حوار يومي في اللغة العربية الفصحى وأشياء أخرى

الخميس 26 آذار 2015
arabic-language-discussion

بين الحوارات العديدة التي تدور في مكتب حبر، ظل النقاش حول مقاربات اللغة العربية الفصحى حوارًا -وأحيانًا شجارًا- ثابتًا وشبه يومي، بين من يجلّ قواعد اللغة ويصر على ضرورة التزامها ومن يرى فيها عبئًا يجب التخلص منه لتحقيق هدف اللغة الأصل، التواصل. حلقات الحوار تتالت إلى الحد الذي باتت تحتاج فيه إلى تنظيم وتوثيق. إليكم جزءًا من هذا النقاش الدائم، كما دار بين عضوين في فريق حبر.

سفيان: في العام الماضي، وكما هو معتاد، نُشر قاموس أوكسفورد الجديد، والذي احتوى على كلمات جديدة مثل «beatboxer». إذا حاول الطالب العربي البحث في معجم مختار الصحاح الشهير، والذي يعود الى القرن السابع الهجري، فهل يمكن أن يجد  فيه مقابلًا لكلمة beatboxer؟ أم أن تلك الكلمة سخيفة ولا تتطلب من النحاة أي جهد لإدراجها في المعجم؟ طبعًا هناك عدد من  المعاجم العصرية، ولكنها ليست عصرية لحد إدراج كلمة كتلك. ربما إن انتظرنا قليلًا (١٠٠ سنة زمان) سنجد من مخرجات أحد مؤتمرات المجامع اللغوية مرادفًا كمطبال أو طابول أو مطبلة (هاها). وبالطبع لن يكترث أحد لترجمة كهذه وستظل كلمة beatboxer الدارجة.

من منا يستخدم كلمة هاتف للإشارة إلى التلفون أو وسم للإشارة إلى هاشتاغ؟ الأمثلة على تلك الترجمات الهزيلة متعددة، والسبب وراء عدم استخدامها بسيط، فكلمة هاتف هي الترجمة التي أطلقتها مجامع اللغة العربية على كلمة telephone الإنجليزية. لكن وصول التلفون إلى حيز الاستخدام سبق وصول الكلمة هاتف إلى حيز البحث في أروقة النحاة واللغويين، مما عنى أن الناس تبنوا الاسم الذي سُوّق المنتج معه. ثم أليس اختراع الهاتف بحد ذاته عملًا مهمًا ويستحق صاحبه الحق في تسمية المنتج؟ من المؤكد أن التقليد العلمي يفرض ذلك الحق للمكتشف في كل المجالات، وهذا التقليد هو الذي حفظ للنجوم أسماءها الأصلية التي أطلقها العرب حتى اليوم. فلماذا نصر على تجاهل أهمية الأمانة العلمية المتضمنة في استخدام المصطلحات كما أطلقها مخترعها؟ وهل نحن أمام مشكلة أعمق في تكوين وتاريخ اللغة العربية؟

دعاء: كيف انتقلت من مشكلة قلة التعريب أو ضم الكلمات إلى العربية إلى الحديث عن «مشكلة أعمق في تكوين وتاريخ اللغة»؟  دعنا نبحث في التفاصيل ولا نقفز لمحاولة الإجابة عن أسئلة كبرى من هذا النوع.

لا يمكن إنكار تسارع انتشار المصطلحات والتعابير التي ليس لها مقابل في العربية، لكن قصر هذا «العجز» على العربية مضلل. أولًا، يمكن قول الكثير حول الكلمات العربية التي لا مقابل لها في لغات أخرى (ترجم مشرئبّ مثلًا)، لكن إن كنا نتحدث قصرًا عمّا يفرضه السوق من مصطلحات، فنزعة تكييف التعابير الأجنبية داخل كل لغة أمر يعم على كل اللغات. هل يعاب على العربية ترجمتها television إلى تلفاز ولا يعاب على الإسبانية ترجمتها إياها إلى televesor؟ إن الحاجة لتحوير بنية الكلمة بحيث لا تشذ في الجملة التي توضع فيها، إن لم يكن ترجمتها، ليست ضعفًا. بالطبع، هناك كلمات تشيع بشيوع المنتج الذي تشير إليه، لكن ترجمتها ليس باللصوصية التي تصفها بها، خاصة وأن الكثير من الشركات تطرح منتجاتها هي بلغات أخرى. هل الواجهة العربية لتويتر، والتي تحوي كلمات مثل تغريد مقابل tweet وتفضيل مقابل favorite، تهدد حقوق مخترعيها؟ أعلم تمامًا أن هذه الكلمات لن تكون بشيوع مقابلاتها الإنجليزية، ولا أريد تكرار الحديث المبتذل عن طغيان حضور الإنجليزية عالميًا وما وراءه من أسباب اقتصادية وسياسية، لكن التسليم بأن مجرد الترجمة أو تحوير هو دلالة على خلل بنيوي في اللغة مغالطة واضحة.

ثانيًا، في ما يتعلق بتجديد المعاجم ومواكبة المجتمع بضم الكلمات المتداولة، فصحيح أن هناك تباطؤًا شديدًا في ذلك، كونه يتطلب جهدًا مؤسسيًا لا يُبذل، كحال معظم الأعمال المؤسسية في العالم العربي، لكن ذلك لا يعني انعدام جهود كهذه خارج  تلك المؤسسات. محاولات تفصيح كلمات عامية وإدخالها إلى اللغة الصحفية مثلًا هي جهد مستمر منذ سنوات، وبالإمكان القول إنه أثمر بتطوير القدرة على وصف أدق للمجتمع وتياراته (وإن كنت لا ترى ذلك أو لا تريد أن تراه)، حتى وإن كانت بعض القنوات التي تقدم عبرها هذه الجود غير ناضجة ومقتصرة على الطابع الكوميدي (انظر/ي تعريف «ورع» أو «إشطة» مثلًا).

سفيان: أعتقد أنك غفلت عن النقطة التي كنت أريد إيصالها، وهي بالتحديد النقطة التي توصلنا إلى افتراضي بأن هناك مشكلة جذرية في اللغة العربية. ما كنت أحاول أن أصل إليه هو أن اللغة العربية لا تتطور بشكل طبيعي، بل في أروقة النخبة الحامية لها. فبنظرة بسيطة إلى تاريخ أي لغة من اللغات المحكية كاللغة الفرنسية، نجده ينقسم إلى قسمين: التاريخ الخارجي والدال على التغيرات التي أدخلتها عليها عملية التوسع إلى أراض جديدة، والتاريخ الداخلي أي التعديلات التي أدخلت على اللغة وقواعدها في الإطار الأكاديمي. وبالمقارنة نستطيع اختصار التطور في قواعد اللغة العربية بفترة ما بين أبو الأسود الدؤلي وسيبويه، أي ما يساوي حوالي الستين عام من النحو الذي اخترعه أبو الأسود ووثقه سيبويه، وكل ما جاء بعد ذلك هي إضافات بسيطة للغاية. فلماذا تشذ اللغة العربية عن هذا الركب العالمي من التغيير؟ وهل من المعقول أن نمارس لغة عالقة في القرن الثامن الميلادي؟

الحقيقة أننا لا نمارس اللغة العربية الفصحى في بيوتنا، إنما فقط في الإطار العام وذلك يتفق مع نهج عام من التقييد على الفضاء العام الممارس من قبل المجتمع. فمن منا يستطيع أن يخرج على أي من أفكار الماضي علنًا دون التعرض للتشهير؟ أو التعرض للاتهام بالتخلي عن التراث ومعارضته كوسيلة للانقلاب على العادات والتقاليد؟ كما يوضح موقع الإخوان المسلمين في صفحة المؤامرة على اللغة الفصحى لغة القرآن، فرفض التطوير في حقيقته هو مجرد ممانعة للتغيير، التغيير الذي سيفرض على اللغة العربية والمجتمع التخلي عن القديم أمام الجديد. والثمن الذي ندفعه يوميًا مقابل تأجيل هذه المعركة لا يقتصر على تقييد الفكر والحاجة إلى التطوير، بل يتجاوزه إلى العالم المادي. فاللغة العربية الفصحى بنظامها وقواعد كتابتها العتيقة تم فرضها على العالم الرقمي أيضًا بالرغم من المعيقات العديدة لذلك. فمثلًا لا يستطيع الناشر العربي طباعة أكثر من ٣٠٠ كلمة عربية في صفحة تتسع لـ ٤٠٠ كلمة إنجليزية. وكل ذلك الهدر للورق والمساحة هو ناتج فقط عن رفض مجامع اللغة العربية لتبني أشكال أكثر انضباطًا للأحرف العربية، كأن تقف النهاية النازلة لحرف الحاء في آخر الكلمة عند حد الراء ونهاية الباء عند حد الدال مثلًا.

arabic

والمبرر وراء تلك الممانعة كما قال لي أحد أساتذتي المتخصصين في الخط العربي: حتى لا تتحول أشكال الحروف إلى Museum Material. الملفت في ما قاله شيئان، الأول أنه اضطر إلى اللجوء لمقولة إنجليزية لتأدية المعنى، والأمر الثاني أنه يتصرف تمامًا كما تصرفت الدولة العثمانية عندما بدأت آلة الطباعة بالانتشار عالميًا، فقامت بمنعها وتحريم استخدامها خوفًا من التحول من تخطيط القران إلى طباعته. طبعًا من المعروف أن التخطيط اليوم ليس أكثر من Museum Materia.

دعاء: مغالطات، مغالطات. أولًا: في الحديث عن أن استخدام الفصحى هو جزء من «أفكار الماضي» التي لا يمكن مسّها تعميمٌ باطل. هناك الآلاف من «أفكار الماضي» التي تُهَشّم يوميًا في منابر عدة. كونها من الماضي لا يجعلها ذات حصانة، لكنه لا يستوجب هدمها بالضرورة. صحيح أن هناك مقاومة للتغيير والنقاش حول المسلّمات في الفضاء العربي العام إجمالًا، لكن مظلومية الحجة لا تجعلها بالضرورة صحيحة، فلا داعي لاستدرار العواطف.

ثانيًا، إن الربط بين قمعية المجتمع العربي عمومًا و«جمود» اللغة غير علمي البتة. هل يجب أن تعتمد الحركات المعارضة أو الثورية في العالم العربي العاميات المحلية بدلًا من الفصحى من باب الافتكاك من قمع السلطات مثلًا؟ هل سيجعلها بالضرورة أكثر قربًا للناس؟ إن كان الفضاء العربي مقموعًا من قبل جهة تعتمد اللغة العربية الفصحى فمن السخافة اعتبار محاربة الفصحى سبيلًا لازمًا لمحاربة تلك السلطة. ما يجب محاربته هو الخطاب والنفوذ، لا اللغة.

ثانيًا، إن المساواة بين المتمسكين بموقف من اللغة العربية قد تعتبره محافظًا وبين الإسلاميين وموقفهم من اللغة العربية المبني على أسس دينية هو قفز على الحقائق وتجيير للمواقف الأيديولوجية في نقاش نظري نحاول ونحتاج أن نعلمنه ونعقلنه. تجميع معارضيك في خانة واحدة هو كسل فكري في أحسن الأحوال وتضليل متعمد في أسوأها. الأهم من ذلك، هو أن هذا الربط الجائر هو تكريس للعلاقة التي تحاول أنت انتقادها بين الدين واللغة، وهي العلاقة التي غلّفت العربية بتقديس يبطئ تقدمها.

أخيرًا، عند الحديث عن اقتصاد المساحة في العربية، فإنك تغفل مسألة أساسية جدًا: اللغة العربية تختصر الكثير من الكلمات والحروف مما يغير بنية الجملة جذريًا، بإضمار العديد من الأسماء والأفعال، واتصال بعضها بالكلمات التي تسبقها. هذا الاختصار يعوض أكثر مما تستهلك أشكال الحروف. اسأل أي مترجم/ة وسيخبرك أن عدد الكلمات يقل عند الترجمة من الإنجليزية إلى العربية. أنا مثلًا ترجمت 22 صفحة من الإنجليزية إلى العربية لتصبح 18 صفحة، بالتنسيق نفسه.

سفيان: أولًا، أنا لم أقل أن مجرد قمع الرواية التي أؤيدها يعطيها أفضلية، لكنني أقول أن عدم ممارسة العربية الفصحى في الخاص وممارستها في العلن هو نتاج لهيكلية المجتمع في قمع ما يراه الحديث المدنس مقابل إبراز القديم المقدس.

أما فيما يتعلق بالمساواة بينك وبين الإسلاميين ممن يحملون موقفًا مشابهًا، فحاليًا أنا أناقشك أنت، لكنني أوجه سهامي لكل المعسكر المقاوم للتغيير على حد سواء. قد يكون هناك اختلافات بين المواقف ضمن المعسكر ذاته ولكن ذلك يعود لك لتوضيحه.

أما بالنسبة للاختصار البلاغي في اللغة العربية، جيد ولكنه ليس موضوع بحثنا. إذا كان من الممكن طباعة الـ18 صفحة على 15 فما المانع؟

دعاء: يا سلام؟ ليس موضوع بحثنا؟ إمي اللي جابت سيرة اقتصاد المساحة وضرورة تقليص حجم الأحرف؟

سفيان: أنا أتحدث عن اقتصاد المساحة عبر «التايبوغرافي» فقط لا عبر البلاغة، لاعتقادي بأن ليس كل النصوص قابلة للاختصار بلاغيًا. على أية حال، قد لا تكون تلك مشكلة جذرية. عودًا لموضوع الموقف وبوضوح، أنا لست ضد قواعد اللغة الفصحى ولا مع استخدام العامية بلا قواعد. أنا مع لغة مبسطة القواعد هي مزيج من العامية في كل بلد والفصحى، يعني في الأردن أردني وفي لبنان لبناني. والسؤال الآن عن معسكر اللغة الفصحى، إن لم يكن طرحه بالضرورة طرح المؤسسات المتحجرة ذات الهاتف والتلفاز، فماذا يقترح لتطوير اللغة؟

دعاء: يقترح تطويرها بالممارسة والتكييف المستمرين. دع الحاجات تستدعي الاختراعات، ودع الشارع المتحدث بالعربية والساعي لتطويرها يجد طريقه في ذلك شيئا فشيئًا. ألم تتطور اللغة العربية الصحفية منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن لتصبح أبسط وأدق وأكثر مباشرة وعملية؟ بعض النظر عن مآسي محتوى الصحف العربية، لا يمكن إنكار أن عموم الكتاب في القرن الماضي قد دفعوا اللغة إلى الأمام ومنحوا صحفيي اليوم على الأقل تصوراً عمّا تبدو عليه اللغة الصحفية الصلبة والواضحة. كل هذا مقابل ما تصر عليه من الحصول على إقرار بأي تغيير من مجمع اللغة العربية، رغم ما يعنيه ذلك من تكريس لسلطته بالتغيير من أعلى إلى أسفل.

سفيان: لا أطلب التغيير من مجامع اللغة المهترئة، بل من المثقفين والمتحدثين باللغات العامية. فالتغيير بالطريقة التي تصفين لن يطول فحسب، بل لن يأتي إلا وقد نسيت الأجيال اللغة العربية من الأساس! وأفظع ما تطلبينه هو الإقرار بقداسة اللغة العربية، مما قد يسوق إلى الخوف عليها من التغيير. والخوف على اللغة هو فقط شكل من أشكال الخوف من التغيير، وإساءة فهم الغاية من اللغة والفرق بينها والفن، فاللغة هي أداة للاستخدام لا للزينة. أما أن تتحول الى مقدسات وأشكال فنية فذلك بالضرورة يضر بوظيفتها العملية. فلا يوجد مانع من تعلم «صحاح الكلام» أو الكتابة بخط جميل إن أردنا ذلك في الفن والخطابة والشعر، كأن نجد أحيانًا  في اللغة الإنجليزية العديد من المصطلحات أو المقولات اللاتينية للدلالة على مفهوم معين، أما أن نفرض على الجميع تعلم اللاتينية فهذا أمر سخيف. والاستمرار في ممانعة التغيرات على اللغة العربية ليس أقل سخافة من ذلك، فهو سيحولها يوما بعد يوم إلى Museum Material، تمامًا كما هي تكاد تكون اليوم وكما يحاول حماة التراث حمايتها منه.

هنا، يحتد النقاش عادة فيتدخل آخرون لإنهائه بحزم قبل أن يتطور إلى عراك بالألسن وأحيانًا بالأيدي والأدوات المكتبية، ثم يعود كلّ إلى عمله، لكن فقط إلى حين.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية