رأي | Opinion

عن فلسطين اللاجئة في سوريا، وسوريا المعتقلة في «فلسطين»

الثلاثاء 21 نيسان 2015
SYRIA-CONFLICT-YARMUK

لا يظهر من جثته سوى صدره الهزيل وذراعه التي وشم عليها خارطة فلسطين وورقة كُتب عليها: «الجثة 2065 لصالح 227». يبدو من البديهي التضامن مع هذا الشهيد والتماهي معه، ليس بدافع إنساني فحسب بل لأسباب «وطنية» أيضًا: فالشاب واحد «منا»، ونحن شديدو التعلق بالرموز. لا بد إذن أن تتحرك مشاعرنا وترتعش قلوبنا لدى مشاهدة صورة قاسية لجثمان لاجئ فلسطيني حفر خارطة الوطن بألوان علمه على ذراعه وذوى جسده تحت وطأة الاعتقال والتعذيب.

إلا أن معرفة هوية القاتل كفيلة أحيانًا بتحطيم البديهيات والمسلّمات واستبدال الـ«نا» الدالّة على النحن بالهاء الدالة على الغائب، وجعل التضامن الوطني طقسًا انتقائيًا وتحويل الشهيد إلى «قتيل» وغض الطرف عن الجريمة ومرتكبها.

مجزرة الصور

صورة صاحب الوشم كانت إحدى الصور الأكثر تداولًا من بين آلاف الصور المسرّبة لضحايا اعتُقلوا منذ اندلاع الانتفاضة السورية وسقطوا تحت التعذيب في السجون والأقبية التابعة للنظام السوري وأجهزة أمنه ومخابراته. ويعود مصدر الصور إلى مصوِّر انشق عن الشرطة العسكرية أُطلق عليه لقب «القيصر» لدواعٍ أمنية، وقد قام بتسريبها إلى الأمم المتحدة قبل أن تنشرها عدة مواقع على الإنترنت في مطلع شهر آذار/مارس الماضي.

وفي تقرير لها حمل عنوان «مجزرة الصور»، وثّقت «مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا»، وهي مجموعة معنيّة برصد وتوثيق الانتهاكات التي يتعرض لها فلسطينيّو سوريا، أسماء 39 لاجئًا ولاجئة تم التعرف إلى جثامينهم من خلال الصور المسرّبة بعد التدقيق مع ذويهم. ويشمل التقرير الضحايا الذين نجحت «مجموعة العمل» بالتحقق من أسمائهم حتى 19 آذار الماضي. لكن «المجموعة» التي تتخذ من العاصمة البريطانية لندن مقرًا لها رجّحت أن العدد قابل للارتفاع نظرًا لكثرة الصور واستمرار عملية التدقيق.

حصة مضمونة من المعاناة

كسائر فصول المأساة السورية التي يشاطر فيها فلسطينيّو سوريا سوريّيها حصتهم من المعاناة والقصف والحصار والتهجير، يحضر ملف الاعتقال السياسي والإخفاء القسري في سوريا، بما ينطوي عليه من تنكيل وتعذيب وتصفيات جماعية داخل أفرع الأمن، ليؤكّد على وحدة الحال والمآل.

ما من معطيات دقيقة بخصوص أعداد المعتقلين الفلسطينيين في سوريا، ذلك أن المنظمات الحقوقية والجهات الإعلامية المستقلة ممنوعة من تقصّي الأوضاع في المعتقلات، سواء تلك الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، أو سيطرة الكتائب المسلحة المعارضة أو التنظيمات الجهادية، والتي تعتقل وتختطف وتغيّب هي الأخرى مدنيين سوريين وفلسطينيين.

ويزيد من صعوبة الأمر إحجام بعض ذوي المعتقلين عن الإفصاح عن اعتقال أبنائهم، ظنًّا منهم أن التكتم أفضل لضمان سلامة المعتقل أو المعتقلة، وتوخّيًا لعواقب النشر المحتملة على المعتقلين وعائلاتهم. ويتضح ذلك من خلال رسالة وجّهها شاب فلسطيني سوري استشهد إخوته الثلاثة تحت التعذيب في سجون النظام. ناشد الشاب «منظمة التحرير الفلسطينية» التدخل من أجل إنقاذ المعتقلين المتبقّين قائلًا: «لي ثلاثة إخوة استشهدوا تحت التعذيب، تعرفت عليهم من الصور المسربة… لا يمكنني نشر خبر استشهادهم لأن لي أخًا وأختًا ما زالا في المعتقل، وأخشى عليهما فيما إذا نشرت أي شيء، وما من أي معلومة عنهما منذ اعتقالهما».

على الرغم من شحّ المعلومات المتوفرة وصعوبة التوثيق، فإن «مجموعة العمل من أجل فلسسطينيي سوريا»، التي اتسمت تقاريرها بمهنية وموضوعية عالية منذ إنشائها، تشير إلى وجود 834 معتقلًا ومعتقلة، يقبع معظمهم في سجون النظام، و272 مفقودًا ومفقودة، وذلك في القائمة التي حدّثتها في 17 نيسان/أبريل 2015.

وبحسب المجموعة نفسها فقد تجاوز عدد الفلسطينيين والفلسطينيات الذين استشهدوا تحت التعذيب في سجون النظام السوري 370 شهيدًا، منذ بداية الثورة السورية وحتى كتابة هذا المقال.

خلاص من الأمل

يصبح الحديث عن الحق بمحاكمة عادلة ونزيهة ورفض الاعتقال التعسفي ترفًا في بلد تستخدم سلطاته الاعتقال الممنهج لا لقمع المحتجّين ووأد الاحتجاج فحسب، بل حتى للانتقام ممّن يعملون في مجال إغاثة النازحين وعلاج الجرحى أيضًا. ناهيك عن الاعتقالات العشوائية على حواجز الأمن والجيش والدفاع الوطني، اعتقال على حاجز قد يكون ثمنه أشهرًا طويلة من الإخفاء القسري وابتزاز أهالي المعتقلين ليدفعوا «ما فوقهم وما تحتهم» للحصول على معلومة صغيرة عن مكان اعتقال أبنائهم.

ولربما مثّلت الصور المسرّبة، مع كل ما تحمله من بشاعة وقسوة، خلاصًا لأهالي المعتقلين الذين لم يتركوا بابًا لم يطرقوه من أجل توّسل طرف خيط يُرشدهم إلى مصير مفقوديهم.

الخلاص الذي يمنحه التعرف بالمصادفة على جثمان ابن أو أخت أو حبيب، عبر صورة مسرّبة، موجع وصادم، إلا أنه أعتقهم من ثِقَل الانتظار والتأرجح بين أمل هشّ ورعب مُزمِن.

عند انتشار خبر استشهاد الممثل والمخرج الفلسطيني السوري حسّان حسّان تحت التعذيب، في كانون الأول/ديسمبر 2013، ورغم تأكيد الخبر، رفض أحد أصدقائه تصديقه متشبّثًا بخيط أمل رفيع، الأمل بأن يكون الخبر كاذبًا، مصرًّا في كل محادثة أنه لن يصدق حتى يرى بأم عينيه. اعتُقل حسّان على أحد حواجز الأمن السوري لدى محاولته مغادرة مخيم اليرموك برفقة زوجته بعد تشديد النظام السوري حصاره للمخيم وازدياد تضييقات الإسلاميين على سكانه. وكان الفنان الذي اشتُهر بتأليف وأخراج مقاطع ساخرة عن وضع المخيم من بين الضحايا الذين تم التعرف عليهم عبر الصور المسربة المنشورة مؤخرًا. انقطع خيط الأمل الأخير الذي عضّ عليه بالنواجذ صديق حسّان، ولعل ذلك أرحم. فالأمل، كما يقول الكاتب السوري جهاد محمد، المعتقل في السجون السورية منذ العاشر من آب/أغسطس 2013، «أمر جميل، بل رائع، لكنه عبء ثقيل إذا ظل معلّقًا بالاحتمالات الضعيفة. الحزن أرحم، والحداد، حتى لو استمر للأبد!».

دماؤهم في رقابنا

أمّا أهالي الضحايا فقد آثروا التحرك، بالوسائل القليلة المتاحة أمامهم، على الحداد، وأصدروا بيانًا في 28 آذار الماضي، أدانوا فيه الصمت المطبق أمام مأساة المعتقلين الفلسطينيين في سوريا واعتبروه تواطؤًا مع الجريمة، مؤكّدين أن دماء أبنائهم في رقاب الصامتين. استنكر الأهالي ما لاحظوه من صمت الفصائل الفلسطينية كافة، والسلطة الفلسطينية المتمثلة بسفيرها في دمشق أنور عبد الهادي خاصة، وتجاهلهم مجزرة التعذيب المتواصلة.

لم تحظ معاناة فلسطينيي سوريا مؤخرًا باهتمام حقيقي إلا بعد اقتحام داعش مخيم اليرموك المحاصر في بداية الشهر الحالي.

إلا أن جميع المناشدات والبيانات أخفقت في استنهاض الحركة الوطنية في فلسطين. لم تُثِر «مجزرة الصور»، منذ كشف النقاب عنها، أي حالة غضب جماعي، ميداني أو حتى افتراضي.

عضو منظمة التحرير الفلسطينية الدكتور أحمد مجدلاني، الذي دعا للتنسيق مع النظام السوري من أجل «تحرير اليرموك»، تجاهل مطالبة هذا النظام بتحرير مئات الفلسطينيين الذين يعتقلهم.

ولم يقتصر الصمت على الفصائل و«منظمة التحرير» والسلطة الفلسطينية، فالشباب المستقلون الذين يُفترض أن يكونوا متحررين إلى حدّ ما من بيروقراطية الفصائل ومصالحها الضيقة وحساباتها الاستراتيجية، مرّوا على الأخبار المتواترة لشهداء التعذيب في سوريا مرور الكرام.

في الواقع، لم تحظ معاناة فلسطينيي سوريا مؤخرًا باهتمام حقيقي، رسمي أو جماهيري، إلا بعد اقتحام تنظيم «الدولة الإسلامية» داعش مخيم اليرموك المحاصر في بداية الشهر الحالي.

لا يمكن فهم هذا الصمت بمعزل عن دعم شريحة واسعة من الحركة الوطنية الفلسطينية لنظام الأسد. فمن أنكر مسؤولية النظام الكبرى عما وصلت إليه الأوضاع في سوريا، ومن صمت على المجازر المتلاحقة التي ارتكبها النظام بحق السوريين، ومن دافع عن العقاب الجماعي الذي يمارسه النظام ضد سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة العسكرية، ومن اعتبر الانتفاضة الشعبية مؤامرة منذ اللحظة الأولى لانطلاقها، ليس من الوارد أن يُدين حصار وقصف النظام للمخيمات الفلسطينية أو قتل الفلسطينيين تحت التعذيب في سجونه حتى لو كانت الأدلة على هذه الجرائم دامغة.

الركوب على مأساة اللاجئين

يسارع الكثيرون إلى اقتطاع مأساة مخيم اليرموك من سياقها السوري العام، وربط حصار المخيم بالمجهول، بدلًا من الاعتراف بالحقيقة التي من المفترض أن تكون جلية، وهي أن النظام، بمؤازرة الفصائل الفلسطينية الموالية له وعلى رأسها «القيادة العامة» هو الفاعل الأساسي والمسؤول الرئيس عن حصار اليرموك وقطع المياه عنه وتجويع سكانه، وتهجير الآلاف بعد قصفه بالطيران الحربي لأول مرة في 16 كانون الأول/ديسمبر 2012، واستمرار قصفه بالطيران والمدفعية الثقيلة، مدمرًا معظم أجزائه قبل اقتحامه من قبل إرهابيي داعش.

الفاعل في مجزرة التعذيب واضح لا يمكن خوض أي سجال حوله، والضحية واضحة، والحياد في قضية المعتقلين تحديدًا غير ممكن. وهذا الفاعل، الممانِع، لا يتورّع عن استخدام فلسطين وقضيتها في قمع الشعب السوري واستثمارها لتسجيل نقاط سياسية وتبرير حربه على فقراء سوريا.

«فلسطين» اسم يحمله أحد فروع المخابرات في دمشق، تغيّب أجهزة الأمن السورية في أقبيته آلاف الفلسطينيين والسوريين وتُمعِن في التنكيل بهم واستباحة أجسادهم بوحشية لم تتوقف عن تجديد نفسها منذ عهد الأسد الأب وحتى عهد الأسد الابن.

«أكثر ما يؤلم أننا نُعَذَّب باسم فلسطين»، أخبرني شاب فلسطيني خرج بعد سنة أمضاها في الفرع سيء الصيت، تعرّض خلالها إلى شتّى أصناف العذاب وألوانه، من جَلد وحَرق وشَبح (تعليق في الهواء) وعبارات عنصرية مهينة للفلسطينيين.

أي فلسطين نريد؟

يُحيي الفلسطينيّون في 17 نيسان من كل عام يوم الأسير الفلسطيني. وفي هذا العام، تمامًا كما كانت الحال في الأعوام السابقة، نسينا أن هناك مئات الفلسطينيين الذين استشهدوا تحت التعذيب في السجون السورية، والأنكى من ذلك أنهم «عُذّبوا باسم فلسطين». ونسينا أن هنالك مئات الفلسطينيّين الذين يواجهون المصير المرعب ذاته، إذ لا يكاد يمرّ يوم إلا ونسمع فيه عن شهيد جديد تحت التعذيب.

أوليسوا هم أيضًا جديرين بالتضامن اللفظي على أقل تقدير؟ أليس من أضعف الإيمان أن تبادر عشرات المنظمات والجمعيات والحركات العاملة في مجال حقوق الأسرى في الداخل الفلسطيني بإصدار ولو بيان واحد، تُدين فيه ما يتعرض له المعتقلون السياسيون الفلسطينيون –والسوريون– في السجون السورية؟

 اختلاف السياق لا يبرّر إجراء تراتبية بين الضحايا تحدّد أهمية الضحية وفق هوية المجرم.

نستلّ أقلامنا لنجترح عبارات جديدة نُدين فيها الصمت العربي والدولي إزاء معاناة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. ولا شكّ أن سخطنا مُحقّ، ولكن ماذا عن صمتنا، نحن الفلسطينيين، تجاه الجرائم اليومية المرتكبة بحق المعتقلين الفلسطينيين في سوريا، أم أننا أسقطنا عنهم «فلسطينيتهم» التي نبرزها وننزعها بحسب القاتل؟

لن نردد الشعار التقليدي الذي أصبح مبتذلًا بأن الحرية لا تتجزّأ، فهي تجزّأت وتشظّت وتآكلت. «السياق مختلف»، سيقاطعك الكثيرون إذا ما حاولت ربط قضية الأسرى في فلسطين وسوريا. هذا صحيح، يختلف السياق وتختلف الظروف وأساليب القمع، ولكن اختلاف السياق لا يبرّر إجراء تراتبية بين الضحايا تحدّد أهمية الضحية وفق هوية المجرم.

قاومنا بشدّة إيراد مقارنة بين جرائم الاحتلال الصهيوني وجرائم النظام السوري. المعاناة لا تُقاس بالأرقام، والضحايا في سوريا وفي فلسطين ليسوا متغيّرات في معادلة حسابية، ومعظم أساليب التعذيب التي ينتهجها الاحتلال الصهيوني الآن قد لا تُترجَم بالإحصائيات، لكن ذلك لا ينتقص من قسوتها. وعلى الرغم من ذلك، من غير الممكن عدم التوقّف عند معطى واحد، ليس من باب المفاضلة بين مجرمَين، بل لندرك فداحة صمتنا ونفاقنا: تشير «مؤسّسة الضمير» المختصة بالدفاع عن الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال إلى استشهاد 73 فلسطينيًّا نتيجة التعذيب المباشر في سجون الاحتلال منذ العام 1967، إضافة إلى 23 فلسطينيًا (على الأقل) استشهدوا جراء الإهمال الطبّي؛ في المقابل تجاوز عدد المعتقلين الفلسطينيين الذين استشهدوا نتيجة التعذيب المباشر في سوريا 370 شهيدًا في الأعوام الأربعة الأخيرة فقط.

على هذا العدد المفزع لوحده أن يدحض أي ادّعاء بأن النظام السوري يمكن أن يكون حليفًا في نضال تحرّري، وأن يذكّرنا بأننا نقف بين خيارين، أمام سؤال: أي فلسطين نريد؟

تلك التي رسمها الشاب الفلسطيني السوري الذي استشهد تحت التعذيب على ذراعه، فلسطين التي يرتبط النضال من أجل تحريرها بالانحياز لنضالات الشعوب ضد مضطهِديهم، ممانعين كانوا أم لا؟

أم «فلسطين»، الضابطة الأمنية التي أنشأها حافظ الأسد لتكون مصنعًا للتعذيب والترهيب، وأحد رموز القهر والاستبداد وكمّ الأفواه الممارس باسم قضيتنا؟

وستكون لخيارنا هذا، كأفراد وكحركة وطنية، تبعات مفصلية على مصداقية نضال التحرر الذي نسعى لإعادة بنائه، وعلى اتّساق مشروعنا السياسي مع القيم والثوابت التي نزعم التمسك بها.

* كاتبة ومدونة فلسطينية مقيمة في القدس.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية