jews-in-tunisia

إيف إيلياهو: حارس كنز اليهود في تونس

إيف إيلياهو: حارس كنز اليهود في تونس

الثلاثاء 03 شباط 2015

وليد الماجري

(نشر هذا التقرير في موقع انكيفادا، في 30 كانون الثاني 2015).

ثلاث محطّات كبرى قلبت حياته رأسًا على عقب: سفرُهُ إلى فرنسا للدراسة حيث تعرّض إلى الظّلم على يد الأستاذ المشرف على الماجستير، دخوله مهنة المحاماة وكلّ ما حفّ بها من أحداث وهوامش ومغامرات وصلت إلى حدّ الدّفع به لمراجعة مفهوم الوطنية والهويّة التونسية بالنسبة اليه بعد أن تمّ منعه من أداء الخدمة العسكرية في وطنه تونس بدعوى أنّه يهودي الدّيانة، والمحطّة الثالثة تمثّلت في مرض والدته بـ«آلزهايمر» حيث تعطّل نمط حياته الطّبيعي ما اضطرّه إلى تغيير سلوكه اليومي.

إيف إيلياهو قمحي، 36 سنة، هو محام يهودي يحمل الجنسيّتين التونسية والفرنسية ويقيم في مسقط رأسه منطقة بوجعفر الواقعة في مدينة سوسة الساحلية. عاش طفولة ثريّة بالتجارب ذات المنحى الوجودي، فقد تربّى داخل أروقة كنيس يهودي محاذٍ لمنزل عائلته، لكنّ ذلك لم يمنع والدته من إلحاقه بأحد كتاتيب المسلمين لحفظ القرآن وتعلّم الكتابة والقراءة على مدى سنتين قبل أن يلتحق بالمدرسة.

إيف، 36 سنة، يهودي تونسي يمتهن المحاماة، وسعيد بهويّته متعدّدة الأبعاد. التقطت هذه الصورة في بهو كنيس اليهود بوجعفر في مدينة سوسة. بعدسة وليد الماجري.

طيلة فترة طفولته، لم يكن إيف يدرك أنّه مختلف عن بقيّة أقرانه، ولكنّه مع مرور السنوات وجد نفسه مطالبًا بحسم أمر هويّته وتحمّل تبعات ذلك أمام المجتمع ذي الأغلبية المسلمة: «أنا يهودي قناعةً واكتسابًا، أي أنّني وُلدت يهوديًا واخترت عن اقتناع أن أظلّ يهوديًا. لم أشأ أن أغادر البلاد أو أن أبقى فيها مع تغيير ديني، بل لم أفكّر في ذلك مطلقًا فأنا تونسيّ قبل كل شيء ثمّ تأتي هويّتي اليهودية في مقام ثانٍ».

تأسّس الكنيس اليهودي، الذّي تربّى إيف إيلياهو في أروقته، في 11 سبتمبر 1913 على يد كبير الأحبار اليهود في تونس آنذاك، يوسف جاز. وكان الكنيس مزارًا للآلاف من اليهود يؤمّونه لأداء الطّقوس والاحتفال بالأعياد وتعميد المواليد الجدد.

 إيف، خلال أيّام الطفولة، يجلس أمام بوّابة المقصورة التي تحتوي على المخطوطات اللّوحية النادرة.

منزل عائلة إيف كان –وما يزال- محاذيًا لهذا الكنيس، لذلك فقد كانت طفولة إيف يهوديّة بامتياز ومتشبّعة بالثقافة والإرث اليهوديّين. يقول إيف انّ اليهودية تحدّد سنّ البلوغ لدى الذكور بـ13 سنة، كما تشترط خلال أداء صلاة «الشّاباط» (يوم السبت) توفّر ما لا يقلّ عن 10 ذكور بالغي سنّ الرّشد. ولمّا أصبح عدد اليهود قليلًا في سوسة وبات من الصّعب أحيانًا توفير النصاب اللازم (10 ذكور) لأداء «الشاباط» كان الاستنجاد بالطفل إيف البالغ من العمر 13 سنة آنذاك أمرا حتميًا لاستكمال النّصاب. «كانت تجربة وجودية وروحانية مؤثّرة جدّا بالنسبة إلّي»، يقول إيف، «فقد كنت أشعر أنّني يهودي قولًا فعلًا بالرغم من انفتاحي على الثقافة الإسلامية».

يهوديّ الدّيانة إسلامي الهوى

ديانتُه اليهودية لم تمنعه من الخوض في الدّين الإسلامي دون أن يفكّر في اعتناقه، فقد دأب إيف منذ صغره على قراءة القرآن والأحاديث النبوية وسيرة الصّحابة وكُتُب التفكير الإسلامي، بل أنّه كان متميّزًا جدًا في مادّة التفكير الإسلامي خلال مرحلة التعليم الثانوي وفق تأكيده: «كنت قارئًا جيّدًا ونهمًا، وكانت تحرّكني رغبة جامحة في الانفتاح على هذا الدّين الذّي يشكّل العمود الفقري للمجتمع التونسي ويعتبر مكوّنًا رئيسيًا من مكوّناته الحضارية والثقافية. قرأت كثيرًا وتمعّنت كثيرًا فوجدت أنّ النقاط التي تجمع اليهود بالمسلمين أكثر بكثير من النقاط التّي تفرّقهم. أحيانًا عندما أفتح كتاب القرآن أو أدخل إلى جامع أشعر الشعور ذاته وأنا أفتح التّوراة وألجُ إلى داخل كنيس يهوديّ».

شخصيّة إيف طريفة وجدلية في آن واحد، يهوديّ الدّيانة إسلامي الهوى. عقلانيّ جدًا، تطغى على سلوكه الخطوات المدروسة إذ لا مجال للعفوية والتلقائية المفرطة وسط مجتمع تحرّكه العواطف والوجدان ويغيب فيه العقل الراجح كلّما تعلّق الأمر بخلافات ذات طابع ديني أو عرقي. «إنّه التخلّف بعينه» يقول إيف، «فالاختلاف والتنوّع هما عنصرا إضافة للمجتمع، فلماذا يتمّ النظر إليهما على أنّهما خطر يتهدّد كينونة المجتمع وتماسكه؟».

المجتمع التونسي، بالنسبة لإيف، هو ماكينة جامدة وسطحية، تأبى التعمّق والانفتاح على الآخر المختلف، بل أنّها تأبى الانفتاح على نفسها والتكشّف على ما بداخلها من اختلافات وتناقضات.

وقد وجد إيف نفسه في أكثر من مناسبة يعاني بعض مظاهر العنصرية داخل وطنه ومجتمعه فقط لأنّه يهوديّ، حتّى أنّ البعض وبمجرّد أن يتفطّن إلى أنّه يهودي لا يتردّد في التفوّه بعبارات من قبيل «خسارة.. ظننتك مسلمًا»، بل أنّ البعض الآخر يذهب إلى أكثر من ذلك ليقول «ظننتك تونسيّا». حتّى جهاز الأمن – يقول إيف- لم يشذّ عن القاعدة حيث لم يستوعب عدد من أعوان البوليس إلى حدّ الآن حقيقة مفادها أنّ إيف مواطن تونسي كامل الحقوق والواجبات وأنّ اليهودية ليست سوى دينًا وُلدَ عليه ونشأ على تعاليمه كما وُلد باقي المواطنين التونسيين على دين الإسلام ونشأوا عليه.

إيف يعشق النجم الرياضي الساحلي ويعتبره جزءًا من هويّته التونسية اليهودية الساحلية.

يقول إيف متذكّرًا احدى الطرائف التي حصلت له مع الأمن خلال مشاركته في تظاهرة «الغريبة» التي تعتبر موعدًا مقدّسًا لكل يهود العالم في جزيرة جربة:

«كنت متّجها إلى الكنيس خلال تظاهرة الغريبة (موسم حجّ اليهود بجربة) عندما أوقفني عون أمن مانعًا إيّاي من الدخول بتعلّة أنّ الدخول حكر على اليهود فحسب، ولمّا أجبته بأنّني يهوديّ نظر اليّ معلّقا على هندامي الرياضي قائلا، وما علاقتك باليهود فأنت ترتدي قميص النجم الرياضي الساحلي، فابتسمت وحاولت اقناعه بأنني تونسي أصيل مدينة سوسة يهودي الديانة وأعشق النجم الساحلي، إلّا أنّ أجابته كانت صادمة جدًا، إذ نظر إليّ باشمئزاز وقال: يهودي وساحلي في نفس الوقت! أعوذ بالله».

تلك الواقعة ما تزال عالقة في ذهن إيف، فقد تعرّض يومها إلى العنصرية مرّتين في آن واحد: مرّةً من منطلق ديني لانّه يهودي، ومرّة ثانية من منطلق جهوي لأنّه ينحدر من جهة الساحل المُترف الذّي لا يلقى أهله القبول أحيانًا في أذهان متساكني الغرب المهمّش.

حارس الكنز المغمور

إنّ الولوج إلى الكنيس اليهودي في بوجعفر ليس أمرًا عسيرًا، فالأقفال سهلة الخلع، والجدران، رغم مجهود الصيانة، تلوح متهرّئة وبعضها قد يتداعى للسقوط بعد أن نخرته الشقوق وعرّته الأمطار. ولكن خلف هذه الجدران المتآكلة يوجد كنز لا يقدّر بمال. كنز ثمين يحمل أبعادا دينية و إرثًا إنسانيًا يتجاوز الدّين اليهودي ليخاطب الحضارة الإنسانية جمعاء. وقد شاءت الأقدار أن يكبر ذلك الطّفل اليهودي ذو الثقافة الإسلامية ليصبح حارس الكنز المغمور ومؤتمنًا على حفظ رسالته حتّى يضمن تواصله وانتقاله في أحسن الأحوال إلى الأجيال اليهودية اللّاحقة.

خلف الجدران المتهرّئة لهذا الكنيس القديم يختبئ كنز أثري يتمثّل في مخطوطات لوحية قديمة لكتب التوراة. بعدسة وليد الماجري.

فتح إيف باب سقيفة مزركشة برسوم وعبارات كُتبَت باللغة العبرية، يقف خاشعًا أمام بابها، يتمتم بعبارات عبرية مبهمة، يمسح بيُمناهُ على جبينه، ثمّ يُولج يده الأخرى إلى داخل السقيفة بحذر شديد ليطلعنا على علبة دائرية مزركشة. لَمَسَها بحذر وفتحها، لنجد بداخلها مخطوطًا يدويًا لكتاب التوراة توارثه يهود تونس جيلا بعد جيل.

«هذا المخطوط مقدّس ونادر جدًا. أكبر الكنائس اليهودية في القدس مثلًا يحتوي على مخطوطين أو ثلاثة على أقصى تقدير. هل تعلم عدد المخطوطات التي يتحوّز عليها كنيسنا الصّغير؟ لن تصدّق.. ثلاثون مخطوطا أثريا كتبت بخطّ اليد. انّه كنز انساني بأتمّ ما في الكلمة من معنى، كنز لا يقدّر بمال الدّنيا»، يقول إيف مفتخرًا.

في ما مضى كان رجال الدّين يعتكفون داخل الكنيس لفترة قد تصل إلى سنتين أو ثلاثة دون انقطاع. وتخصّص تلك السنوات لكتابة التوراة بخطّ اليد على ورق برديّ مخصوص بحبر لا يمحى. وبعد الانتهاء من الكتابة، يحفظ المخطوط في علبة لوحية ثمّ تُنظّم احتفالات دينية للغرض ويطوف الآلاف من اليهود بذلك المخطوط في شوارع المدينة للتعبير عن فرحتهم بالانتهاء من إنجازه. وعلى امتداد السنوات الخمسين المنقضية، تداعت عدّة كنائس يهودية للسقوط في مناطق مختلفة من الساحل التونسي على غرار المكنين والمنستير وسوسة العتيقة، فتمّ نقل كل المخطوطات إلى كنيس بوجعفر ليتحوّل إلى معلم منسيّ لكنّه يحمل كنزًا إنسانيًا ثمينًا قد لا تحتوي عليه كنائس القدس مجتمعة، وفق تأكيدات إيف إيلياهو الذّي اختاره القدر ليكون الحارس الأمين لذلك الكنز وسط «تجاهل» السلطات التونسية لنداء الاستغاثة الذي ما فتئ يطلقه من أجل صيانة الكنيس وترميمه، بالإضافة إلى «تقاعس» الهيئة الوقتية لصيانة الديانة اليهودية عن أداء واجبها وتوجيه أنظارها لكنيس العاصمة أكثر من غيره.

جدران متشقّقة لم يُفلح مجهود الترميم الذاتي في محو آثارها. بعدسة وليد الماجري.

 

«عملاء» و «خونة» مع تأجيل التنفيذ

إحساس قاتل أن تعيش في وطن ينظر جزء كبير منه إليك على أنّك «شيطان» أو «عدوّ محتمل» فقط لأنّك مختلف عليهم. ويتعاظم هذا الإحساس بالألم عندما تتسرّب هذه الأفكار من عامّة الشّعب إلى أجهزة الدّولة فيتمّ التعامل معك على أنّك «خائن محتمل» وبالتالي وجب التوقّي منك حتّى لا تُلحقَ بالوطن الأذى. إيف إيلياهو عاش على وقع هذا الإحساس لأوّل مرّة عندما بلغ السنّ القانونية للرشد وأصبح بذلك مطالبًا بأداء الخدمة العسكرية، غير أنّ الوطن رفضه ولفظه وتعامل معه بعنصرية فقط لأنّه يهودي، رغم أنّ القانون يساوي –نظريًا- بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات. يقول إيف إنه اعتاد منذ أن تجاوز سنّ الثامنة عشر أن يتمّ إيقافه خلال دورات التجنيد مثل بقيّة الشبّان التونسيين، غير أنّه لم يسبق أبدًا أن تمّ تجنيده حيث جرت العادة أن يتمّ إخلاء سبيله بمجرّد قراءة اسمه اليهودي على بطاقة هويّته.

«في البداية لم أكن أفهم ما يحصل، إلّا أنّني تفطّنت إلى أنّ يهود تونس ممنوعون من أداء الخدمة العسكرية في وطنهم عندما رغبت في تسوية وضعيّتي القانونية إزاء واجب الخدمة العسكرية كشرط من شروط قبول مطلب تسجيلي في هيئة المحامين لمباشرة مهنة المحاماة، ومن هنا انطلقت مغامرتي وانطلق معها الشعور بالألم».

تقدّم إيف بمطلب إلى منطقة الأمن بسوسة لتسوية وضعيّته إزاء الخدمة العسكرية سواء من خلال نيل مُهلة التأجيل المعمول بها أو من خلال أداء الخدمة العسكرية، إلّا أنّ مطلبه جُوبهَ بالرّفض مرارًا وتكرارًا فاضطرّ للتنقّل إلى الإدارة التي تُعنى بهذا الشأن في ضاحية العمران بالعاصمة، لتتعمّق حيرته أكثر فأكثر، حيث تمّ رفض مطلبه. ومع إصراره وتمسّكه بحقّه في تطبيق القانون عليه، وجدت الجهات المعنية نفسها في مأزق، حيث لا وجود لمانع قانوني ينصّ صراحة على إعفاء أو منع يهود تونس من أداء الخدمة العسكرية، وفي المقابل فانّ إجراء المنع معمول به في تونس بشكل عُرفي غير معلن منذ تأسيس الجيش التونسي بعد الاستقلال إلى حدّ الآن.

إيف مولعٌ بالتقاط الصور لنفسه لتوثيق الأحداث اليومية التي يعيشها. هذه الصورة التقطت على خلفية مشاركته في مسيرة للمحامين بسوسة على إثر حادثة صفع المحامي عادل رويس من قبل عون أمن.

إيف أجرى بحثًا في هذا الغرض، فقيل له أنّ هنالك سببين أساسيّين مُعلنين يتمّ من خلالهما تبرير رفض تجنيد اليهود في الجيش التونسي. السّبب الأوّل: لا يمكن إعداد وجبات حلال «كاشير» في الثكنات العسكرية تتلاءم مع التعاليم اليهودية وبالتالي إعفاء اليهود من الخدمة العسكرية يبدو أمرًا حتميًا. السبب الثاني: الجيش يخشى من فرضيّة اعتداء بعض الجنود المسلمين على زملائهم اليهود وبالتالي سينجرّ عن ذلك عداوة وانقسام داخل الجيش، فضلاً عن مشاكل وطنية ودولية مع ممثّلي «الجالية» اليهودية في تونس وخارجها. هذان السّببان المعلنان لم يقنعا إيف الذّي اهتدى بعد جولة من البحث والتدقيق إلى سبب ثالث غير معلن لرفض تجنيد اليهود في تونس يتمثّل أساسا في تفشّي فكرة لدى العقل العسكري التونسي تعود جذورها إلى الصراع العربي-الإسرائيلي مفادها أنّ المواطنين اليهود في تونس «خونة» و«عملاء للصهاينة»، وأنّ إدماجهم في الجيش التونسي من شأنه إحداث ثغرة في الأمن القومي حيث من الممكن أن يقوم المجنّدون اليهود بنقل أسرار عسكرية خطيرة إلى جيش العدوّ:

«إنّنا خونة وعملاء في نظر الجيش التونسي مع تأجيل التنفيذ، لذلك يتمّ منعنا من واجب الخدمة العسكرية. إنّه أمر مخزٍ للغاية، نحن مواطنون درجة ثانية، فلا الدستور ولا الاتفاقيات الدولية تستطيع أن توقف هذه النظرة العدائية نحونا. ألمْ يقل نشيدنا الوطني، فلا عاش في تونس من خانها ولا عاش من ليس من جندها؟ نحن لسنا من جندها أو بالأحرى مُنعنا من حقّنا في أن نكون من جندها، فهل هذا من العدل في شيء».

ولئن كان نظام الخدمة العسكرية عنصريًا تجاه اليهود ولكن بشكل متحفّظ وغير معلن، فإنّ الدستور وجملة القوانين المنظّمة للسلطات العمومية لم تجد حرجًا في إقصاء غير المسلمين من إمكانية الترشّح لمنصب رئاسة الجمهورية: «نحن لا نهتمّ مطلقًا لهذا المنصب ولكنّ مجرّد سلبنا حقّ الترشّح إليه تسبّب في ألم كبير لنا وعمّق فكرة أنّنا مواطنون درجة ثانية».

باسم الدّين والثقافة، محرومون من الحبّ

أعزب رغم أنفه لأنّه لم يعثر حتى الآن على فتاة يهودية للزواج بها في تونس على اعتبار أنّ «الدّين اليهودي صعب ومعقّد للغاية، ولا يتيح لليهودي الزواج من غير معتنقي الديانة اليهودية» وهذا أحد أوجه معاناة عدد من اليهود في تونس وفي العالم. إيف انقطع منذ سنوات عن الدّخول في مغامرات عاطفية مع نساء تونس، وبات يمارس على نفسه حالة من الرقابة المسبقة، ويفرض على قلبه ألّا ينبض عشقًا لغير المرأة اليهودية لأنّه يعلم في نهاية المطاف أنَّ عشقَ المرأة غير اليهودية لن يخلق سوى وضعية شائكة من الألم والصّراع بين العائلتين اليهودية (عائلته) وغير اليهودية (عائلة حبيبته) مثلما حصل في مناسبات عديدة مع عدد من الشبّان اليهود الآخرين. بعد تحفّظ طويل فتح إيف إيلياهو قلبه واعترف بأنّه عاش تجارب عاطفية متعدّدة مع عدّة شابّات تونسيّات وأنّه كان يشعر أنّه بصدد ارتكاب حماقة كبرى، فالوضع لا يحتمل الاجتهاد، ولا مجال للمجازفة وإطلاق العنان للقلب كي يختار.

«هنا، تتوقّف المشاعر، وتصبح حياتك العاطفية الخاصّة قضيّة رأي عام بامتياز، وقد ينجرّ عنها جدل ديني وقانوني بالإضافة إلى الحرب المنتظرة بين عائلتيْ الحبيبين في حال كان أحدهما فقط يُدينُ لليهودية».

راشيل بلحاس ماليح، 67 سنة، والدة إيف تعاني مرض آلزهايمر، غير أنّ الفقدان المفرط للذاكرة لم ينجح في جعلها تنسى بأنّ فلذة كبدها ما يزال أعزب دون حبيبة. كنّا نسترق البصر بين الفينة والأخرى نحوها فنراها غارقة في التأمّل. حدّثتنا بلكنة ساحلية (أصيلة المكنين) عن مواصفات زوجة ابنها المنتظرة، قالت أنّها غاية في الجمال ورقيقة ومهذّبة، ثمّ لم تلبث أن عادت لتغرق في التأمّل داخل الكنيس المحاذي للمنزل، مدندنةً لحن أغنية من التراث اليهودي تتغنّى بتظاهرة الزواج دون أن تغفل عن التحدّث عن «الكرامات» التي يمكن القيام بها لتقريب الأزواج وتذليل العراقيل بين القرينين، مؤكدة أنّ الشابات المسلمات أيضا يُقبلن على هذه «الكرامات» من أجل وضع حدّ لسوء الطّالع وتواصل فترة العنوسة.

راشيل أصبحت بمثابة الأمّ والأخت والحبيبة لابنها الوحيد إيف. بعدسة وليد الماجري.

إيف هو عاشق متيّم بوالدته. معها يقضّي فترات متفرّقة من اليوم، يعتني بها ويحضّر لها وجبات الأكل، ثمّ يغلق عليها الباب ويغادر باتّجاه مكتبه الكائن على بُعد عشرات الأمتار من مكان إقامته. منذ مرضت والدته تبعثرت حياته وأصبح في أمسّ الحاجة إلى زوجة تشاركه يوميّاته وتبدّد روتين حياته. ولكن من أين له بزوجة يهودية وقد تهرّمت «طائفة» اليهود في الساحل ولم يعد هنالك نساء مقبلات على الزواج؟

«في ما مضى، تقريبًا في الستينات، كان عدد اليهود في الساحل يناهز الثلاثة آلاف، أمّا اليوم فعددهم لا يتجاوز الخمسين على أقصى تقدير، ثلاثون منهم يقيمون في سوسة وأغلبهم من كبار السنّ».

ويعود سبب هذا التراجع الكبير في عدد اليهود –بحسب شهادة إيف- إلى هجرة اليهود نحو أوروبا أو إسرائيل بحثًا عن موطن آخر ليس فيه مظاهر تفرقة أو عنصرية تجاه اليهود. هذه الوضعية خلقت فراغًا كبيرًا في تونس حيث أثّر غياب اليهود كثيرًا في حياة من تبقّى من اليهود فأصبحوا أقلّية غير مؤثّرة في الشأن العام ومنكمشة على ذاتها.

غادرنا مدينة سوسة بعد يوم ممتع قضّيناه مع ذلك الشاب اليهودي إيف، وفي أذهاننا ظلّت بعض كلماته عالقة. لقد حدّثنا بنبرة حزينة عن العرب قائلًا أنّنا نعشق جَلْد ذواتنا ونتفنن في تحويل انتصاراتنا إلى انكسارات. حتّى الثورات العربية –يقول إيف- تحوّلت إلى حروب واقتتال طائفي لأنّ العرب تخلّوا عنها بعد أن أنجزوا خطواتها الأولى. يجب أن يتخلّص العرب من متلازمة جلْد الذّات. كانت هذه آخر وصايا إيف قبل أن يودّعنا على أمل الالتقاء به في مناسبات أخرى.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية