في ذكرى المجزرة: فيلم «جنين جنين»، رواية المخيم بلسانه

الأربعاء 15 نيسان 2015
Jenin Refugee Camp

في مثل هذا الأسبوع قبل 13 عامًا، أسدل الستار على الاجتياح الدامي لمدينة جنين ومخيمها، بعد أن تمكنت قوات الاحتلال الإسرائيلي من التوغل في الأول من نيسان 2002، بعد أكثر من شهر من الحصار. كانت بداية معركة ضد أهالي المخيم والمدينة من المدنيين والمقاتلين المدافعين عن ما تبقى من سيادة على أراضيهم، انتهت بمجزرة في مخيم جنين بعد مسح مباني وتسويتها بالأرض. استخدمت إسرائيل كافة أنواع الأسلحة من طائرات الأباتشي والإف 16 إلى الصواريخ والدبابات والأعداد الهائلة من الجنود.

لم تتوقع إسرائيل أن يملك الممثل والمخرج الفلسطيني الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية محمد بكري جرأة تصوير فظاعة الاحتلال في تلك المجزرة في فيلمه «جنين.. جنين»، والوقوف في وجه التهديدات التي تعرض لها خلال محاولته عرض الفيلم، الذي قُتل منتجه إياد الصمودي أثناء تصويره، ليهدى الفيلم إليه.

تمكن البكري من الوقوف أمام المحاكم الإسرائيلية ليدافع عن فيلمه بعد عامين من حجبه في إسرائيل. وبالرغم من أن ما دفع بكري لتصوير الفيلم كان تعريف الناس ببشاعة العقاب الجماعي الذي سلطته إسرائيل على الفلسطينيين بعد عمليات التفجير خلال الانتفاضة، إلا أن بكري وجد نفسه وحيدًا مع فيلمه. فقد بُث الفيلم على قناة المستقبل اللبنانية فقط رغم محاولات لبثه على محطات عربية، ولم يخرج من إطار المهرجانات.

سخط إسرائيل

بالرغم من تواضع هذا الفيلم تقنيًا، وكونه أنجز خلال فترة قصيرة من الزمن، إلا أنه استطاع أن يصور بعض من القصص التي دارت على أرض الواقع. رُفعت قضية على بكري ومنع الفيلم من العرض بحجة أنه غير موضوعي ويظهر جانب واحد للقصة ويحتوي على وقائع مزيفة، إضافة إلى أنه «يحرض على إسرائيل».

بالرغم من أن هذه التهم أسقطت ورفع الحظر عن الفيلم، إلا أن اسرائيل لم تكتفِ بذلك وقررت إنتاج فيلم مضاد هو «الطريق إلى جنين»، يبدأ من عملية تفجير في إسرائيل ويقابل فيه أهالي القتلى. يقودنا الفيلم بعد ذلك إلى أن مخيم جنين يحتوي كميات هائلة من المتفجرات وكان لا بد من قصفه لقتل «المجرمين» والتخلص من أسلحتهم. لا يخلو الفيلم من البروباغاندا الإسرائيلية المعتادة، ولم يسلم محمد بكري نفسه من الفيلم إذ ظهر كـ«متآمر» مع «المجرمين الفلسطينيين». ولعل اللقطة التي تمثل خلاصة هذا الفيلم هي تلك التي تظهر فيها امرأة أجنبية تبكي على أطفال المخيم لأن المقاتلين فيه «يجندونهم» ضد الجيش الإسرائيلي.

التقنية أمام المضمون

لم يكن فيلم جنين جنين الأكثر إبهارًا من الناحية الفنية أو التقنية، إلا أن المحتوى والتوثيق الذي قام به كان مذهلًا، علمًا بأنني  لا أبرر التغاضي عن الصورة لصالح المحتوى في الأفلام الوثائقية، إلا أن بكري لم يفعل ذلك تمامًا وحاول بإمكانياته المتواضعة في تلك الظروف ووقته المحدود أن يخرج أفضل ما استطاع. لم يتوجه بكري للبحث والتنقيب في أوراق رسمية أو تصريحات ومعلومات، بل توجه إلى الميدان فورًا، فبدأ الفيلم وانتهى على أرض المخيم؛ أرض المعركة.

حمل الفيلم رسائل قوية جدًا وشهادات لم نراها في الإعلام، إذ جلس بكري مع الضحايا والأطفال، الذين نقلوا الصورة كما دارت حولهم بمعرفتهم الشخصية. لم يكلف بكري أي من المتحدثين بتحليل أو تأويل ما يحصل، بالرغم من إصراره على إظهار رؤيته الشخصية التي لربما صورت المخيم كما لا يراه أصحابه في بعض اللقطات، إلا أنه كان صادقًا وأظهر ما قالوه كما قالوه بكل إنصاف.

وقع بكري في بعض الأخطاء التصويرية الفظيعة، فحاول تجييش المشاعر بلقطات مقربة جدًا للمقابلين وموسيقى درامية، علمًا بأن رواية القصة بحد ذاتها كانت لتكون كافية لتدافع عن نفسها. الموسيقى كانت أيضًا مبالغ فيها نوعًا ما، وربما التنازل عنها كليًا كان ليكون أفضل، إلا أن هذا يعود لوجهة نظر المخرج ويعتمد على ذائقته، وربما نجح من منظوره الخاص.

رواة الفيلم

لعل إحدى أقوى لقطات الفيلم كانت لرجل عجوز لم يستطع تذكر اسم أريئيل شارون. يجلس العجوز على أحد أسرة مستشفى جنين وتبدو على وجهه ملامح الإرهاق والتعب. يروي قصته وما دار معه في المخيم، إذ ظن أن سنه سيشفع له أمام الجنود، لكن ذلك لم يحصل إذ أصيب بعيار ناري في قدمه بعد أن أخبر الجنود أنه لا يستطيع الحركة. اختار بكري شخصيات متنوعة ومختلفة، كلٌ يروي المجزرة كما رآها وكما يظن أنها حصلت.

نقطة أخرى تحسب لبكري أنه اختار شابًا أصم ليروي قصة الاجتياح ويسلسل الفيلم من خلاله، وكأنه يقول أننا لسنا بحاجة للكلام فعلًا لنرى ما حصل. يعيد هذا الشاب الأحداث كما رأها ويقلد حركات الجنود وتعبيرات وجههم وأحيانًا يحاول أن يوصل الأصوات التي كان يسمعها، وهنا يساعده بكري بإضافة أصوات من قصف المخيم كمؤثرات مصاحبة.

لماذا هو مهم؟

كانت الضفة الغربية بأكملها تمر بحصار شديد، والمعارك كانت في أكثر من مدينة لا في جنين وحدها، لكن المعركة الأشد هي التي دارت على أرض مخيم جنين. كانت الخسائر ثقيلة، لكنها أثبتت قدرة هذا المخيم على الصمود لفترة طويلة. وعلى الرغم من أهمية المعركة، إلا أننا لم نرَ العديد من التوثيقات التي تقدم تغطية عادلة ومرضية للذين مروا بتلك التجربة. فقد كانت هناك أعمال أخرى حاولت توثيق الحدث، لكن «جنين جنين» كان أكثر الأعمال المكتوبة أو المصورة إنصافًا لرواية أهل المخيم لما حصل فيه. ولعل ما يثير السخرية هو تحول بعض مشاهده لاحقًا إلى لقطات في أوبريتات تجارية مبتذلة.

إن مشاهدة هذا الفيلم الآن طقس مهم أيضًا لنتذكر ما حصل منذ 13 عامًا في مخيم جنين. وبالرغم من أن الفيلم لم يبث على محطات عربية، لكنه متوفر على الإنترنت بعيدًا عن سيطرة إسرائيل أو حكومات عربية خائفة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية