بيئتنا المبنية: رحلات غير ضرورية في المدينة

الإثنين 08 كانون الأول 2014
unnecessary-trips-feature

بقلم محمد شجاع الأسد

كنت قد كتبت قبل حوالي أربع سنوات مقالة من سلسلة مقالات بعنوان «رحلات كثيرة وقصيرة»؛ ناقشتُ فيها العلاقة الواضحة والمباشرة بين الاكتظاظ المروري والرحلات غير الضرورية التي نقوم بها بسياراتنا. وقد ذكّرتني عملية معادلة شهادة ابنتي المدرسية التي قمت بها في الماضي القريب بأهمية هذه العلاقة.

أعلمتنا مدرسة ابنتي بأنه علينا أن نبدأ العملية في قسم تابع لوزارة التربية والتعليم في منطقة جبل الحسين في عمّان، حيث يتم تصديق الشهادات المدرسية. وقد استغرقت الرحلة من منزلي إلى جبل الحسين ما يقارب النصف ساعة. وكانت عملية التصديق هناك سلسة بحيث استغرقت ما يقارب الـ 45 دقيقة، وذهبت بعد ذلك إلى قسم آخر للوزارة في منطقة جبل اللويبدة لإنهاء المعاملة. واستغرقت الرحلة إلى جبل اللويبدة حوالي نصف ساعة أيضًا، ولكنني علمت بعد وصولي بأنني لم أحضر جميع الوثائق المطلوبة بالرغم من أنني أحضرت الوثائق التي حدّدتها مدرسة ابنتي. ولذلك عدت إلى المنزل بعد أن استغرقت رحلة العودة حوالي نصف ساعة كذلك.

عدت إلى جبل اللويبدة في اليوم التالي بعد التأكد من إحضار جميع الوثائق المطلوبة، واستغرقت الرحلة حوالي نصف ساعة. وقضيت ما يقارب الساعة والنصف في قسم وزارة التربية حتى أنهيت المعاملة وحصلت على شهادة المعادلة، ثم عدت إلى المنزل بعد أن استغرقت رحلة العودة نصف ساعة أخرى.

وجدت خلال القيام بعملية التصديق والمعادلة أن موظفي الوزارة يتعاملون مع المراجعين بلطف واحترام؛ ولكن تعليمات عملية التصديق والمعادلة لم تكن واضحة بما فيه الكفاية. كذلك أذكر أنني ذهبت من مكتب إلى آخر في البنايتين أكثر من 15 مرة لتوقيع أوراق أو ختمها أو لدفع الرسوم، ولا أدري سبب هذا التنقل بين المكاتب، لكن من الواضح أنه يمكن اختزال عملية التصديق والمعادلة بشكل كبير بحيث يمكن إنهاء العملية كلها بوقت وجهد أقل مما هو الحال عليه الآن.

ما أود مناقشته بقليل من التفصيل هنا ليس الوقت والجهد الضائع الذي يبذله المُراجع في إتمام هذه المعاملات، إنما الوقت الذي قضيته في قيادة سيارتي بين منزلي ومكاتب الوزارة. فلو تمكّنت من إتمام المعاملة خلال اليوم الأول لكنت قضيت حوالي ساعة ونصف في قيادة السيارة بين منزلي ومكاتب الوزارة؛ لكن، وبما أنني لم أستطع إتمام المعاملة خلال اليوم الأول (وأتوقع أن هذا حال الكثيرين غيري)، فقد قضيت ساعة إضافية في قيادة سيارتي خلال اليوم التالي. لذلك فإن عملية المعادلة هذه تعني إضافة سيارة أخرى إلى شوارع عمّان المكتظة أصلًا لمدة ساعتين ونصف.

كلّ هذا الوقت الضائع كان بإمكاني استغلاله في إتمام مهام أخرى، أو على الأقل أن أحصل فيه على بعض الراحة، وكذلك فإنني قضيت ساعتين ونصف في قيادة سيارة في شوارع عمّان أستهلك الوقود المستورد الذي ندفع ثمنه غاليًا وأستهلك السيارة نفسها، وأساهم في رفع مستويات الاكتظاظ والتلوث الهوائي المرتفعة أصلًا في شوارع عمّان.

إن كل رحلة لا نضطرّ للقيام بها في المدينة تعني إزالة سيارة من شوارعها تتسبب بالازدحام المروري والتلوث الهوائي.

إن عدد الطلاب في صفّ ابنتي يزيد عن التسعين، وقد تمّت عملية المعادلة والتصديق لكل منهم. وهذا يعني أن هناك سيارة قضت ما معدله ما بين ساعة ونصف وساعتين ونصف لمتابعة معادلة شهادة  كلّ منهم. وإذا أخذنا بالاعتبار آلاف المعاملات الحكومية التي يقوم بها سكان عمّان يوميًّا؛ فهناك آلاف السيارات التي تقضي آلاف الساعات تجوب شوارع عمّان لمتابعة مثل هذه المعاملات.

لو كانت مدرسة ابنتي ووزارة التعليم قد اتفقتا على أن تُحْضِر المدرسة جميع وثائق الطلاب مرة واحدة، (لأنّ المدرسة تصدر جميع الوثائق)، لأمكن اقتصار مئات الرحلات اللازمة لمعادلة شهادات طلاب المدرسة إلى رحلة واحدة فقط تتضمن التنقل بين موقع المدرسة وبنايتيْ وزارة التربية والتعليم بين جبليْ الحسين واللويبدة، وكان بالإمكان أيضًا اقتصار أكثر من 225 ساعة التي قُضِيَتْ في قيادة السيارات لمتابعة معاملات المعادلة لتسعين طالب إلى ساعة ونصف الساعة فقط!

ولو يتم تبسيط المعاملات الحكومية التي على سكان عمّان القيام بها باستمرار؛ بحيث يمكنهم زيارة عدد أقل من الأبنية الحكومية أو إتمام عدد أكبر من المعاملات من خلال الإنترنت، فيمكن بذلك توفير عشرات الآلاف من الساعات على السكان يوميًّا، وكذلك سيخفض هذا عدد السيارات التي تجوب شوارع عمّان والازدحام المروري الخانق الذي تعاني منه المدينة أصلًا، بالإضافة إلى التخفيف من استهلاك الوقود ومن التلوث الهوائي واستهلاك المركبات.

هناك حلول عديدة يمكن اعتمادها للتخفيف من الازدحامات المروريّة في عمّان، تتضمن تحسين القدرة على المشي في المدينة وتطوير وسائل النقل العامة بها، وكذلك تتضمن هذه الحلول تخفيض عدد الرحلات التي على سكان المدينة أن يقوموا بها بشكل يوميّ.

على سبيل المثال، كان البنك الذي أتعامل معه قد قدّم قبل عدة أشهر خدمة تسمح لعملائه دفع فواتير الكهرباء والماء والتلفون من خلال الإنترنت، بدلًا من أن يضطروا إلى الذهاب إلى صناديق الدفع، وهذه الخدمة وفّرت عليّ عددًا من الرحلات التي كنت أقوم بها كل شهر لدفع هذه الفواتير.

إن كل رحلة لا نضطرّ للقيام بها في المدينة تعني إزالة سيارة من شوارعها تتسبب بالازدحام المروري والتلوث الهوائي. إن الإحصاءات المحددة بخصوص الأسباب التي تجعل سكان عمّان يستعملون سياراتهم غير متوفرة لديّ، ويمكننا الاستفادة بشكل كبير من الدراسات حول هذا الموضوع. ومن المؤكد أن سكان المدينة يقومون بعشرات الآلاف من الرحلات يوميًّا، والتي يمكن تحاشيها من خلال إعادة النظر في كيفية قيامنا بنشاطاتنا اليومية.

إن النشاطات المختلفة التي نقوم بها مرتبطة بنا بشكل فعليّ وكبير. وإن تم تحسين كفاءة متابعة المعاملات الحكومية التي يقوم بها سكان المدينة من خلال تبسيطها وتمكين السكان من إتمام عدد أكبر من المعاملات من خلال الإنترنت، فذلك سيوفر على الجميع الكثير من الوقت، وسيخفّض كذلك من المصاريف الحكومية، وسيدعم الإنتاجية الاقتصادية مما سيجعل المواطنين يشعرون بدرجة أعلى من الرضا بخصوص كيفية إدارة حكومتهم. ولكن سينتج أيضًا عن مثل هذا الرفع في كفاءة متابعة المعاملات الحكومية نتائج إيجابية أخرى غير متوقعة ومهمة كما في تخفيض حدة الازدحامات المرورية والتلوث الهوائي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية