تشوهات مشروع الوحدة الوطنية ما بعد ٢٠١١

الثلاثاء 15 نيسان 2014

أحمد الشولي

تزدحم اللحظة الأردنية الراهنة بمشاهد تتجاور فيها صورتا الوحدة الوطنية والشوفينية الإقصائية الصاعدة، لتدفع المجتمع القلق تاريخيًا إلى مزيد من الاضطراب الذي ولّدته لحظات تغيير كبرى. ولعل المجتمع محق في اضطرابه أمام هاتين الصورتين، فكلتاهما تختزلان تظلمات اجتماعية كبرى تم تطويعها في أجندات سياسية فاسدة هي انتهازية من جانب، وإقصائية من جانب آخر؛تتبناها النخبة الاقتصادية السياسية وتؤثر من خلالها على وعي قطاع شعبي واسع.

تأطير لا بد منه

كان الحشد تاريخياً على قاعدة أردني – فلسطيني نابعاً من تطورات المشروع القومي الفلسطيني الذي سيطر سريعاً على أجندة تحرير فلسطين، بمعنى التحول من الحرب الوجودية مع الصهيونية، إلى الكيانية السياسية الفلسطينية، أي الانتقال من تحرير فلسطين الشعب والأرض ورسوخ فكرة البعد الإقليمي والشعبي في هكذا مشروع، إلى تمثيل فلسطين سياسياً كمقدمة لتحريرها، وفق الواقع المحيط من دول عربية قُطرية قائمة، طبيعة علاقاتها الاقتصادية-الاجتماعية آخذة بالانسلاخ أكثر وأكثر عن أفقها القومي العربي الأوسع إلى أفق على مقاس دولة ما بعد الاستعمار، وهذا تحديدا لأن الرأسمالية العربية – كما أغلب رأسماليات دول العالم الثالث بعد الاستعمار – لا إنتاجية غالبا، قاعدتها الصناعية القائمة على علاقات عمل، محدودة، باستثناء مراحل بسيطة في بعض الدول جرى تفكيكها لاحقا، أغلب مشاريعها زبائنية لدى السلطة، وخدمية، وريعية، تتكسب من الأنظمة القائمة ولا تتصادم معها. هذه الأنظمة لا يوجد أمامها في مراحل الانفتاح سوى التذيل لرأس المال المعولم، “الكفؤ” في علاقاته الصناعية، والذي أعاد بناء علاقات العمل والإنتاج من خلاله.

الرأسمالية العربية … أغلب مشاريعها زبائنية لدى السلطة، وخدمية، وريعية، تتكسب من الأنظمة القائمة ولا تتصادم معها. 

لم يتسنى في هذا الواقع للكيانية السياسية الفلسطينية إمكانيات الكيانيات السياسية العربية الأخرى (أرض، وسكان، وموارد) وفق صيرورة التاريخ، وبسبب الاحتلال أساساً، ممثلا بالصهيونية والتي تمثلها إسرائيل، ونتائج مشروع سايس-بيكو من قبلها. بل كانت الأرض الفلسطينية محتلة، والسكان مشتتين في البلدان العربية المجاورة، والنخب الفلسطينية الاقتصادية قد انهارت بفعل النكبة أو أعادت إنتاج نفسها في مشاريع سياسية أخرى، أو ضمن كيانية سياسية أخرى.

من هنا قام التناحر الأول بين منظمة التحرير بزعامة فتح مع النظام الأردني: من يمثل هؤلاء اللاجئين في ساحة الشتات الأكبر؟ من يملك حق المطالبة قانونياً ودولياً بالأرض المحتلة؟ إلى من تميل النخب الاقتصادية؟ من له القبول الشعبي؟ من هنا تحديداً تُقرأ أحداث أيلول الأسود، وتصدير صراع السلطات هذا إلى عنوان هوياتي أردني-فلسطيني يلوث كل واقع الحركة الاجتماعية على مدى عقود توالت، من قمع وفقر وبطالة وتشريد واحتلال، وتغييب الأسئلة الطبقية والاجتماعية، بل وتحوير في مفهوم المواطنة أيضاً، إلى احتشاد في معسكرات، الأساس فيها معركة ضد آخر وقد اكتمل تعريفه هوياتياً إثنياً، مع إطاحة تامة في التعريف الطبقي، أنتجت ضبابية في تعريف تركيب السلطة وأدوات الهيمنة القائمة.

ما أبعد الأمس عن اليوم

اليوم يتماهى النظام الأردني تمامًا مع نظام السلطة الفلسطينية، وتحديداً منذ اعتلاء محمود عباس سدة “التمثيل السياسي” الفلسطيني (فتح والسلطة والمنظمة واللجان المركزية والتنفيذية والثورية)، بعد عقود من التنافس على التقاط الفتات الذي ستجود به قريحة الصهيونية: من يمثل ماذا؟ وكيف يتأهل للعب دور الشريك الإقليمي الأول الذي سيعقد الاحتلال معه الصفقات؟ وذلك لما يعنيه هذا الاحتلال من أبواب الربح الرأسمالي باعتباره القاعدة الإقليمية المتطورة للإمبريالية في مرحلة تسارع عولمة رأس المال، وانحسار السوق القومية، ولما يعنيه بالتالي لرأسماليات العالم الثالث التي لا قاعدة ولا مشروع لها أصلاً إلا تأييد الواقع.

تم اندماج النخبتين السياسيتين وتجذير قواعدهما عبر النهر من خلال اتفاقات كلية مع الاحتلال وتسارع للاندماج في منظومته 

تم هذا الدمج بين النخبتين السياسيتين منهجياً من خلال السياسات النيوليبرالية، بما تعنيه من تفكيك واسع للقطاع العام في الأردن (كما في مختلف بلدان العالم)، وكسح منظمات مجتمعه المدني الشعبية والممثلة، وانطلاق القطاع الخاص المعولم على أنقاض المجتمع المفكك، وصعود نخبة رأسماليي الضفة الغربية بعلاقات اقتصادية أشبه برأسمالية القرن الثامن عشر واندماج النخبتين وتجذير قواعدهما عبر النهر من خلال اتفاقات كلية مع الاحتلال وتسارع للاندماج في منظومته وانحسار مشاريع البورجوازيات المحلية السياسية بالتالي في مشروع واحد: مع إسرائيل ومن خلالها، تعظيم المكاسب منها، الضغط بهدف التفاوض، أو في أحسن الأحوال: أخذ صف خلفي دون التلوث السياسي المباشر الجالب للنقمة الشعبية.

مع تحييد الأجنحة الفلسطينية الأكثر ميلاً للمقاومة من داخل السلطة (مروان البرغوثي، وكتائب شهداء الأقصى، ونهاية عرفات)، مع استمرار جهود تحييد تيارات المقاومة من خارجها طبعاً، صعد طاقم سياسي جديد يرأسه عباس يعبّر عن هؤلاء الرأسماليين الجدد. على الضفة الأخرى. في الوقت نفسه، انحسر أحد جناحي النظام في الأردن، البيروقراطية التي جفت مواردها الاقتصادية بالتدريج، فأطلقت الهجوم على النخبة المتصاعدة: البرجوازية الفلسطينية المتوسعة، المتظلمة تاريخياً من ضعف تمثيلها السياسي في الأردن، أو في الحقيقة حصتها الطائفية العصبوية. حمل هذا الهجوم واجهة شعبوية، استغلالاً للشرخ المجتمعي الكبير في الأردن، لتحويل الاحتجاجات الطبقية والعمالية الملحوظة منذ العام ٢٠٠٧ ضد النخبة الصاعدة عوضاً عن توجيهها إلى جوهر النظام الاقتصادي.

احتاطت هذه النخبة لهذا الهجوم، ورفعت مطلب المواطنة الذي اقتطعته على امتداد السنوات القليلة الماضية من حاضنته الاجتماعية والاقتصادية كمطلب حقوقي ينظم علاقة السلطة بالأفراد والمجتمع ويجمع النضالات المنفصلة على أهداف عامة موحدة، لتعيد إنتاج هذا هوياتياً: فلسطينيون وأردنيون سويةً، بل قوميون عرب أيضاً إن أمكن، لبناء دولتهم القوية هنا والتي ستصعد لدور تحرير أرضهم هناك.

لكن الموجة الثورية هي العامل الأساسي اليوم للاستقطاب، فاندلاعها في عموم المنطقة قنن هذا الخطاب. فبعد محاصرة نخبة عمان الحزبية (الطبقية المسيسة في جانب، والبرجوازية الصغيرة في آخر) بعد آذار ٢٠١١، اندلعت احتجاجات في قطاعات جديدة مركزها موظفو القطاع الحكومي. أي أن قطاعات واسعة من الأردنيين دخلت إلى الحركة في تشكيل وعي طبقي، مما استدعى استقطاب فلسطينيي الأردن لعرقلة اي اندماج أفقي يُعظِم من خطر داهم على النظام القائم.

البرجوازية الفلسطينية سعيدة طبعاً بالمساحات الجديدة التي تقوم على مقولات الوحدة الوطنية (في ابتذال مخزون هذا الشعار وقدراته الكامنة في الأردن)، وليس فقط في فضاء الأردن فحسب، بل عبر فضاء الضفة أيضاً

البرجوازية الفلسطينية سعيدة طبعاً بالمساحات الجديدة التي تقوم على مقولات الوحدة الوطنية (في ابتذال مخزون هذا الشعار وقدراته الكامنة في الأردن)، وليس فقط في فضاء الأردن فحسب، بل عبر فضاء الضفة أيضاً. إذ تتكاثر المشاريع المشتركة، وفروع الشركات عبر الضفتين، واستنساخ عمان في رام الله، ورحلات الحج في الأرض المقدسة على طرفي النهر، وقروض للاستهلاك الشره من خلال نفس البنوك تقريباً، وتخييط شماغات حمراء على حطات سوداء، وعروض زين وجوال، أو جولة تلفزيون رؤيا صباح كل جمعة، وحتى فروع المطاعم … إلخ. كل ذلك محاولات لشرعنة المرحلة الاقتصادية الراهنة، باستغلال وابتذال كل المشاعر الوطنية المتعطشة والمقهورة منذ زمن بعيد، لتتمكن الطبقة الوسطى والوسطى العليا (في عمان على الأقل) من إعادة تشكيل خطابات وحدوية بعد انفتاح أفق التعبير واسعاً (مع ما استفزه ذلك من رد لإقليمية ضيقة).

تأتي بعد ذلك مقاولات حركة فتح لتعبيد مسالك دقيقة في الأردن: التحشيد في الانتخابات، بالدعوة للمشاركة فيها داخل المخيمات أو دعم قوائم انتخابية لبرجوازيات فلسطينية في الأردن، أو تعاضد كتلتها مع الكتلة العشائرية ضد كتلة الإخوان في انتخابات الجامعة الأردنية مؤخراً (ضمن المشروع الإقليمي لسحق الإخوان المسلمين، استغلالاً للمزاج الشعبي الذي بدأ بلفظهم وسرعان ما تم قلبه رأساً على عقب)، وصولاً إلى الاحتفال المُفخّم بمعركة الكرامة داخل الجامعة الأردنية، بما تعنيه من تعميق لهذه الروح شعبياً استعداداً لمشروع سياسي قائم على دمج أعلى بين السلطتين: فتات الضفة الذي ستستغني عنه إسرائيل مع تفاقم أوضاع الفلسطينيين الاقتصادية سوءًا، وتأهيل لزحزحة غزة عن مكانها (وهنا تنافس عباس مع دحلان إقليمياً على من هو أكثر مناسبة للمشروع)، مع ضخ مالي مرتجى في الأردن بعد اعتصار كل منافذ التمويل الخارجي الممكنة، والهجمات الهائلة على مستوى الدخل في البلد.

الولايات المتحدة أمامها تحديات كبرى في المنطقة تتمثل في الثورات أساساً، والانقسامات الحادة في معسكر أنظمتها الحليفة. رتق القضية الفلسطينية أولوية لها اليوم لكي لا يتفجر موقع جديد في المنطقة، إذ تتصاعد أزمة إسرائيل تدريجياً في الكلفة السياسية الاقتصادية لاحتلال الضفة وغزة عبر أوروبا وأمريكا، وتتوسع تصدعاتها الاجتماعية بين فعالية مشروع الاستيطان للكل الإسرائيلي، ومصالح المستوطنين، ودور المتدينين الحريديين، ومصالح رأس المال المعولم، والطبقات الوسطى الجاهدة في الدفاع عن مستوى معيشتها، ونضالات فلسطينيي الداخل المحتل في العام ١٩٤٨. إسرائيل تحتاج واقعاً جديداً يخفف من الاحتقان القائم في مصالحها، وهذا الدمج الواعي يستعد للدور القادم، بعد أن حقق الدمج غايته الأولى في مواجهة الحراك الأردني الذي انحسر اليوم شرق النهر، ليستهدف اليوم هضم وجبة بيع جديدة في الحقوق غرب النهر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية