برامج المواهب المستنسخة، وتقنية استدرار العواطف

الأحد 18 كانون الثاني 2015

بقلم رفقي عساف*

من الأمور التي لفتت انتباهي في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى انتشار برامج المواهب المستنسخة عن أصل غربي بشكل مطّرد وعلى مدار العام، هو جنوح هذه البرامج، تبعًا لنسخها الغربية الأصلية، للعزف على وتر عواطف الجمهور، وبشكل استجدائي استهلاكي للتعاطف مع حالات إنسانية، بغية رفع نسبة المشاهدات، ولاحقًا التصويت، وبالتالي ضخ الأموال والأرباح.

من حق أي قناة في العالم أن ترغب في زيادة عدد مشاهديها، ومن حقها أن تبحث عن طرق لزيادة أرباحها، ولكن أن يقترن ذلك بتقنية تعتمد على استغلال المعاناة الإنسانية بشكل تجاري فج، فهو أمر بات يدق على عصبي بشكل كبير. فالملاحظ أنه في السنوات الأخيرة لا يكاد يمر برنامج مواهب، بدون متسابق من ذوي الاحتياجات الخاصة على سبيل المثال، وما يرافق ذلك من خلفية موسيقية حزينة، وتعاطف كبير من قبل لجان التحكيم والجمهور حتى لو كان هذا المتسابق قليل الموهبة نسبيًّا.

الأمر الآخر الأكثر سوءًا، والذي صار ديدنًا لهذه البرامج، وتقنيّة أثبتت على ما يبدو نجاعتها فتم تبنيها، هو الاتجار الدائم بالقضايا الإنسانية الناتجة عن الصراعات السياسية والحروب في المنطقة؛ فالمتسابقون الفلسطينيون والسوريون وغيرهم ممن تتعرض بلادهم لويلات الحرب ومآسي السياسة، يتم بروَزة معاناتهم، وصعوبة وصولهم للبرنامج، وما مرت به بلادهم، كمادة دسمة للبكاء الجماعي واستدرار التعاطف من خلال ردود فعل لجنة التحكيم، والموسيقى المصاحبة، وطريقة المونتاج الميلودرامي الذي جعل الموضوع بالنسبة لي عصيًّا على الهضم والتقبل.

قبل أعوام، تابعت قضية مشترك أميركي في برنامج مواهب، مصاب بالتهتهة، ويقول في البرنامج بأن سبب حالته هو مشاركته كجندي في حرب العراق وتعرضه لإصابة، كسب المشارك كثيرًا من التعاطف وعومل كبطل، ووصل إن لم تخني الذاكرة إلى مراكز متقدمة، ليتضح لاحقًا في فضيحة مدوية بأنه غير مصاب بالتهتهة أصلًا، ولم يشارك يومًا في حرب العراق.

لا يجب أن يتم تحويل هذه المعاناة لمادة درامية مفتعلة تخلق حالة من التعاطف مع هذا المشترك دون غيره، ناهيك عن تسطيح معاناة شعوب بأكملها في لقطة ميلودرامية لموهوب يحاول أن يقدم نفسه

إن معاناة الإنسان قيمة إنسانية عالية، خاصةً معاناة الحروب، التي لا تضاهيها معاناة، من موت وتهجير وعذاب. وتسخيف هذه المعاناة أو تقديمها فقط كخلفية لمشترك في برنامج مواهب لحصد التعاطف والأصوات وبالتالي المال، هو أمر لا إنساني في رأيي. لا بأس من تقديم موهوب عانى من ويلات الحرب ليصل ويعبر عن موهبته، ولكن لا يجب أن يتم تحويل هذه المعاناة لمادة درامية مفتعلة تخلق حالة من التعاطف مع هذا المشترك دون غيره، ناهيك عن تسطيح معاناة شعوب بأكملها في لقطة ميلودرامية لموهوب يحاول أن يقدم نفسه، والأسوأ تكرار ذلك في كل برنامج، وفي كل نسخة في كل عام، وبنفس الطريقة، مع تغير المتسابقين، ليتحول الأمر إلى تقنية تشكل جزءًا من نجاح هذه البرامج، كأنها – كما أعتقد، باتت تباع مع نسختها الغربية عند شرائها وتعريبها، مثلها مثل شكل الديكور الموحد ونغمات الموسيقى.

على برامج المواهب أن تعيد النظر مليًّا في هذه النقطة، فهي أولًا لم تعد تنطلي على شريحة عالية الوعي من المشاهدين، والمشاهد الذي يتعاطف اليوم مع هذا المتسابق أو ذاك لتعاطفه بالأصل مع قضيتّه، أو بدافع إنساني لا علاقة له بالموهبة، يتم بيعه بضاعة وقتيّة سرعان ما تنتهي مدة صلاحيتها.

أنا لا أدّعي أنّ مثل هذه التقنية سينتهي تأثيرها مع الوقت؛ لا، فهي في رأيي تقنية ناجحة وقالب جاهز سيظل يبيع بسهولة، ولكنني أناشد شيئًا من ضمير الإعلام الذي أعرف أنه لا يكون موجودًا أصلًا في كثير من الأحيان، في إعادة النظر في آليات وتقنيات تساهم كل يوم في موت مشاعرنا كبشر، وتجعلنا نجترّ هذه المشاعر روبوتيًّا حتى صارت ممارسة ميكانيكية شرطية يحركها محفز معلوم، فنشبعها، ثم تعود لحالتها الدائمة من الركود.

*كاتب ومخرج سينمائي

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية