كيف يمكن حماية سمعة الأفراد دون المساس بحريات التعبير والإعلام

التشهير في زمن الإنترنت

الأربعاء 10 حزيران 2015

بقلم أحمد عزّت*

تعتبر منصات التواصل الاجتماعي من وسائل النشر التي تخضع للقوانين المنظمة لحرية التعبير سواء على المستوى الوطني، أو وفقًا للمعايير  المنصوص عليها في القانون الدولي لحقوق الإنسان. وفيما يتعلق بالحدود التي ترسمها التشريعات الوطنية لحرية التعبير، فغالبًا ما توفر هذه التشريعات حماية قانونية لسمعة الأفراد والمؤسسات وأحيانًا المعتقدات الدينية والرموز الوطنية ضد التشهير، ويتفاوت مستوى الحماية من بلد لآخر. فبعض البلدان تفرض عقوبات جنائية على من ينشر محتوى من شأنه أن ينال من سمعة الآخرين، فيما تكتفي بلدان أخرى بإتاحة الحق في التعويض المدني لضحية التشهير، وتعتبر بعض البلدان أن التشهير يكون مباحًا إذا كان ضحيته موظفًا عامًا بشرط إثبات صحة المعلومات المنشورة.

وبوجه عام تواجه العديد من التشريعات العربية الكثير من النقد الحقوقي بسبب نصوص التشهير التي تعج بها قوانين العقوبات، بسبب المغالاة في حماية سمعة الأشخاص الطبيعيين والاعتباريين على حساب ضمان وصيانة حرية التعبير، وبما يخالف الضمانات التي وضعتها المواثيق العالمية لحقوق الإنسان.

ففي مصر مثلًا، شهدت السنوات الأخيرة العديد من القضايا التي استخدمت فيها قوانين التشهير بهدف قمع حرية التعبير، استنادًا إلى تهم تتعلق بالسب والقذف الموجه ضد الأفراد والمؤسسات العامة، كـ«إهانة رجال الشرطة»، أو تتعلق بالتعرض للرموز والمعتقدات الدينية بالنقد، كـ«ازدراء الأديان» أو «تحقير الذات الإلهية».

مبادئ دولية في تقدير ضرر التشهير

التشهير، بوصفه فعل تؤثمه قوانين كثيرة، يمكن أن يحدث في النطاق الإفتراضي أو خارجه. وتتجه العديد من البلدان لسن تشريعات خاصة بجرائم النشر على الإنترنت بالإضافة إلى التشريعات الخاصة بوسائل النشر التقليدية، وهو توجه تنبغي مقاومته بشدة، نظرًا للطابع الإستثنائي لهذه القوانين واستخدامها كذريعة لعرقلة حق الأفراد في التعبير عن آرائهم. أغلب قوانين التشهير المعمول بها حاليا للتعاطي مع النشر الرقمي في بعض بلدان المنطقة العربية تم سنها للتعامل مع وسائل النشر التقليدية كالصحف المطبوعة والإذاعة والتلفزيون دون مراعاة خصائص الفضاء الرقمي. يفرض ذلك شروطًا حقوقية تتعلق بحرية التعبير، أو فنية ترتبط بالأساس باختلاف وسائل الإثبات القانوني، ومسائل تتعلق بالخصوصية والتي تتطلب وجود خبرة فنية من الجهات المخولة بإنفاذ القانون. فالمطلوب إذًا ليس تزويد ترسانة القوانين الموجودة بالفعل بتشريعات جديدة، بل تدريب هذه الجهات على خصائص المنصات الرقمية للتعاطي مع الإشكاليات العملية أثناء نظر هذا النوع من القضايا، مثل إعدادات الخصوصية التي يستخدمها الأشخاص المدعى عليهم في هذا النوع من القضايا وما إذا كان الأمر محل اعتبار من الجهات القضائية من عدمه، وكذلك مشروعية اتهام الأشخاص بسبب المحتوى التشهيري الموجود في رسائلهم الخاص، والمسؤولية على التعليقات على المحتوى التشهيري ومسؤولية مقدمي خدمة الإنترنت. هذا فضلاً عن الإشكاليات الموضوعية المتعلقة بمضمون المحتوى والسياق الذي نشر فيه، ومركز قائله من حيث كونه شخصية عامة لها تأثير جماهيري أم مستخدمًا عاديًا، والقالب الذي نُشِر المحتوى من خلاله وما إذا كان قالبًا فنيًا أو صحفيًا أو أكاديميًا.

من الاجتهادات الهامة في هذا المجال مجموعة مبادىء كامدن التي صممتها منظمة المادة 19 للدفاع عن حرية التعبير بالاشتراك مع خبراء دوليين بشأن حرية التعبير والتحريض، وهي ذات المبادىء التي يمكن الإستناد إليها عند تقييم القيود التي يمكن فرضها على حرية التعبير سواء بهدف حماية السمعة أو أي من الحقوق التي قد تصطدم بممارسة حرية التعبير. يمكن تفعيل هذه المبادىء أيضًا عند تقييم الضرر الذي قد ينتج عن التشهير بالأفراد أو المؤسسات وتتلخص هذه المعايير في ستة أجزاء، لا يمكن تطبيقها بمعزل عن بعضها.

أولًا: السياق

ينبغي عند نظر قضايا التشهير النظر إلى السياق الذي نشر فيه المحتوى المثير للجدل، فمثلًا قد يكون التشهير موجهًا ضد موظف عام أو مؤسسة حكومية لانتقاد آدائها، أو قد يكون قد تم نشر المحتوى في غمار قضية عامة مطروحة بطبيعتها للنقاش المجتمعي، وهو ما يختلف تمامًا عن التعبير الموجه ضد شخص عادي.

أيضًا، فإن التعبير الموجه ضد الرموز الدينية لا يوجب مقاضاة صاحبها ما لم تنتج أحداث عنف عن هذا التعبير، وقد أكد المقرر الخاص لحرية التعبير التابع للأمم المتحدة على ذلك في تقريره للجمعية العامة حيث شدد على أنه ينبغي «صياغة الأحكام المتعلقة  بالقيود على نحو يوضح أن الهدف الوحيد منها إنما هو حماية الأفراد من العداء أو التمييز أو العنف ضد فرد أو جماعة من الأفراد، بدلًا من حماية نظم المعتقدات والأديان والمؤسسات من الانتقاد، فالحق في حرية التعبير يعني ضمنًا أنه من الممكن تمحيص الأفكار والآراء ونظم المعتقدات والمؤسسات، بما فيها المؤسسات الدينية، ومناقشتها علنًا وانتقادها، بما في ذلك بطريقة لاذعة وغير عقلانية، ما لم ينطوي ذلك على تحريض على كراهية تحرض على العداء أو التمييز أو العنف ضد فرد أو جماعة من الأفراد».

ثانيًا: قائل التعبير

حتما هناك فرق بين المستخدم العادي لمواقع التواصل الاجتماعي، وبين قيام شخصية عامة أو مسؤول حكومي باستخدامه، حيث يطرح عدد المتابعين لكلا النموذجين تساؤلات عديدة عن الضرر الذي قد ينتج عن التعبير الصادر عن أي منهما، وهو ما يجب أن تأخذه الجهات القضائية في الحسبان عن تعرضها لهذا النوع من القضايا، مع الأخذ في الحسبان أن حرية التعبير هي الأصل والقيد هو الاستثناء.

ثالثًا: النية

وهو ما يعرف في القانون العقابي بالقصد الجنائي، وهو اتجاه إرادة الفاعل للتشهير، وهنا يجب على الجهات القضائية التحلي بالحذر الشديد للوقوف على ما اذا كان التعبير محل الجدل قد قصد به مجرد التشهير أم التعبير عن الرأي واستخدام الحق في النقد المباح. وتكمن الإشكالية في تطبيق هذا المعيار في غياب تعريف دولي محكم لمصطلح «التشهير».

رابعًا: المحتوى

ينبغي أيضًا النظر إلى محتوى التعبير محل الجدل، فبعض التعبيرات ذات الطابع التشهيري قد تأتي ضمن محتوى أدبي أو فني، أو أكاديمي أو صحفي، وهنا ينبغي أن تكون مساحة التسامح معها أوسع من غيرها، لأن فرض قيود عليها لا ينال فقط من حرية التعبير، بل قد يطول حريات الصحافة والإبداع والتدريس.

خامسًا: المدى

والمقصود بمدى التعبير ذات الطابع التشهير هو مدى انتشاره، حيث يجب على الجهات القضائية التي تنظر قضايا التشهير الإلتفات عن القضايا محل التعبير ذات الانتشار المحدود، ومن هنا نجد أن أغلب التشريعات تشترط توافر ركن العلانية لقيام جريمة التشهير، ومثال ذلك ما تنص عليه المادة 171 من قانون العقوبات المصري.

سادسًا: مدى رجحان إحداث الضرر بالمشهر به

من الضروري الأخذ بعين الاعتبار قدرة التعبير محل الجدل على إحداث الضرر بالمشهَّر به سواء على المستوى المادي أو على المستوى المعنوي، وهي عناصر يقع على عبء المدعي إثباتها، خاصة عند تعرض المحاكم الجنائية لقضايا التشهير، وذلك انطلاقًا من مبدأي أن الأصل في الإنسان البراءة، وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

ومن الأمثلة الصارخة على عدم مراعاة الجوانب الفنية للتعبير الرقمي من قبل الجهات المعنية قضية المدون المصري ألبير صابر الذي حكم عليه في مطلع عام 2013 في القضية رقم 18377 لسنة 2012 بالحبس لمدة ثلاث سنوات بسبب نشر عدة مقاطع مرئية على حساباته على مواقع «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب» انتقد من خلالها الأديان ورجال الدين وأعلن فيها عن إلحاده. حيث فشلت المحكمة في التعاطي أو الرد على الدفوع التي تقدم بها دفاع المتهم حول أن بعض الصفحات التي نسب إليه إنشائها بهدف تحقير الأديان كانت محذوفة أثناء نظر القضية وهو ما لا يمكن معه للمحكمة الإطلاع على محتوى الصفحة للتبين من صحة ما نسب إليه، كذلك لم تفرق المحكمة بين المحتويات التي نشرها المتهم على صفحته وبين ما وجد داخل رسائله الشخصية، حيث اعتبرت المحكمة أنه لا فرق بينهما طالما أنه اعترف بملكيته لحساب فيسبوك محل الدعوى. أيضًا، طلبت المحكمة من جهة فنية معرفة كيفية وصول المتهم للإنترنت أثناء نشره لهذه المحتويات وكذلك مقدم الخدمة، وبالرغم من أن الجهة الفنية أثبتت في تقريرها أن المحتوى تم نشره من خلال خط هاتفي مسجل باسم شخص غير المتهم، إلا أن المحكمة لم تأخذ ذلك بعين الإعتبار. جادل دفاع ألبير صابر كذلك في أن بعض المحتويات التي نسب إليه نشرها لم يكن متاحًا للكافة الاطلاع عليها بسبب تغييره لإعدادات الخصوصية أثناء نشرها وجعل الإطلاع عليها قاصر عليه هو فقط، وهي الحجج التي أهملتها المحكمة عنها تمامًا ولم ترد عليها أو تبرر تجاهلها لها.

ماذا تحمي قوانين التشهير؟

نصّت المادة الخامسة من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يوفر الحماية للحقوق المدنية ومن بينها حرية التعبير وينظم تقييدها، على أنه ليس في العهد أي حكم يجوز تأويله بما يعطي لأي دولة أو جماعة أو شخص الحق بالقيام بأي عمل يهدف إلى إهدار أي من الحقوق أو الحريات المعترف بها في هذا العهد أو إلى فرض قيود عليها أوسع من تلك المنصوص عليها فيه.

هذه القاعدة القانونية تجيب على سؤال هام هو: لماذا يتم فرض قيود على الحريات والحقوق من الأصل؟

الإجابة هي أن ممارسة شخص لحق ما قد يترتب عليه مساس بتمتع الآخرين بحقوقهم وحرياتهم، وهوالمبدأ المعروف بالتوازن بين الحقوق والحريات وبعضها، وهو ما يعني على سبيل المثال أنه إذا كان هناك تعارض بين الحق في الحياة وحرية التعبير، تصبح الأولى أولى بالرعاية، وهو ما يجيز تقييد حرية التعبير، باعتبار أنه بفقدان الإنسان لحياته تصبح حزمة الحقوق والحريات المعروفة بـ «حقوق الإنسان» بلا معنى.

ولكن تبرز الإشكالية حينما تصطدم حرية التعبير بالحق في السمعة، حيث تعتبر حماية السمعة حمايةً لمشاعر الشخص الُمشهر به، والموازنة بينها وبين حرية التعبير التي هي أم لجميع الحريات والضمانة الأساسية للديمقراطية واحترام التعدد في أي مجتمع أمر غاية في الصعوبة، فضلًا عن صعوبة ضبطه في مواجهة إساءة التفسير والاستخدام، خاصة في البلدان الشمولية أو ذات الهامش الديمقراطي المحدود.

أشارت الفقرة الثالثة من المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية1 إلى أنه يجوز فرض قيود على حرية التعبير عندما يتعلق الأمر باحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، وبالرغم من أن المادة المشار إليها قد وضعت عدة ضوابط (انظر/ي آخر المقال) ينبغي التحقق منها بدقة عند فرض قيود على حرية التعبير، إلا أن قضية الحق في السمعة تعتبر من أكثر القضايا المثيرة للجدل، حيث يختلف مفهوم السمعة الجديرة بالحماية القانونية من بلد لآخر، فضلًا عن أن بعض البلدان لا تضفي هذه الحماية على سمعة الأفراد فقط، بل تمتد الحماية لتشمل سمعة المؤسسات كالقضاء والمؤسسات النظامية الأخرى ورئيس الجمهورية، على سبيل المثال ما تنص عليه المادتين 179 و184 من قانون العقوبات المصري، وهو ما قد يؤدي إلى فرض قيود غير مقبولة على النقاش العام في المجتمع ويحصن المؤسسات الحكومية والموظفين العموميين ضد النقد المباح بهدف تقويم الأداء العام.

أيضًا يجرم قانون العقوبات المصري2 كل قول موجه إلى شخص من شأنه وصفه بفعل يجرمه القانون أو يؤدي إلى احتقاره في المجتمع، وذلك بصرف النظر عن مدى صحة الوصف، فحتى لو كان الوصف صحيحًا، فإن قائله يقع تحت طائلة القانون إلا إذا كان المُشهر به موظفًا عامًا. فهنا يبيح القانون القذف أو التشهير بشرط أن يقدم قائل التعبير إلى المحكمة ما يثبت صحة المعلومات التي أدلى بها. ويعتبر هذا الشرط قيدًا مرهقًا على حرية التعبير خاصة في البلدان التي لا يتمتع فيها الأفراد بالحق في الحصول على المعلومات. فمثلًا تجرم التشريعات المصرية نشر أية معلومات «عن القوات المسلحة وتشكيلاتها، وتحركاتها، وعددها، وأفرادها، وبصفة عامة كل ما يتعلق بالنواحي العسكرية والاستراتيجية (..) إلا بعد الحصول على موافقة كتابية من مدير إدارة المخابرات الحربية، أو من يقوم بعمله في حالة غيابه؛ سواء بالنسبة لمؤلف أو واضع المادة المنشورة أو المذاعة، أو بالنسبة للمسؤول عن نشرها أو إذاعتها».

وينطبق الأمر ذاته على المخابرات العامة، إذا يحظر نشر أو إذاعة أو إفشاء أي أخبار أو معلومات أو بيانات أو وثائق تتعلق بالمخابرات العامة إلا بعد الحصول مقدمًا على إذن كتابي من رئيسها.

بالطبع فإن هذه القيود المطاطية تحصن هذه الجهات الحكومية ضد النقد وتفرض قيودًا جسيمة على حرية التعبير، ويمكن استخدامها في سياق محاكمة الأشخاص الذين يتم اتهامهم في قضايا التشهير بمثل هذه المؤسسات الحكومية.

كذلك يستوجب فرض أي قيد على حرية التعبير أن يكون القيد مقبولًا في مجتمع ديمقراطي، وذلك وفقًا لأحكام العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. والقيود التي تحصن المؤسسات العامة من النقد وتستخدم ضد أصحاب الرأي تشير إلى غياب الديمقراطية، بالتالي فإن فرضها غير مقبول لأنها عندها تمثل تهديدًا حقيقيًا لحرية التعبير ومن الممكن أن تتحول من مجرد استثناء إلى قاعدة عامة.

ولا يتوقف الأمر عند التشهير بالأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين، بل أن التشهير يمتد للرموز والمعتقدات الدينية، وذلك فيما يعرف بجرائم ازدراء وإهانة الأديان، والتي تنظمها المواد 98 و160 و161 من قانون العقوبات المصري، والتي تعاقب بالحبس على الترويج أو التحبيذ بالقول أو بالكتابة أو بأية وسيلة أخرى لأفكار متطرفة بقصد إثارة الفتنة أو تحقير أو ازدراء أحد الأديان السماوية أو الطوائف المنتمية إليها، وكذلك على تقليد احتفال ديني فى مكان عمومي أو مجتمع عمومي بقصد السخرية به أو ليتفرج عليه الحضور. وتترواح العقوبات على هذه الأفعال بين ستة أشهر وخمس سنوات. كما يجرم القانون المصري إهانة العلم أو السلام الوطنيين.

أيضًا تتجاوز الحماية القانونية لسمعة الأفراد والمؤسسات النطاق الإقليمي لقانون العقوبات المصري، حيث تشمل هذه الحماية ممثلي الدول الأجنبية المعتمدين لدى مصر وكذلك رؤساء هذه الدول، وذلك وفقًا للمادتين 181 و182 من قانون العقوبات.

التعويض عن الضرر الناتج عن التشهير

يستند حق الشخص المشهَّر به إلى أحقية الأفراد بوجه عام في  الحصول على التعويض بسبب الضرر المادي أو المعنوي الذي قد يتعرضون إليه جراء خطأ الغير وذلك بشرط توافر علاقة سببية بين الخطأ والضرر.

وفي سياق التشريع العقابي المصري على سبيل المثال، لا توجد معايير معينة لتقدير مدى فداحة الضرر الذي يسببه التشهير، ويعتمد الأمر على السلطة التقديرية للقضاء، إلا أن من وقع عليه الضرر بسبب التشهير يظل ملزمًا بإثبات الضرر أمام المحكمة وعلاقته الوثيقة بالخطأ المزعوم أن المدعى عليه قد ارتكبه.

لذا، فإنه ليس أمام المحكمة أثناء نظرها لهذا النوع من القضايا إلا تقدير عناصر الضرر التي يقوم المدعى بإثباتها، مثل النيل من مركزه المالي أو التجاري أو التسبب في خسائرة مادية ملموسة له أو أسرته، بالإضافة للضرر المعنوي.

أيضًا تنظر المحاكم المصرية قضايا التشهير بالأشخاص التي تستند إلى تعريف القذف كما جاء في المادة 302 من قانون العقوبات، والتي تنص على أنه «يعد قاذفًا كل من أسند لغيره (..) أمورًا لو كانت صادقة لأوجبت عقاب من أسندت إليه بالعقوبات المقررة لذلك قانونًا أو أوجبت احتقاره عند أهل وطنه».

ومع ذلك، فإن الطعن في أعمال موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة لا يدخل تحت حكم الفقرة السابقة إذا حصل بسلامة نية وكان لا يتعدى أعمال الوظيفة أو النيابة أو الخدمة العامة، وبشرط أن يثبت المتهم حقيقة كل فعل أسنده إلى المجني عليه.

بناء على ذلك فإن المعيارين الذين يستند إليها تقدير الضرر هما أن يكون الفعل المنسوب للمشهر به يعاقب عليه القانون مثل اتهامه بالسرقة أو الاختلاس أو بإتيان أي فعل يعاقب عليه القانون، أو أن يؤدي هذا الوصف  إلى احتقار المشهر به عند أهل وطنه، وهذا المعيار الأخير غير منضبط ويمكن تفسيره بطريقة تعسفية مما قد يترتب عليه العصف بحرية التعبير.

وينادي الفقه الدولي بأهمية عدم فرض عقوبات سالبة للحرية أو عقوبات مالية مرهقة بسبب التشهير3. وأن التعويض المدني يجب أن يكون التدبير النهائي اللذي يتم اللجوء إليه في حالة فشل التدابير الأقل حدة، مثل إعطاء المشهَّر به حق الرد أو التصحيح أو مطالبة الناشر بتدقيق المعلومات التي قام بنشرها وتسببت في النيل من سمعة أحدهم.

ضوابط فرض قيود على حرية التعبير في مجال التشهير

وضعت الفقرة الثالثة من المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية عدة ضوابط لفرض أية قيود على حرية التعبير، وتتمثل هذه الضوابط في الآتي:

  • أن يكون القيد محددًا بنص القانون: وهو ما يعني أنه لا يجوز تقييد حرية التعبير بدعوى مواجهة التشهير إلا إذا كان هناك قانون صادر عن السلطة التشريعية يقر هذا القيد، ومن ثم فإن القيود التي تصدر في صورة تعليمات، أو قرارات إدارية تفتقد للمشروعية القانونية، ولا يجوز فرضها على حرية التعبير.
  • أن يكون القيد ضروريًا في مجتمع ديمقراطي: معيار الضرورة لفرض قيود على التشهير يعتبر حاسمًا، وإلا أصبح القيد انتقاص غير مبرر من حرية التعبير، والمقصود بأن يكون في مجتمع ديمقراطي، هو التأكد من أن القيد ليس سمة عامة تتسم بها السياسات الرسمية في فرض قيود على حرية التعبير، وانما مجرد استثناء لا يطغى على القاعدة العامة القاضية بوجوب إطلاق حرية التعبير في المجتمع والتسامح مع الشطط الذي قد ينتاب بعض جوانبها.
  • أن يأتي القيد لحماية حق مشروع: والمقصود بالحق المشروع هو الحق الذي يقره القانون ويحميه، ويمتد هذا الوصف ليشمل منظومة حقوق الإنسان المتضمنة في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد ادولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

واستقرت العديد من أحكام المحاكم في البلدان الديمقراطية على أن الشخصيات العامة والمؤسسات يجب عليهم تحمل النقد الحاد، لما قد تسببه الرقابة على هذا النقد من قيود على حرية التعبير وتحقيق الشفافية والمسائلة، خاصة أن المؤسسات ليس لها سمعة يمكن أن تتذرع بحقها في توفير الحماية القانونية لها، ومن ذلك ما انتهت إليه المحكمة العليا في الهند بأن السلطات العامة والمحلية وغيرها من المؤسسات لا يحق لهم إقامة دعاوى التشهير.

وعلى الرغم من أنه لا يمكن اعتبار دراسات الحالة المصرية من بين الممارسات الفضلى إلا أن المحكمة الدستورية العليا المصرية قد أصدرت حكما هامًا انتهت فيه إلى أن «الطبيعة البناءة لحرية التعبير لا تفيد لزومًا رصد كل عبارة احتواها مطبوع، وتقيمها -منفصلة عن سياقها- بمقاييس صارمة، ذلك أن ما قد يراه إنسان صوابا في جزئية بذاتها، قد يكون هو الخطأ بعينه عند آخرين. ولا شبهة في أن المدافعين عن آرائهم ومعتقداتهم كثيرا ما يلجأون إلى المغالاة، وإنه إذا أريد لحرية التعبير أن تتنفس في المجال الذي لا يمكن أن تحيا بدونه، فإن قدرًا من التجاوز يتعين التسامح فيه، ولا يسوغ بحال أن يكون الشطط في بعض الآراء مستوجبًا إعاقة تداولها4.

* أحمد عزّت محامي حقوقي مصري، و المدير السابق للوحدة القانونية بمؤسسة حرية الفكر والتعبير وأحد مؤسسيها.


1 – اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 ألف (د-21) المؤرخ في 16 كانون/ديسمبر1966- تاريخ بدء النفاذ: 23 آذار/مارس 1976، وفقا لأحكام المادة 49.
2 – المواد ٣٠٢ وما بعدها من قانون العقوبات المصري رقم 58 لسنة 1937 تنظم جرائم التشهير.
3 – منظمة المادة ١٩ – مبادىء حول حماية حرية التعبير وحماية السمعة- ص ٢١ النسخة الرقمية- يمكن الإطلاع على المرجع على article19.org
4 – المحكمة الدستورية العليا  الطعن رقم : 37 لسنة : 11 قضائية بتاريخ 6-2-1992

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية