عن العيش “المختلف” في حلب المعارضة: شهادة مارسيل شحوارو

الثلاثاء 18 شباط 2014

فيديو ساره عبيدات ومحمد حجازي، الصورة بعدسة عامر سويدان

ألطف مما نتخيل أحيانًا، وأفظع بكثير في أحيان أخرى، لكنها معظم الوقت بعيدة عمّا يمكن توقعه: هكذا تبدو الصورة التي تنقلها مارسيل شحوارو عن واقع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري.

المدونة والناشطة السورية التي أدلت بشهادة شخصية حول قصتها مع الثورة في مؤتمر المدونين العرب الشهر الماضي كانت بحاجة إلى كثير من “الصبر وطولة البال” حتى تستطيع تجاوز الفجوة التي كونتها ثلاث سنوات من الحياة والموت في سوريا بينها وبين الشباب العربي “المختلف جدًا” بتعبيرها.

بين المدونين السوريين الثلاثة الذين شاركوا في المؤتمر، وحدها شحوارو تعيش اليوم في سوريا، تحديدًا في حلب. مكان إقامتها الذي نفر منه كثيرون، وفقدانها والدتها التي قتلها مسلحون على حاجز للنظام قبل عامين، إلى جانب كونها “شخصًا مختلفًا قليلًا عن المحيط في المناطق المحررة” بتعبيرها، جعلها هدفًا جذّابًا للصحافة. لكنها جاذبية تعيها شحوارو تمامًا وتعرّي نفورها المبطن من نموذج الثائر المسلح.

فشحوارو -التي درست طب الأسنان في حلب والدراسات الدولية في جامعة إيسكس البريطانية- لا تدعي أنها تمثّل أحدًا، بل تقول بوضوح أنها ومعها من خاطبتهم من المدونين العرب “لا يشبهون المجتمع” بامتلاكهم خيارات لا يملكها الجميع، دون يدفعها ذلك لإخفاء هويتها وخطابها. لكنها في الوقت ذاته تخرج قصدًا من فقاعة الاختلاف لتلتصق بالثائر المسلح الذي قد ينبذ علمانيتها وتصورها لسوريا ما بعد الأسد، ذاك المسلح الذي “دفع الثمن الأغلى”.

بهذا المزيج من وضوح القيم ونبذ النخبوية تؤسس شحوارو لشهادتها عن الحياة والنشاط المدني المعارض في حلب.

تفجير فقاعة “الناشط المدني”

ليس من باب “نقد الثورة” أو “تصحيح” مسارها تتحدث شحوارو عمّا يجب أن يُفعل، فالاطلاع العميق على ما مر على حلب منذ بداية الثورة قد لا يترك مجالًا لتخيل سيناريوهات مغايرة ولأسئلة “ماذا لو؟” وأجوبة “كان ينبغي”. لكنها مع ذلك لا تلّطف آراءها حول تقصير الناشطين المدنيين في الدفاع عن سوريا التي يريدون.

الانغماس المفرط في النشاط الإعلامي دون العمل الميداني كان سببًا في انفصال البعض عن الشارع في نظرها، خاصة وأن هذا النشاط موجه للخارج حصرًا. “اليوم، تكلفة الاتصال بالإنترنت الفضائي في حلب 1500 دولار لستة أشهر. أنا أستطيع تحمل ذلك ماديًا لكن معظم الناس لا يستطيعون”، تقول شحوارو حول انعدام جدوى الإعلام الاجتماعي في مخاطبة جمهور لا يملك رفاهية استعماله.

لقد استخدمنا الإعلام الاجتماعي للتتشبيك والتواصل لكن دون أن يكون لدينا مشروع للتغيير، كل ذلك يصبح بلا قيمة

هذا الانفصال يمتد إلى مسألة أخطر هي الانسحاب من الخطاب العام للثورة، والانكفاء على الدوائر الضيقة المتشابهة التي تتبادل خطابها الخاص، دون أن تطرح مشروعًا للعموم، ولو قيد التكوين. “لقد استخدمنا الإعلام الاجتماعي للتشبيك والتواصل لكن دون أن يكون لدينا مشروع للتغيير، كل ذلك يصبح بلا قيمة”. وعمومية هذا المشروع لا تكمن في علنيته ووضوحه فحسب، بل في حساسيته الشعبية وقدرته على طرح ما هو مغاير للسائد دون أن ينفصل عنه أو يتعالى عليه. في مثال على هذه الحساسية، تقول شحوارو “لو غنينا الراب في المظاهرات لما تبعنا أو فهمنا أحد”، مشيرةً إلى العودة الواضحة إلى الموسيقى الشعبية والتراثية في شوارع الثورة، والتي وجب على الناشطين تبنيها والسير معها.

لم يكن تفضيل الفقاعات على الشارع عفويًا تمامًا، فالمنظمات الدولية غير الحكومية دفعت بكثير من الناشطين إلى هذا الخيار في نظر شحوارو. بحسبها، لم تكن عروض العمل المغرية للناشطين السوريين خارج سوريا بريئة، بل بات استنكاف المنظمات عن تشغيل سوريين في الداخل السوري محاولة “لتفريغ” البلد من كل من لا يحمل سلاحًا ويطلق لحية، رغم تبرير هذه المنظمات لقرارها بأنه خوف على سلامة عامليها.

هذه المنظمات لا تفهم ما صاره المجتمع السوري، بحسب شحوارو، ولا تحاول تكييف برامجها معه. كمثال على هذه الفجوة، سردت شحوارو حادثة تلقيها دعوة لحضور دورة في “السلم الأهلي” لإحدى المنظمات. في محاولة منها لسحب خطاب المنظمة من عليائه إلى الأرض، قصّت شحوارو على ممثلة المنظمة التي تواصلت معها كيف أن مجموعة من أصدقائها كانوا يتباحثون في اليوم الفائت في منع مسلحي الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” من اختطاف الإعلاميين عبر تفخيخ أنفسهم وتفضيل الموت على الاعتقال، لجعل الاختطاف خطيرًا ومكلفًا لـ”داعش”. أمام حلول بهذه الراديكالية، تصبح وردية خطاب المنظمات مهينة.

حلب التي لفظت “داعش”

تبني مثل هذه الحلول ضد “داعش” لم يكن اختياريًا. فالمواجهة المسلحة الأولى بهذا الحجم بين أطراف المعارضة كانت السبيل الوحيد لإخراج “داعش” من حلب، في نظر شحوارو، بعد أن أدخل التنظيم الجهادي إلى المدينة تحريمات لم تدخلها خلال أشهر من سيطرة المعارضة. “كيف كان من الممكن إخراجهم؟ أنذهب إليهم ونقول: يي عليك طلعت متطرف؟”، تسأل ساخرةً مرة أخرى من التصورات عن إمكانية حل التناقضات الجذرية في الرؤى والخطابات المجسدة سلاحًا عبر التحاور الودي.

مواجهة “داعش” بهذا الوضوح كانت ضرورية في ذاتها أيضًا، وليس لانعدام بدائلها فحسب، برأي شحوارو. ففي الأشهر التي سيطر فيها التنظيم على أجزاء واسعة من حلب، بدأ الفضاء العام للمدينة يتنمّط إسلاميًا بشكل واعي تحت أعين مسلحي التنظيم، وبدأ الانقضاض على الأصوات التي لا تشاطر التنظيم بالضبط مساعيه لإقامة دولة الخلافة الإسلامية. شحوارو -التي وصفت نفسها بأنها المرأة الوحيدة غير المحجبة في حلب المحررة- قالت إنها لم تواجه طوال الفترة التي عاشتها تحت سيطرة المعارضة أي تمييز ضدها بناءً على مظهرها أو طائفتها، “وأنا أعرف تمامًا كيف يكون التمييز الطائفي”.

كل ذلك تغير بالطبع مع سيطرة “داعش”، لتصبح عرضة للتوقيف على أي حاجز بسبب سفورها. لكنها كانت تتردد في الكتابة عن مثل هذه المضايقات (أو التهديدات) لئلا تسوّق لصورة “المسيحية المضطهدة” بتعبيرها.

كان هذا الانتصار ضروريًا “لتقديم إنجاز للناس”: لتبديد مخاوف أهالي مناطق المعارضة من إطباق المتشددين على الحياة العامة بل وعلى حيواتهم الخاصة

“المشكلة التي نحن أمامها ليست تمييزًا طائفيًا بقدر ما هي وقاحة البعض لأنهم يحملون سلاحًا ولم يعودوا يحترمون المدنيين ويعتبرون أنفسهم أوصياء عليهم”.

فوق ذلك، ترى شحوارو أن “الانتصار على داعش” كان ضروريًا لإحياء آمال الناشطين المدنيين والحفاظ على المساحة التي تتيح لهم ولأمثالهم الحركة والعمل في الميدان، رغم سطوة السلاح. كما كان هذا الانتصار ضروريًا “لتقديم إنجاز للناس”: لتبديد مخاوف أهالي مناطق المعارضة من إطباق المتشددين على الحياة العامة بل وعلى حيواتهم الخاصة، ولإقناع من لا يزالون في مناطق النظام أن التطرف ليس قدر الثورة.

شحوارو التي بدأت حديثها في إحدى الجلسات مع المدونين العرب “بالتحذير” من تفاؤلها الشديد تشعر اليوم أن العيش “كشخص مختلف” في مناطق تحت سيطرة المعارضة “ممكن وممكن جدًا”. ربما يعود ذلك إلى “ثقتها” بثوار حلب الذين تشعر أن “ظهرها محمي” بهم، والتي تجعلها رغم كل شيء تقول أنها لو كانت تعلم بكل الدم الذي سيراق في الثورة لما بدّل ذلك اعتناقها لها، لأن “هذا النظام لن يتعامل معنا سوى هكذا، وهذا الثمن سيدفعه أولادنا إن لم ندفعه نحن”.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية