النبي الأسود: توباك شاكور

الخميس 02 تموز 2015
tupac

tupac4282011خلال السنوات الماضية، وبينما كانت الميادين العربية تشهد جموعًا خرجت إلى الشارع طلبًا لحياة أقل سوءًا، في الربيع العربي الذي سيتحول بعد سنوات قليلة إلى شتاء طويل، استعان العرب بكل ما في ذاكرتهم الجماعية من ثورية ليعززوا من وجودهم في الميادين. في هذا الجو المليء بمشاعر وأفكار متناقضة، ومن مكان بعيد في الذاكرة العربية، عاد إلى الحياة الشيخ إمام برفقة أحمد فؤاد نجم، خرج الرجلان من النسيان والإهمال ليشعلا الميادين بأجمل ما عرف النصف الثاني من القرن العشرين من أغنيات ثورية. وربما ستظل هذه الأغاني مشعلًا يقود المنتفضين الذين سيأتون بعد أجيال من الآن، صحيح أنهم سيكونون أكثر ذكاءً، وسيتعلمون من أخطاء التاريخ، لكنهم سيرددون أيضًا «شيّد قصورك».

ولأن العالم واحد ولو اختلفت الألوان، ولأن الظالم واحد ولو اختلفت الأديان، كان للسود في أميركا أيضًا نسختهم الخاصة من أغاني الشيخ إمام ورفيق دربه نجم، وقد اجتمعت هذه الموهبة العظيمة في شخص واحد كاد يصل إلى حكمة النبوّة لولا أن في رأسه عقل إنسان فيه من الطيش ما فيه، وهذا النبيّ كان مغني الراب الأميركي توباك شاكور.

إن كنّا في لحظات نصرنا ولحظات انكسارنا، على السواء، نستعيد العجوزين، فإن مدينة بالتيمور الأميركية والتي عرفت منذ عدة أشهر اشتباكات عنيفة بين المواطنين السود ورجال الشرطة، قد استعادت بدورها توباك، أيقونتها الثورية السوداء. ولعل من تابع الأحداث هناك قرأ توسلات رفعت إلى الله أن يعيد لهم توباك مرّة أخرى، ربما ليعبر عنهم، وربما ليقودهم. أوليس هو الطفل الذي غيّرت والدته اسمه تيمّنًا بقائد الثورة البيروفية خوسيه غابرييل توباك أماورو؟

وإن كان التأثير الأكبر لتوباك قد برز في أميركا، فإنه الأثر ولأسباب عديدة يتعلق بعضها بطبيعة ثقافة الهيب هوب، وبعضها الآخر بشخصية توباك، قد انتقل إلى أماكن أخرى من العالم لم يكن من المتصور أن يصل إليها. فخلال الثورة على نظام القذافي في ليبيا، صرّح أحد المقاتلين لمراسل الديلي ميل أن من تقاليد القتال بالنسبة له أن يستمع إلى توباك قبل أن يذهب لقتال رجال القذافي. وفي سيراليون التي عرفت حربًا أهلية بين الأعوام 1991 و2002، اعتاد الثوار أن يحفروا اسم توباك على بنادق الكلاشينكوف التي بها يقاتلون، وكذلك اعتادوا ارتداء قمصان تحمل صورته، الأمر الذي جعل السلطات تعتقل أيّ شاب يرتدي قميصًا طبعت عليه صورة الفتى الأميركي.

من هو توباك؟

ولد توباك في حي هارلم الشهير في مدينة نيويورك، في العام 1971، لوالدين ينتميان إلى حزب الفهود السود، وهي منظمة ثورية أميركية مسلّحة، كانت تعمل على مقاومة وحشية الشرطة التي لطالما تعرض لها المواطنون السود، وخصوصًا في المناطق الفقيرة، وقد نشطت المنظمة بين العام 1966 و1982. وفي الفترة التي سيرى فيها توباك نور الدنيا، كانت والدته تتعرض لمحاكمة، اعتبرت واحدة من أقسى المحاكمات وأشهرها، إذ أنها حوكمت بتهمة تبدو للوهلة الأولى تهمة عالم-ثالثية أو مكارثية، ألا وهي تهمة التآمر على حكومة الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى عشرات التهم الأخرى، وقد كانت القضية واحدة من أطول القضايا وأشهرها في تاريخ مدينة نيويورك. اختارت أفيني شاكور، والدة توباك، أن تتولى هي الدفاع عن نفسها، مخاطبة هيئة المحلفين بالقول: «لقد قام المدعي العام وموظفوه بوضع نقطة من الحقيقة في وعاء من الأكاذيب، ليبتكر قصة يعجز عن الإتيان بمثلها كل كتّاب هوليوود في تاريخ أمريكا بأكمله. عليكم أن تجعلوا التاريخ يذكركم على أنّكم هيئة المحلفين التي ما أذعنت للضغوط المشينة التي تمارسها الدولة. عليكم أن لا تضيعوا ثقتنا بكم».

وسيكون لهذه المحاكمة، ولهذه الشخصية القوية التي ميّزت الأم دورهما الكبير في خلق شخصية توباك والتأثير عليه وعلى مسار حياته، وفي عمر المراهقة انتقلت العائلة إلى مدينة بالتيمور، حيث سيدرس هناك توباك في مدرسة الفن: الشعر والجاز والباليه.

انتفاضة الهيب هوب

ظهر الهيب هوب كنوع موسيقي مختلف عما قبله في سبعينيات القرن المنصرم، وفي منطقة البرونكس تحديدًا، في زمن كانت موسيقى الديسكو هي المسيطرة، لكن مشكلة الديسكو أنه لم يكن يعبر عن الجميع بذات الكفاءة، فأحياء السود التي تسيطر عليها العصابات والفقر وتواجه العنصرية كل يوم، كانت بحاجة إلى موسيقى تعبر عنها، خاصة في الفترة التي تلت رحيل الدكتور مارتن لوثر كينج ومالكوم إكس. ولذا جاءت ثقافة الهيب بما تحمله من موسيقى وأزياء وغرافيتي ورقص لتعبر عن هذه المرحلة وطموحات وآلام أبنائها.

ويكفي الاستماع إلىهذه الأغنية والتدقيق في كلماتها للتعرف على طبيعة تلك المرحلة، إذ أنه بالإمكان اعتبارها فاتحة مرحلة جديدة، مرحلة على موسيقى الراب بكل ما تحمله من عنف وحدّة وثورة.

It’s like a jungle sometimes it makes me wonder
How I keep from going under
Broken glass everywhere
People pissing on the stairs, you know they just don’t care
I can’t take the smell, I can’t take the noise no more
Got no money to move out, I guess I got no choice
Rats in the front room, cockroaches in the back
Junkie’s in the alley with a baseball bat
I tried to get away, but I couldn’t get far
‘Cause a man with a tow-truck repossessed my car

الوضع كالغابة هنا، حتى أنني أتسائل أحيانًا
كيف أمنع نفسي من الانهزام.
زجاج مهشم في كل مكان
أناس يبولون على الأدراج، بإمكانك أن ترى أنهم لا يأبهون
لا أستطيع احتمال الرائحة، لا أستطيع احتمال الضجيج
لا مال لدي لأبتعد، أعتقد أن لا خيار لدي
هناك جرذان في الغرفة الأمامية، وصراصير في الخلفية
ومدمن في الزقاق يحمل مضرب بيسبول
حاولت أن أهرب، لكنني لم أستطع الابتعاد
لأن رجلًا يقود عربة قطر استحوذ على سيارتي

وسط هذه الأوضاع خرج توباك، كمغني راب يعبّر عن ذاته التي تشبه ذوات كثيرة تحيط به، ويصرخ محاولًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

لكن السؤال الأبرز والذي سيبقى بعد توباك لعقود طويلة هو: كيف تمكن هذا الشاب الذي توفي وهو لم يكمل عامه الخامس والعشرين بعد من التربع على عرش موسيقى الراب، وتحقيق شعبية لم يستطع نيلها منافسوه؟ كيف وعلى الرغم من وفاته المبكرة لا زالت أغانيه تحطم أرقامًا قياسية في سلم المبيعات؟

الجواب باختصار هو أن توباك قد وصل إلى درجة الأسطورة، فتماهى معها، وصل إلى أن يكون أسطورة أحيانًا بفعل اجتهاده وسلوكه، وأحيانًا بالظروف التي أجبر على خوضها، ومن الدلالات على بلوغ هذه المرتبة، الصفات التي أسبغها عليه مريدوه، وهم كثر، والتي سنعرض بعضها أدناه.

الرجل الخالد

خلال تجوالك في الإنترنت، تجدون أن هناك العديد من النظريات التي تقترح أنأ توباك لم يمت في الثالث عشر من سبتمر 1996، وأنه موجود في مكان ما في العالم. وعلى الرغم من خيالية هذه النظرية واقترابها من الأساطير الدينية إلّا أن لها ما يبررها، إذ أنه تعرض في العام 1994 لإطلاق النار عليه من قبل ثلاثة أشخاص، فأصابته خمس رصاصات، ونقل بعدها إلى المستشفى مباشرة، لكن وبعد أن جريت له العملية قرر الخروج من المستشفى والذهاب إلى المحكمة، الأمر الذي جعله في نظر محبيه خالدًا لا يقهر.

رجل النبوءات

خلال الحديث حول أسباب احتجاجات بالتيمور، وقبلها جيفرسون، تم استدعاء مقابلة قديمة أجريت مع توباك، يحذر فيها من انفجار الوضع في حال استمر الوضع على ما هو عليه من تمييز وقهر وإفقار، وقد كان هذا الكلام بمثابة نبوءة، تحققت بعد حوالي عشرين عامًا على وفاة الرجل.

هذه النبوءة ليست وليدة قدرات خارقة تمتع بها الرجل وإنما لأنه كان ابن مجتمعه، عارفًا بقضاياه، وريثًا لمشاكله وأزماته، وهو الأمر الذي مكّنه من رؤية الانفجار القادم لا محالة.

صوت الجيل

رددت مرارًا في هذا المقال أن من مميزات توباك قدرته الهائلة على التعبير عن مجتمعه وجيله وما يعانيه، ويتبدى هذا الأمر من خلال كلمات أغانيه وسلوكه في الحياة، ومن الأدلة التي نستعين بها هنا:

أولًا: هل في الجنة غيتو؟

من المعروف أن لفظة غيتو كانت تطلق على الأحياء التي كان يجبر اليهود على سكناها في أوروبا العصور الوسطى أو زمن الهولوكوست، لكن لفظة الغيتو في أغنية الراب تطلق على الأحياء التي يسكنها السود، والتي تشبه أحياء اليهود في العصور الوسطى، إذ أنها أحياء تفتقر إلى الخدمات الأساسية وتنتشر فيها الجريمة والعصابات، تفتقر إلى النظافة والتعليم الجيد، وبالطبع تعرف أكثر من حصتها من الفقر، وقد عبّر توباك عن الغيتو كثيرًا، الأمر الذي دفعه للظن أن الغيتو إنما هو قدر السود الأبدي، ولذا فإنه يتساءل محقًا هل في الجنّة غيتو؟

لكن هذا الجيتو ليس مسالمًا كما يظن، ولذا فإنك إن لم تتعامل مع مدينتنا باحترام فإننا سنحرق الأرض من تحتك، أوعلى الأقل ما تقوله الأغنية.

ثانيا: الشرطة عدو

من الممكن لأي مستمع لأغاني الراب أن يلاحظ كمية العنف الواردة فيها، وهذا العنف يمكن قراءته بأدوات علم الاجتماع على أنه عنف متراكم منذ قرون عانى فيها الشخص الأسود من الاستعباد والاحتقار والامتهان بشكل يومي مؤسس. وإن كان هذا العنف قد ظهر مرارًا على شكل عصابات متناحرة، أو عنف منزلي، أو حتى عنف ضد السلطة في بعض الفترات، فإن الراب قد حمى المجتمع من انفجار أكبر إذ سمح للعنف بالخروج على شكل موسيقى، وكلمات موزونة، وقد كان عنف كلمات توباك موجهًا نحو مصدر الداء من وجهة نظره، نحو العدو اليومي الذي ما ينفك يشتبك معه، أو يقتل إخوته، أو يفرض عليه قوانين يرفضها، وهذا العدو لم يكن سوى الشرطة. لذا، نراه في الأغنية السابقة (أتساءل هل في الجنة جيتو) يشير إلى مسألة عنف الشرطة بكل وضوح:

When they ask me, when will the violence cease?
When your troops stop shootin niggas down in the street!

يسألونني متى سينتهي هذا العنف؟
عندما تكف فرقكم عن قتل الزنوج من الشوارع!

وقد عرف توباك عنف الشرطة ليس فقط عبر رؤيته في الشارع، وإنما قد جرّبه شخصيًا عندما أطلق عليه شرطيان النار في العام 1993.

وقد سبق لفرانز فانون أن أوضح دور رجل الشرطة في توضيح الفواصل بين العوالم إذ قال: «إن العالم المستعمَر منقسم إلى عالمين: والخط القاسم أو الحدود الفاصلة إنما هي الثكنات ومراكز الشرطة، فالدركي والشرطي في المستعمرات هما مرجع القيم الشرعي الذي يستطيع المستعمر أن يرجع إليه وأن يخاطبه. وهما الجهة التي تنطق بلسان المستعمر ونظام الاضطهاد».

يمكن قول الكثير من الكلام حول توباك، حول الأسباب التي جعلته أيقونة، حول كونه مشاغبًا وقدوة سيئة للشباب من وجهة نظر محافظة، لكن الإرث الذي خلّفه توباك، والحنين الذي يشعر به تجاهه حتى من لم يعرفوه في لحظات مجده، واستحضار أغانيه وكلماته في لحظات احتدام الصراع وتفجره يعطينا لمحة عن أهمية هذا المغني في مجتمعه وفي الثقافة الأميركية العابرة للحدود والمجتمعات، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل ختامًا عن مدى تأثير توباك في موسيقى الراب العربية، والأهم حول أسباب عدم قدرة الراب العربي على احتلال مساحة معتبرة في الثقافة العربية سواء أكانت ثقافة بديلة أم سائدة، إسوة بما حدث في العديد من دول العالم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية