لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة: “تذكير بحتمية وضرورة الثورة”

الإثنين 10 شباط 2014

يتعاون حبر مع مدونة “الأدب العربي (باللغة الانجليزية)” في تغطية الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) لهذا العام، من خلال نشر مراجعات للكتب المرشحة على القائمة الطويلة ولقاءات مع الكتْاب.

بقلم أسماء عبدالله (نشرت بالانجليزية على مدونة الأدب العربي، ترجمة سوار مسنّات)

“يجتاحني الحزن على الحياة التي كانت،” قال الكاتب السوري خالد خليفة في مقابلة حديثة معه وهو يصف الحالة التي وصلتها بلاده. وعلى هذه المشاعر من الحنين والإحساس بالخسارة تستند روايته الأخيرة “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” التي حازت على ميدالية نجيب محفوظ للأدب في كانون أول/ديسمبر ٢٠١٣ واختيرت على القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية لهذا العام، فمن خلال تصويره المؤثّر والرهيب والباعث للعجز لمدينة حلب المدمَّرة والمتدهورة الأحوال، ليس غريباً أن تثير الرواية اجتياحا مماثلا من مشاعر الحزن في القرّاء.

“لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” تتابع قصّة عائلة سورية عادية تحاول أن تنجو من تبعات الانقلاب البعثي في الستينات الذي شهِد بداية انحدارهم إلى اليأس.  وتاريخ الانقلاب يتزامن مع يوم ميلاد قاصَ الرواية والذي لا هدف له في حياته سوى أن يكون شاهداً على نهاية عائلته ومدينته وأن يسرد ما يشهد مع تذكير القراّء بين الفينة والأخرى أنه هو الآخر لن يستطيع أن يهرب من ذات القدر.

لغة خليفة محمّلة باليأس والدلالات الثقيلة، فكلّ ما في الرواية يتحلل ويذبل و يشيخ ويموت، وجميع الشخصيات داكنة ومكتئبة، تصرخ بخوف واشمئزاز، فالعجز واليأس يتغلبان على كل شيء. أوصاف تنبعث فيها الحياة، أو بالأحرى ترسم صورة الموت، بطريقة ترعب روح القارئ. كقارئة كنت أكاد أرى القذارة على الأرض، بالكاد أهرب من أيدي المعتدين في أزقة المدينة، وأشم رائحة تحلل أجساد المرضى الذين ينتظرون موتهم، وأختنق من نقص الأوكسجين الذي تشكوا منه الشخصيات الرئيسية باستمرار.

الرواية تثير تساؤلات القراء حول ما يحدث عندما يفقد المكان الذي نسميه الوطن كل مظاهره المألوفة التي نعرفها

الرواية تثير تساؤلات القراء حول ما يحدث عندما يفقد المكان الذي نسميه الوطن كل مظاهره المألوفة التي نعرفها.  ماذا يحدث عندما يستبدل سحره ودفئه وروائحه الجميلة  بالقبح والكآبة والرائحة النتنة؟ ماذا يحدث عندما تستبدل تطلعاتنا لحياة سعيدة وأرستقراطية بالانحدارإلى براثن الفقر الجماعي؟ ماذا حيث حين تتحول تطلعاتنا للعظمة لأوهام استشهادية؟ حيث ذكريات تخنق الأحلام قبل أن تولد؟ حيث الجمال والشباب يذويان ببطء وهجر حتى يتم هدرهما تماما؟

هذا التشريح والتحليل المعمق للعلل النفسية والمادية التي ألحقت بالسوريين العاديين في أعقاب الانقلاب تتمثّل كجزء من نشاط خليفة ضد نظام الأسد. فالرواية لا تصل إلى مرحلة تنبثق فيها الثورة، بالرغم من أن جزءاً كبيراً منها كتبه خليفة خلال الانتفاضة السورية، وصدورها الآن قد يخدم كتذكير بضرورة الثورة وحتميتها، بالرغم من أنها خلّفت ما يقارب من عشر آلاف قتيل ومئات الآلاف من المشردين. ولكن وفقا لروايات خليفة، نتعلّم أن الشيء الوحيد الأسوأ من النزوح لمدينة أخرى هو أن يشعرالمرء بأنه نازح وهو في بلاده، والشيء الوحيد الأسوأ من الموت هو الحياة التي ليست إلا قناعاً للموت، كما تقول إحدى الشخصيّات في الرواية: “فمن السخف أن نزيّف الموت ونجعله مرادفا للحياة.”

والموت هو في قلب هذه الرواية سواء كان موتا مجازيا أوحرفيا، أوكان وفاة شخص أو وفاة مدينة. في الواقع من الممكن أن ننظر إلى مدينة حلب، مسقط رأس خليفة، كالبطل الرئيسي للرواية، فليست حلب المركز الذي تدور حوله جميع الشخصيات فحسب (فمحاولات الشخصيات للهروب تنتهي بالعودة للمدينة مع مشاعر الشوق والكراهية) ولكن ما يحدث للمدينة يحدث أيضا للشخصيات. ولتحديد هذا التوازي يقول بولس، وهو إحدى الشخصيات الثانوية، لخطيبته أن “المدن، مثل البشر، تموت”، وقبل أن تموت المدينة، مثل البشر أيضا، تشيخ وتفقد حيويتها، وتتقيح وتنهار، وتفقد كل جمالها مثل الشخصيات النسائية في الرواية التي يضيع شبابها خلال الانتظار. ومن المناسب، إذا، أن يختار جان، الشخصية الرئيسية، كتاب توماس ستيرنز إليوت “الأرض المقفرة” لأن يترجمه، فهذا الاختيار يعكس محيطه اليومي. ولكن هذه ليست حلب الوحيدة الموجودة في “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” بل تتواجد جنباً إلى جنب معها المدينة الساحرة الجميلة التي بقيت فقط في الذاكرة الجماعية لسكانها.

من الممكن أن ننظر إلى مدينة حلب، مسقط رأس خليفة، كالبطل الرئيسي للرواية

الحنين إحدى الطرق التي تهرب من خلالها شخصيات خليفة من حياتهم المروعة. وفي المقابل تقوم بعض الشخصيات بإقحام نفسها في القوى التي دمرت المدينة وحياة شخصياتها. الشابة سوسن المتحمّسة مثلاً تصبح من المؤيدين المتعصّبين للنظام، تستمتع بترويع زملائها وجيرانها من خلال تهديدع بإبلاغ النظام عنهم والقيام بذلك في أرض الواقع. في وقت لاحق في الرواية، شقيقها الموسيقار الحساس رشيد ينضم إلى جبهة معارضة من الإسلاميين ويتخلى عن مساعيه الفنية ويعتنق التطرف والاستشهاد في بحثه العقيم عن معنى لحياته. لا يجد أي منهما العزاء ولا المكافأة على جهودهما. كلاهما يشقان طريقهما إلى حلب بشعور قوي من العار يلازمهما لفترة طويلة. هزيمتهما تتركان القارئ مع شعوربالعذاب على أوضاعهما، ولكن أيضا مع شعور يقارب التعاطف مع أنصار كلا المعسكرين الذين تُركوا مع شعور بعدم وجود أي منفذ آخر.

العار الذي يطارد سوسن ورشيد أيضا مستشر بين الشخصيات الأخرى في الرواية وإن كان لأسباب مختلفة. معلم سوسن، جان، يخجل من مشاهدة زملائه يدعمون النظام ويرقصون على أنغام موسيقاه. والأم تخجل بدورها لأنها أنجبت ابنة مختلة عقلياً تعطل مظهر البيت المثالي النظيف، وهي أيضا تخجل من عائلة زوجها ونمط حياتهم البسيط. العم نزار يخجل من مجرد وجوده في هذا العالم إذ أنه مثلي الجنس ومصدر احراج لأفراد أسرته.

وبما أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً للتخفيف من شعورهم بالعار أو بالعجز حتى يتمكنوا من العيش، معظم الشخصيات تكتفي بأن تنتظر الموت، وهو أمر أكثر صعوبة مما كانوا يتوقعون. فشخصيّة سعاد الضعيفة والمعوقة لا تموت بالرغم من توقعات الأطباء ورغبة والدتها، ووالدة سعاد نفسها لا تموت بالرغم من أن جسدها وعقلها استسلما منذ سنوات، كما أن والدة جان الذي جعل المرض موتها الوشيك أكثر احتمالا أيضاً لا تموت.

وهذه ليست مأساة عائلة واحدة فحسب، بل مأساة أمة بأكملها. الشعور بالهزيمة والاختلال الوظيفي متفش بين جميع السوريين كنتيجة مباشرة للوضع السياسي وتدهور المدينة. في الواقع، كقراّء سنسمع قصتين أخرتين على الأقل عن أسر عانت مصيراً أسوأ من الأسرة الرئيسية لرواية خليفة. فهناك الرجل الذي يحرق زوجته وأطفاله قبل أن يطعن نفسه بسكين مطبخ، وهو المشار إليه في عنوان الرواية، الذي يتساءل عما إذا كانت هناك سكاكين للناس لقتل أنفسهم بكرامة بدلا من هذه الحياة البائسة. وعائلة أخرى هي عائلة زميل الراوي الذي يقتل زوجته وأطفاله من اشمئزازه من الحياة التي يعيشونها. فالعار والهزيمة هي تركات ثقيلة للأسر السورية.

لا شيء يكسر الاعتلال الذي يسود رواية خليفة. ولا حتى سوسن، الذي يصفها خليفة بأنها مُبهجة وحيوية وطليقة الروح دون أن يسمح لفرحها بأن يتسرب إلى المزاج أو روح النص. الصور في هذه الرواية مسكونة بالأرواح وحيّة، والألم الذي تشعر به الشخصيات معد ودائم.

البحث عن الحب، والأمل الذي قد يجلبه هذا البحث هو ما يتسرب من خلال شقوق الانحطاط والموت الصغيرة. فكل قصة حب في “لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة” تفشل فشلا ذريعا. أولئك الذين يتطلعون لقصة حب لا يجدونها، ويعانون العديد من الخسائر في عملية البحث، مما يترك لديهم أضراراً جسدية ونفسية. وبالرغم من ذلك، فهذه الشخصيات الذين تجرأت أن تبحث عن الحب في ظل هذه الظروف هي التي كانت أقدر على مواصلة القتال من أجل فرصتهم في حياة طبيعية. هذه الشخصيات رفضت أن تنحني بالرغم من الخسائر، وقاومت بدلاً من مجرد انتظارها للموت القادم.

كما قال خليفة في مقابلته “أعيش كل يوم كما لو أنه الأخير، وأحاول أن أستمتع به مع من تبقى في المدينة ومع ما تبقى من وسائل المتعة”.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية