بل وفي المنطقة بأنه الأكثر بؤساً. ويكفي أن تعرف أن أن عبد الهادي راجي المجالي هو المدير العام لواحد من أكبر المراكز الثقافية في البلاد حتى تعرف قدر المأساوية التي يتمتع بها مشهدنا الثقافي. وفضلاً عن هذا، نرى الأستاذ آنف الذكر لا يكتفي باحتلاله لمنصب لا يستحقه، فيقوم بالاعتداء على مجموعة من الموسيقيين الأردنيين في خطوة تزيد من سوريالية المشهد وبؤسه. ولأن الطريق إلى الجحيم معبد بالنوايا الحسنة، أو دعوني أقول لأن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي لإنقاذ المركب الغارق، فباستطاعتي أن أصف ما حدث الأحد الماضي بأنه، وفي أفضل الأحوال، كان إضاعة للوقت.

إذا كان للربيع العربي من حسنات، فحسنته الوحيدة بالنسبة لي هي أنه قام بكسر الكثير من الأصنام العامة والشخصية، وخصوصاً في مجال الثقافة. وبات أولئك الذين كان يطيب لي اقتباسهم دوماً مجرد أوغاد و مرتزقة، أو في أفضل الأحوال قوم ضلوا السبيل وحادوا عن المبادئ التي كانوا يعلموننا إياهم في كتبهم وقصائدهم. وما انحياز كبار “المثقفين” المصريين إلى العسكر إلّا دليل دامغ على هذا الزعم.

عندما دعيت إلى الملتقى كانت فكرة واحدة تسيطر على رأسي: أن هذا الملتقى إنما جاء لرد الاعتبار للموسيقيين الذين اعتدى عليهم المجالي. وفكّرت أن هذه الحادثة قد تكون سبباً كافياً يدفع “طبقة” المثقفين إلى العودة إلى مكانهم الطبيعي والرجوع إلى الشارع حيث ينال المثقف شرعيته، لكن ما حصل حقيقة هو أن الامر الأول المطروح على جدول أعمال الملتقى كان مسألة التمويل. وإذ سمعت هذا الكلام، خطر لي أن النوم في مثل هذه الندوات هو السلوك المناسب. وكان أول ما فكرت فيه هو أن أعزاءنا المثقفين -فضلاً عن أنهم “طبقة” يمارس معظمها بوقاحة التطبيل للسلطة والانعزال عن الشارع وعن الجمهور واحتياجاته- يأتون اليوم ليحدثونا عن حاجتهم للتمويل وافتقارهم له. إذاً، لسنا موجودين هنا لنناقش عزوف الناس عن التفاعل والتضامن والمشاركة في الشأن الثقافي، ولا لنتحدث عن جودة المنتج الثقافي ومساءلته والابتعاد عن اعتباره مسلماً به، ولسنا هنا لنتحدث عن عجز المثقفين عن التعبير عن أحلام وآمال وأوجاع المواطن اليومية. نحن هنا للحديث عن رواتب ومنح وأعطيات وصرر من الدنانير تعطى للمثقفين أو لا تعطى مقابل إبداعهم هذا.

أعلم جيداً أن المثقف إنسان مثله مثل باقي البشر، وهو بحاجة في نهاية الشهر إلى راتب، لكن هل تتمثل الطريقة الوحيدة التي يتمكن عبرها المثقف من الإبداع في تبني الدولة له ووضعها له تحت جناحها؟ ثم أليست الحكومة هي النقيض للإبداع والحرية؟

يقول غالب هلسا في دراسة له حول أشباه المثقفين: “المثقف يقاوم الاندماج بالسلطة، سواء أكانت سلطة الدولة، أو الطبقة المسيطرة، أو الرأي العام”. كما يقول ريتشارد هوفستادتر: “ما يخافه المثقف أكثر من أي شيء آخر ليس الرفض والعداء اللذين تعود عليهما وأصبح يرى فيهما قدره الخاص، ولكن خسارة حالة الاغتراب. كثيرون يشعرون أن الاغتراب هو الموقف المشرف والملائم الوحيد الذي يجب عليهم اتخاذه. ما يثير خوف الكثير من المثقفين الشباب هو أن الاعتراف المتزايد بهم والاحتواء المستمر لهم واستخدامهم سيجعلهم منسجمين مع النظام القائم فلا يعود بإمكانهم أن يكونوا خلاقين ونقديين أو ناقمين حقاً”.

ويجدر هنا التفريق بين سلوكين: الاغتراب والعزلة. فالاغتراب عن المجتمع بات شعوراً طبيعياً، خصوصاً لإنسان القرن الجديد. لكن الانعزال عن المجتمع وقضاياه وشؤونه ليس في حال من الأحوال من مهام المثقف أو مما يليق به، هكذا أعتقد على الأقل.

ليس في ما سبق محاولة مقصودة أو غير مقصودة لتبرئة الحكومة من “واجبها” تجاه هذه “الفئة”، لكن الوهم هو توقع شيء من الحكومة في شكلها الحالي. ففي الوقت الذي نلمس تقصيرها تجاه قطاعات أوسع وأكثر حاجة، وفي الوقت الذي تنحاز فيه الحكومة للأقوى والأكثر فساداً، لا يمكن لنا أن نتوقع منها أن تنحاز إلى مثقفين حقيقيين.

الفكرة الأخيرة تطرح سؤالاً هاماً حول حل هذه المعضلة: كيف يمكن للمثقف أن يستعيد دوره من دون أن يفقد المبدأ؟ أجيب بما قاله إدوارد سعيد في كتابه المثقف والسلطة: “الجمهور الواسع هو السند الطبيعي الذي يستمد منه المثقف قوته”.

من المؤسف أن المثقف في الوضع السائد ينتمي اجتماعيًا للطبقة البرجوازية -هكذا كان ماركس مثلاً وهو منظر الطبقات المسحوقة من المجتمع. لكن هذا لا يمنع من أن ينتمي المثقف فكرياً وطبقياً وحتى نضالياً إلى المسحوقين والمضطهدين والفقراء. فهل هذا الحاصل مع مثقفينا؟ هل الأعمال التي ينتجها مثقفونا تعبر فعلاً عما يريد الفقراء قوله؟ هل فعلاً تعبّر المسرحيات والموسيقى والفن الذي يُبدَع، وخصوصاً في السنوات الماضية عن هموم ومشاكل وقضايا المواطن “العادي”؟ ثم وبما أننا قد طرحنا الموضوع للنقاش واعترفنا أن الساحة الثقافية بحاجة إلى إصلاح، فما دور المثقفين أنفسهم في توسيع مساحة اللعب؟ أم أننا -على اعتبار أنني جزء من هذا المشهد- نكتفي بالمساحة التي تعطى لنا للتعبير فيها بوسائل ينقصها الإبداع والشجاعة، مقدمين إنتاجاً مكرراً للفئة التي نشكل معها فقاعة منفصلة عن الواقع من دون أي محاولة حقيقية لرفع سقف الخطاب أو توسيع دائرة التأثير والتأثر؟

الكلام السابق كان عن المثقفين الحقيقيين الساعين فعلاً إلى جعل العالم مكانا أقل رداءة، أو من يحاولون ألّا يكونوا هم أنفسهم جزء من الرداءة التي عمّت. أما بالنسبة لأشباه المثقفين، فأكتفي بالاقتباس الذي أورده غالب هلسا في دراسته السابقة: “دور المثقفين الأساسي، وهو دور نقدي، لا يتحقق إلا في شكل محدود، ففي أكثر الأحيان يمارس المثقفون في العالم الثالث دور ماسحي الأحذية، وفي كثير من الأحيان يتحولون إلى أدوات ذليلة للسلطات والآيدلوجيات، وللمساعدة على تغذية الخداع والتبسيطات والتعصب”.

* الصورة من موقع  شترستوك

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية