متزوج بالقضية الفلسطينية

الثلاثاء 21 تموز 2015

بقلم زهرة حنقير (نشر هذا المقال باللغة الانجليزية على مدوّنة Florence of Arabia بتاريخ ١٢ تموز ٢٠١٥)

وثائقي: رحلة في الرحيل (2014)

إخراج/إنتاج/كتابة: هند شوفاني.

مكان العرض: ريتش ميكس (عرض أول في لندن، 11 تموز، 2015)، كجزء من مهرجان إيست إند للأفلام، وسيتم إطلاقه على الإنترنت قريبًا من قبل المخرجة.

بالنظر إلى العمل الذي أردت أن أنجزه، كان علي ألا أتزوج قط.
قد يكون ذلك خطأً، وقد يكون تفكيري مشوهًا، لكن بالنسبة لي، السياسة هي كل شيء في الحياة. – د. إلياس شوفاني (1932 -2013).

eliasحين شاهدت تناول هند شوفاني شديد الشخصية لحياة والدها د. إلياس في إحدى سينمات شرق لندن، شعرت بأنني أحدق في غرفة معيشة شخص ما دون أن يكون لديه أدنى فكرة عن ذلك.

في سلسلة مقابلات مع ابنته، يروي د. شوفاني قصة تركه الوظيفته المريحة كأكاديمي في جامعتي برينسون وماريلاند، وزوجته الأمريكية-البيروفية حين كان عمره 40 عامًا، ليعود إلى الشرق الأوسط وينضم لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت في السبعينيات.

وربما لكونه أشد راديكالية وعقلانية من أن يلعب دورًا في السياسة الكارثية لتلك الأيام، فقد أجبر البروفيسور على ترك بيروت والمنظمة خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، متجهًا إلى العاصمة السورية، وعازلًا نفسه عن عائلته القريبة، والتي سكن معظم أفرادها الأردن في ذلك الوقت.

شوفاني، الذي كثيرًا ما يشار إليه بأبرز المفكرين العرب في الشؤون الإسرائيلية، مسلحًا بفهم عميق للصهيونية وسياسات الدولة اليهودية الوليدة، كان قد أكمل تدريسه وتعليمه الجامعي الأساسي في مؤسسات إسرائيلية قبل أن يتجه إلى الولايات المتحدة لنيل درجة الدكتوراة في الدراسات الإسلامية. بإتقانه العربية والعبرية واطلاعه العميق على إستراتيجيات الحكومات الإسرائيلية المختلفة، أصبح لاحقًا مدير الأبحاث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وساهم بشكل كبير في الخطاب حول الشرق الأوسط عبر عدد هائل من المحاضرات والمقالات والكتب. حين غادر فلسطين المحتلة لأول مرة بالقارب مراهقًا، ودّعه عشرات من أهل قريته. لربما كانت لديهم فكرة عما كان ينتظره.

في هذا الوثائقي الممتد على مدى ساعتين، نرى مقتطفات من أفكار د. شوفاني، جُمّعت غالبًا عبر مقابلات معه في بيته الدمشقي المتواضع، ممتدة بين الشخصي والسياسي، رغم أننا ندرك لاحقًا أنه بالنسبة له، فإن السياسي والشخصي لا ينفصلان.

يشاركنا د. شوفاني بصراحة، وأحيانًا بفكاهة، أفكاره المريرة والمعقدة تجاه ياسر عرفات، ومنظمة التحرير، وحل الدولتين وكأننا كنا معه في أحد مقاهي بيروت. يهزّئ السياسيين اللبنانيين «الحقيرين» (البلطجية) والأصولية الدينية، الإسلامية والمسيحية. يعلن شوفاني بفخر أنه ملحد متين. يتجول في شقته بجرزته وبيجامته المخططتين، وهو يبدو متأملًا بعمق، وعقله العجيب مثقل بالأفكار.

يعم الفيلم شعور عارم بأننا نعيش إحباطه، ونجلس في مكتبه، ونحارب الوقت وقوى العالم العربي الهائجة أيضًا. كانت الإستراتيجيات الفلسطينية والعربية للتعامل مع إسرائيل (وما تزال) فشلًا هائلًا يصارع د. شوفاني لتقبله.

لذا، فإن «رحلة في الرحيل» يروي قصة فلسطين بخاصة (والعالم العربي بعامة) عبر عدسة شديدة الشخصية هي تجربة عائلة شوفاني. لقد كان رجلًا أراد بشغف أن يغير عالمًا يبدو أنه انفصل عنه في سنواته الأخيرة، بسبب الحرب في سوريا والمنفى من فلسطين من جهة، ومن جهة أخرى لأنه بدا وكأنه يريد أن يدعه الناس وحده مع أفكاره ومُثُله. شوفاني فرض هذه العزلة على نفسخه، ما جعل الوثائقي أصعب للمشاهدة.

بلى، إن هذا الفيلم يتناول المدى الذي تغلغت فيه فلسطين في حياة د. شوفاني، وعن كيف أنه لم يستطع يومًأ التخلي عنها، لا من أجل موقع ثابت في جامعة عالمية بارزة، ولا حتى من أجل أبنائه.

يتحدث شوفاني إلى ابنته بشغف عن «القضية»، رغم أنه يؤكد أن ليس وطنيًا. يعارض فكرة التقدم بطلب هوية، التي لا تمنح في نظره سوى حركة مؤقتة على معابر بناها الاستعمار. يقهقه حين يتحدث عن الكتب الخمسة والعشرين التي كتبها عبر السنوات -والعديد منها عن إسرائيل- قائلًا أنه لم يكتبها سوى لتثقيف أصدقائه وزملائه ممن لم يكونوا قادرين على تحمل تكلفة رفاهيات كهذه لوحدهم.

هذا الفيلم لا يدور حول مآسي فلسطين وتجارب العالم العربي الفاشلة فحسب: إنه تصوير مدهش للتوازن الهش بين الشخصي والسياسي، والديناميكية المعقدة للعلاقة بين أب وابنته، ولرجل يتصالح مع القرارات التي اتخذها في حياته

لكن هذا الفيلم لا يدور حول مآسي فلسطين وتجارب العالم العربي الفاشلة فحسب: إنه تصوير مدهش للتوازن الهش بين الشخصي والسياسي، والديناميكية المعقدة للعلاقة بين أب وابنته، ولرجل يتصالح مع القرارات التي اتخذها في حياته، والتي لا يندم على أي منها، كما يقول.

مع ذلك، فإننا نلاحظ صراع شوفاني لكبح مشاعره وهو يحدّث هند عن مشاويره اليومية، ويسأل عن ابنته الأصغر، نور. «لا أترك البيت كثيرًا هذه الأيام»، يقول بنبرة استقالة. يضيف أن لا وقود في المنزل، وأنه لا يستطيع أخذ قيلولة لأن الجو بارد، وأن أصدقائه يزورونه أحيانًا ليؤنسوه، ثم يخرج ضحكة متوترة ليخفف من ثقل حالة وحدة واضحة.

لو أننا لم نعرف السياق، لما ظننا أبدًا أن حربًا أهلية تدور غير بعيد عن بيته، بلا نهاية لها في الأفق.

EliasShoufani

ربما بشكل مقصود -وكأن د. شوفاني احتاج أن يصل إلى القصة برويّة- يمر بعض الوقت قبل أن يخبرنا كيف التقى بزوجته الفلسطينية-الأمريكية وأنشأ عائلته معها، قبل أن يختطف السرطان حياتها بشكل مأساوي. تدحض خياراته الشخصية أي شعور بالذنب، وإصراره على البقاء متماسكًا يحجب أي علامة ضعف. لكننا نعلم حقيقة يشعر به.

أمامنا رجل اختار أن يضع فلسطين، أساس وجوده، قبل كل شيء – قبل أبنائه وزوجته وأصدقائه وعائلته. هل مات وهو راضٍ عن نفسه كأب؟ وككاتب وناشط واشتراكي وسياسي؟

إن الفيلم يفطر الفؤاد لأن أجوبة هذه الأسئلة تبدو معلقة حتى الآن. في هذا الواقع الثقيل الذي تشكله الحياة كفلسطيني -إنسان يعيش في المنفى، بلا بيت حقيقي، دون حق عودة، دون جواز سفر- يصارع د. شوفاني لإيجاد مكان يمنحه التأثير الذي يستحقه، كأب وكمفكر سياسي.

لعل هذه إحدى أكبر مآسي العالم العربي: أن القوى التي سيطرت عليه أكبر وأوحش من أن يهمها المنطق أو الفكر أو الأمل. حياة الأفراد الشخصية تتحطم كل يوم بفعل السياسة والخيارات والظروف. عمليًا، ما من مكان لعقل كعقل شوفاني، رغم أن الشرق الأوسط بحالته الراهنة يتوق إليه بشدة.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية