صفحات من تاريخ الأردن: ذكرى إلغاء المعاهدة الأردنية – البريطانية

الأربعاء 13 آذار 2013

مقتطفات من ندوة عقدها المنتدى الإجتماعي الأردني بمناسبة إلغاء المعاهدة

يصادف اليوم ١٣ آذار ذكرى إلغاء المعاهدة الأردنية-البريطانية في عام ١٩٥٧ (بعد عام من تعريب الجيش وبعد ١١ عاماً من “استقلال” المملكة) بقرار من حكومة سليمان النابلسي وبموافقة مجلس النواب.

عقد المنتدى الإجتماعي الأردني عام ٢٠٠٧ ندوة لإحياء الذكرى الخمسين  لهذه المناسبة الهامة والمنسية بمشاركة عدد من المتحدثين منهم طاهر المصري وليث شبيلات وناهض حتر وأحمد جرادات وغيرهم، ونشر المنتدى كلمات المتحدثين في الندوة في كتيب باسم “ذكرى أيام الانتصار”، ومنه هذه النصوص.

تحدث أستاذ الفلسفة أحمد ماضي في الندوة مستذكراً إلغاء المعاهدة فقال:
يعود بدء المعاهدة الأردنية البريطانية-الأولى إلى الخامس والعشرين من ايار عام ١٩٢٣، وهو تاريخ الاعتراف البريطاني بما كان يسمى استقلال إمارة شرق الأردن. فقد أعلنت الحكومة البريطانية أن اتفاقية ستبرم بينها وبين الأردن لتثبيت “الوضع الدستوري” للإمارة من جهة، ومن أجل أن تفي بريطانيا ب”تعهداتها الدولية” إزاء الإمارة من جهة أخرى. وتلكأت بريطانيا في إبرام المعاهدة المذكورة، ولم تستجب لضغوط لجنة الانتدابات الدائمة التابعة لعصبة الأمم ومساعي الأمير عبدالله إلا بعد إنقضاء خمس سنوات، وقد تم التوقيع عليها في القدس بتاريخ ٢٠ شباط من عام ١٩٢٨. [وعرفت بإسم “القانون الأساسي” (أو العضوي) للإمارة]. ويذهب الأستاذ سليمان الموسى إلى عدم توفر معلومات حتى الآن عن “أية مفاوضات دارت حول بنود مشروع المعاهدة”، الأمر الذي يعني أنها فرضت فرضاً. ورغم ما يراه بعض المؤرخين من أن ثمة ايجابيات للمعاهدة، إلا أن سلبياتها تمثلت في القيود التي وضعتها بريطانيا على الإمارة، الأمر الذي كبلها تمام التكبيل، وجعلها شبه مستعمرة، إن لم تكن مستعمرة في واقع الحال.

واللافت للنظر أن المعارضة الشعبية للمعاهدة برزت منذ إبرامها. فقد حدث “إضراب شمل معظم المدن والقرى الكبيرة في اللواء الشمالي وخصوصاً اربد والرمثا وعجلون، وذلك يوم ٩ نيسان ١٩٢٨”، كما يقول مؤرخ الأردن الأستاذ سليمان الموسى. ورافق الإضراب “برقيات احتجاج عديدة ضد مواد المعاهدة أرسلها عدد كبير مين الشيوخ والزعماء إلى الأمير عبدالله”. أما ذروة النشاط فقد بلغتها المعارضة عند عقد المؤتمر الوطني الأول بتاريخ ٢٥ تموز من عام ١٩٢٨، وما تمخض عنه من ميثاق وطني دل على “مدى السخط الذي تغلغل في النفوس من غطرسة السلطة المنتدبة وهيمنتها على مجرى الحكم في الإمارة، وإصرارها على مصادقة ممثلي الشعب على تلك الغطرسة والهيمنة”، كما يقول الموسى.

وجدير بالذكر أن الأمير سلّم للمعتمد البريطاني القرارات التي اتخذها المؤتمر الوطني وطلب منه إرسالها إلى الحكومة البريطانية. ويصف الموسى روح السخط الذي أطلقه نشر المعاهدة في نفوس الأرادنة قائلاً ما يلي: “قامت في البلاد ضجة عظيمة على ما تضمنته من شروط قاسية، وسارت المظاهرات في المدن، وأعلنت الإضرابات، واشترك طلاب المدراس في حملة الاحتجاج والاستنكار…”، وتولت الاحتجاجات بأشكال عديدة. وكان الأمير عبدالله نفسه قد رفع مذكرة إلى رئيس مجلس النظار، عبر فيها عن أن رأي المعارضة يتمثل في أن “الاتفاقية صك عبودية للبلاد يجب تجنبه وعدم الإقرار به”. أما رأي الأمير نفسه فكان أن “الواقع يفرض التوئدة.”

واصلت المعارضة نضالها بأساليب متنوعة أهمها تأسيس جمعية باسم “اللجنة التنفيذية للمؤتمر الأردني”. والواقع أن أقصى طموح لها كان آنذاك، هو تعديل المعاهدة بصورة تضمن حقوق البلاد، وسيادتها القومية، (حيث) من الجلي أن الظروف لم تكن تسمح بالمطالبة بإلغائها. وارتقى الوعي السياسي باطّراد بفضل قيام احزاب وطنية وقومية ويسارية، الأمر الذي أسهم (لاحقاً) في المطالبة بإلغائها واشتداد النضال في سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل.

ولست بصدد عقد مقارنة بين المعاهدة الأولى والمعاهدة الثانية التي ابرمت بتاريخ ١٧ حزيران ١٩٤٦ على الرغم من أن الثانية كانت أقل تحكماً وهيمنة على البلاد. والواقع أن ثمة معاهدة فرضت على الشعب وكبلته، وكان من أهداف النضال أن تلغى، وبقيت كابوساً علينا لعقود عديدة تارة (بنسختها) الأولى وتارة أخرى بصفتها الثانية. [قيدت الاتفاقية الثانية المعروفة باسم اتفاقية لندن الأردن عسكرياً وسياسياً (بحسب وصف موقع القوات المسلحة الأردنية)، وذلك بسيطرة بريطانيا على الأمور المالية، والسياسة الخارجية، وابقاء قواعدها وقواتها العسكرية وسيطرتها على “الفيلق العربي” وتمويله. وتمت “تسوية كافة التفصيلات العسكرية ذات العلاقات بين القوات البريطانية والجيش الأردني بعد إلغاء المعاهدة”. (موقع القوات المسلحة الأردنية).]

إن إلغاء المعاهدة الأردنية-البريطانية، بمبادرة من حكومة سليمان النابلسي الوطنية وقرار من مجلس النواب كان من الانجازات الكبيرة التي حققتها تلك الحكومة في ١٣ آذار من عام 1957. وكانت مصر وسورية والسعودية قد تعهدت بتقديم المساعدة المالية التي كانت تقدمها بريطانيا إلى الأردن بمقتضى المعاهدة. بإلغاء المعاهدة عمت الفرحة الشعب الأردني والشعوب العربية بعامة، لا بل كثرة من شعوب العالم. يقول الدكتور عبدالرحمن شقير أن الأفراح عمت “مدن الأردن وقراه، وعلت الزغاريد والهتافات، وقامت حلقات الدبكة والرقصات هنا وهناك تهزج بالنصر”. وسارت مسيرة نظمتها الأحزاب تأييداً لإلغاء المعاهدة، وتعبيراً عن الفرحة بهذه المناسبة التاريخية. وأستحضر الآن تلك المسيرة التي نظمها الحزب الشيوعي الأردني، وتمركزت في ساحة الجامع الحسيني الكبير، وقد كنت مشاركاً فيها. ولأول مرة في تاريخ الأردن رفع الحزب يافطات علنية كتبت عليها تهاني الحزب للشعب الأردني بإلغاء المعاهدة، وقام قادة المسيرة ومنهم الرفيق، آنذاك، محمود الكايد بمخاطبة المشاركين عبر مكبرات الصوت وكل ذلك باسم الحزب الشيوعي الأردني. وأذكر فيما بعد أن عبدالرحمن شقير اعتلى مقهى الجامعة وألقى من شرفته خطاباً في الجماهير المحتشدة في الساحات والشوارع المحيطة بها. يقول شقير: “ألقيت خطاباً مدوياً استمر أكثر من ساعة، وأنا أبادل الناس الحماس لتوطيد مكاسبهم وإحراز انتصارات أخرى نحو التحرر وتحسين أحوال الناس الاجتماعية، وأندد بمبدأ ايزنهاور (مبدأ الفراغ) الذي أطل علينا في مطلع ذلك العام، وحمل معه التزام السياسة الأمريكية بالحلول محل البريطانيين والفرنسيين في الشرق الأوسط”… ويستطرد شقير قائلاً: “لم يكتب لهذا الحماس والأمل الشعبي الدافق أن يستمرا طويلاً فقد تطورت الأحداث بسرعة. وما كاد شهر آذار يشرف على نهايته حتى وجه الملك رسالة إذاعية إلى رئيس الوزراء يعجب فيها من تأييد الحكومة للشيوعيين ويندد بأعمالهم ويشكك بأهدافهم”.

تفاقمت الأوضاع، واشتد الصراع بين أنصار نهجين. وقد بلغ الصراع الذروة عندما وجه الملك خطاباً للحكومة انتقدها فيه بشدة، وطلبها بالضرب بيد من حديد على الشيوعيين وحلفائهم. وحدث ما حدث فيما بعد.

إن إلغاء المعاهدة ما كان ممكناً لولا وقوف الأحزاب القومية واليسارية والناس العاديين ذوي الميول الوطنية-التحررية وراء حكومة النابلسي، ولولا وقوف مجلس النواب الذي كان معظم أعضائه ينتمون للأحزاب المذكورة وراء الحكومة أيضاً. هكذا تحقق النصر، وعمت الفرحة الكبرى.

إننا نتطلع إلى المزيد من الانتصارات والانجازات، وفي شتى المجالات. بيد أن الشرط الضروري لم سبق يتمثل في توحدنا. فهل يتحقق هذا الحلم الجميل؟

treaty2

وتحدث الكاتب أحمد أبو خليل في ذات الندوة عن تجربة شخصية طريفة في احتفال أقيم في جامعة اليرموك في ١٣ آذار ١٩٨١ بالذكرى الرابعة والعشرين لإلغاء المعاهدة فقال:

ربما كان ذلك الاحتفال العلني الوحيد الذي جرى بهذه المناسبة قبل احتفالنا به اليوم. في ذلك الزمن كنت طالباً في السنة الثالثة في جامعة اليرموك الفتية (تأسست عام ١٩٧٦)، ولكنها كانت ساحة نشاط طلابي ملحوظ ومتنام، سواء على صعيد القضايا المطلبية أو الوطنية. في تلك الأثناء فكرت منظمة الحزب الشيوعي الأردني في إربد بضرورة الاهتمام بالقضايا والمناسبات الوطنية الأردنية، وهو الأمر الذي كان غائباً إلى حد كبير مقارنة بالاهتمام الملحوظ بالقضايا القومية. وكانت مناسبة إلغاء المعاهدة هي المناسبة الأهم، واتخذنا وقتها قرار الاحتفال.

تصادف في هذا الوقت أن كانت منظمة الحزب تفكر بضرورة “كشف” أحد الشيوعيين كممثل للحزب أمام التنظيمات الأخرى، وحينها كان الرفاق “المكشوفين” في الجامعة على وشك التخرج، وقد تم اختياري لهذه المهمة. كان هدفنا أن نثير الاهتمام والتساؤل والنقاش الطلابي حول تلك المناسبة، ولكن ولأنها ستكون المرة الأولى، فقد خططنا لاحتفال قصير إلا إذا أبدت تنظيمات أخرى رغبتها بالمشاركة. وباختصار قال الرفاق لي: عليك أن تتدبر أمرك في هذا الاحتفال، وهذا بالطبع من ناحية الظهور العلني والخطابة، أما من ناحية الإعداد الميداني فإن العمل الأساسي كان للرفاق والأصدقاء “المكشوفين” قبلي، فهم الأكثر خبرة في الدعوة للاعتصامات. ولكن كان القرار أننا لا نريد أن يظهر في الاعتصام أكثر من رفيق واحد…في الجامعة طرح رفاقنا الأمر على باقي التنظيمات وكان موقفهم هو الترحيب والمشاركة، ولكن بالحضور فقط، وهذا يعني أنهم لن يتحدثوا في الاحتفال. وفي مفاهيم ذلك الزمان فإن ذلك يعني أنهم لا يتحملون مسؤوليته، حيث كانت الأجهزة الأمنية تحاسب التنظيمات بناء على مشاركتها في الأحداث.

كانت مهمتي أن أجهز الكلام والأدوات للاحتفال مثل الأعلام واليافطات، فأعددت كلمات رئيسية وبعض القصائد والشعارات، وأخاطت لي شقيقتي العلمين الأردني والفلسطيني، وكتبت بخطي يافطتين واحدة تقول: عاشت الذكرى الرابعة والعشرين لإلغاء المعاهدة البريطانية الأردنية، والثانية تقول: عاش النضال المشترك للشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني، وقد كان هذا الشعار من العلامات المميزة للحزب آنذاك.

فوجئ الأمن في الجامعة وفوجئت الإدارة بالأمر، فقد جرت العادة أن يتم الاحتفال بمناسبة معروفة تستعد لها الجهات “المعنية”. ولكن هذا الوقت كان هادئاً وبانتظار أسبوع الاحتفال التقليدي بيوم الكرامة ويوم الأرض في أواخر آذار. وقد علمنا فيما بعد أن قوة أمن كبيرة استعدت للقدوم تجنباً لمفاجأة غير معلومة. ولكن الاحتفال جرى لمدة خمسين دقيقة كما هو مقرر، وبقيت أخطب فيه لوحدي وألقي الأشعار طيلة هذا الوقت، لولا فواصل من الأناشيد كان بعضهم ينقذني بها بين حين وآخر. بعد انتهاء الاحتفال غرسنا الأعلام واليافطات في ساحة ترابية مجاورة، وبعد مغادرتنا بدقائق تمت ازالتها من المكان.

أثار احتفالنا بالمناسبة الكثير من النقاش والجدل والكثير من الملاحظات الايجابية والسلبية بين الطلاب. وبعد ذلك بأشهر وبعد تتالي النشاطات الطلابية جرى اعتقال العشرات من الطلاب وكنت أحدهم، وكان “حساب” هذا الاحتفال خاصاً وطريفاً. فمن جهة كان التساؤل حول إحياء مناسبة “منسية” وبالتالي المحاسبة على مسؤولية “إثارتها” والتذكير بها، أما وجه الطرافة فقد كان مصدره أن الاحتفال كان الوحيد الذي لم يشترك بقيادته سوى شخص واحد، في مناسبة لم تكن قد “درجت” على ألسنة المحققين، وهو ما جعل المحققين أثناء التحقيق مع باقي الطلاب المعتقلين يسألونهم عن علاقتهم ب-“اعتصام أحمد أبو خليل”.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية