المطلوبون الـ18 والبُعد الإبداعي للسينما التوثيقية

الثلاثاء 09 أيلول 2014

بقلم طارق حمدان

(عُرض قبل أيام فيلم “المطلوبون الـ18” للفنان الفلسطيني عامر شوملي للمرة الأولى في مهرجان تورنتو الدولي للأفلام. هذه المقالة مراجعة للفيلم نشرت في موقع قدّيتا بتاريخ 26 آب).

هي تجربة عامر شوملي (1981) الأولى في الإخراج السينمائي. بعد خمس سنوات من العمل الذي واجه صعوبات، ها هو الشريط التسجيلي الطويل “المطلوبون الـ 18” يرى النور أخيراً. الفيلم، الذي يستعد لجولة مهرجانات، هو ثمرة تعاون الفنان ومحرّك الرسوم الفلسطيني مع المخرج الكندي بول كاون الذي ارتبط اسمه بالعديد من الجوائز المهمة، ومنها “الأوسكار” عن فيلم “فلامنكو 5:15” (1984) لكاثيا سكوت، الذي أوكلت إليه إدارة التصوير فيه.

يتناول “المطلوبون الـ 18” الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 – 1991)، مستعرضاً جانباً من المقاومة الشعبية والعصيان المدني ضد الاحتلال الإسرائيلي أثناء تلك الفترة. وهو محاولة لإيصال الرواية الفلسطينية عن تلك الأحداث بخفة وذكاء: على لسان أبقار تبدو محايدة!

يروي الفيلم قصة ثماني عشرة بقرة قرر أهالي بلدة بيت ساحور إنشاء مزرعة ووضعها فيها إبان الانتفاضة الأولى؛ بهدف تحقيق نوع من الاستقلال الاقتصادي ومقاطعة البضائع والمنتجات الإسرائيلية، في خطوة من سلسلة خطوات اتُخذت حينها في سياق العصيان المدني.

يتوجه عدد من أهالي البلدة إلى إحدى المزارع الإسرائيلية داخل أراضي فلسطين المحتلة العام 1948 لشراء الأبقار. الأبقار المعتادة على بروباغندا الاحتلال والتي تقرأ “الجيروزاليم بوست” وتستمع للإذاعة الإسرائيلية؛ ستصاب بهلعٍ شديد عندما تعلم بصفقة بيعها للفلسطينيين. تصل الأبقار إلى بيت ساحور بعد رحلة عناء طويلة، ويستقبلها سكان البلدة بحماس شديد. يعلم جيش الاحتلال بخبر المزرعة، فيقوم الحاكم العسكري بإصدار أمر بإزالتها في غضون 24 ساعة، كونها “تشكل خطراً على أمن الدولة”.

يتوجه الجيش في اليوم التالي إلى المزرعة ليجدها خالية من الأبقار التي سيقوم أهالي البلدة بتهريبها وإخفائها في بيوتهم. هكذا، ستبدأ رحلة المطاردة والبحث عن الـ 18 بقرة المطلوبة، والتي ستتضمن حملة ترهيب واعتقالات ومنع تجول. مئات الجنود على الأرض ومروحيات في السماء مهمتها إيجاد تلك البقرات بأي ثمن.

والمفارقة التي نقع عليها في هذه المشاهد، أن الأبقار التي تعلّمت كره الفلسطينيين في المزرعة الإسرائيلية، ستكتشف أن “الفلسطينيين المخربين” هم من يحاولون إنقاذ حياتها الآن. كل هذا يحدث وسط أجواء لا تخلو من الفانتازيا والسخرية السوداء.

في المشاهد الأخيرة من الفيلم، سيتضح أن الاحتلال قد نجح في إجهاض مشروع المزرعة والبقرات. في الوقت نفسه، سنرى الشباب وأهالي البلدة وقد أجهضتهم “اتفاقية أوسلو”، التي جاءت في وقت كانوا فيه “ملوكاً يسيطرون على أقدارهم”، حسب أحد الشهادات في الفيلم. وسنرى بوضوح كيف قضت “أوسلو” على المقاومة الشعبية وعلى أحلام أناس كانوا يَخطون خطواتٍ واثقة على طريق مشروع تحررهم الوطني.

بجانب قصة الفيلم المميزة، يُحسب لصاحبيه استخدام وسائل مرئية متعددة، منها الرسوم الكرتونية والـ”ستوب موشن”، في معالجة موفقة سمحت بمساحة من الإبداع والابتكار، من دون الاعتماد على الطرح التسجيلي المباشر. وكان من شأن ذلك أن عزز مضمون الفيلم وأضفى عليه حيوية وأتاح له الإفلات من الكليشّيهات التي اعتدنا مشاهدتها في الأفلام التي تتخذ من فلسطين موضوعاً لها.

شوملي، المخرج ومحرك الكرتون وسارد الرواية، يقول إنه لجأ إلى الرسومات والتحريك في “المطلوبون الـ 18” بسبب “عدم توفر المادة الأرشيفية”، يضاف إلى ذلك “أخذ البعد الفني بعين الاعتبار، والمتمثل في إبراز وجهة نظر الأبقار، ما يترك للمشاهد أن يَحكم بنفسه”.

الحركة النشطة في الفيلم والمونتاج الذي يتنقل بخفّة بين مشاهد الكرتون والمقابلات والأرشيف، منحا “المطلوبون الـ 18” إيقاعاً سريعاً جذاباً، وأبعداه عن الغرق في متاهة الإيقاع الرتيب، كما أخرجا الفيلم من مهمة التوثيق إلى بُعد إبداعي، ساعد متطلبات السرد المشهدي.

وبالرغم من الشعور بخللٍ ما في السيناريو؛ حيث نلمس بعض التشويش على قصة البقرات، وتداخل بعض القصص في متن العمل، إلا أن بنية الفيلم ظلَّت متماسكة وشادة للانتباه حتى مشاهده الأخيرة. وبالرغم أيضاً من استعانة مُخرجيّ الفيلم بالموسيقي الكندي بُنوا شاريت الحاصل على جائزة “سيزار” (2004) عن أفضل موسيقى تصويرية، إلا أن موسيقى “المطلوبون الـ 18” ظلَّت عاجزةً عن تشكيل أي إضافة نوعية للفيلم، عدا عن كونها مرافقة تقليدية لأحداثه.

يقول شوملي إن فيلمه احتاج إلى خمس سنوات من العمل، حيث واجهت الشريط مجموعة صعوبات كان من أبرزها موضوع البحث، والحصول على الأرشيف الذي رفضت حكومة الاحتلال الإسرائيلي السماح بالاطلاع عليه، علاوة على المشكلة المالية والتكلفة المرتفعة، حيث بلغت تكلفة الفيلم حوالي مليون و200 ألف دولار. كما يشير شوملي إلى تعرض الفيلم لـ”ابتزاز” من قبل “المركز الوطني الفرنسي للسينما” (CNC)، الذي وافق على تمويل الفيلم في البداية، قبل أن يتراجع ويشترط أن يكون المخرج فرنسياً.

أما عن تجربته الإخراجية الأولى، فيقول شوملي إن “الموضوع كان أشبه بورطة تنفيذ فيلم صعب ومعقد فنياً بالنسبة إلى شخص ليست لديه تجربة إخراجية سابقة، إذ كنت أعمل على الفيلم انطلاقاً من خبرتي كمشاهد”.

ينافس “المطلوبون الـ 18” على جائزة أفضل فيلم في “مهرجان تورنتو السينمائي الدولي” حيث سيأخذ عرضه الأول هناك مكاناً له في السادس من أيلول/ سبتمبر المقبل، لينتقل بعدها إلى “مهرجان أبو ظبي السينمائي” ثم “أيام قرطاج السينمائية”. ويتزامن إطلاق الفيلم مع العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة، وعودة سلاح المقاطعة الشعبية لبضائع الاحتلال بقوة إلى الواجهة، حيث تعيد المأساة نفسها بأوجه متعددة كل مرة.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية