كيف أصبح غاز غزة الطبيعي مركز صراع قوى دولي

حروب الطاقة في الشرق الأوسط

الأحد 03 أيار 2015
energy-wars-gaza-israel

مايكل شوارتز*، ترجمة تقوى مساعدة

(نشر هذا المقال بالإنجليزية على موقع Middle East Eye في 26 شباط).

أتعلمون؟ تقريبًا، جميع الحروب والثورات والنزاعات الأخرى الجارية حاليًا في الشرق الأوسط يربطها خيط خطير واحد: هذه النزاعات هي جزء من مسابقة تزداد سعارًا في البحث عن الوقود الأحفوري واستخراجه وتسويقه؛ الوقود الذي سيؤدي استهلاكه بلا شك إلى أزمات بيئية مزلزلة.

بين النزاعات الكثيرة على الوقود الأحفوري في المنطقة، يُغَض الطرف عن نزاع محفوف بمخاطر صغرى وكبرى مركزه إسرائيل، يمكن تتبع جذور هذا النزاع إلى أوائل التسعينات حين بدأ القادة الإسرائيليون والفلسطينيون بالتنافس على ما أشيع أنه احتياطيات من الغاز الطبيعي أمام ساحل غزة على البحر المتوسط.

وفي العقود اللاحقة، تطور هذا التنافس إلى نزاع متعدد الأوجه انخرطت فيه جيوش عديدة وثلاثة أساطيل. سلط ذلك بؤسًا مهولًا على عشرات آلاف الفلسطينيين، ويهدد بإضافة مستويات جديدة للبؤس في حياة  الناس في سوريا ولبنان وقبرص، وفي النهاية، قد يتسبب ذلك النزاع بإتعاس الإسرائيليين كذلك.

الحروب بسبب الموارد ليست أمرًا جديدًا بالتأكيد، فكل التاريخ الاستعماري الغربي وعولمة ما بعد الحرب العالمية الثانية حركتها فعليًا جهودٌ لإيجاد وتسويق المواد الخامة اللازمة لتأسيس ورعاية الرأسمالية الصناعية، وهذا يشمل توسُّع واستيلاء إسرائيل على الأراضي الفلسطينية. لكن الوقود الأحفوري لم يأخذ موضع الصدارة في العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية إلا منذ التسعينات، وهذا مبدئيًا حصر الصراع لينتشر فقط في سوريا ولبنان وقبرص وتركيا وروسيا بعد عام 2010.

التاريخ المسموم لغاز غزة الطبيعي

عندما وقعت إسرائيل والسلطة الفلسطينية سنة 1993 اتفاقية أوسلو، التي كان ينبغي أن تنهي الاحتلال الإسرائيلي لغزة والضفة الغربية، وتؤسس دولة ذات سيادة، لم يأخذ أي أحد حينها ساحل غزة بعين الاعتبار.

بالتالي وافقت إسرائيل على أن يكون للسلطة الفلسطينية حديثة التأسيس السيطرة الكاملة على مياهها الإقليمية، رغم أن البحرية الإسرائيلية كانت ما تزال تقوم بدوريات في المنطقة.

لم تكن الشائعات عن مخزون الغاز الطبيعي هناك ذات أهمية لأي أحد لأن الأسعار حينها كانت منخفضة جدًا والموارد كانت وفيرة،  وليس من الغرابة إذن أن الفلسطينيين أخذوا وقتهم في توظيف «بريتش غاز» والتي كانت لاعبًا أساسيًا بين مراهني الغاز العالميين الذين كانوا يسعون لاكتشاف ما هو موجود هناك فعليًا.

ولم يوقع الجانبان أي عقد إلا بحلول سنة 2000 حيث وقعا عقدًا متواضعًا لتطوير حقول الغاز التي كانت مؤكدة في ذلك الحين. وقد تعهدت «بريتش غاز» بتمويل وإدارة هذه الحقول وتحمّل كامل التكاليف وإدارة المنشآت الناتجة مقابل 90% من العائدات، وقد كانت اتفاقية استغلالية ولكنها اعتيادية تحت غطاء «تشارك الأرباح»، وبوجود صناعة غاز فعالة فقد وافقت مصر على أن تكون  مركز وصلٍ ساحلي ونقطةً  لنقل الغاز.

بين النزاعات الكثيرة على الوقود الأحفوري في المنطقة، يُغَض الطرف عن نزاع محفوف بمخاطر صغرى وكبرى مركزه إسرائيل.

وكان من المفترض أن يحصل الفلسطينيون على 10% من الإيرادات (المُقدّرة بحوالي مليار دولار بالمجمل) كما ضُمن لهم الحصول على الغاز الكافي لسد احتياجاتهم.  ولو أن تلك العملية تحرّكت بشكل أسرع قليلًا، لربما تمّ تنفيذ العقد كما كُتب، ولكن في سنة 2000 وفي ظل اقتصاد متنامٍ ووقود أحفوري ضئيل وعلاقات سيئة مع جاراتها من الدول النفطية، وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة عجز مزمن في قطاع الطاقة.

وبدلًا من أن تحاول أن تحل المشكلة ببذل جهود حثيثة ولكنها مجدية لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، استهلّ رئيس الوزراء إيهود باراك عصر النزاعات على الوقود الأحفوري في شرق البحر الأبيض المتوسط. استغل باراك سيطرة إسرائيل البحرية على مياه غزة الساحلية ورفض عقد صفقة مع «بريتش غاز»، وبدلًا من ذلك طالب بأن تستلم إسرائيل، وليس مصر، غاز غزة وأن تسيطر على كل عائداته والتي كانت مرصودةً للفلسطينيين، وذلك لمنع استخدام هذه الأموال لـ«تمويل الإرهاب».

وبهذا فقد حُكم على اتفاقية أوسلو بالفشل، فبرفض السيطرة الفلسطينية على عائدات الغاز، ألزمت الحكومة الإسرائيلية نفسها برفض أدنى نوع من استقلالية الموازنة للفلسطينيين، عدا عن السيادة الكاملة. وبما أن أي حكومة أو منظمة فلسطينية ما كانت لتقبل بذلك، فقد كان من المؤكد أن مستقبلًا حافلًا بالنزاعات المسلحة بالانتظار.

أدى استخدام إسرائيل لحق الفيتو إلى تدخل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والذي سعى لإبرام صفقة ترضي الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية، وكانت النتيجة عرضًا في عام 2007 كان سيؤدي لتسليم الغاز لإسرائيل بدلًا من مصر بأسعار أقل من أسعار السوق وبنسبة 10% من العائدات التي تذهب في نهاية المطاف إلى السلطة الفلسطينية، إلا أن هذه الأموال كانت لتُسلّم أولًا إلى بنك الاحتياط الفدرالي في نيويورك لغايات التوزيع المستقبلي، والذي كان من المفترض أن يضمن ألا تستخدم هذه الأموال لمهاجمة إسرائيل.

هذه الاتفاقية أيضًا لم ترضِ الإسرائيليين حيث أشاروا إلى فوز حزب حماس العسكري مؤخرًا في الانتخابات، وألغوا الصفقة على هذا الأساس، ورغم أن حماس وافقت على أن يشرف بنك الاحتياط الفيدرالي على الإنفاق، إلا أن الحكومة الإسرائيلية، التي كان يرأسها إيهود أولمرت في ذلك الحين أصرّت على «ألّا تدفع أي عائدات للفلسطينيين»، وبدلًا منها فستقدّم إسرائيل ما يقابل هذه العائدات كـ«منتجات وخدمات»، وهذا هو العرض الذي رفضه الفلسطينيون بدورهم.

بعدها، فرض أولمرت حصارًا جائرًا على غزة، وصفه وزير الدفاع الإسرائيلي بأنه شكل من أشكال الـ«صراع الاقتصادي» الذي من شأنه أن يؤجج أزمة سياسية، تؤدي إلى ثورة شعبية ضد حماس. وبالتعاون مع مصر، سيطرت إسرائيل على كل الحركة التجارية الخارجة والداخلة إلى غزة، وقنّنت واردات الغذاء بشكل بالغ، وقضت على نشاط الصيد.

وبحسب وصف دوف فيسغلاس كبير مستشاري أولمرت، فإن الأجندة التي نفذتها الحكومة الإسرائيلية في غزة كانت بمثابة «إجبار الفلسطينيين على الالتزام بحمية غذائية» (وهو ما أدى لاحقًا، بحسب الصليب الأحمر إلى «سوء تغذية مزمن» وخاصة بين الأطفال الغزيين). وعندما أصر الفلسطينيون على رفضهم لشروط إسرائيل قررت حكومة أولمرت أن تستخرج الغاز منفردةً وهو الأمر الذي ظنوا أنه لا يمكن أن يحصل إلا إذا تم استبدال حماس أو نزع سلاحها.

وبحسب ما أوضحه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق، ووزير الخارجية الحالي موشيه يعلون فإن «حماس أثبتت قدرتها على قصف منشآت الغاز والكهرباء الإسرائيلية الاستراتيجية، وأنه من الواضح أنه من غير عملية عسكرية شاملة لاستئصال سيطرة حماس على قطاع غزة، فلن تتمّ أيُّ من أعمال الحفر دون موافقة الحركة الإسلامية المتطرفة». وبناءً على هذا المنطق شُنّت عملية «الرصاص المصبوب» في شتاء سنة 2008، وبحسب وزير الدفاع المكلّف ماتان فيلناي فقد كانوا ينوون استهداف غزة إلى حد «الشوآه» (وهي كلمة عبرية بمعنى المحرقة أو الكارثة).

وقال يواف غالنت قائد العملية أنها صُمّمت لـ «تعيد غزة عشرات السنين إلى الوراء»، كما أوضح زاشي هانغبي عضو البرلمان الإسرائيلي أن الهدف من العملية العسكرية هو «الإطاحة بنظام حماس الإرهابي، والسيطرة على كل المناطق التي يتم إطلاق الصواريخ منها على إسرائيل»، وبالفعل قامت عملية الرصاص المصبوب بـ«إرجاع غزة عشرات السنين إلى الوراء».

ذكرت منظمة العفو الدولية أن العدوان الذي استمر لاثنين وعشرين يومًا، قتل 1400 فلسطيني «من بينهم 300 طفل ومئات المدنيين العُزّل، وسُوّيت مناطق كبيرة في غزة بالأرض، مخلّفةً آلاف المشردين واقتصادًا متهالكًا سلفًا. المشكلة الوحيدة هي أني عملية الرصاص المصبوب لم تحقق هدفها وهو «نقل السيادة على حقول الغاز لإسرائيل».

المزيد من مصادر الغاز يساوي المزيد من الحروب عليها

ورثت حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو المنتخبة في سنة 2009 الأزمة المتعلقة بمخزون الغاز في غزة، وأزمة الطاقة الإسرائيلية التي أخذت تزداد صعوبة عندما قاطع الربيع العربي في مصر ثم ألغى 40% من إمدادات مصر، وأسهمت أسعار الطاقة المتزايدة في أكبر احتجاجات شارك فيها إسرائيليون يهود منذ عقود.

وحسب ما جرت الأمور، فقد ورث نظام نتنياهو حلًا دائمًا للمشكلة، إذ تم اكتشاف حقل شاسع من الغاز القابل للاستخراج في حوض شرق المتوسط، وأكد المسؤولون الإسرائيليون مباشرة أن «أغلب» احتياطيات الغاز المكتشفة تقع «ضمن الأراضي الإسرائيلية»، وبهذا أنكروا مطالبات كلٍّ من لبنان، وسوريا، وقبرص، والفلسطينيين.

في عالم آخر، كان من الممكن أن يتم استغلال هذا الحقل الشاسع بشكل مشترك وفعّال بين المطالبين الخمسة، وكان من الممكن وضع خطة إنتاج لتحسّن الأثر البيئي الناجم عن انبعاث 130 تريليون قدمًا مكعبًا من الغاز مستقبلًا داخل الغلاف الجوي.

بيير تيرزيان، رئيس تحرير مجلة «بترواستراتيجيز» المختصة في قطاع النفط، قال أن «كل عناصر الخطر حاضرة …هذا إقليم لا يُعدّ فيه اللجوء إلى العنف أمرًا خارقًا للعادة». وفي السنوات الثلاثة التي تبعت اكتشاف الحقول، بدا تحذير ترزيان متنبئًا بالمستقبل، حيث كانت لبنان نقطة التوتر الأولى، ففي مطلع عام 2011 أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن تطويرها بشكل منفرد لحقلين يشكلان ما نسبته قرابة 10% من إجمالي الغاز في حوض شرق المتوسط، والذين يقعان في مياه متنازع عليها عند الحدود الإسرائيلية – اللبنانية.

مباشرةً، هدد وزير الطاقة اللبناني جبران باسيل بالمواجهة العسكرية، مؤكدًا أن بلاده «لن تسمح لإسرائيل أو لأي شركة تخدم المصالح الإسرائيلية أن تنقب عن الغاز الواقع في مياهنا الإقليمية». حزب الله وهو أكثر الفرق هجومية في لبنان، توعد بالهجوم بالصواريخ في حال تم استخراج «متر واحد» من الغاز الطبيعي من الحقول المتنازع عليها. من ناحيته، قَبل وزير الموارد الإسرائيلي التحدي، مؤكدًا أن «هذه المناطق تقع ضمن المياه الاقتصادية الاسرائيلية .. ولن نتردد في استخدام قوتنا وسطوتنا ليس فقط لحماية سلطة القانون بل والقانون البحري الدولي أيضًا».

محلل قطاع النفط، الصحفي ترزيان قدّم تحليلًا لواقع المواجهة: «عمليًا، لن يستثمر أي أحد مع لبنان في مياه متنازعٍ عليها،  لا يوجد شركات لبنانية قادرة على الحفر، ولا يوجد قوة عسكرية قادرة على حمايتهم، ولكن الأمور مختلفة على الجانب الآخر، فهنالك شركات إسرائيلية ممن لديها القدرة على العمل في المناطق البحرية، ويمكنهم أن يغامروا تحت حماية الجيش الإسرائيلي».

وكما هو متوقع، استمرت إسرائيل في اكتشاف وحفر الحقلين المتنازع عليهما، ناشرة طائرات من غير طيار لحماية المنشآت، بينما أنفقت حكومة نتنياهو موارد ضخمة للإعداد لمواجهات عسكرية محتملة في المنطقة مستقبلًا. فمن ناحية، وبالدعم الأمريكي السخي، طوّرت إسرائيل نظام الدفاع الجوي بالصواريخ المعروف بـ «القبة الحديدية» المصمم لاعتراض صواريخ حزب الله وحماس التي يطلقونها باتجاه منشآت الطاقة الإسرائيلية.

ولقد امتدّ الأمر أيضًا إلى البحرية الإسرائيلية، حيث تركز على القدرة على صدّ أو الرد على التهديدات التي قد تتعرض لها منشآت الطاقة في البحر، وأخيرًا، شنّت إسرائيل ضربات جوية على سوريا ابتداءً من سنة 2011، وهي الضربات التي وصفها مسؤولون أمريكيون بأنها «تهدف لمنع نقل أي صواريخ متطورة مضادة للطائرات، أو صواريخ أرض–أرض أو صواريخ أرض-بحر لحزب الله».

بالرغم من ذلك، فقد استمر حزب الله في تخزين الصواريخ القادرة على تدمير المنشآت الإسرائيلية،  وفي سنة 2013 اتخذت لبنان خطوةً من جانبها، حيث بدأت بالتفاوض مع روسيا. كان الهدف من هذه المفاوضات هو أن تعمل الشركات الروسية على تطوير الحقول التي تطالب بها لبنان في البحر، بينما يقدم الجيش الروسي العملاق مساعدته في «الصراع الحدودي المستمر مع إسرائيل».  وبحلول بداية عام 2015 بدأت الأمور تستقرّ على حالة من الردع المتبادل، ورغم أن إسرائيل تمكنت من الحفر في الحقل الأصغر، إلا أن الحفر في الحقل الأكبر عُلّق إلى إشعار آخر «في ظل الوضع الأمني».

شركة النفط الأمريكية «نوبل إنرجي» التي تعاقد معها الجانب الإسرائيلي، لم تكن راغبة في استثمار الستة ملايين دولار اللازمة في منشآت قد تكون عُرضةً لهجمات حزب الله، وقد تكون كذلك في مرمى نيران البحرية الروسية. وبالرغم من تزايد حضور البحرية الروسية في الإقليم إلا أن العمل لم يبدأ بعد لدى الجانب اللبناني.

Gaza_gas2
فلسطينيون ينطرون إلى أعمال الحفر المستهلة في 27 أيلول 2000، لتوصيل حقل غاز أمام شاطئ غزة (أ ف ب).

بينما في سوريا حيث يسيطر العنف وتعيش البلاد حالة انهيار مسلح، ظهر هناك مأزق آخر، فنظام بشار الأسد الذي يواجه تهديدًا ضاريًا من عدة جماعات جهادية، نجا إلى حد ما بفضل التفاوض على دعم عسكري ضخم من روسيا مقابل عقد لمدة 25 سنة لتطوير حصة سوريا من حوض شرق المتوسط. وتشتمل الصفقة على توسيع هامّ للقاعدة البحرية الروسية في مدينة طرطوس الساحلية، مما سيضمن حضورًا أوسع للبحرية الروسية في منطقة حوض شرقي المتوسط. وبينما بدا واضحًا أن الوجود الروسي منع إسرائيل من محاولة تطوير أي احتياطيات غاز تطالب بها سوريا، إلا أنه لم يكن هنالك وجود روسي فعلي في سوريا.

بالتالي تعاقدت إسرائيل مع شركة «جيني إنرجي» ومقرها في الولايات المتحدة، لتحديد مواقع حقول النفط وتطويرها في مرتفعات الجولان، وهي أراضٍ سورية احتلتها إسرائيل منذ سنة 1967. ومع احتمالية خرق القانون الدولي، فقد بنت حكومة نتنياهو إجراءاتها على قرار محكمة إسرائيلية ينصّ على قانونية استغلال الموارد الطبيعية في الأراضي المحتلة، واستعدادًا للمعركة التي لا مفر منها مع الفرقة أو الفرق التي قد تخرج منتصرة من الحرب الأهلية في سوريا، فقد بدأت إسائيل بحشد الدعم لوجودها العسكري في مرتفعات الجولان.

ثم لدينا قبرص، وهي البلد الوحيدة من المطالبين بحوض شرقي المتوسط التي ليست في حالة حرب مطلقًا مع إسرائيل. القبرصيون اليونانيون عاشوا صراعًا طويلًا مع القبرصيين الأتراك، بالتالي لم يكن من المفاجئ مطلقًا أن يؤدي اكتشاف حوض الغاز إلى إشعال مفاوضات امتدت لثلاث سنوات ووصلت لطريق مسدودٍ لاتخاذ قرار في شأنه. وفي سنة 2014 وقع القبرصيون اليونانيون عقد تنقيب مع شركة «نوبل إنرجي» وهي المتعاقد الرئيسي مع إسرائيل، فتفوق عليهم القبرصيون الأتراك بتوقيع عقد مع تركيا لتنقيب كامل الاحتياطيات التي تطالب بها قبرص «وصولًا إلى المياه المصرية».

وعلى طريقة إسرائيل وروسيا، قامت تركيا مباشرة بتحريك ثلاث سفن من بحريتها إلى المنطقة  لتقف فعليًا في وجه أي تدخّل من أيٍّ من الدول المطالبة بحصتها في الحوض. بالنتيجة، فإن أربع سنوات من المناورات حول حوض شرقي المتوسط المكتشف حديثًا لم ينتج عنه إلا القليل من الطاقة، ولكنه أتى بمطالبين جدد أقوياء إلى اللعبة، وأطلق تحشيدًا عسكريًا ملفتًا في المنطقة، ورفع التوترات بشكل لا حد له.

غزة .. مرة تلو الأخرى

أتذكرون نظام القبة الحديدية، الذي تم تطويره لإيقاف صواريخ حزب الله المتجهة إلى حقول الغاز الشمالية في إسرائيل؟ مع الوقت، تم وضعه بالقرب من الحدود مع غزة لإيقاف صواريخ حماس، وتم اختباره خلال عملية «الصدى الراجع» وهي المحاولة العسكرية الإسرائيلية الرابعة لإخضاع حماس وللقضاء على أي إمكانية للفلسطينيين لـ «قصف منشآت الغاز والكهرباء الاستراتيجية لدى إسرائيل».

وبإطلاقه في مارس 2012 فقد ضاعف على نطاق ضيق مستوى الدمار أثناء عملية الرصاص المصبوب، بينما حقق نظام القبة الحديدية «معدل قتل» يصل إلى 90% ضد صواريخ حماس.

ربع القرن الأول من الأزمة على الغاز الطبيعي في المتوسط لم يكن سوى مقدمة، وتكمن في المستقبل احتمالية لحروب طاقة أكبر وأكثر تدميرًا.

وبالرغم من إضافة هذا النظام إلى نظام الملاجئ التي أنشئت لحماية المدنيين الإسرائيليين، إلا أنه لم يكن كافيًا لضمان حماية منشآت النفط الإسرائيلية المعرضة للخطر، فمجرد ضربة أحادية الجانب قادرة على الإضرار أو تدمير منشآت هشة وقابلة للاشتعال كهذه.

أدى فشل عملية الصدى الراجع في تسوية أي شيء إلى انطلاق جولة جديدة من المفاوضات، والتي توقفت مرة أخرى بسبب رفض الفلسطينيين لطلب إسرائيل بأن تسيطر على كل الوقود وكل العائدات المخصصة لغزة وللضفة الغربية.

حكومة الوحدة الفلسطينية الجديدة سارت على خطى اللبنانيين والسوريين والقبرصيين الأتراك، ووقعت في أواخر سنة 2013 على إذن تنقيب مع شركة الغاز الطبيعية الروسية الضخمة «غازبروم»، وعلى غرار ما جرى مع سوريا ولبنان، فقد ظهرت البحرية الروسية كحامٍ محتمل من التدخل الإسرائيلي.

وأدت جولة جديدة من انقطاعات الكهرباء في سنة 2013 إلى حدوث «فوضى» على امتداد إسرائيل، مما قاد إلى انخفاض قاسٍ في أسعار الكهرباء بنسبة 47%، وردًا على ذلك أخذت حكومة نتنياهو تدرس مقترحًا للبدء في استخراج الصخر الزيتي المحلي، ولكن احتمالية تلويث مصادر المياه تسببت بردات فعل أدت إلى إفشال هذه الجهود.

في بلد مليء بشركات ناشئة في مجال التكنولوجيا، لم يكن الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة قد أُعطي اهتمامًا حقيقيًا، وبدلًا من ذلك اتجهت الحكومة مرة أخرى نحو غزة. ومع تحرك شركة «غازبروم» لتطوير احتياطيات النفط المطالب بها فلسطينيًا، شن الإسرائيليون عمليتهم العسكرية الخامسة «الجرف الصامد» لإخضاع الفلسطينيين.

كان للعملية هدفان متّصلان بالهيدروكربونات: لصدّ الخطط الفلسطينية-الروسية وللقضاء نهائيًا على أنظمة الصواريخ الغزية، وعلى ما يبدو فإن الهدف الأول قد تحقق عندما أجلت «غازبروم» صفقة تطوير الحقل (وربما غضت الطرف عنها تمامًا).

أما الهدف الثاني فلم يتحقق حيث فشل الهجوم المزدوج البري والجوي –رغم الدمار غير المسبوق الذي ألحقه بغزة- في تدمير مخزون حماس من الصواريخ، أو تدمير شبكة أنفاقها، كما لم تتمكن القبة الحديدية من تحقيق مستوى الاعتراض شبه الكامل للصواريخ، المطلوب لحماية منشآت الطاقة المقترحة.

لا يوجد حل للعقدة

بعد خمس وعشرين عامًا وخمس محاولات إسرائيلية عسكرية فاشلة، ما يزال غاز غزة الطبيعي تحت الماء، وبعد أربع سنوات ينطبق الكلام نفسه على كل غاز حوض شرقي المتوسط.

ولكن الأمور ليست متشابهة من منظور الطاقة، فإسرائيل مستميتة أكثر، رغم أنها حشدت جيشها وبحريتها بشكل كبير. أما بقية المطالبين في حوض الغاز فقد وجدوا شركاء أكثر سطوة ليدعموا مطالبهم الاقتصادية والعسكرية.

وكل هذا يعني بما لا شك فيه أن ربع القرن الأول من الأزمة على الغاز الطبيعي في المتوسط لم يكن سوى مقدمة، وتكمن في المستقبل احتمالية لحروب طاقة أكبر وأكثر تدميرًا كما هو شأن مثل هذه الحروب.


* مايكل شوارتز: أستاذ شرف يدرّس علم الاجتماع في جامعة «ستوني بروك»، وهو مؤلف عدة كتب حائزة على جوائز كـ «الاحتجاج الراديكالي والبنية الاجتماعية» و«قوة بنية الأعمال الأمريكية» (بالاشتراك مع «بث منتز») وركز في كتابه «حرب بلا نهاية» الذي نشره بالتعاون مع «توم ديسباتش» (وهي منصة إعلامية تسعى لتقديم الأخبار على خلاف ما تقدمه وسائل الإعلام الشائعة والتقليدية في العالم) ركز على الطريقة التي أدت فيها الجيولوجيا السياسية العسكرية للنفط إلى اجتياح الولايات المتحدة الامريكية للعراق واحتلالها. بريده الإلكتروني هو [email protected].

حقوق النشر 2015 مايكل شوارتز. نُشرت هذه المقالة لأول مرة في  TomDispatch.com.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية