الأوركسترا، تلك الآلة الضخمة

الإثنين 26 كانون الأول 2016
مصدر الصورة: ويكيميديا

في القرن السابع عشر، كتب الأديب الفرنسي ميشيل شابانون عن المرة الأولى التي رأى فيها أوركسترا حيّة: «عندما بدأت الموسيقى، غلبني دوار بدا لي وكأنه جريمة: لم أستطع التخيل أن الوصول إلى هذه الدرجة من اللذة الحسية كان ممكنًا دون إهانة الرب».

سماع أوركسترا جيدة للمرة الأولى قد يكون تجربة صاعقة حتى في عصر نحن مغرقون فيه بكافة المؤثرات السمعية والبصرية الممكنة. فطاقة عشرات الموسيقيين الذين يتحركون كمخلوق واحد، وآلاتهم الخشبية والمعدنية التي تنتقل خلال ثوان من وشوشة خافتة إلى صوت مدوٍ يعصف بالقاعة، فيهما سحر لا يمكن نقله بالتسجيلات إلا شكليًا.

في عصر النهضة، كانت غالبية الموسيقى الأوروبية تكتب دون تحديد الآلات المشاركة، حيث يؤدّى الدور من قبل أي آلة في المتناول، إلا أن الإيطالي مونتيفيردي (1567-1643) كان من أوائل من أصروا على تحديد الآلات المطلوبة في مؤلفاته بشكل دقيق، خصوصًا في الفرق الكبيرة التي رافقت أوبراته، والتي يمكن اعتبارها الخطوات الأولى على طريق ولادة الأوركسترا.

أما في القرن السابع عشر، فسواء كان الملك في الكنيسة، أو في الحدائق، أو باحتفال رسمي، أو حتى في غرفة الطعام، كانت حياة البلاط ترافَق بما يشبه الموسيقى التصويرية المستمرة، تؤديها فرق بصفات مؤسساتية مختلفة كجزء من الكنيسة أو الاصطبلات الملكية أو نقابة الموسيقيين. أشهرها كانت «كمنجات الملك الأربع والعشرون» في البلاط الفرنسي تحت إشراف المؤلف لولي (1632-1687)، الذي اعتاد نظم الإيقاع بعصا طويلة يدق بها الأرض أثناء العزف، مما جعله أول قائد أوركسترا في التاريخ وأودى بحياته في نفس الوقت حين دق قدمه بالخطأ فأصيب بالتهاب قاتل.

بحدود العام 1800، تحولت الأوركسترات من رمز ملكي إلى نشاط عمومي للطبقة الوسطى، حيث اشتهرت عواصم مثل لندن بعروض أوركسترالية دورية تستضيفها عدة مسارح خاصة. أما القرن التاسع عشر، فقد كان رحلة طويلة ومتسارعة ساهم خلالها كبار المؤلفين الرومانسيين من بيتهوفن إلى ماهلر في توسيع قدرة الأوركسترا وعدد عازفيها، الذي تراوح بين 50 و100 عازف، ووصل في بعض الحالات إلى الألف وأكثر.

الاحتمالات اللامتناهية في تقنيات العزف ونوعية الأصوات التي تستطيع الأوركسترا إنتاجها جلبت معها ولادة علم التوزيع الأوركسترالي، حيث كتبت عشرات الكتب والموسوعات لشرح الطرق الأفضل لاستخدام كل آلة وكيفية دمجها مع غيرها حسب طبيعة اللحن. يجب الإشارة أيضًا إلى أن الأوركسترا لم تكن لتولد لولا نظام التنويط الموسيقي، الذي سمح بكتابة عشرات الأدوار المتزامنة بدقة عالية، وتطوير الموسيقى من مجرد لحن ومرافقة نحو لوحات صوتية حقيقية.

تقسم الأوركسترا النموذجية اليوم إلى ثلاث فئات من الآلات: وترية، ونفخية، وإيقاعية، بعضها تقسم بدورها إلى فئات أصغر. فالوتريات مثلًا تقسم إلى شعبة كمان أولى، وشعبة كمان ثانية، وشعب فيولا وتشيللو وكونترباص، يترأس كل منها «قائد شعبة» هو بمثابة قائد فرعي للفئة المسؤول عنها، ومنسق بينها وبين وقائد الأوركسترا. بينما يعمل «العازف الرئيسي» الذي يجلس على يسار القائد مباشرة كمسؤول عن شعبة الكمانات، ومعاون للقائد في بعض الأمور التقنية واللوجستية.

عام 1946 كتب البريطاني بريتن «دليل الشاب/ة إلى الأوركسترا»، وهو قطعة موسيقية تشرح تركيبة الأوركسترا وآلاتها المختلفة، تختتم بما يسمى «الفوغ»، حيث تبدأ آلة ما بعزف اللحن ثم تنضم إليها الآلة التالية بنفس اللحن من البداية عندما تكون الأولى قد أصبحت في منتصفه، وهكذا يستعرض بريتن في أقل من ثلاث دقائق جميع آلات الأوركسترا من الأكثر حدة (البيكولو) إلى الأكثر جهورية (الإيقاع والتوبا).

لكن حتى الأوركسترا الكبيرة التي استخدمها بريتن يمكن أن تبدو فقيرة أمام تنوع أوركسترات مؤلفين كسترافينسكي ورافيل، الذين أبهروا القرن العشرين بسيطرتهم الخيالية على الأوركسترا واستخراجهم منها لأصوات غير مسبوقة، تصل في أوبرا رافيل «الطفل والتعويذات» إلى تقليد مواء القطط ومختلف أنواع الحشرات والطيور الحقيقية والمتخيلة (1:34). ومع التطور العلمي اليوم، تأخذ تقنيات التوزيع الأوركسترالي بعين الاعتبار الأمواج الصوتية للآلات وعلاقة اهتزازها الجماعي مع الصالة الموسيقية التي تعزف فيها، كما في قطع المؤلف الأميركي المعاصر جوناثان هارفي.

إضافة لكونها الفرقة المعتمدة لمرافقة غالبية الأوبرات والباليهات، تملك أوركسترا اليوم حضورها الأقوى في السينما، حيث تحرص هوليود مثلًا على إشباع أفلامها الخيالية والملحمية بموسيقى أوركسترالية ترقى إلى مستوى مخيلتها البصرية. تكتسب الكثير من هذه الموسيقى الموزّعة عادةً بعناية فائقة حياةً خارج الشاشة، مثل موسيقى هاري بوتر أو قراصنة الكاريبي التي دخلت البرامج الدورية لقاعات الحفلات.

تولد الكثير من القطع الأوركسترالية نتيجة طبقات متراكمة من التاريخ والجغرافيا، مما يجعل من النوطة الموسيقية نصًا بالمعنى الأدبي، لديه دلالاته ورموزه التي تحتاج إلى تحليل وتأويل. وفي حالة الأوركسترا التي تتألف من عشرات العازفين، وحيث لا يمكن لكل عازف أن يعزف حسب تحليله الشخصي، تبرز الحاجة إلى تأويل موحد للجميع. وهنا يكمن أحد أدوار قائد الأوركسترا أو «المايسترو»، الذي يقع على عاتقه اتخاذ قرارت حول كل تفصيل صغير؛ كيف تُبنى الجمل الموسيقية، أين يجب تغيير السرعة، أين تتصاعد الدراما وإلى أي درجة، ما الذي يقصده المؤلف في كل لحظة، وما علاقته بالكتاب الفلاني أو الحدث الفلاني.

قادة الأوركسترا هم أشخاص خارج التصنيفات المألوفة للمهن، فبالإضافة إلى معرفتهم المتقدمة بالآلات والتاريخ الموسيقي، عادة ما يتحدث القادة عدة لغات، ويمتلكون معارف موسعة تمكنهم من تأويل نص موسيقي كما يجب. فحسب البرنامج الذي يعمل عليه، قد يجد القائد نفسه منغمسًا في تعلم رقص الفالس أو دراسة تفاصيل ألف ليلة وليلة أو أحداث الثورة الروسية لعام 1905، باختصار، أي موضوع إنساني ساهم بشكل أو بآخر في خلق موسيقى ما.

لكن إضافةً إلى ذلك، يقع على عاتق القائد مجموعة مهام تقنية بحتة، أبسطها معرفة ما تعزفه كل آلة في كل لحظة من المقطوعة، الشيء الذي يتطلب سنوات من الدراسة، فمن رأى يومًا نوطة أوركسترا يعرف كيف يمكن أن تبدو مثل كابوس مرعب من الخربشات، تعزف فيه عشرات الآلات في الوقت نفسه ألحانًا مختلفة بمفاتيح مختلفة. يمكن لبعض المقطوعات الحديثة والمعاصرة أن تكون بتعقيد أي شيفرة بصرية، وقد تأتي مع صفحات من التعليمات والفهارس التي توضح معاني الإشارات وطريقة أدائها، وهي بذلك لا تختلف عن مخطط هندسي يقدم تعليمات مفصلة لتنفيذ العمل.

المظهر الأنيق للأوركسترا قد يخفي صعوبة قيادتها الأشبه بقيادة سفينة، حيث يحافظ القائد على السرعة والتجانس العام ضمن كتلة مهولة من العزم الصوتي، ويستخدم لذلك مجموعة من الحيل والتقنيات كي تبطئ وتسرع الأوركسترا كجسد واحد، وكي لا يختل توازنها الصوتي بأن يعلو أحد أكثر من المطلوب. يرسم القائد الإيقاعات والجمل اللحنية في الهواء بمساعدة عصا تمنحه المزيد من الدقة، مذكرًا العازفين بأماكن انضمامهم وانفصالهم عن البقية، وطريقة تأويل الجمل.

تسري المعلومات بسرعة تيار كهربائي بين القائد وقادة الشُعَب والعازفين بكل الاتجاهات عبر النظرات والإشارات، وفي أي لحظة معينة من الأداء، يبقي العازف النوطة وقائد الشعبة وقائد الأوركسترا على خط نظر واحد، مع بقاءه مصغيًا لكافة ما يدور حوله وجاهزًا لما سيحدث في الثواني القادمة.

من أجل تحقيق كل هذا بأكثر فاعلية ممكنة، توارثت الأوركسترا تراكمات قرون من البروتوكولات والقواعد التي تتضمن كل شيء من طريقة الدوزان الجماعي وتموضع العازفين ووصولًا إلى كمية من المصطلحات المشتركة (من أصول إيطالية وفرنسية ولاتينية مثلًا) لتجاوز العوائق اللغوية بين الموسيقيين في التدريبات، حيث يمارس القائد عمله بتوجيه الأوركسترا بالملاحظات اللازمة للوصول إلى النتيجة المطلوبة.

لكن تجميع كمية كبيرة من الناس في مكان واحد لفترات طويلة وتحت أعراف مشتركة يؤدي بشكل طبيعي إلى نشوء مجتمع مصغر، خصوصًا وأن طبيعة الأوركسترا لا تأبه لعمر العازف وشكله ولغته، ولا تخضعه لأي معايير اجتماعية أو إعلامية. نضج هذا المجتمع عبر قرون لدرجة أن تصبح له نكاته الخاصة، حول لامبالاة عازفي الكونترباص وبلاهة عازفي الفيولا وغرور الكمانات، وغيرها من النمطيات التي يتسلى بها الموسيقيون. يعكس هذا المجتمع تنوع أفراده، الذي ينعكس بدوره سلبًا وإيجابًا على الفريق، ويتولى القائد استيعابهم جميعًا بدبلوماسية، وتوحيدهم في خطاب متجانس يخدم المؤلف وسياقه الفكري.

لذلك تحوي الكثير من المؤسسات التربوية كالمدارس والجامعات أوركسترات خاصة بها، كذلك الإذاعات والحكومات والجيوش. قوة الأوركسترا تجعلها ممتازة للهيمنة السياسية، حيث درجت عادة تنظيم حفلات أوركسترالية أنيقة بعد العمليات العسكرية كنوع من «التّعليم» على الموقع المسيطر عليه حديثًا، مثل حفل فيلهارموني «إسرائيل» على جبل المشارف غداة احتلال القدس الشرقية عام 1967، أو الحفل الروسي في تدمر هذا العام. لكن الدعاية السياسية خلف حفل أوركسترالي قد تكون حتى أكثر تحفظًا، كما في الحفل التاريخي لفيلهارموني نيويورك في صلب كوريا الشمالية عام 2008.

لكن طاقة الأوركسترا ذاتها يمكن أن تستخدم لخدمة قضية إنسانية، مثل أوركسترا سيمون بوليفار التي جاءت نتيجة مشروع «السيستيما» الضخم، والذي انتشل قرابة 000 700 شاب وشابة من الفقر في فينزويلا بتعليمهم الموسيقى مجانًا، أو أوركسترا شباب فلسطين والمغتربين السوريين، والشباب العراقي، حيث يتحقق حلم الكثيرين بالاجتماع -المستحيل عادة- مع أبناء بلدانهم، فتتحول الأوركسترا إلى نموذج عن وطن مفقود.

تشكل الأوركسترا حالة إنسانية خصوصية جدًا، تلتقي ضمنها مجموعة كبيرة من الغرباء أحيانًا دون مقدمات أو روابط لغوية وجغرافية، وخلال ثوان من إشارة القائد، تتصل نظراتهم ويتنفسون كجسد واحد. يختصر المؤلف هيندميث ذلك بأن «الأشخاص الذين يعزفون سوية لا يمكن أن يكونوا أعداء، على الأقل حتى تنتهي الموسيقى».


«صول» هي زاوية شهرية تتناول قضايا موسيقية كلاسيكية وحديثة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية