القُرى المُستَغنية

الأحد 16 شباط 2014

أطلق عدد من الناشطين العرب مجلة علمية أسموها غراس. عددها الرابع يركز على مستقبل الطاقة والمخلفات غير المتحللة والعلاج بالبيئة وغيرها من المواضيع الشيقة. نشر المقال التالي في العدد الرابع من المجلة.

كنوز الطبيعة .. في الغابة السوداء

في الغابة السوداء، وفي قرية فراي آمت  Freiamt ليس هُناك “طقس سيء”، أهالي هذه القرية الألمانيّة يُدركون هذا جيدًا، هم يعرفون أن المطر يوم يهطل بغزارة فإن الطواحين المائيّة كما النواعير ستتحرك بسرعة أكبر، وستنتج طاقة أكثر، سُطوع الشمس ولهيبها يعني أن فوتونات ضوء الشّمس سوف تُنعش اليكترونات الألواح الضوئية التي يصل عددها إلى 250 لوحا تقريبًا، لتنتج الكهرباء بالإضافة إلى 150 لوح آخر مُخصص للتدفئة، حتى هُبوب الرياح على القرية، فإنه يحرّك معه خمسة عنفات هوائية على التلال والتي بدورها تُشغّل مولداً يحوّل الرياح إلى 9.700 كيلو واط. وهذا ليس كُل شيء، النباتات وبقايا الطعام وحتى رقائق الخشب وفضلات المواشي من البقر والخنازير تستخدم لإنتاج البيوغاز الذي يُستخدم ككهرباء وفي التدفئة. في قرية كهذه يعلم كُل فلّاح أن بول البقر والروّث يُمكنه أن يوفّر له 500 لتر من الغاز المُستخدم في التدفئة.

111

في عام 2012 وبفضل مصادر الطاقة المُتجددة هذه، نجحت القرية في إنتاج حوالي 20 مليون كيلوواط / ساعة kWh، أي أكثر بـ 160% من كميّة الطاقة التي يحتاجها 4300 مواطن يسكنون هذه القرية، مما يعني أن عندهم “فائض طاقة”. بكلمات أخرى فإن في القرية سلعة جديدة تُنعش إقتصادها، هي الطاقة، وفعلاً فإن القرية تقوم ببيع الطاقة الفائضة لشركة الكهرباء المركزية في الولاية وتجني الكثير من الأرباح. هذا غير عشرات الوظائف والأشغال التي توفّرها القرية لأبنائها في قطاع الطاقة، بل إن ما حققوه من الاكتفاء الذاتي (Autarky) في مجال الطاقة يعتبر سبيلاً من سُبل تحقيق المزيد من الديمقراطيّة.

بالنسبة لهؤلاء فبدلاً من سيطرة بعض الشركات الكُبرى على قطاع مُهم كقطاع الطاقة، فإن الطاقة المُتجددة تُساعد المُنتجين “الصغار” لدخول هذا القطاع وجني الأرباح ودعم إقتصاد المناطق التي تقوم فيها هذه المشاريع.

ففي موقع Christian Science Monitor ذُكرت حكاية عائلة شنايدير التي قامت بإستثمار 15 ألف دُولار لإنتاج الطاقة الشمسية من سطح البيت، والتي صارت تنتج حوالي  30,000 كيلو واط /ساعة في السنة والتي لا تحتاج إلا نصفها، فتقوم ببيع ما تبقى للشبكة وتُقدّر أرباحها السنوية بـ  24 الف دُولار. هذا غير أن هذه الطاقة صديقة للبيئة، ويُمكنها أن توفّر الكثير من الانبعاثات الضارة بالبيئة. بحسب موقع القرية، فإنها القرية تقوم بتوفير اكثر من 14 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون جرّاء إستخدام طاقة الرياح فقط .

من السافانا الكولومبية .. صناعة العالم الجديد 

في واحدة من أصعب المناطق في العالم، كان باولو لوجاري يتجوّل… ويتفكّر في الإنفجار السكاني تارة وفي السفانا الكولومبيّة، كان يعلم أن هناك حوالي 250 مليار هكتار في أمريكا الجنوبيّة فارغة، كان يعلم في قرارة نفسه (الصحراء الوحيدة، هي صحراء الخيال… وأن جافيوتاس هي واحة الخيال) وهكذا بدأت حكاية قرية جافيوتاس Gaviotas  في السافانا الكولومبية، وكانت الفكرة بسيطة وهي بناء قرية تأكل مما تزرع، تستهلك من الطاقة التي تُنتجها وتعيش من بركات أرضها، قرية تتمتع بالإكتفاء الذاتي، قرية يتحول فيها الخيال إلى واقع وفعلاً فقد بدأ العمل عليها في السبعينيات من القرن الماضي.

11

كانت التحدّيات صعبة جداً فالأرض ليست خصبة ولا ينبت فيها حتى القمح، كما أنها كانت بعيدة عن العاصمة بوجوتا Bogotá، هذا غير الأوضاع السياسية الصعبة التي كانت تعاني منها كولومبيا حينها والحرب بين العصابات والحُكومة، كُل هذا لم يمنع لوجاري من التقدّم في فكرته. لم يمض وقت طويل حتى لحق به عدد من أساتذة الجامعات الحالمين مثله ممن اقتنعوا أن جافيوتس يُمكن أن تكون مُختبراً حيّاً، فُرصة مميزة يصنعون فيه النموذج الذي يُريدونه، بدلاً من إستيراد النماذج من أوروبا واليابان والولايات المتحدة، وكانت الخُطة واضحة، يجب أن تكون الحُلول لمشاكلنا من عندنا، وأن استيراد الحُلول يعني استيراد المشاكل، كان لوجاري يقول (نريد شيئاً من العالم الثالث للعالم الثالث).

1

وفعلاً فقد تم العمل على تطوير عنفات هوائية (توربينات) خفيفة تتلائم مع الرياح التي تهب في المناطق الاستوائية، كما تم تطوير أنظمة تسخين شمسية انتشرت لاحقاً في بقاع كثيرة من كولومبيا. حتى الثلاجات في جافيوتاس كانت تعمل بواسطة الشمس من خلال عمليّة تبخيرالمياه. كان لوجاري واثقاً، أن السافانا تطفو فوق بحر من المياه العذبة، وكل ما ينقصهم هو الطريق إلى هذه المياه… إحدى الطرق التي تم التوصل إليها كانت بمساعدة أطفال القرية حينما كان يشرح لهم أحد المهندسين المقيمين في القرية حول تقنيّات ضخ المياه، فأشار الأطفال أن عمل الذراع يشبه عمل الأرجوحة، وفعلاً تم تصميم مضخة أرجوحة لا تحتاج لا للوقود ولا الكهرباء كل ما تحتاجونه أن يقوم الأطفال باللعب فيها، هذه الأرجوحة وفّرت الكثير من الجُهود كما كانت أفضل وقاية من الأمراض التي كانت تسببها لهم المياه الملوثة التي كانوا يشربونها قبل ذلك.

هذا الحلم الكبير الذي حظي بدعم الأمم المُتحدة في البداية وقد تم تمويل الكثير من مشاريعه كان لابد أن يبرهن أنه قادر على أن يكون قائماً بحد ذاته دُون حاجته إليهم، وفعلاً انقطع التمويل مما أدى إلى عرقلة الكثير من الخُطط إلا أن حكاية القرية لم تنته، ومنذ ثمانينيّات القرن الماضي بدأ أهالي جافيوتاس بزراعة الصنوبر الكاريبي واستخلصوا منها مادة الراتنج Resin، وهي مادة هيدروكربونية مُهمة جداً في الكثير من الصناعات، كالصمغ مثلاً وتاجروا فيه، كما استخلصوا البيوديزل من أشجار النخيل الأفريقية وسحبوا المياه النظيفة من باطن الأرض مما حقق لهم من الأرباح ما ضمن لهم بقاء القرية.

فلسطين… وحرب (العصاميّة)

عام 1978، في الإنتفاضة الفلسطينية الأولى عمد بعض النشطاء خلق حالة من الاستقلال الاقتصادي وفعلاً تحوّلت البيوت إلى تربية المواشي والدواجن، في بيت ساحور قضاء بيت لحم تم إنشاء مزرعة بهدف إنتاج حليب فلسطيني كبديل عن حليب شركة “تنوفا” الإسرائيلية وهو الوحيد الذي كان متوفرًا حينها في السوق الفلسطيني. بعد أسبوع من الإنتاج أغلقت المزرعة بقرار رسمي إسرائيلي مفاده أن أبقار بيت ساحور تشكل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي. هذا في قطاع التغذية، أما في مجال الطاقة فإن الوضع حساس جدًا.

لقد تم إيقاف الكثير من الأعمال وتخريب الكثير من المشاريع بإسم القانون وقد ذكر موقع صحيفة الغارديان البريطانية أن إسرائيل قامت بتدمير “خلايا ضوئية غير قانونية illegal solar panels” في الضفّة، وذكر التقرير تدمير خلايا طاقة شمسية بالقرب من قرية مغيزل قضاء الخليل، وهي منشأة بدعم من منظمة “سيبا” الإسبانية غير الحكومية، والتي بلغت تكلفتها 30 ألف يورو، دفعتها حكومة إسبانيا، وذكر مسؤول الأمم المتحدة أن إسرائيل تحول دون تطبيق هذه المشاريع في الضفّة، بالأخص في مناطق “ج- C” والتي تقدر بـ 62% من مساحة الضفة.

من المعلوم أن توليد الطاقة الكهربائية من الشمس يتطلب مساحات أراضي شاسعة، حيث أن توليد 1 ميجا واط من الكهرباء يحتاج 20 دونم من الأراضي. كما أن إقامة أي مشروع على أراضي “ج-C” يتطلب موافقة من الحكومة الإسرائيلية. ومن المفارقات أن الحكومة الإسرائيلية لم تعط منذ 2001 حتى 2007 سوى 91 تصريح، وهذا بعد ضغوط من حركة “السلام الآن”، علماً بأنه وفي نفس الفترة قامت إسرائيل ببناء 10000 وحدة سكنية في مستوطنات الضفة، كما أنها قامت بهدم 1663 وحدة فلسطينية.

2في هذه الأجواء المشحونة، وعلى الرغم من أن 86% من الطاقة الكهربائية المستهلكة في أراضي السلطة الفلسطينية يتم إستيرادها من الجانب الإسرائيلي حتى الان، والتي تصل قيمتها إلى حوالي 500 مليون دولار سنويًا، إلا أن هناك استراتيجية جديدة ظهرت مؤخراً على الساحة السياسية الفلسطينية تطمح إلى تحقيق نسبة 50% من الإكتفاء الذاتي، 10% منها يكون من الطاقة المتجددة، وقد ساقت إلى ظهور (المبادرة الفلسطينية للطاقة الشمسية Palestinian Solar Initiative) التي بموجبها يتم إقامة مشاريع صغيرة متفرقه بقدرة 5 كيلو واط لكل مشروع يتم تركيبها على 1000 سطح، يدفع من خلالها المواطن 8500 دولار، يسترجعها المواطن خلال أول 8 سنوات، ولو افترضنا أن عمر النظام الشمسي 20 عامًا فإن بإمكانه أن يعود بحوالي 13200 دولار من الأرباح على صاحب المنزل فيصبح منتجًا للكهرباء بدلاً من أن يكون مجرد مستهلك.

3النقب في منطقة النقب في الداخل الفلسطيني، هناك 46 قرية غير معترف بها من قبل إسرائيل، مع أن أهلها يحملون الجنسية الإسرائيلية، إلا أنها تفتقد لأبسط مستلزمات الحياة الأساسية من ماء وكهرباء وبنى تحتية وتعتبر حالة الإكتفاء الذاتي في هذه القرى ضرورة وليس خيارًا كما يحصل في كثير من دول العالم. إن مشكلة الطاقة تعتبر من أهم المشاكل التي تواجه صمود هذه القرى، حيث يعتمد الناس هناك، رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة على مولدات الطاقة الكهربائية التي تعمل بواسطة الوقود والتي عادة ما تكلف أموالاً باهظة. وقد قامت مؤخرًا الحركة الإسلامية بالتعاون مع مؤسسة النقب للأرض والإنسان بمشروع الطاقة الشمسية، حيث تم إيصال العديد من البيوت لشبكة الكهرباء من أجل تعزيز صمود أهالي هذه القرى.

غزة أخيرًا، فإن حصار غزّة عام 2006، ساهم في التأسيس لمرحلة اقتصادية يلعب الإكتفاء الذاتي فيها دورًا أساسيًا، وقد ذكر موقع “فلسطين أون لاين” أن محطة تجارب بيت حانون نجح فريق من الخبراء بتحسين معدل إنتاج القمح للدونم الواحد من 650-700 كيلو جرام، مقارنة بالمعدل السابق الذي كان يتراوح من 300-350 كيلو جرام للدونم مما يعطي مؤشرًاعلى قدرة قطاع غزة على الإكتفاء في هذا المجال قريبًا. كما أن أحد مسؤولي وزارة الزرعة في غزّة أكد ل”فلسطين أون لاين” أن نسبة الاكتفاء الذاتي من الدواجن تتراوح ما بين 85% إلى 90% كما أن هناك جهود حثيثة لتحقيق الإكتفاء الذاتي في مجال الملابس والأثاث والمواد الكيميائية البسيطة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية