«بيرة في نادي البلياردو»: رواية الاغتراب عن الثورة

الإثنين 17 تشرين الثاني 2014
beer-in-the-snooker-club

بعد أن دخلتُ عالم الرواية، وقفتُ حائرًا أمام أولئك الذين رفضوا مقولة «من ذاق عرف، ومن عرف اغترف»؛ أعني اولئك الذين عرفوا ألم وحلاوة أن تكون روائيًّا، ونالت رواياتهم الشهرة التي تستحق. ومع ذلك، أو ربما لأجل ذلك، توقفوا عن كتابة الرواية، بدءًا بجي دي سالنجر صاحب الرواية الشهيرة «الحارس في حقل الشوفان»، وليس انتهاءً بوجيه غالي صاحب رواية «بيرة في نادي البلياردو».

في العام 1964 قام وجيه غالي الحامل للجنسية المصرية بكتابة رواية باللغة الإنجليزية، والتي تُرجم عنوانها إلى  «بيرة في نادي البلياردو». وعلى الرغم من أن غالي قد وُجِدَ لديه نصان آخران بعد انتحاره، إلّا أنهما كانا نصيّن قصيرين جدًا، ولا أراهما قادرَيْن على إخراج غالي من تصنيف «الروائي ذي العمل الواحد».

وجيه غالي كاتب وصحفي «مصري»، وأضع مصري هنا بين هلالين؛ إذ أنّ هذا الوصف غير دقيق، خاصة عندما نقرأ «روايته» والتي لا بدّ من وضعها هي الأخرى بين هلالين، فوصف هذا النص بالرواية أمر قد يعترض عليه الكثيرون وخاصة أنها أشبه ما تكون بالسيرة الذاتية، عدا عن  أن بطل الرواية  «رام»  يكاد يكون نسخة طبق الأصل عن الكاتب وجيه غالي.

تحدثنا الرواية عن شاب مصري قبطي، شيوعي إلى حد ما، تفتّح وعيه على أحلام وخيبات وهزائم ثورة يوليو. ولد لعائلة أرستقراطية فقدت جزءًا كبيرًا من ثروتها في إصلاحات الثورة. درس في مدارس إنجليزية، وكان يتحدّث في البيت اللغة الفرنسية، مصري لم يلتق بالمصريين في حياته إلّا من أبناء طبقته وأقاربه وارثي الأرستقراطية الموشكة على الانقراض، والذين يشعر تجاههم بكثير من التقزز، وفئة المصريين الجياع البائسين، وبين لندن والقاهرة تدور أحداث الرواية، ولأنّ العنصر الأساسي في العمل الروائي هي علاقة الحبّ، يقع «رام» يقع في حب فتاة مصرية يهودية شيوعية ذات والد مليونير.

وعند النظر إلى شخصيات الرواية، لا يمكن للقارئ الذي يبحث عن الإنصاف أن يكتفي بقراءة الشخصية دون أن ينظر إليها مستندًا إلى الطبقة والدين والأيدلوجيا والانتماء الثقافي فقط، فكل هذه العوامل إضافة إلى أحداث القصة  «تضرب في الخلاط»؛ لتخرج علينا الشخصيات بما ارتكبته من أفعال. ولو أن أي أمر مهما بلغ من الصغر حصل لأحد تلك الشخصيات لاختلف سلوكها وقدرها الروائي إلى الأبد.

وكما أن الكاتب عصيّ على التصنيف الهوياتي، فكذلك النص؛ بحيث من السهولة بمكان اعتباره من أدب السير الذاتية، وبالسهولة ذاتها من الممكن اعتباره رواية. أما النوع الروائي الذي تنتمي إليه فهو كذلك أمر عسير، فمن الممكن أن تصنف هذه الرواية ضمن أدب ما بعد الكولونيالية، ذلك الأدب الذي تحدث باستفاضة عن العلاقة بين الغرب والشرق، والمُستَعْمِر والمُسْتَعْمَرْ خاصة وأن أحداث الرواية تدور بين عاصمتين، عاصمة المحتل: لندن، وعاصمة المحتل: القاهرة؛ ولذا يمكن القول أنّ هذه الرواية الرواية تصنّف إلى جوار أعمال من قبيل عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح.

لكن وفي الوقت ذاته، يمكن وضع هذه الرواية ضمن روايات البحث عن الهوية وازدراء المجتمع، الروايات التي أطلقت عليها تسمية «روايات الغاضبين»؛ أعني روايات الاغتراب، والتي تأتي في مقدمتها رواية «الحارس في حقل الشوفان»، والتي نالت من الشهرة ما جعل  من بطلها هولدن كولفيلد بطلًا للشباب الأمريكي لعقود، لكن وعلى خلاف نظيره الأمريكي، فإن«رام» لم ينل الشهرة التي يستحقها، بل ولم يعرفه القرّاء العرب إلّا في العام 2006 عندما ترجمت فصول من الرواية للمرّة الأولى.

إنّ الاغتراب في الرواية جلي وواضح؛ فالبطل يحب بريطانيا، لكنه في الوقت ذاته يكره ما تفعله في وطنه. يعقد الآمال العظيمة على ثورة يوليو، لكنه يعمل كذلك على فضح ما يحصل في المعتقلات، وينظر بكثير من الريبة إلى استبدال أبناء الذوات والعائلات بأبناء كبار الضباط.

الرواية تكاد تكون صالحة للتعبير عما حصل ويحصل للشباب العربي في السنوات الأخيرة، أعني صعود الأمل وبلوغه عنان السماء في مرحلة البوعزيزي، ليتم بعدها وكما حصل في يوليو؛ الانقلاب على تلك الأحلام 

الغربة التي يعاني منها «رام» وربما يعاني منها الكثير من أبناء جيله، تكمن بما قاله زكريا إبراهيم: «إن الاغتراب ليس مجرد قطيعة تتم بين الطبيعة والمجتمع، أو مجرد تصدُّع يحدث بين التكنية والإنسانية، وكأنما هو وَقْف على المجتمعات الصناعية التي بلغ فيها الإنتاج الاقتصادي أعلى مَداه، وإنما الاغتراب أيضاً تعبيرٌ عن الحرمان والضياع، خصوصًا حين يجيءُ المستعمِرُ فيسرق من الجماعة التي يستعمرها أرضَها وحضارتها ولغتها وشخصيتها… إلخ. ومن هنا، فإن الإنسان العربي الذي ذاق مرارة الاستعمار، لم يلبثْ أن وجد نفسه غائبًا عن أرضه وعمله، غريبًا في صميم وطنه وفوق تربة أجداده؛ وهكذا كان الشعور بالاغتراب لدى الإنسان العربي المعاصر – بمثابة إحساس أليم بالحرمان المادي والضياع الروحي، وكأنَّ المستعمِر قد سَلبه شخصيته وثقافته، قبل أن يسلُبه أرضه وخيرات بلاده». إذاً، فالاغتراب واقعٌ عاشه  ويعيشه – المجتمع العربي، ولم يعد يقتصر على المجتمع الغربي (أوروبا وأمريكا) الذي بلغت فيه المدنيّة أوْجَها. ويكمُن السرّ في الاغتراب الذي يتخبَّط فيه المجتمع العربي وغيره من دول العالم الثالث، في «أنه مجتمع منتزَعٌ من صميم ماضيه، غائبٌ عن حاضره، وإنْ كان يعمل بجُهد ومشقَّة في سبيل بناء مستـقبَل».

ولهذا رأينا البطل يقول: «سافرت أنا وفونت إلى لندن، إلى أوروبا الحلم، للحضارة، لحرية التعبير، للثقافة، للحياة، غادرنا في ذلك اليوم ولن نرجع أبدًا، رغم أننا هنا – في القاهرة- مرّة أخرى».

ولأن الرواية كانت في غاية الجرأة، أو ربما لأنها كتبت بالإنجليزية، فقد احتوت على آراء لا نكاد نجدها عن الكثير ممن كتبوا في ذلك الوقت، بداية من الانتقاد اللاذع لثورة يوليو إذ يقول الكاتب: «في الهند يجوع الناس لدفع ثمن الديمقراطية المنشودة، وفي الصين لايجوعون على الإطلاق لأن دكتاتورية شيوعية تحكمهم، أما نحن فلدينا أسوأ ما في النظامين معًا: الدكتاتورية والجوع بالإضافة إلى عدم وجود مستقبل نتطلع إليه». وفي موضع آخر يشير إلى الثراء المفاجئ الذي حلّ على الضباط وقيادات الجيش فيقول على لسان سائق تكسي: قبل الثورة كنت تلتقط أجرتك في الأحياء الراقية فقط، الآن الضباط يركبون التاكسي أيضا، هذا يعني أن لدينا أولاد الذوات والضباط. وليس انتهاءً لمناقشة أوضاع اليهود المصريين في تلك الفترة والعلاقة مع العدو الصهيوني.

أما لماذا أرى أنه من الضروري جدًا إعادة قراءة هذه الرواية اليوم، على الرغم من مرور خمسين عاما على كتابتها؟ ربما لأن الرواية تكاد تكون صالحة للتعبير عما حصل ويحصل للشباب العربي في السنوات الأخيرة، أعني صعود الأمل وبلوغه عنان السماء في مرحلة البوعزيزي، ليتم بعدها وكما حصل في يوليو؛ الانقلاب على تلك الأحلام واغتيالها في مهدها، ومن فجّر الثورة إما أن يجد سفارة غربية تقبل به، أو أن يختار لنفسه مكانًا إلى جوار رفاقه في السجن.

ربما لأن خيبتنا جميعا -ثوار وكنبة وفلول وعربًا متفرجين- لم تجد بعد من يكتبها؛ ولذا ترانا نقوم باجترار ما كُتب قديمًا، ونراه صالحًا للتعبير عن البؤس المحيط بنا.

_____________

معلومات الكتاب:بيرة في نادي البلياردو الاسم الأصلي: Beer in the Snooker Club الترجمة: بيرة في نادي البلياردو المؤلف: وجيه غالي المترجم: إيمان مرسال وريم الريّس الناشر بالإنجليزية: دار بينجوين الناشر بالعربية: دار الشروق عدد الصفحات: 283

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية