«النظام العالمي بيقتل
أوقات كتير
من غير رصاص»
– مصطفى إبراهيم

ما أن انتشر فيديو تنظيم «داعش» المسمّى «شفاء الصدور» والذي يحتوي على جريمة حرق للطّيار الأردني معاذ الكساسبة حيًّا، إلا والتصريحات الرسمية «الناريّة» -التي لم نسمع أيًّا منها بعد قتل القاض رائد زعيتر- بدأت تصدر من هنا وهناك؛ من تهديد بالثأر، ووعود بالرد المزلزل، وفتح لأبواب جهنّم على التنظيم الارهابي الجبان.

للوهلة الأولى، وقبل ابتلاع الصدمة، قد تبدو تلك الموجة أمرًا جيدًا، لكن الأسئلة التي يجب أن تطرح في هذا التوقيت: ما هي استراتيجية الأردن في مواجهة «الإرهاب»؟ وهل الاستمرار في اتّباع النهج الأمريكي هو البديل الأمثل لتجاوز الأزمة؟

علينا أن نعود قليلًا إلى حقبة الحرب الباردة كي نفهم أحد أهم محدّدات الواقع الحالي الذي فرضته الاستراتيجية الأمريكية في مواجهة «الإرهاب»، والتي ارتهننا لإملاءاتها منذ زمن بعيد. دعمت الولايات المتحدة وموّلت تأسيس حركات جهادية، مسوّقةً نفسها كبديل ملائكي يدافع عن شرعية السماء في وجه «الإلحاد». ولم يكن الدعم الأمريكي للمجاهدين الأفغان في حربهم ضد الاتحاد السوفييتي إلّا مثالًا واضحًا على ذلك. انتهت الحرب الباردة، لكنّ الولايات المتحدة وجدت نفسها في صراع مباشر مع حلفاء سابقين بدأوا ينعتونها «بالشيطان الأكبر» الذي وجب قتاله شرعًا، وتوّج ذلك بهجمات أبراج التجارة العالمية في 11 سبتمبر.

حين أصبحت العاطفة الدينية التي عُزّزت سابقًا تشكّل عدوًا، بات لزامًا التخلّص منها أو تهجينها ضمن أطر سلمية تمنع تأثيرها في الرأي العام. والمؤسف أن «الخطأ» نفسه ارتكب مجددا في إطار الجهد الغربي للتعامل مع الأزمة السورية، بعد تدريب ودعم بعض «الجهاديين» وإرسالهم إلى سوريا لقتال قوّات النظام، مما مهّد الطريق، بالتوازي مع الفراغ الأمني الموجود في العراق، لخلق بيئة مناسبة لاحتضان «الإرهاب».

الدعم الأمريكي المباشر «للجهاديين» قد لا يكون السبب الوحيد في ظهور وتنامي هذه الظاهرة، فغياب العدالة في توزيع الموارد، والسياسة الغربية الاستعمارية تجاه الشرق الأوسط، والاحتلال الاسرائيلي، وغيرها الكثير أنتجت وما زالت تغذي الفكر المتطرّف. لكنا لسنا هنا بصدد تحليل أسباب نشوء الإرهاب بقدر محاولة تسليط الضوء على النهج الأردني في محاربته، وغياب الرؤيا بعيدة الأمد في هذه المواجهة. فلا يخفى على أحد اتّباع النظام الأردني سياسة تتماشى مع التوجّهات الغربية، سواء على الصعيد الاقتصادي أو الأمني. فالخيارات المطروحة لدى دولة تعتمد بالأغلب على الدعم الخارجي (سواء الغربي أو الخليجي) بالضرورة ستكون قليلة.

استمرارنا في تعريف الإرهاب حسب القاموس الأمريكي لا يتفق مع أولويّاتنا المحليّة، فنحن دولة عربية ذات أغلبية مسلمة وواقع ديموغرافي معقّد يحكمه حجم اللاجئين الكبير، وما يدور في المنطقة من احتلال لفلسطين أو سلب للموارد في العراق أو حرب أهلية في سوريا سيواصل التأثير على ظرفنا الداخلي بشكل مباشر، بغض النظر عن الأولويات الأمريكية.

مواصلة اعتماد البدائل الأمريكية للتعامل مع تلك القضايا لن تقودنا إلّا الى منزلق خطر، حيث سيتنامى عداء التنظيمات الإرهابية للأردن، وستستمرّ بحربها الإعلامية القائمة على انتقاد موقف الأردن الداعم للعدو الصهيوأميريكي. وبعد انقضاء حالة الصدمة التي يمرّ بها الشارع الأردني الآن لن يلبث الانقسام في الرأي العام من هذه الحرب إلّا أن يعود.

قد تكون المعركة الآن مع «داعش»، لكن القضاء على هذا التنظيم، في ظل غياب قرار سيادي مستقل، لن ينهيَ الحرب بالكامل. داعش تنظيم نتج عن منظومة فكرية ولّدت وستولّد الكثير من التنظيمات الأخرى، والاستمرار في محاربة التنظيم دون المنظومة هو انتحار سياسي بطيء سيضرّ بخيارات الدولة الاستراتيجية وسيضع المواطن الأردني أمام بديلين أحسنهما سيء، إما التطرّف أو الصهيونية/الأمريكية.

نحن أمام مفترق طرق هام، وعلى الدولة دراسة وإعادة تقييم الخيارات. الحرب الحقيقية على الإرهاب لا تكون ذات طابع أمني/عسكريّ فقط، وانصياعنا للنهج الأمريكي -الذي يمثّل جوهر الإرهاب- قرار لا يتصالح معه الكثيرون. حربنا يجب أن تكون على عدّة محاور، تبدأ باتباع نهج إصلاحي حقيقي يضمن محاربة الفساد والفقر، إعادة النظر بمعاهدة وادي عربة، وفتح آفاق استراتيجية جديدة لسياستنا الخارجية تمكننا من فك ارتباط الاقتصاد الوطني بالمساعدات الأمريكية، مما يمهد إلى تعزيز السيادة وانفصال القرار.

هل الدولة فعلًا جادة في محاربة الإرهاب بكل أشكاله كجزء من «مصلحة وطنية عليا»؟ أم أنها فقط حرب للنظام مع التنظيمات الإسلامية المتطرفة؛ حرب في حال تصاعد وتيرتها سيدفع المواطن الأردني ثمنها من جيبه ودمه؟ هذا هو الاستحقاق الهام أمام الدولة الأردنية الآن.