كثرة الطباخين تفسد الطبخة

الثلاثاء 24 كانون الثاني 2012

بقلم د. محمد شجاع الأسد* (نشر بالتعاون مع طريق)

 هناك فكاهة كنت قد سمعتها بخصوص موظفين شركة عالمية كبيرة. تبدأ الفكاهة بالسؤال التالي: ما هو العدد اللازم من موظفي هذه الشركة لتغيير لمبة إضاءة؟ الجواب هو خمسة: واحد يمسك اللمبة وأربعة يحيطون به! عندما يقوم خمسة أشخاص بعمل شخص واحد تكون النتائج سيئة للغاية. إن كثرة الطباخين تفسد الطبخة.

هذه الفكاهة تنطبق على العديد من المؤسسات الكبيرة في كل مكان، وخاصة العامة منها. وإنها تنطبق على العديد من المؤسسات العامة في الأردن. وأي منا وجد نفسه يتجول في دهاليز دائرة حكومية لمتابعة معاملة ما لا بد أنه قد مرَ على عدد كبير من الموظفين الجالسين وراء مكاتبهم دون أن يبدو أنهم يقومون بأي عمل.

عندما تقوم أي مؤسسة بتوظيف العدد اللازم فقط من الموظفين وتختارهم بعناية وتعاملهم وتكافئهم بعدل، فإن أداء المؤسسة سيكون متميزاً. ولكن عندما يتم تعيين عدد يفوق حاجة المؤسسة ويتم تعيينهم من خلال الواسطة ويعطون رواتب متدنية، تكون النتائج في غاية الضعف.

تنطبق هذه الملاحظات طبعاً على المؤسسات المعنية بإدارة المدن. ولنأخذ أمانة عمان الكبرى كمثال. توظف الأمانة ما يقارب الـ 22000 شخصاً يخدمون ثلاث ملايين نسمة. وهذا يعني أن هناك موظف واحد يخدم 135 شخصاً من سكان المدينة. ومع أن الأمانة توظف عدداً لا يستهان به من الأشخاص ذوي الخبرة والكفاءة إلا أن مستوى الخدمات التي تقدمها لا يرقى للتوقعات، ولسكان عمان كل الحق في أن يطالبوا بأفضل مما يقدم لهم، خاصة من مؤسسة تضم هذا العدد الكبير من الموظفين وتوفر نسبة عالية من عدد الموظفين إلى عدد السكان.

لا توجد نسبة مثالية واحدة تحدد عدد الموظفين مقارنة مع عدد السكان في المدينة. هناك بلديات مختلفة في العالم تقدم خدمات مختلفة لسكان مدنها ولذلك تحتاج إلى أعداد مختلفة من الموظفين لتقديم هذه الخدمات. من المتوقع من البلديات عادة أن توفر خدمات مرتبطة بالتخطيط والتنظيم وإصدار الرخص. ولكن مسؤوليات البلديات تتعدى ذلك في أكثر الأحيان لتتضمن إدارة النفايات والسير والنقل العام. وفي العديد من الحالات، تقدم البلديات أيضاً خدمات مرتبطة بالصحة والتعليم والثقافة.

تقوم أمانة عمان بتقديم جميع هذه الخدمات باستثناء الصحة والتعليم اللتين تقدمهما الوزارتين المختصتين. وهناك آراء مقنعة من بلدان مختلفة تبين أنه يجب أن يكون للبلديات دور أساسي في تقديم خدمات التعليم والصحة. بما أن البلديات هي نوع من الحكومة المحلية، فلديها تفهم أعمق وأكثر تفصيلاً للاحتياجات المحلية مقارنة بالمؤسسات الوطنية، ولذلك يمكنها تقديم هذه الخدمات بدرجة أعلى من الكفاءة.

وطبعاً يجب على مؤسسات القطاع العام، سواء كانت محلية أو وطنية، أن تشارك في تقديم خدمات التعليم والصحة وغيرها. ولكنني أؤمن أنه في الوقت الحالي يجب على القطاع العام في الأردن أن يركز على دور المُشرع والمُنظم، وأن لا يأخذ دور مقدم الخدمات إلا في حالات خاصة وبعد دراسة وافية. أنني أعلم أن هناك الكثيرين اليوم ممن لا يتفقون مع هذا الرأي، ولكنني أطلب منهم أن يتذكروا – على سبيل المثال – معاناتنا عندما كانت مؤسسة حكومية مسؤولة عن تقديم الخدمات المرتبطة بالاتصالات. كان على المرء في ذلك الوقت أن ينتظر سنوات وأن يستعمل كل ما لديه من واسطات للحصول على خط هاتف. ولكن بعد أن بدأ القطاع الخاص بتقديم هذه الخدمات قبل حوالي العشر سنوات، قفزت نوعية الخدمة قفزة عالية واصبحت خدمات الاتصال في الأردن تنافس الخدمات الموجودة في بلدان أغنى وأكثر تقدماً من الأردن. وهناك الكثير من الخدمات الأخرى التي يستطيع القطاع الخاص أن يقدمها بشكل أفضل وأكثر كفاءة من القطاع العام.

كيف يمكن تطوير مستوى الخدمات التي تقدمها أمانة عمان بناء على هذه المنظومة؟ يجب البدء بتقييم المهمات التي تقوم بها الأمانة. وبناء على هذا التقييم يمكن تحديد الخدمات التي على الأمانة أن تستمر بتقديمها وتلك التي يستحسن أن تستعين بمصادر خارجية لتقديمها. ويجب أن يرافق ذلك تقييماً لعدد الموظفين الذين تحتاجهم الأمانة للقيام بالوظائف المطلوبة بالإضافة إلى مؤهلاتهم ورواتبهم. من المؤكد أن الأمانة توظف عدداً أكبر من حاجتها. ولو استطاعت هذه المؤسسة أن تقلص عدد موظفيها وأن توظف الأفضل فقط وأن تطور قدراتهم بشكل مستمر وأن تدفع لهم رواتب تنافس رواتب السوق، فإن أداءها سيرتقي إلى مستويات متفوقة.

إن إنهاء خدمات موظفي القطاع العام أمر غير مقبول في الأردن بالرغم من أن الوضع الإقتصادي لا يسمح بتحمل كلفة الأمن الوظيفي التي توفر لهم. ولكن هناك بعض الوسائل التي يمكن من خلالها رفع كفاءة أداء القطاع العام في الوقت الراهن تتضمن التدريب وتشجيع التقاعد المبكر والاستعانة بالقطاع الخاص لتنفيذ عدد من المهمات.

إن الاستعانة بالقطاع الخاص هي وسيلة فعالة لتخفيض عدد موظفي القطاع العام ورفع كفاءتهم مع الحفاظ على وظائف أولئك الذين يتم تحويل مهماتهم إلى القطاع الخاص إذ يمكن تحويلهم أيضاً إلى ذلك القطاع. ومن الأمثلة على ذلك عملية إدارة النفايات الصلبة. توظف أمانة عمان ما يقارب 6000 شخصاً في هذا المجال، ولكن بالرغم من ذلك فإن مستوى النظافة في شوارع عمان غير مقبول. أضف إلى ذلك أنه لا توجد حتى الآن أي أنظمة على مستوى المدينة لإعادة تدوير النفايات. إن الاستعانة بالقطاع الخاص لإدارة النفايات الصلبة في عمان من خلال عملية استدراج عروض مدروسة بدقة ومنفذة بشفافية سيعود بالفائدة على الجميع. وبناءً على تجارب سابقة، فإن القطاع الخاص سيكون أقدر من القطاع العام على القيام بمهام إدارة الفضلات الصلبة. وبما أن هدفه الربح، فإن القطاع الخاص سيقوم بفصل أكبر قدر مستطاع من النفايات لغايات إعادة التدوير، إذ أن النفايات مورد وليست بالضرورة عبئاً، وللنفايات من ورق وكرتون وبلاستيك ومعادن وزجاج قيمة مالية ويتم المتاجرة بها عالمياً. وحتى فضلات الحدائق يمكن معالجتها واستعمالها كأغطية للمناطق المزروعة أو كسماد.

وسيمكن تخفيض عدد موظفي أمانة عمان بـ 6000 شخص من خلال نقل عملية إدارة النفايات الصلبة إلى القطاع الخاص، ولكن لن يفقد هؤلاء الأشخاص وظائفهم، بل سيتحولون إلى القطاع الخاص. وإذا أعطي القطاع الخاص الفرصة لأخذ دور أكثر فعالية في إدارة النفايات الصلبة فإن هذا المجال سيتوسع وسيوفر فرصاً جديدة للتوظيف بالإضافة إلى رفد خزينة الدولة من خلال ضرائب الدخل الإضافية التي سيدفعها. وبنفس الوقت، سيسنح ذلك لأمانة عمان أن تركز طاقاتها على تحسين الأداء في أمور تتضمن التخطيط والتنظيم وإصدار الرخص.

يجب أن لا يقوم القطاع العام بدور وكالة توظيف. ما يجب أن يقوم به القطاع العام هو توفير الظروف الملائمة التي تسمح للقطاع الخاص بتوفير فرص عمل جديدة وأيضاً مراقبة عمل القطاع الخاص وتنظيمه. ولكن إذا استمرت معاملة القطاع العام على أنه مكان للتوظيف، فالنتيجة هي المزيد من الخدمات العامة التي تفتقر إلى الكفاءة والتي يقوم بها موظفون محبطون ذوي رواتب منخفضة. هناك مَثل انتشر في دول أوروبا الشرقية خلال فترة الحكم الشيوعي – عندما كان التوظيف مقتصراً على القطاع العام، وهو “إننا نتظاهر بالعمل، وهم يتظاهرون بدفع رواتب لنا.” وينطبق هذا المثل في العديد من الحالات على التوظيف في القطاع العام في الأردن. مع ذلك، لا تزال هناك العديد من الفرص لمعالجة هذا الوضع ولكن هذه الفرص تتناقص يوماً بعد يوم.

*الدكتورمحمد الأسد مهندس معماري ومؤرخ، وهومؤسس مركزدراسات البيئة المبنية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية