رأي | Opinion

تصنيع الصمت: حول حرب الأردن على «داعش»، والسلطوية العربية، والإمبراطورية الأمريكية

الإثنين 23 شباط 2015
Royal-Jordanian-Air-Force

بقلم زياد أبو الريش، ترجمة دعاء علي

(نشر هذا المقال بالإنجليزية على موقع جدلية في 14 شباط 2015).

في 24 كانون الأول/ديسمبر 2014، نقلت داعش ما أكدته قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة من أن الطيار الأردني معاذ الكساسبة سقط في سوريا وأصبح في يد «داعش». في الثالث من شباط/فبراير نشرت «داعش» تسجيلًا مصورًا يظهر عناصرها وهم يقتلون الطيار بالحرق حيًا. توعّد النظام الأردني بالانتقام، وخرج بعض الأردنيين إلى الشوارع معلنين غضبهم وحزنهم. ومن ناحيتها، عززت القوات المسلحة الأردنية حملتها بالقصف في سوريا.

صرفت وسائل إعلام عدة مبلغًا من الجهد لتقدّر ما إذا كانت حرب الأردن على «داعش» في أعقاب أسر وقتل الكساسبة ستغير قواعد اللعبة. من الصعب إيجاد نقد متماسك لهذه الحرب في الإعلام الأردني المحلي، سواء في الإعلام الجماهيري أم في المواقع الإلكترونية الأكثر نقدية. ففي النهاية، يبقى الأردن دولة سلطوية، رسم فيها النظام خطوطه الحمر أمام الحوار العام والمعارضة السياسية بعناية، تاريخيًا وحاضرًا على حد سواء.

تصنيع الصمت

أبلغ النظام الأردني جمهوره ووسائل الإعلام المحلي فور أسر الكساسبة. في 25 كانون الأول/ديسمبر، أي بعد يوم من الأسر، أعلن النائب العام الأردني أن من يعيد نشر الأخبار التي تصدرها «داعش» أو يستند إلى وسائل إعلام التنظيم من الممكن ملاحقته قانونيًا، كما مُنع أي «تحليل عسكري» يتعلق بالقوات المسلحة الأردنية. في اليوم نفسه، نشرت القوات المسلحة بيانًا تدعو فيه الإعلام المحلي إلى «عدم نشر أية معلومات تمس الأمن الوطني»، في إشارة إلى أنباء تتعلق بأسر الكساسبة. تبعًا لذلك، بات فتح أي نقاش حول أسر «داعش» للكساسبة والحصول على أي رد من القوات المسلحة الأردنية مستحيلًا، لتضيق المساحة الممكنة لأي استجواب أو جدل حول السياق الأوسع لما حصل، أو تفاصيله الدقيقة، أو سياسة النظام العكسرية المقبلة.

إن غياب أي نقد محلي علني وجاد للنظام ليس إدانة للأردنيين، وإنما لممارسات النظام الأردني في إسكات المعارضة. تصوير الأردنيين على أنهم مؤيديون بعيدون عن ممارسة أي نقد، كما قدمتهم عدة مقالات تسبّح بحمد سياسات النظام، هو نتيجة لقراءة خاطئة بالكامل، تشرعن النظام في وقت باتت فيه حركات التظاهر على مستوى المنطقة تتحدى الحكم السلطوي بطرق جديدة.

هل سيستطيع الأردنيون معارضة «داعش» وحرب النظام على الإرهاب في آن واحد؟

ما يدور بالفعل من نقاش عام في الأردن يركز على جاهزيته المزعومة للحرب. أحد المواضيع الرئيسة في هذا النقاش ركز على القدرات العسكرية للأردن والمخاوف من الإنهاك الذي ستسببه حرب طويلة الأمد قد لا تكون محسوبة العواقب. موضوع آخر لهذا النقاش كان التصدعات المحتملة داخل المجتمع الأردني، في حالة شنّ حرب. بالنسبة للبعض، هناك دعم محدود لكن حقيقي لـ«داعش» داخل الأردن، وهو ما قد يهدد استقرار البلد.

لكن في جميع هذه النقاشات، يظل معنى «الفوز» في هذه الحرب غير المتبلورة بلا تفسير حتى الآن، وتبقى الكثير من الأسئلة غير مطروحة (إن لم تكن مقصاة عمدًا، كما تشير لميس أندوني). هل يمكن تبرير أساليب هذه الحرب حتى وإن كانت حربًا يمكن الفوز بها؟ ما هي مسؤولية النظام الأردني فيما يتعلق بالمعايير الدولية لممارسات الدول؟ لماذا وجد الأردنيون أنفسهم في حداد على أحد أبنائهم أساسًا؟ هل سيستطيع الأردنيون معارضة «داعش» وحرب النظام على الإرهاب في آن واحد؟ يمنع الخطاب العام طرح هذه الأسئلة -سواء في الأردن أو في الولايات المتحدة، على اختلاف الأسباب- دامجًا بكفاءة بين آراء الخبراء في سياسات الدول السلطوية ومعجم الحرب على الإرهاب، ليصنّع صورة توحي بالدعم الشعبي. في تلك الصورة، تبدو الحرب التي يشنها النظام ضرورية ولا مناص منها.

أسئلة لا إجابة لها

تهدد «داعش» العديد من المدنيين الذين وجدوا أنفسهم تحت حكمها، أو في طريقها، أو على الطرف المستقبل لهجماتها العسكرية. لدى «داعش» القدرة على قتل جميع أسراها، سواء أكانوا عسكريين أم لا. ولديها كذلك القدرة على إحراق أحدهم وتصوير موته ونشر الفيديو. كل هذا جدير بالإدانة.

في أعقاب نشر الفيديو، شنّت القوات المسلحة الأردنية حملة قصف شديدة على معاقل مزعومة للتنظيم، ليصرح ناطقون باسم النظام أن عشرين بالمئة من قوة «داعش» العسكرية قد دمّرت، وهو ما نقلته وسائل إعلام ومحللون لشؤون الشرق الأوسط كما هو دون أي تحقق. لكن النظر بعمق في تلك الأنباء يكشف بعض المبالغات والاحتفاء غير النقدي.

القصف الذي قادته الولايات المتحدة لمواقع «داعش» بدأ في آب/أغسطس 2014 واستمر في التوسع مذّاك. بحلول أيلول/سبتمبر 2014، كانت وسائل الإعلام تتحدث عن أكثر من 204 غارة لقوات التحالف ضد «داعش». هذا الرقم تجاوز 1300 غارة في كانون الأول/ديسمبر، ثم 1600 غارة في كانون الثاني/يناير 2015. على مدى الفترة التي نُفذت فيها هذه الهجمات، لم يُنقل أي خبر موثوق يفيد بأن قوات التحالف قد اقتربت من تدمير عشرين بالمئة من قدرات «داعش».

نحن مطالبون اليوم بأن نصدق أن الغارات الجوية الأردنية قد أضعفت، في أقل من أسبوع، قدرات «داعش» بأكثر مما أضعفتها ستة أشهر سابقة من غارات التحالف. لماذا كان الانتقام العامل الوحيد لتفسير التضارب في هذه الحقائق؟ إن الاكتفاء بعامل الانتقام سيؤدي، في المحصلة، إلى إنتاج تصوّر بطولي (وصعب التصديق) للنظام الأردني، وذلك هو خطره. تصوّر كهذا لن يكون حميدًا بالتأكيد، إذ سيخلق شرعية لنظام سلطوي حرم غالبية شعبه من الشفافية والمحاسبة والعدالة الاجتماعية.

فوق ذلك، من الذي يرفع صوته لأجل المدنيين الذين يعيشون تحت حكم «داعش» ويتعرضون اليوم إلى أساليب الحملة العكسرية للنظام، من «الصدمة والترويع» إلى «المسح عن وجه الأرض»؟ نظرة خاطفة على تغطية خبر مقتل كايلا مولر تظهر أن وسائل الإعلام مترددة (بل ربما غير مهتمة) في البحث في احتمالية أن تكون الغارات الأردنية هي التي قتلت مولر، لا «داعش». لم يكن موت مولر استثنائيًا سوى في أنها وحدها حظيت باعتراف وتغطية وسائل الإعلام الجماهيرية في الأردن والولايات المتحدة. رغم ذلك، فإن نقص الاهتمام بسبب وفاتها يكشف أن مصالح الولايات المتحدة والنظام الأردني هي ما يحدد سياساتهما، لا سلامة السوريين والأردنيين أو أي مدنيين آخرين. لقد حاول المدنيون في الرقة مرارًا تعداد موتاهم نتيجة القصف الأمريكي والسوري لأهداف من «داعش» (انظر/ي على سبيل المثال هنا وهنا). حين تدعّي قوة مسلحة (كنظام الأسد أو قوات التحالف أو سلاح الجو الأردني) أنها ستقصف «عاصمة» عدوّها، فإن أكثر من 200,000 مدني يعيشون تحت حكم هذا العدو سيخضعون إلى أهوال لن تتم تغطيتها، إلى جانب الواقع المأساوي أصلًا للعيش تحت حكم «داعش».

من الذي يرفع صوته لأجل المدنيين الذين يعيشون تحت حكم «داعش» ويتعرضون اليوم إلى أساليب الحملة العكسرية للنظام، من «الصدمة والترويع» إلى «المسح عن وجه الأرض»؟

هل نسينا «الهجمات الدقيقة» و«القنابل الذكية» التي استخدمتها الولايات المتحدة في غزوها واحتلالها ومكافحتها للتمرد في العراق؟ هل نسينا غارات الطائرات بلا طيار في أفغانستان وباكستان واليمن وغيرها؟ كلنا نعي تمامًا أن الحرب على الإرهاب قتلت من المدنيين أكثر مما قتلت من كوادر «القاعدة» أو «داعش». النظام الأردني في المقابل لم يكلّف نفسه حتى ليدّعي تنفيذ «غارات دقيقة» أو استخدام «قنابل ذكية». من الواضح أن قلب هذا التحالف العسكري الدولي الذي رأيناه نفسه في 2001 و2003 و2011 والآن في 2014 (رغم السياقات شديدة الاختلاف) لم يتعلم من دروس العراق والحرب الأوسع على الإرهاب. خلاصة تلك الدروس كانت أن التدخل الأجنبي والعكسرة والتفكير قصير الأمد سيخلقون مشاكل طويلة الأمد دومًا. تلك الدروس تشمل أيضًا أن دفع جمهور من المدنيين نحو التوحش باسم الحرية سينبت الاستياء العميق والاغتراب والتطرف. إن رفض الاستفادة من هذه الدروس يفسّر جزئيًا دعم الإدارة الأمريكية للسياسة العسكرية العربية، فقد استخدم باراك أوباما منطق «هذه مشكلتكم؛ تعاملوا معها»، وبذلك، فقد حمت الإدارة الأمريكية  تدخلها العسكري «الذكي» بنظر البعض من الانتقادات التي تركز على ما تسبب به هذا التدخل من دمار في البنية التحتية وضحايا من المدنيين والتداعيات الاجتماعية والسياسية لذلك.

هناك حتمًا فروقات بين الحرب الأردنية على الأرهاب، والحرب الأمريكية على الإرهاب، والحرب المصرية على الإرهاب. لكن هناك عنصر واحد يجمعها جميعًا: لا أحد يتحدث عن المدنيين العالقين على خط النار بين حكم «داعش» وغارات التحالف. أين التقزز والازدراء تجاه قتل المدنيين وحرق الجثث والتهجير الذي تسببت به الحكومات الأمريكية والأوروبية والعربية؟ وأين استنكار الأصوات نفسها للجثث المهترئة المقطّعة في غزة؟ لماذا كان حرق معاذ الكساسبة في الرقة أشد فظاعة من حرق الولايات المتحدة لعائلة كاملة بصاروخ «هيلفاير» في اليمن أو حرقها صبيًا بالفسفور الأبيض في الفلوجة؟ لماذا كان أشد فظاعة من قتل شيماء الصبّاغ في وضح النهار في القاهرة؟ من يتحدث عن المدنيين الذين يموتون تحت مطر القذائف الأمريكية التي يسقطها الأردن على الرقة وغيرها؟

علينا جميعًا إدانة مقتل الكساسبة، لكن هذه الإدانة عليها أن تكون موجهة بالحدة ذاتها للولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين، والتركيز على الجانب الأدائي من وحشية «داعش» فحسب سيجعلنا نفقد الربط الجوهري بين المسألتين. تنتج «داعش» فيديوهات تظهر وحشيتها كجزء من استراتيجية لا تتبعها الولايات المتحدة (وتوافقها في ذلك وسائل الإعلام الأمريكية)، لكن الجنود الأمريكيين احتفلوا مرارًا وبطرق شتى بالوحشية والتعذيب ونشوات القتل منذ بدء الحرب على أفغانستان. هوليوود كذلك كررت الممارسات ذاتها عبر التمجيد والاحتفاء بلا حياء بالوحشية الأمريكية في أفلام حديثة مثل «القناص الأمريكي» و«30 دقيقة بعد منتصف الليل».

تواطؤ تاريخي

إن «داعش» مشكلة للمنطقة وتهديد للمدنيين العالقين في شبكاتها، لكنها جزء من قصة أطول بكثير علينا أن نتحمل مسؤوليتها بحزم. «داعش» هي نتاج أكثر من إرث؛ إنها ابنة سجون صدّام حسين وتعذيبه وقتله، التي ترعرت في الحضن الذي خلقه تدمير الولايات المتحدة للدولة والمجتمع العراقيين خلال فترة العقوبات ثم الغزو والاحتلال الأمريكيين. «داعش» غذتها كذلك السياسات الطائفية ورعاية المليشيات للسياسة الأمريكية في مكافحة التمرد، لتنطلق مع الضوء الأخضر الذي منحته الولايات المتحدة والسعودية وتركيا لكل من أراد تمويل المعارضة المسلحة ضد بشار الأسد.

هذا تاريخ يعرفه بعضنا، وهو تاريخ ينبغي أن نعود إليه ونبدأ منه حين نقيّم سياسة النظام الأردني، فنسيان هذا التاريخ -الذي كان النظام الأردني جزءًا منه- يعني جعل جريمة قتل الكساسبة في صالح العلاقة الاعتمادية بين السلطوية العربية والإمبريالية الأمريكية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية