7iber | حبر https://www.7iber.com Thu, 14 Mar 2024 14:20:58 +0000 en-US hourly 1 https://wordpress.org/?v=5.9.9 https://www.7iber.com/wp-content/uploads/2020/04/cropped-favicon-32x32.jpg 7iber | حبر https://www.7iber.com 32 32 انقسام في «إسرائيل»: لماذا لا تسقط الحكومة؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%86%d9%82%d8%b3%d8%a7%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%86%d9%82%d8%b3%d8%a7%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/#respond Thu, 14 Mar 2024 14:15:29 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89466 منذ السابع من أكتوبر، لم يتوقف المحللون والخبراء في الشأن الإسرائيلي عن الحديث عن اقتراب انشقاق الطبقة السياسية في «إسرائيل» تحت ضغط الشارع أو على وقع الخلافات بين قادتها حول إدارة الحرب، أو تراشق المسؤولية عن الفشل العسكري والأمني يوم طوفان الأقصى، خاصة بالنظر إلى أن العام السابق شهد تصاعدًا غير مسبوق في الانقسام الداخلي الإسرائيلي على كل المستويات.

لكن، رغم مرور أكثر من خمسة شهور على الحرب، ما زالت استطلاعات الرأي تظهر إجماعًا إسرائيليًا عليها، سواء في الشارع أو بين من يديرونها. لم تنشق النخبة السياسية، ولم يستطع أهالي الأسرى الإسرائيليين إجبار حكومتهم على منح تبادل الأسرى أولوية على استمرار العدوان، ولم تُسقط المظاهرات نتنياهو. ومجددًا، وعلى إثر تزايد حدة الخلافات السياسية بين غانتس ونتنياهو بعد زيارة الأول للولايات المتحدة الأمريكية، الراغبة بتلميع صورته كبديل مستقبلي لنتنياهو، وتصاعد الخلافات حول مسألة تجنيد «الحريديم» في الجيش الإسرائيلي، عادت التحليلات المتفائلة باقتراب انشقاق مجلس الحرب أو سقوط حكومة نتنياهو.

فلماذا لم يحدث هذا الانشقاق حتى الآن؟ ولماذا ظلت الاحتجاجات في «إسرائيل» عاجزة عن إحداث اختراق في القرار السياسي؟ ومن أين ينبع الإجماع الإسرائيلي على استمرار الحرب رغم اختلاف المصالح الفئوية والشخصية؟ وما الذي مكّن نتنياهو من إدارة الخلافات والأزمات الداخلية بشكل يضمن بقاءه؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيبنا عليها الأستاذ في الدراسات الشرق أوسطية في جامعة حيفا، والخبير في الشؤون الإسرائيلية، محمود يزبك.

حبر: منذ بداية الحرب على غزة، عوّل كثير من المراقبين والمحللين في الشأن الإسرائيلي على مسألة «انشقاق الجبهة الداخلية» في «إسرائيل»، وأن الشارع الإسرائيلي سيتحرك معززًا الخلافات في الجسم السياسي لينتج انقسامًا حادًا في الحكومة قد يؤدي إلى تفككها أو إسقاطها. لكن يبدو أن مثل هذه التحليلات أعطت الخلافات الإسرائيلية الداخلية قيمة أكبر مما هي عليه في الواقع. فأين الخلل؟ هل استُخدمت أدوات ما قبل 7 أكتوبر لفهم «إسرائيل» اليوم؟

محمود يزبك: الاحتجاجات التي وقعت في «إسرائيل» قبل 7 أكتوبر كانت بسبب التغييرات في النظام القضائي، ورغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالالتفاف عليه وإضعاف المحكمة العليا خصوصًا وتفريغها من صلاحياتها، ليحصل على حبل نجاة يتجنب من خلاله المحاكمة. لذا خرجت أعداد كبيرة من المتظاهرين مدعومين من معارضي نتنياهو في الداخل والخارج؛ يهود أمريكا تحديدًا والذين كان لهم دور كبير جدًا في الدعم المادي للمتظاهرين. والمهم أن قوة الطيران الحربي انضمت للاحتجاجات، ما جعل المنظومة العسكرية عمومًا تحتج على موقف نتنياهو من القضاء. 

جاء 7 أكتوبر، وظنّ بعض المحللين أن حالة الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي قد تستمر، لكن ما حدث هو العكس، اتّحد المجتمع اليهودي بكل أطيافه وحدة كاملة بما في ذلك الطيارون وبقية العسكر، ورفعوا جميعًا شعار «معًا ننتصر». قبل أسبوع فقط كان مئات الآلاف في الشارع يشكلون ضغطًا كبيرًا، وبعد 7 أكتوبر حصل ما أسميه «الفزعة»، فكيف نفسر ذلك؟ أنا كمراقب من خارج المجتمع الإسرائيلي، أي كفلسطيني في الداخل، أنظر إلى الوراء في التاريخ الإسرائيلي، وإلى كيفية تصرف المجتمع الإسرائيلي في حالات الخطر. شهد يوم 7 أكتوبر حالة فوضى عارمة في «إسرائيل»، حتى على مستوى القيادات السياسية والعسكرية، وبعد يومين بدأ يتضح الحدث أكثر للشارع الإسرائيلي، خصوصًا مع وصول المعلومات عن عدد القتلى الإسرائيليين في المستوطنات المحيطة بغزة، وهو ما كان بالنسبة للإسرائيليين أمرًا رهيبًا وغير متوقع الحدوث، كما أنه غير مسبوق في تاريخ إسرائيل.

الأهم من ذلك هو ضرب المستوطنات، هذه الفكرة الاستراتيجية العسكرية الصهيونية التي أرادت للمستوطن أن يقيم على الحدود الجديدة لـ«إسرائيل» في محيط عربي، وهو كجسم غريب في جسم آخر متشابك دائمًا ما يشعر بالتهديد، فكان لا بد من حماية المستوطنين بالجدران وأبراج المراقبة. وكان الهدف من إقامة هذه المستوطنات الحدودية حماية الدولة، فالمستوطن على الحدود، سواء على حدود غزة أو لبنان أو الأردن، لا يحمي الحدود فحسب، إنما يحمي كذلك سكان الداخل الإسرائيلي من العدو الخارجي المحيط بهم. هذه الاستراتيجية سقطت سقوطًا هائلًا يوم 7 أكتوبر، وبدل أن تحمي مستوطنات غلاف غزة الحدود والداخل، أصبحت عبئًا على الداخل والجيش والدولة كلها، وأُفرغت من المستوطنين دون أن يقتصر الأمر على المستوطنات الصغيرة بل شمل أيضًا مدنًا مثل سديروت التي بلغ سكانها حوالي 30 ألفًا، وهو ما ينسحب كذلك على مستوطنات الشمال عند جنوبي لبنان، حيث أُفرغت مباشرة، وصار يُطلق على سكانها لقب «لاجئي الداخل». تفريغ المستوطنات هذا أمر بالغ الأهمية لم يحدث سابقًا في تاريخ «إسرائيل» وحروبها منذ عام 1948. لقد شكل تفريغ المستوطنات صدمة حقيقية للمجتمع الإسرائيلي، أثّر على ثقتهم بأنفسهم ودولتهم وأصابهم بخوف حقيقي خصوصًا مع العدد الكبير من القتلى الإسرائيليين.

شكل تفريغ المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة وجنوبها صدمة حقيقية للمجتمع الإسرائيلي، أثّر على ثقتهم بأنفسهم ودولتهم وأصابهم بخوف حقيقي خصوصًا مع العدد الكبير من القتلى الإسرائيليين

يضاف إلى ما سبق، ما أسميه عُقدة حرب 1967. عادة ما تخوض «إسرائيل» حروبًا قصيرة تسوّقها القيادات الإسرائيلية على أنها انتصارات واضحة بغض النظر عن نتائجها الحقيقية، وقد خلقت حرب 1967 لدى الإسرائيليين، على اعتبار أنهم انتصروا على كل الدول العربية المحيطة في ستة أيام واحتلوا الجولان وسيناء والضفة الغربية، خلق هذا لديهم شعورًا بالتفوق على الآخرين في المحيط، ولا يقتصر هذا التفوق في نظر المجتمع الإسرائيلي على القوة العسكرية فحسب، إنما يمتد إلى القوة العلمية والثقافية وغيرها. يوم 7 أكتوبر ضُربت هذه الفوقية في لحظة واحدة وبصورة مفاجئة، خصوصًا مع استمرار الحرب لأشهر.

لكن، منذ 1948 كانت الأحداث الأمنية الكبيرة والأخطار الخارجية تجعل المجتمع الإسرائيلي يتماسك، حتى لو كان مشرذمًا أو يخوض صراعات داخلية. وعندما راقب المحللون والمراقبون الحالة الإسرائيلية، خصوصًا في الأسابيع الأولى، نظروا إليها بأدوات ما قبل 7 أكتوبر، وغاب عن بعضهم الظرف الجديد؛ أي الظرف التهديدي، وهو ما حدد سلوكيات المجتمع الإسرائيلي المتيقظ دومًا لفكرة أن اتحاد العدو الخارجي يعني النهاية بالنسبة لهم، لذلك كان الشعار الذكي الذي وضعوه: «معًا ننتصر».

بعد أشهر من الحرب، شهد الشارع الإسرائيلي احتجاجات محدودة، دون أن تطالب -على أية حالٍ- بوقف الحرب، كيف تطوّرت هذه الاحتجاجات؟ وما قراءتك لها؟

مع انتهاء الشهر الأول من الحرب، بدأت تثار بعض الأسئلة حول الحرب وأهدافها، قبل ذلك لم يخرج أحد، خصوصًا مع حالة الخوف والضعف التي شعر بها المجتمع الإسرائيلي، وهو ما استغله نتنياهو لإحكام السيطرة بعدما خرج ضده مئات الآلاف في الشوارع قبل السابع من أكتوبر، وقدّم نفسه كمنقذٍ للدولة والسكان. بعد انقضاء الشهر الأول تغيّرت الحالة قليلًا وبدأنا نسمع بعض الانتقادات وإن كان بأصوات خافتة. وقد استمرت هذه الحالة لثلاثة أشهر تقريبًا، أي لحين الانتهاء من صفقة تبادل الأسرى السابقة، والتي أتاحت لقسمٍ من المجتمع؛ أي بعض الكتّاب والمراقبين الإسرائيليين، باستعادة أنفاسهم ورفع أصواتهم المنتقدة للسياسة العسكرية الإسرائيلية. بعد الشهر الثالث عمليًا نزلت بعض حركات الاحتجاج إلى الشارع، ولكنها قليلة وبأعداد محدودة، وقد تستّرت هذه الحركات بعائلات الأسرى الإسرائيليين، تحديدًا الأحزاب الصهيونية اليسارية مستغلة عدم تقدم المفاوضات على الأسرى، وطول مدة الحرب، وغياب إمكانية الوصول إلى نتيجة.

كما بدأت في الفترة نفسها تعلو أصوات بعض الجنرالات المشككين بإمكانية تحرير الأسرى ضمن المنوال الحربي حينها، خصوصًا مع غياب المعلومات عن الأنفاق وما شابه، وكان أبرز القائلين بعدم إمكانية تحرير الأسرى بهذه الطريقة رئيس أركان الجيش السابق وعضو حكومة الطوارئ حاليًا، غادي آيزنكوت. مع الشهر الرابع، وإلى جانب احتجاجات أهالي الأسرى، بدأنا نرى احتجاجات أخرى ضد نتنياهو، وما يسمى بحركة «الانتخابات الآن»، وهي احتجاجات ممولة من يهود أمريكا الأثرياء أو الأغنياء الجدد في «إسرائيل»، أي العاملين في القطاع التكنولوجي تحديدًا. هكذا صار هناك مسرحان للاحتجاج في تل أبيب، الأول لأهالي الأسرى مقابل وزارة الحرب الإسرائيلية، والثاني للحركات السياسية المعارضة لنتنياهو في شارع كابلان الذي كانت تقام فيه الاحتجاجات ضده قبل 7 أكتوبر، أي كان هناك محاولة لإعادة إنتاج المشهد كما كان، لكن تراوحت تقديرات الأسبوع الأخير لعدد المحتجين في كابلان بين 30-50 ألف متظاهر، أي أنها أعداد محدودة قياسًا بمستويات الاحتجاج قبل الحرب حيث كانت تصل إلى مئات الآلاف.

ترفع المظاهرات في كابلان شعارات إسقاط نتنياهو، واتهامه بالفشل، ووجوب تقديمه للتحقيق. وبعد الانتهاء منها يتجه المتظاهرون للانضمام إلى عائلات الأسرى مقابل وزارة الدفاع، حيث تجتمع الحكومة المصغرة عادة. يوحي هذا المشهد وكأن هناك تشابك مصالح بين المعارضة الإسرائيلية خارج الحكومة، والمعارضين في مجلس الحرب مثل آيزنكوت وبيني غانتس، مع أهالي الأسرى الإسرائيليين، وكأنها مظاهرة واحدة كبيرة. لكن عمليًا هناك نوع من استغلال لعائلات الأسرى من قبل أحزاب المعارضة  للصعود على أكتافهم حتى يَظهر وجود المعارضة ضد نتنياهو.

هذا كان المشهد في الشارع الإسرائيلي، لكن ماذا عن المشهد الحكومي حيث تصاعدت الخلافات داخل حكومة الطوارئ مع استمرار الحرب، خصوصًا بين نتنياهو وغانتس، فكيف يدير نتنياهو هذه الخلافات ويستفيد منها؟

القضية تعود إلى ما قبل 7 أكتوبر، تحديدًا عندما أراد نتنياهو قبل حوالي ثلاث سنوات من الحرب تشكيل حكومة وحدة وطنية، حينها تبرّع غانتس ليكون جزءًا من هذه الحكومة، وقد وعده نتنياهو بالتناوب على رئاسة الحكومة بحيث يترأسها كل واحد منهما لمدة سنتين. حينها كان غانتس مرشحًا لرئاسة الحكومة، فلمّا تبرع بالانضمام لحكومة الوحدة الوطنية اعتبر البعض أنه تنازل لنتنياهو، واعتبره آخرون خائنًا لشركائه في المعركة الانتخابية. وبعد أشهر قليلة من تشكيل تلك الحكومة، أخلف نتنياهو وعده، فظهر ضعف غانتس سياسيًا لدى المجتمع الإسرائيلي.

لكن، جاء 7 أكتوبر، وكان غانتس -مثل بقية المجتمع والسياسيين- خائفًا حقيقةً من انهيار «إسرائيل»، واستطاع ترميم صورته أمام المجتمع من خلال القبول بالانضمام إلى الحكومة، على أن تكون عضويته في حكومة الطوارئ، أي أن انضمامه لها مؤقت لحين انتهاء الأزمة والعودة إلى صفوف المعارضة. وكان من شروط انضمامه أن تتخذ قرارات السلم والحرب داخل «مجلس الحرب» الذي يضم إلى جانب نتنياهو، غانتس وآيزنكوت وعضوين آخرين، وهو مجلس حكومي جديد غير موجود في القوانين الإسرائيلية المكتوبة أو المتعارف عليها. وقد اكتسب هذا المجلس ثقلًا سياسيًا وعملياتيًا أكثر من الحكومة الموسعة القائمة منذ ما قبل الحرب، والتي تتشكل بحسب نظام الحكومات الائتلافي في «إسرائيل» من ائتلاف قوى سياسية هي عمليًا حزب الليكود، والأحزاب الدينية (الحريدية)، وأحزاب الصهيونية الدينية بقيادة بن غفير وسموتريتش، بالإضافة إلى أحزاب صغيرة أخرى ليست ذات أهمية، وكان لليمين الفاشي الإسرائيلي، أي بن غفير وسموتريتش، قوة داخل هذه الحكومة، فلو انسحب أحدهما لسقطت. لكن مع تشكيل مجلس الحرب بعد 7 أكتوبر، أُضعفت الحكومة الموسعة لصالح الحكومة المصغرة (الكابينت).

وقد حدث ارتباك في مجلس الحرب، فمن يتخذ قرارات الحرب فيه؟ حاول نتنياهو مرارًا التلاعب واتخاذ قرارات خارج المجلس، لكن غانتس وآيزنكوت أعادوه إلى المجلس عبر التهديد بالانسحاب من الحكومة. لكن نتنياهو تعامل مع المسائل الخلافية في مجلس الحرب بما يضمن تأييد قراراته، فكلما أثير خلاف هناك أحال المسألة إلى الحكومة المصغرة حيث يحظى بأصوات مؤيدة أكثر، وهو ما يضعف موقف غانتس وآيزنكوت، وإذا استعصى الأمر أحاله إلى الحكومة الموسعة حيث تتسع دائرة تأييد قراراته، ما يجعل الموافقة عليها مؤكدًا. هكذا أوقع نتنياهو كلا من غانتس وآيزنكوت في المصيدة بحيث يحظى بالربح دومًا على حساب خسارتهما. ورغم مرور أشهر على هذه الحال في حكومة الطوارئ، إلا أن غانتس لم ينسحب منها بعد، قائلًا إن انسحابه سيتسبب باختفاء مجلس الحرب، وهذا صحيح، وبالتالي ستعود القوة الأساسية في الحكومة إلى بن غفير وسموتريتش. هكذا سيستمر نتنياهو بالربح، ما لم يحصل ضغط داخلي كبير من عائلات الأسرى، وإن كنت لا أتوقع حدوثه، مترافقًا مع ضغط خارجي من الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصًا مع ما يدفعه الرئيس الأمريكي جو بايدن من ثمن لقاء تأييده لإسرائيل ونتنياهو، حينها قد تتغير المعادلة.

تطول قائمة الخلافات بين غانتس ونتنياهو، آخر مظاهرها زيارة غانتس لواشنطن واجتماعه مع كبار المسؤولين في إدارة بايدن دون موافقة مسبقة من نتنياهو الذي عبر عن استيائه قائلًا لغانتس نفسه إن «إسرائيل لديها رئيس وزراء واحد فقط». كيف تقرأ هذه الزيارة وامتعاض نتنياهو منها؟ 

طبعًا امتعض نتنياهو لأن غانتس قفز عنه. بالمقابل يقول غانتس إنه ليس عضو حكومة مثل باقي أعضاء الائتلاف في الحكومة، إنما انضمّ إلى حكومة الطوارئ من أجل إنقاذ «إسرائيل»، وأنه حتى اللحظة استطاع إنقاذها أكثر من رئيس الحكومة نفسه.

تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن تلمّع غانتس، أو عمليًا تهدد نتنياهو بالقول إننا نستطيع استبدالك برئيسٍ آخر في المستقبل، ولهذا نشأ هذا التحالف بين المعارضة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية مع غانتس. لكن السؤال هو: إلى أي مدى استطاع غانتس استثمار هذه الزيارة للضغط على نتنياهو؟ استثمرها حتى الآن بحدودٍ بسيطة جدًا، مثلا كان نتنياهو يريد إيقاف المفاوضات على تبادل الأسرى، ويبدو أن غانتس وآيزنكوت وآخرين ضغطوا عليه لاستمرار المفاوضات وإن كان بوتيرة بطيئة. هذا يرضي المتظاهرين الإسرائيليين وعائلات الأسرى، ويُكسب غانتس بعض النقاط. لكن في الوقت نفسه سيحصّل نتنياهو بعض المكاسب، ففي النهاية لو تمت الاتفاقية، سيكون نتنياهو بالطبع أول من يتحدث على الشاشة ويحصد النتائج.

علمًا بأن استمرار المفاوضات بوتيرة بطيئة لا يرضي غانتس، لكن كما قلنا هو داخل المصيدة، كلما أراد نتنياهو اتخاذ قرار لصالحه ينقله من مجلس الحرب إلى الحكومة المصغرة، فيفشل غانتس. بالتالي نتنياهو لا يخضع لشروط غانتس في مجلس الحرب، بل إن الوحيد القادر على جرّ الآخرين إلى ساحته هو نتنياهو، وهو الأقدر -في ظل عدم النضوج في المشهد السياسي- على قطف الثمار واستغلال الأحداث لصالحه. وفي ما لو حدث اتفاق لتبادل الأسرى، فسيقول للمجتمع إنه حقق انتصارًا لـ«إسرائيل» ثم كان السد المنيع أمام تمرير اتفاقية سيئة.

مؤخرًا تصاعد الخلاف داخل الحكومة الإسرائيلية حول مسألة التجنيد الإجباري للحريديم (طائفة من اليهود الأرثوذكس المتدينين)، وصرّحت معظم الكتل في الحكومة عن تأييدها لإلزامهم بالخدمة العسكرية، فيما ترفضه بشكل قاطع الأحزاب الحريدية «شاس» و«يهودات هتوراه» مهددة بإسقاط حكومة نتنياهو. وقد اعتبر البعض أن نتنياهو أصبح محاصرًا، فهل هو كذلك فعلًا أم أنه قادر على تجاوز هذه الأزمة؟

هذه القضية تعود إلى نشأة «إسرائيل»، أراد رئيس الوزراء حينها دافيد بن غوريون الحصول على أصوات الحريديم لتشكيل الحكومة، وحيث أن نظام الحكم في «إسرائيل» ائتلافي يقوم على ائتلاف عدة أحزاب، اشترط الحريديم إعفاءهم من الخدمة العسكرية لقاء دخولهم الائتلاف الحكومي. لقد فهموا اللعبة منذ البداية، أي أنهم إذا كانوا جزءًا من أي حكومة فهم قادرون على فرض شروطهم عليها رغم أنهم أقلية.

يتفرّغ الحريديم للمدارس وللمؤسسات الدينية، ويدرسون العلوم الدينية فقط، ويعتبرون أنهم يخدمون «إسرائيل» أكثر من الجيش، وأن ما ينقذ «إسرائيل» هي دعواتهم وصلواتهم، وليس العسكر. مع الحرب أثارت المعارضة مسألة إلزامهم بالخدمة العسكرية، على اعتبار أن الدولة تتحمل أعباء ثقيلة، وأن هذه الأعباء يجب أن توزع على الجميع بالتساوي، بما فيهم المتدينين الحريديم. وقد تزامنت هذه الدعوات مع تصريحات للجيش قبل أسابيع قليلة مفادها أن عدد الجنود المقاتلين غير كافٍ للعمل في غزة والضفة الغربية وعند الحدود جنوب لبنان، خصوصًا إذا توسعت الحرب في لبنان. وأعلن الجيش أنه بحاجة 75 ألف مقاتل، وهؤلاء يمكن الحصول عليهم من الحريديم (عدد الحريديم المرشحين للخدمة في الجيش يبلغ حوالي 65 ألفًا)، فقامت القيامة وبدأ سيل التصريحات السياسية من الأحزاب العلمانية المؤيدة لهذا التوجه. لكن الأحزاب الحريدية ترفض مطلقًا حتى مناقشة المسألة.

تريد الولايات المتحدة الأمريكية أن تلمّع غانتس، أو عمليًا تهدد نتنياهو بالقول إننا نستطيع استبدالك برئيس وزراء آخر في المستقبل، ولهذا نشأ هذا التحالف بين المعارضة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية مع غانتس

يّذكر أنه قبل الحرب كان هناك مقترحات من أجل تخفيض عدد أيام الخدمة العسكرية للقوات الاحتياطية من 48 يومًا في السنة إلى 32، لكن بعد الحرب تبدّل الحال، وصاروا يريدون زيادة أيام الخدمة، وهو ما أثار المعارضة التي اعتبرت أن تجنيد الحريديم يمكن أن يخفف الضغط على الجنود الآخرين. لقد أثيرت المسألة سياسيًا من قبل المعارضة من أجل ضرب الوحدة داخل حكومة نتنياهو. لكن، هل سيؤدي هذا الملف إلى تغيير حقيقي؟ لا أظن ذلك، حتى تصريحات غانتس العابرة عن الموضوع ما هي إلا من أجل الحفاظ على التواصل مع بقية القوى العلمانية. فلنفترض جدلًا أن غانتس سيشكل حكومة في المستقبل -وأشك أنه قد يصير رئيس حكومة- هل يستطيع إقامتها بدون الحريديم؟ مستحيل. لا يمكن تشكيل حكومة في «إسرائيل» بدون الحريديم. أما تهديدهم بإسقاط الحكومة فليس جديًا، هم لن يُسقطوا نتنياهو لأنه يحقق لهم مطالبهم، وفي نظري أن الأزمة الحالية حول تجنيدهم لن تؤدي، في الفترة المنظورة على الأقل، إلى إسقاط الحكومة، فلا نتنياهو -ولا غيره- يجرؤ على سن قانون لتجنيد الحريديم، إن إلزامهم بالخدمة يعني ثورة لا أظن أن المجتمع جاهز لها اليوم. أما الأصوات المتعالية حول تجنيدهم فأعتقد أنها فقط لكسب أصوات غير الحريديم، أي الأصوات اليسارية والعلمانية.

أما بخصوص مسألة محاصرة نتنياهو، فإن هذا مرهون بتغيّر موقف الولايات المتحدة الأمريكية منه، أعتقد أن نتنياهو لن يكون محاصرًا لأن المجتمع الإسرائيلي ما يزال تحت تأثير 7 أكتوبر، ولن يخرج بمئات الآلاف إلى الشارع إلا إذا انتهت الحرب، حينها فقط سيخرجون إلى الشارع ضد نتنياهو على اعتبار أنه الفاشل الأكبر والمذنب الأول والأخير.

إذًا، لا يوجد حتى الآن قضية يمكن أن تشكّل ضغطًا كبيرًا يؤدي إلى انقسام حكومة نتنياهو أو إسقاطها.

 وحدها الولايات المتحدة الأمريكية. إذا اتخذت أمريكا قرارًا جديًا بإسقاط الحكومة، فيمكن أن تذهب إلى مجلس الأمن وتصدر هناك قرارًا بوقف الحرب رغمًا عن «إسرائيل»، وانتهت القضية. لكن طالما أنه لا يوجد قرار أمريكي بعد، فيمكن أن يستمر بهذه اللعبة كما هي إلى الأبد.

داخليًا، طالما أن المجتمع اليهودي الإسرائيلي تحت سقف الرعب، فلن يتحرك. أما بعد انتهاء الحرب، ونتيجة للأثمان الباهظة التي دفعوها، فمن المؤكد أنهم سينفّسون عن غضبهم وسينزلون إلى الشارع، وفي ظني أنهم سيسقطون الحكومة حينها لو احتشد في المظاهرات مئات آلاف المحتجين، ولكن -مجددًا- هذا مرهون بانتهاء الحرب وزوال الرعب الذي يعيشون الآن في ظله

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%86%d9%82%d8%b3%d8%a7%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/feed/ 0
فيلم «وداعًا طبريا»: النكبة دون أن نراها https://www.7iber.com/culture/%d9%81%d9%8a%d9%84%d9%85-%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9%d8%a7-%d8%b7%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%83%d8%a8%d8%a9-%d8%af%d9%88%d9%86-%d8%a3%d9%86-%d9%86%d8%b1%d8%a7%d9%87%d8%a7/ https://www.7iber.com/culture/%d9%81%d9%8a%d9%84%d9%85-%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9%d8%a7-%d8%b7%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%83%d8%a8%d8%a9-%d8%af%d9%88%d9%86-%d8%a3%d9%86-%d9%86%d8%b1%d8%a7%d9%87%d8%a7/#respond Wed, 13 Mar 2024 12:52:00 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=culture&p=89455

«أتعرفين شيئًا يا سيدتي… يبدو لي أن كل فلسطيني سيدفع ثمنًا».
غسان كنفاني، عائد إلى حيفا

يطوف هذا الفيلم حول نكبة فلسطين، دون أن يقتحمها. يتحدث عن طيفها المخيف دون أن يمسك بها ويشرحها. تحضر طبريا، بضمير الغائب، بوصفها فردوسًا مفقودًا. هو جزء من سينما الاقتلاع والعودة، التي برعت فيها مخرجته، لينا سوالم، منذ عملها الأول «جزائرهم» (2020). لا يقول الوثائقي الطويل الأشياء صراحةً، لكن غموضه في التعبير يزيد من قوة القضية، ويجعل التاريخ الصغير للأماكن والأفراد، أكثر عمقًا من التاريخ الكبير للأحداث والملاحم والهزائم. 

«يبدو لي أن كل فلسطيني سيدفع ثمنًا»، يتوقع غسان كنفاني في «عائد إلى حيفا». لن تكون هيام عباس، بنت الجليل استثناءً، لكنها تدفعه مضاعفًا كونها فلسطينية وامرأةً في الوقت نفسه. تغادر عباس قريتها دير حنا على الحدود الفلسطينية اللبنانية في ثمانينات القرن الماضي نحو أوروبا، جريًا وراء حلمها في أن تصبح ممثلة. كان رحيلها أقرب للهروب منه للهجرة. هربت من واقع اجتماعي لا ينظر بعين الرضى للمثلات والفنانات، ومن واقع سياسي يمتهن العرب في كيان يحتل الأرض والعقل.

تترك هيام خلفها جمعًا من النساء اللواتي شكلن طفولتها وجزءًا من صباها: والدتها نعمت وجدتها أم علي وأخواتها السبع. وحدها من نجحت في كسر الطوق. تتزوج أجنبيًا في لندن ثم ينتهي الزواج سريعًا فتلقي بها الأقدار في باريس، لتلتقي الممثل الجزائري، زين الدين سوالم، الذي ترتبط به وينجبان لينا، مخرجة هذا الفيلم. بعد ثلاثة عقود من ذلك الهروب، تقرر هيام وابنتها لينا العودة إلى دير حنا تحملان كاميرا، لتعيد البنت من خلال رواية أمها وخالاتها بناء القصة من أولها.

لا يظهر الأب زين الدين في الفيلم لكنه بطله المجهول. كان الرجل مغرمًا منذ وقت مبكر بتوثيق ذكريات العائلة وأسفارها بكاميرا (vhs)، فتجمّع لدى العائلة كم هائل من الأرشيف الشخصي موزعًا بين فلسطين المحتلة والجزائر. من هذا الكنز الوثائقي ستنطلق مسيرة لينا المخرجة. في فيلمها الأول عن الجزائر، نجح أرشيف زين الدين في جعله فريدًا، وفي «وداعًا طبريا»، اختصرت لقطات الفيديو التي صورها في دير حنا على مدى سنوات، في كل مرةٍ كانت هيام تزور أهلها، كل كلام يمكن أن يقال، وكل وصف يمكن أن يقرب لنا صورة القرية وأهلها وأحوال عائلة الجدة نعمت، في تلك السنوات التي تبدو بعيدةً اليوم.

حياكة ما مزقته النكبة

لم تعش هيام عباس النكبة، التي ولدت بعدها بسنوات. لكنها عايشت آثارها في عائلتها التي تمزقت بين فلسطين ومخيمات اللجوء في سوريا. وعاشت امتدادها في كونها عربية تحت احتلال لا يعامل العرب إلا كمواطنين من درجة ثانية أو فائض أزمة لم تنته منذ عام 1948. لا يتحدث الفيلم عن النكبة بشكل مباشر، فهو ليس شهادة أو وثيقة، لذلك فإن توصيفه بالوثائقي يبدو غير مريح، لكن جدول التوصيفات لا يتضمن جنسًا واضحًا يمكن أن نضع داخله هذا العمل. عن عائلة من الفلاحين، تتقطع بهم السبل على ساحل طبريا بعد نكبة فلسطين ويرتحلون بحثًا عن النجاة حتى يدركوا قرية دير حنا. الأب الفلاح «يفقد عقله ويموت حزنًا، وزوجته أم علي تجد نفسها وحيدة، مع ثمانية أطفال وآلة خياطة تعولهم»، بينهم نعمت التي ستصير معلمةً وتنجب كثيرًا من الأطفال، من بينهم هيام.

يبدو الحاضر الثقيل حاضرًا بقوة في الفيلم، لا في صوره بل في نفوس من يشاهده. لذلك فإن المشاهد سيكون أكثر توترًا وعنفًا نفسيًا في التعامل مع موضوعه، وهو الفارق الذي يظهر واضحًا بين زمن تصوير الفيلم قبل الحرب وزمن عرضه بعدها.

«لقد ولدت من هذا الرحيل، من هذه القطيعة بين عالمين»، هكذا تصف عباس رحلتها التي تعيد لينا حياكتها، ربما وفاءً لأجيال من النساء الفلسطينيات اللواتي قاومن المآسي بالخياطة والتطريز، من بينهن جدة أمها، أم عليّ. يبدو الفيلم كثوب فلسطيني مطرز، تتشابك فيه الصور، ومربعات الذاكرة الصغيرة، وعقد الزمن الحادة والمكثفة. يبدأ كل شي من خلال الصور، التي تثير الأسئلة والحكايات. تعتمد المخرجة، التي تظهر في الشاشة كفاعل، على الصورة بوصفها ذكرى مثبتةً، كي تدفع والدتها إلى الحديث والاسترسال في الحكي. ثم حين ينتقلان إلى دير حنا ويلجان بيت العائلة، تتابع التكتيك نفسه مع خالاتها، دون أن تفقد الخيط النظام للقصة الممتد من هيام إلى الجدة نعمت إلى جدة الأم أم عليّ. وعبرهن يظهر طيف المأساة الفلسطينية والنكبة والتهجير من طبريا إلى دير حنا، والصمود والمقاومة. وتظهر المرأة الفلسطينية طائرًا فينيقيًا يعجز الفناء أمامه في كل مرةٍ يعتقد أنه قد أدركه. 

ثم تأتي لينا بقطعة شاردةٍ من القصة لتعيد حياكتها مع بقية أجزاء الثوب. حسنية، عمة هيام التي فقدت خلال النكبة ثم تبين أنها تحولت إلى لاجئة في أحد المخيمات السورية، تعود ذكراها دُفعةً واحدةً. عندما تروي هيام قصة لقائها الأول مع هذه العمة حسنية، التي سمعت عنها قصصًا وحكايات دون أن تراها. كانت مجرد خيالات وصور في دماغ طفلة تلعب في أزقة دير حنا. لكنها في العام 2003، أصبحت حقيقةً. تأخذ هيام الطائرة نحو دمشق، وتخترق شوارع مخيم اليرموك بحثًا عن العمة. وعندما تدرك ناصية الشارع تظهر حسنية متكورةً أمام بيتها المتهالك وكأنها تنتظر العودة أو شيئًا من «ريحة البلاد». تهرع هيام نحو ذلك الحضن، ويغرقان في عناق طويل، عمره من عمر نكبة فلسطين. لقد بدت لي تلك الحكاية القصيرة والمكثفة، بجمال عقدة ملونة في ثوب مطرز. كأنها نجمة تتوسط قبة الثوبّ.

مشهد من الفيلم لهيام وأخواتها.

على حواشي الفيلم وفي خلفية المشاهد تظهر «إسرائيل». في لافتات الشوارع وإشارات المرور الممهورة بالعبرية، في سحن الناس القادمين من أوروبا الشرقية. لكن لينا وهيام تتجاهلان ذلك السديم المخيف من الاحتلال ورموزه. وتظهر بحيرة طبريا هادئةً بلا موج. صفحة ماء أزرق لا يتحرك إلّا قليلًا، مقوسةً كالرغيف، وأمامها تتأمل هيام المشهد بحسرةٍ. لكن تبدو المخرجة قاصدةً عدم الدخول في حديث مباشر حول السياسة، فالاحتلال والنكبة وواقع العرب داخل الكيان الإسرائيلي لا تظهر إلا كمشاكل عرضية تعاني منها الشخصيات، رغم أن العرضي يبدو مركزيًا في قصة الأجيال الأربعة التي تحاول لينا سوالم إعادة بنائها بالصورة والرواية. دون أن يخفي المرء إعجابه من قدرتها على توظيف الأرشيف والاستعانة بأرشيفات فرنسية تصور الحياة في فلسطين قبل النكبة وبعدها.

سينما الاقتلاع والعودة

يمكن أن يكون «وداعًا طبريا» جزءًا من مشروع بدأته سوالم عام 2020 في فيلمها الأول «جزائرهم»، الذي يحكي قصة عائلتها من جهة الأب. وهو مشروع يمكن أن نطلق عليه تجاوزًا «سينما الاقتلاع والعودة». لينا سوالم تمثل تكثيفًا لتعقيد الهوية، وهي إشكالية يعيشها قطاع واسع من عرب الجيل الثاني والثالث في فرنسا. والإشكالية عند سوالم مزدوجةً، فوالدها جزائري، من بلد دفع أثمانًا باهظةً للتخلص من الاستعمار الفرنسي، ومع ذلك فهو فرنسي ولد لعائلة مهاجرة ولينا كذلك. ووالدتها فلسطينية، تتلخص فيها جميع تعقيدات الهوية والانتماء.

ربما يكون وصف الأمر بالإشكالية غير صائب، لكنه كذلك -لا من حيث ما يشعره المرء- ولكن من حيث ما يفرضه العالم الذي ينتمي إليه. تأخذ لينا هذا التعقيد وتصنع منه أفلامًا. السينما ليست ماءً يطفئ جمر الاقتلاع والمنفى، ولكنها عودة رمزية تعوض جانبًا كبيرًا من فقدان العودة الحقيقة. لذلك فإن لينا، أو الأشخاص الذين في مثل حالتها من التعقيد الهوياتي والبراعة الفنية، وحدهم من يمكنهم صنع شيء في هذا النوع من السينما التي تتداخل فيها الذات بالموضوع على نحو يصعب فصله، وفي هذا التداخل تكمن الفرادة.

الحاضر عنيف والفيلم حزين، لكن كلاهما يحمل أملًا غير محدود في المستقبل، يتجلى في ابتسامة هيام عباس، وهدوء طبريا، وصخب العائلة في بيت نعمة، وعروبة اللكنة وعذوبتها.

في «جزائرهم» تعيد لينا رسم مسارات حياة أجدادها المهاجرين من الجزائر. غالبًا ما يكون هؤلاء أشخاصًا يُشار إليهم بالكتلة، يقع الحديث دائمًا عن المهاجرين واللاجئين والمنفيين والمسلمين القادمين إلى فرنسا بصيغة الجمع، كأنهم منزوعو الفردية والتفرد. لذلك حاولت أن تسلط الضوء على الصمت الذي يحيط بقصتهم، والمرتبط بألم الاقتلاع. معيدةً تشكيل مسارات الحياة غير المرئية والمهمشة لهؤلاء الأشخاص الذين أدمنوا الصمت، والذين لم يتمكنوا من سرد قصصهم والذين اضطروا إلى البقاء متحفظين من أجل الاندماج. أرادت أن تمنحهم صوتًا مرة أخرى وأن تكرم ذكراهم. 

في عملها حول الجزائر، تستعمل لينا نفس التمشي الذي نراه في فلسطين، حيث تنطلق من التاريخ الصغير لنقد الرواية الاستعمارية الكبيرة. غالبًا ما تم التعامل مع قصص المهاجرين الجزائريين على أنها قصص غريبة عن فرنسا رغم أنها قصص فرنسية بالكامل. فهؤلاء المهاجرون لم يأتوا من العدم، وتاريخهم جزء لا يتجزأ من تاريخ فرنسا الاستعمارية والرأسمالية.

فلسطين والجزائر، والمقاومة والذاكرة، والمنفى والعودة والاقتلاع؛ تبدو هذه الكلمات ذات معنى أكثر من أي وقت مضى. ربما القدر أو الحظ، هو الذي جعل طريق الفيلم يتقاطع مع العدوان الصهيوني على غزة، والشهوة الإسرائيلية لإعادة إنتاج النكبة، في مقابل الصمود الأسطوري للمقاومة والشعب. يبدو الحاضر الثقيل حاضرًا بقوة في الفيلم، لا في صوره بل في نفوس من يشاهده. لذلك فإن المشاهد سيكون أكثر توترًا وعنفًا نفسيًا في التعامل مع موضوعه، وهو الفارق الذي يظهر واضحًا بين زمن تصوير الفيلم قبل الحرب وزمن عرضه بعدها.

الحاضر عنيف والفيلم حزين، لكن كلاهما يحمل أملًا غير محدود في المستقبل، يتجلى في ابتسامة هيام عباس، وهدوء طبريا، وصخب العائلة في بيت نعمة، وعروبة اللكنة وعذوبتها. لكن هل نقول حقًا «وداعاً طبريا»، أم إلى لقاء قريب أيتها البحيرة التي يتجلى فيها المسيح الفلسطيني ثائرًا ومخلصًا.

]]>
https://www.7iber.com/culture/%d9%81%d9%8a%d9%84%d9%85-%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9%d8%a7-%d8%b7%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%86%d9%83%d8%a8%d8%a9-%d8%af%d9%88%d9%86-%d8%a3%d9%86-%d9%86%d8%b1%d8%a7%d9%87%d8%a7/feed/ 0
«وصلنا ناقصين»: عن النزوح المتكرر في قطاع غزة https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b2%d9%88%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%83%d8%b1%d8%b1-%d9%81%d9%8a-%d9%82%d8%b7%d8%a7%d8%b9-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/ https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b2%d9%88%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%83%d8%b1%d8%b1-%d9%81%d9%8a-%d9%82%d8%b7%d8%a7%d8%b9-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/#respond Tue, 12 Mar 2024 13:04:08 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=society&p=89446 فجر اليوم الثاني من الحرب، شاهدت مريم الكفارنة (25 عامًا) من شباك منزلها السماء تمطر منشورات «تحذيرية» ألقاها الجيش الإسرائيلي داعيًا الناس للخروج من شمال غزة. وقبل أن تتمكن وأسرتها من إخلاء المنزل بالتزامن مع رسائل نصية وصلت على الهاتف تحدد لهم مسار النزوح ومهلة زمنية تقدّر بعشر دقائق، كان القصف قد بدأ. حملت مريم حقيبة صغيرة فيها الأوراق الثبوتية ومبلغًا لا يتجاوز 50 دولارًا، وتحركت تجاه الباب مع زوجها وابنتيها قبل أن يغيروا ملابسهم: «بنرجع وبنجيب أغراضنا، المهم أطلع ببناتي»، وإن كانت تخشى أن تكون هذه آخر مرة ترى فيها بيتها.

تزوجت مريم من ابن عمها، علي الكفارنة، في الـ19 من عمرها، وعاشا في شقة صغيرة ملأتها ضحكات طفلتيهما شام (خمسة أعوام) ونهاد (ثلاثة أعوام)، في عمارة عمها بمنطقة بيت حانون شمالي القطاع. عندما بدأ «الهجيج» كما تصفه مريم، لم تسنح لها الفرصة للاطمئنان على أهلها وإخوتها الذين يسكنون بالقرب منهم: «منطقتنا قرب الحدود مع مستوطنات غلاف غزة، نرى بأعيننا الجدار العنصري، وفي كل حرب ننقصف». في حروب عامي 2014 و2021 تضررت العمارة التي تسكنها مريم، وعمارة أهلها المجاورة، بشكل بالغ. كانت بعض آثار الدمار ماثلة في العمارتيْن حتى بعد إعادة الإعمار والترميم.

استقلت مريم وزوجها وابنتاهما سيارة أحد الأصدقاء، مع خمسة أشخاص آخرين، إلى شقة أحد الأقارب في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة الذي يبعد عنهم حوالي 10 كيلومترات. لم تملك مريم الوقت لتنسيق نزوحها مع أهلها[1] الذين نزحوا إلى منطقة الفالوجا في مخيم جباليا. سلكت السيارة طريق صلاح الدين الذي حدده جيش الاحتلال باعتباره «ممرًا آمنًا»، حيث سار النازحون بالمئات، بما فيهم النساء الحوامل وكبار السن والأطفال. شاهدت مريم الوجوه المألوفة لأبناء حيّها يسيرون حُفاة بعد أن خرجوا مسرعين لإنقاذ أرواحهم، وبعضهم يصاب بالشظايا المتطايرة ويقع على الأرض دون أن يتمكن أحد من إسعافه: «كنت أسمع صوت القصف، أقول معقول هذا ضَرَب بيتي؟ (..) كل ما طلعنا من شارع تشاهدنا، خوفنا نستشهد بالشارع اللي بعده».

قضت مريم وأسرتها يومًا واحدًا في مخيم الشاطئ قبل أن يُقصف المسجد المحاذي لشقتها، بالتزامن مع تصاعد الهجمات العسكرية على المخيم من الزوارق البحرية الإسرائيلية. فقرروا النزوح لشقة أخرى في حي الشيخ رضوان المجاور لمخيم الشاطئ، حيث ستكون أكثر قربًا من أهلها الذين أقاموا في إحدى مدارس الأونروا في منطقة الفالوجا، ويتسنى لهم أن يتعاونوا في تدبير أمور الطعام والشراب. وصلت مريم وأسرتها حي الشيخ رضوان بعدما مشوا ثلاثة كيلومترات ليقيموا هناك في شقة إلى جانب ثلاث أسر نازحة. في اليوم التالي، وصلت لمريم صور ركام منزلهم يغطي حاجياتهم التي كانوا يريدون العودة لأخذها؛ ملابس شتوية وكتب الطفلات وبقية الأوراق الثبوتية. وبعد يوم آخر، قصف الاحتلال المربع السكني والشقة التي نزحوا إليها.

«طبق عليّ سقف البيت وظليت تحت الركام لمدة نص ساعة لحد ما طلعوني، كنت صاحية بس مش قادرة أتنفس ومش متحملة الوجع»، أصيبت بشكل بالغ في كتفها وتهشمت عظامها ومفاصلها. بعد أن نقلها المنقذون لمستشفى الشفاء، اتصلت مريم بوالدتها قائلة: «أنا الوحيدة اللي عايشة يمّا، الكل استشهد». تمالكت والدة مريم نفسها بصعوبة وسارت مشيًا من الفالوجا إلى مستشفى الشفاء حيث تقاسمت مريم السرير مع مصابة ثانية، فيما يسيطر عليها الإعياء والقلق حيال مصير أسرتها، ويزيد قلقها التهتك الذي أصاب كتفها.

بعد أربع ساعات قضتها مريم في المستشفى، وجثامين الشهداء تصل إليه تباعًا، عرفت مريم أن ابنتيها على قيد الحياة وأنهما جريحتان بإصابات طفيفة، لكنها خسرت زوجها وعمها وابن عمها، وعمها الثاني وابنه وابنته، وابنة وابن خالها وابنته الصغيرة البالغة من العمر ثلاثة شهور. من أصل 76 شخص أقاموا في العمارة المستهدفة، استشهد 67 ونجا تسعة فقط، من بينهم مريم وابنتاها.

أقامت مريم مع أهلها في مستشفى الشفاء ليومين إلى جانب عشرات النازحين والمصابين في الممرات والساحات والغرف والسلالم. ورغم أن الطبيب أخبرها بحاجتها لعملية فورية إثر تضرر الأعصاب والأوتار والأنسجة الدموية، إلا أن التدخل الطبي الوحيد الذي كان متاحًا حينها هو إغلاق كتفها بشكل جزئي بجبيرة. مع تزايد القصف في محيط المستشفى وتوافد المصابين بوتيرة عالية، غادرت مريم المستشفى إلى المدرسة في الفالوجا حيث يقيم أهلها على متن عربة «توك توك»، أمّنها لها أخوها الكبير، عز الدين. تركت مريم خلفها في المستشفى زوجها وعمها وأولاده في ثلاجات الموتى، ولا تعرف حتى اللحظة إن كانوا قد دفنوا بطريقة لائقة أم لا.

كانت هذه المرة الرابعة التي تضطر فيها مريم للنزوح: «في أسبوع واحد، صرت بدون بيت، وأرملة ونازحة، وجريحة. حتى أوراقي الثبوتية راحت، صرت بدون هوية». أقامت مريم مع أهلها في الفالوجا لخمسة أيام في غرفة يعيش فيها أكثر من 25 شخصًا، ويتلقون قليلًا من الطعام والماء من معونات وكالة الأونروا، دون أي شكل من أشكال الرعاية الصحية. تقول مريم إنها احتاجت مساعدة والدتها لأداء مهام أساسية، مثل الوقوف أو الذهاب إلى الحمام.

مع ضرب المنطقة المحيطة بالمدرسة بحزام ناري، قررت الأسرة النزوح مجددًا في الأسبوع الأخير من تشرين الأول، متجهين جنوبًا نحو دير البلح وسط القطاع. في هذه المحطة، تشتت العائلة مجددًا عندما ودعت مريم أختها التي قررت التوجه مع زوجها وبناتها لخان يونس جنوبي القطاع، لأن الغرفة الصفية التي أرادوا النزوح إليها في دير البلح لا تتسع لهم جميعًا. تحرّك البقية من الفالوجا، يحمل كلٌ منه بطانيته ويتعاونون في حمل أطفال العائلة، وسيرًا على الأقدام قطعوا مسافة تزيد عن عشرين كيلومترًا، فيما تعددت وسائل نقل مريم، إذ أمّن عز الدين لها دراجة نارية حتى منتصف الطريق، وأكمل هو بقية المسافة يحملها على ظهره، أو يجرها على قطعة بلاستيكية، أو يستنجد بعربات النازحين التي تجرها الحمير. «أنا ممتنة لعز بحياتي، أخوي المصاب بالسكري هو اللي شالني، كان بعاني يلاقي أنسولين في مراكز الإيواء. ما وصلنا دير البلح إلا وإجريه متورمين وعنده نزيف في شبكية العين».

عايشت مريم وأسرتها مشاهد مروعة في الطريق لدير البلح، اقتسمت والدة مريم مع عائلة أخرى قطعة قماش بيضاء يرفعونها في إشارة لكونهم مدنيين، وقد أحاطت بهم جثامين الشهداء في الشارع وحاصرتهم الشظايا وطائرات الاستطلاع من فوقهم: «شفنا الموت بعيوننا، أبوي عمره 55 سنة ومصاب بالقلب، لما كان يغمى عليه، ما نعرف هو من المرض ولا الخوف ولا المناظر اللي حوالينا»، معتبرة أن أسرتها محظوظة لعدم توقيف أحد أفرادها من قبل جنود الاحتلال الذين كانوا يعتلون الدبابات الإسرائيلية المتوغلة في «الممر الآمن للنزوح» الذي حولته «إسرائيل» لـ«مصيدة قتل» واعتقلت عنده ما بين 400 إلى 500 شخص.[2] «كانوا بندهوا على الناس بشكل عشوائي، إنت وقف إنت امش، واللي بتطلع وراه ممكن يطخوه، ما كان حدا يقدر يتطلع»، تقول والدة مريم.

تدهورت الحالة الصحية لمريم في إحدى مدارس دير البلح، حيث أصيبت بالتهاب وتقرحات شديدة في منطقة الإصابة، وكانت درجة حرارتها ترتفع لساعات وتعاني من آلام لا يمكن احتمالها: «حسيت حالي بلشت أشم ريحة العفن من جروحي». في مدرسة الإيواء، تقول مريم إن الأعباء تفاقمت، فإلى جانب السعي المستمر لإنقاذ أرواحهم والتفكير المستمر بالوجهة القادمة، كانت أسرتها مسؤولة عن تلبية احتياجات أساسية للحصول على الطعام والمياه والعلاج بأي طريقة، وقفت والدتها وإخوتها على الطوابير لساعات من أجل لترين من الماء يتقاسمونها جميعًا، ودفعوا أسعارًا باهظة مقابل معلبات المساعدات، وقطعوا مسافات طويلة تحت القصف من أجل تأمين حبوب مسكّنة لها.

«رحلة النزوح عبارة عن عذاب ورعب، اللي بوصل وأهله مستشهدين أو متصاوبين، وفوق هيك الجنوب لا يعني النجاة، الناس بتموت في رفح مية مرة»

«زيدي على كل المعاناة صدمة الخسارة، ما تخيلت إنه رح نوصل الجنوب ناقصين»، تقول مريم التي قضت في دير البلح ثمانين يومًا، راجعت بعدها مستشفى شهداء الأقصى في أول زيارة طبية لها منذ إصابتها. لم يكن لدى الطبيب ما يمكنه تقديمه لها، لكنه أخبرها كيف أثّر التجبير بدون عملية على سلامة الأنسجة، وعن إمكانية تزايد إحساسها بالشلل في ذراعها مع تفاقم الإصابة، وربما حاجتها لبترها بعد تحملها الألم لأشهر. كانت جميع هذه الخيارات بالنسبة لمريم متوقفة على «حصول هدنة أو وقف الحرب»، لكنها أعدّت ملفها الطبي بما تذكرته من بيانات شخصية عن نفسها أملًا في العلاج خارج غزة.

نهاية كانون الأول الماضي، نجحت جهود أخيها الثاني محمد، في تنسيق خروجها إلى قطر حيث خضعت لعملية جراحية معقدة وبنسبة نجاح محتملة 40%، «أخذوا عظم من رجلي اليمين وزرعوه في كتفي، كانت العملية مجازفة بس نجحت، بعرف إيدي هسة موجودة منظر ومش رح تشتغل زي أول، بس هاي مش معاناتي لحالي، هاي معاناة مليونين فلسطيني في غزة». تركت مريم في غزة ابنتيها مع والدها وإخوتها وزوجاتهم الذي انخرطوا في رحلتين جديدتين من النزوح، الأولى نحو رفح حيث أقاموا أسبوعًا واحدًا في مدارس النزوح، ثم مع اشتداد القصف جنوب القطاع واحتمالات توغل قوات الاحتلال بريًا عادوا إلى حيث كانوا في دير البلح.

بعد انفصالها عنهنّ لقرابة شهرين، اجتمعت مريم بابنتيها مطلع آذار الجاري بعد تنسيق سفرهما إلى قطر، وهي ما تزال تخضع للعلاج وتأمل نجاح عملياتها الجراحية القادمة، فيما تعاني للتواصل مع أسرتها التي تكابد يوميًا لتجنب الموت في مراكز الإيواء المتكدسة والخيم البلاستيكية وطوابير المساعدات، «إخواني عايشين على فتات الأكل، في أطفال رضع مش لاقينلهم حليب، وحتى اللي كان معاه شوية مصاري خلصها».

أما عن أقاربها ممن ظلوا في الشمال، فجل ما تعرفه عنهم هو أخبار النعي التي تنشرها الصحافة عمن استشهد منهم جوعًا. تقول مريم إن «رحلة النزوح عبارة عن عذاب ورعب، اللي بوصل وأهله مستشهدين أو متصاوبين، وفوق هيك الجنوب لا يعني النجاة، الناس بتموت في رفح مية مرة».

  • الهوامش

    [1] البالغ عددهم 19 شخصًا، بما فيهم والديها واختها واخوانها وزوجاتهم وابنائهم.

    [2] بحسب تقرير صادر عن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان وتصريح لرئيسه رامي عبدو.

]]>
https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b2%d9%88%d8%ad-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d9%83%d8%b1%d8%b1-%d9%81%d9%8a-%d9%82%d8%b7%d8%a7%d8%b9-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/feed/ 0
هل تنقذ قروض الصندوق وأموال الخليج مصر من أزمتها الاقتصادية؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d8%aa%d9%86%d9%82%d8%b0-%d9%82%d8%b1%d9%88%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%86%d8%af%d9%88%d9%82-%d9%88%d8%a3%d9%85%d9%88%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%84%d9%8a%d8%ac-%d9%85%d8%b5%d8%b1/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d8%aa%d9%86%d9%82%d8%b0-%d9%82%d8%b1%d9%88%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%86%d8%af%d9%88%d9%82-%d9%88%d8%a3%d9%85%d9%88%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%84%d9%8a%d8%ac-%d9%85%d8%b5%d8%b1/#respond Mon, 11 Mar 2024 12:16:41 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89441 قبل أيام، وقعت مصر اتفاقًا جديدًا مع صندوق النقد الدولي، لتعديل اتفاق سابق في عملية استغرقت أكثر من عام من المفاوضات. كانت مصر وقعت مع الصندوق اتفاقًا في مطلع 2023 لاقتراض ثلاثة مليارات دولار ضمن حزمة تمويلية بالشراكة مع دول خليجية، بحيث تشتري الأخيرة أصولًا حكومية مصرية. لكن خلال العام، تعمقت الأزمة الاقتصادية في مصر وأصبحت بحاجة لإنقاذ مالي أكبر، ليعلن صندوق النقد الدولي مؤخرًا عن توصله لاتفاق لزيادة قيمة القرض المقدم لمصر إلى ثمانية مليارات دولار قابلة للزيادة بمقدار 1.2 مليار دولار، ضمن صندوق تمويل متعلق بالتغيرات المناخية تابع لصندوق النقد الدولي. 

يشمل الاتفاق شراء الإمارات لمدينة «رأس الحكمة» المصرية على الساحل الشمالي للبلاد بقيمة استثمارية بلغت 35 مليار دولار، وهو ما وقعت عليه إحدى الشركات التابعة لصندوق أبو ظبي السيادي (ADQ). ومن المتوقع أن توفر الصفقة، وهي الأكبر من حيث الحجم وسرعة ضخ الأموال في تاريخ علاقة مصر بالخليج، سيولة للحكومة المصرية تتجاوز 24 مليار دولار خلال شهرين. إلا أن تأثيرات الأزمة ما زالت حاضرة، وخاصة أزمة التضخم مع حلول شهر رمضان، وهو موسم سنوي لزيادة التضخم في أسعار الغذاء في مصر.

تطلب التوصل للاتفاق مع صندوق النقد الدولي تخفيضًا كبيرًا في سعر الصرف في مصر. فخلال ساعات، قفز سعر الصرف من 31 جنيهًا للدولار إلى 50 جنيهًا، أي أن الجنيه فقد ما يقرب من 37% من قيمته أمام الدولار في يوم واحد. ويضاف هذا الانخفاض إلى انخفاضات سابقة للعملة المصرية خلال السنوات الثمانية الأخيرة منذ بدء برنامج الإصلاح الهيكلي مع صندوق النقد في 2016. خلال تلك الفترة من تشرين الثاني 2016 وحتى آذار 2024، فقد الجنيه المصري ما يقرب من 80% من قيمته أمام الدولار. 

لكن ما يبدو على أنه اتفاق مالي لإنقاذ لمصر من التخلف عن سداد الديون، في ظل مدفوعات الديون المرتفعة خلال السنوات الماضية، يطرح التساؤلات حول مآلات الأزمة الاقتصادية في مصر. فهل يعني هذا الإنقاذ المالي نهاية الأزمة الاقتصادية؟ وكيف يمكن للاقتصاد المصري تجنب أزمات شبيهة في المستقبل؟

كيف نفهم الأزمة؟ 

منذ كانون الثاني 2023 وحتى الخامس من آذار 2024، لم يتحرك سعر الصرف الرسمي للدولار في البنوك المصرية. حيث بقي السعر مستقرًا عند قرابة 31 جنيهًا لكل دولار. وخلال تلك الفترة، ارتفع سعر صرف الدولار في السوق الموازي من 30 جنيهًا لكل دولار قبيل التخفيض في كانون الثاني 2023، إلى ما يقرب من 72 جنيهًا في كانون الثاني 2024، أي ما يمثل قرابة 140% كفجوة بين السعرين، وكان هذا الارتفاع الضخم مدفوعًا بأزمة الدولار وشح العملة الصعبة في مصر. لاحقًا، انخفض سعر الصرف في السوق الموازي بعد الحديث عن الدعم الخليجي المرتقب لمصر ابتداءً من شباط 2024، قبل أن تخفض مصر سعر الصرف رسميًا لـ49.5 جنيهًا للدولار.

لكن ما كان يبدو أنه مشكلة في الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء ليس سوى عرض لأزمة اقتصادية أعمق، ترتبط بشكل هيكلي بالسياسات الاقتصادية للحكومة المصرية، وهي سياسات طالما كانت محل إثارة وإعجاب من البنك الدولي وصندوق النقد، قبل أن تنفجر الأزمة الحالية في بدايات 2022. تلك السياسات الهيكلية في القلب منها السياسات الاقتصادية للحكومة والاقتراض المكثف الذي تم برعاية صندوق النقد وغيره من المؤسسات الدولية وحتى الداعمين الخليجيين في الفترة من 2016 وحتى 2023. 

يمكن إحالة معدلات التضخم المرتفعة كعرض لأزمة اقتصادية أوسع، تتأثر بالتضخم المستورد نتيجة الاعتمادية العالية على الاستيراد، إضافة إلى أزمة المديونية بعد أن تضاعف عبء خدمة الدين، وخاصة الدين الخارجي. 

بدأ تفاقم الأزمة في مصر عام 2022 بالضغوط على ميزان المدفوعات المصري، التي كان سببها الأساسي زيادة أسعار السلع العالمية التي بدأت قبل حرب أوكرانيا، وازدادت لاحقًا خلال الحرب التي بدأت في شباط 2022. لكن مسار زيادة أسعار السلع العالمية تراجع، فعادت أسعار القمح مثلًا لمستويات ما قبل الأزمة، وهو منتج شديد الأهمية لمصر لكونها أكبر مستورديه على مستوى العالم، لكن ذلك لم يمنع من تضخم الأسعار محليًا. كان العامل الحاسم في ذلك هو ارتفاعات سعر الصرف في السوق الموازي، وبالأخص مع عدم قدرة البنوك المصرية على توفير العملة الصعبة لعمليات الاستيراد اللازمة للاقتصاد، سواء على مستوى السلع الوسيطة أو السلع الاستهلاكية النهائية. بالتالي لجأ التجار والمستوردون للسوق الموازية لتوفير الدولار من أجل عمليات الاستيراد. 

خلال 2023، بدأ المركزي المصري بتقييد حركة الدولار من خلال تقييد السحب على بطاقات الائتمان المصرية خارج البلاد. كما بدأت الحكومة باتخاذ إجراءات أكثر للقبض على المتعاملين بالدولار في السوق السوداء، ووصل الأمر لتفتيش المارة حول البنوك والسؤال عن الدولار في الأكمنة الأمنية. أيضًا، حاولت الحكومة تقييد حركة الاستيراد، ما نتج عنه خفض الواردات المصرية في 2023 بما يقارب 11 مليار دولار أو 13% من قيمة الواردات. ساهم ذلك في تقليل الطلب على الدولار، لكنه تسبب بأزمة تمثلت بنقص العديد من السلع ومستلزمات الإنتاج، مما أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم خلال العام الماضي. 

تعمقت الأزمة مع زيادة الفجوة بين سعري الصرف في السوق الموازية والرسمية، وبناء على ذلك ارتفع معدل التضخم العام في مصر ليسجل أعلى مستوى في تاريخها الاقتصادي بقرابة 40% على أساس سنوي في أيلول 2023. تتجلى الأزمة الاقتصادية في مصر في ارتفاع معدلات تضخم أسعار الغذاء بشكل أكبر من معدل التضخم العام في مصر، وذلك لأنها تؤثر بشكل مباشر على صحة وأجور الفقراء الذين يشكلون حوالي ثلث المصريين (وذلك وفق آخر إحصاء رسمي قبل أزمة كوفيد-19، وحين كان سعر الصرف ما يزال عند 16 جنيهًا للدولار).

يمكن إحالة معدلات التضخم المرتفعة كعرض لأزمة اقتصادية أوسع، تتأثر بالتضخم المستورد، أي انتقال التضخم في أسواق خارجية إلى السوق المحلية بالنظر إلى الاعتمادية العالية على الاستيراد فيما يتعلق بالسلع الغذائية الأساسية، إضافة إلى أزمة المديونية بعد أن تضاعف عبء خدمة الدين، وخاصة الدين الخارجي. 

تمثل مدفوعات الديون ضغوطًا كبيرة على العملة المحلية، إذ ارتفعت خلال السنوات الماضية من 13.3 مليار دولار في العام المالي 2018-2019 إلى ما يقرب من 42 مليار دولار متوقعة خلال السنة المالية 2023-2024. هذا الارتفاع المستمر دفع الحكومة المصرية لتخفيض سعر الصرف من أجل تجنب التخلف عن سداد الديون.

أن يأتي الدعم الخليجي متأخرًا

مع شباط 2024، بدا أن الخليج أكثر استعدادًا لإنقاذ مالي لمصر عن طريق شراء الأصول المصرية. كانت عملية شراء الأصول قد بدأت في حزيران 2022 بالاستحواذ على عدد منها في قطاع البتروكيماويات، وكذلك شراء حصص في بنوك وشركات في القطاع المالي. لكن تلك العملية توقفت جزئيًا طوال 2023. استغرقت المفاوضات حول عمليات بيع الأصول مع الخليج أكثر من اللازم بحسب الصندوق. حيث كان الخليج أكثر تركيزًا على مصالحه التجارية. 

لكن ومع بداية 2024، اتجه الخليج وبالأخص الإمارات نحو إنقاذ مالي للبلاد. يمكن أن يقدم هذا الإنقاذ الخليجي أملًا في انخفاض سعر الصرف بالفعل وإنهاء وجود السوق السوداء للدولار، لكن ذلك لا يعني أن السيطرة على التضخم يمكن أن تحدث بسهولة. فعمليات التسعير في السوق غالبًا ما تأخذ وقتًا للتأقلم مع الأسعار الجديدة كما أن قابلية الأسعار للانخفاض في مصر لم تكن دومًا بالسهولة المفترضة في علاقتها بسعر الصرف، فغالبًا ما قل مقدار انخفاض السلع عن مقدار ارتفاعها قبل الأزمة. 

غير أن صفقات بيع الأصول الكبرى كصفقة رأس الحكمة التي أقرتها الحكومة المصرية مع صندوق أبوظبي السيادي خلال الأيام الماضية قد تمثل نوعًا من شراء الوقت بالنسبة للحكومة المصرية. فقد توفر الصفقة هامشًا جيدًا للحركة بالنسبة للبنك المركزي، وتعفي البلاد من التخلف فعليًا عن دفع ديونها للمقرضين الأجانب، خاصة بما ستوفره من مبالغ ضخمة تقدر بـ35 مليار دولار، منها 24 مليار دولار تدفقات متوقعة بشكل مباشر من الإمارات خلال الشهرين القادمين، بحسب تصريحات رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، و11 مليار دولار أخرى متوقعة كوديعة إماراتية لدى البنك المركزي المصري. 

لكن يبقى السؤال حول وجود جوانب سياسية غير معلنة للصفقة لا يمكن الجزم بتفاصيلها. فهناك العديد من الملفات والتوترات في المنطقة التي يمكن أن تكون قد لعبت دورًا في صفقة الإنقاذ المالي، من بينها الخلاف المصري الإماراتي في التصورات لمستقبل ملفي ليبيا والسودان، إضافة أن حضور الإمارات على مقربة من حقول الغاز في البحر المتوسط قد يكسبها ورقة للتفاوض مع أوروبا. 

هل انتهت الأزمة؟

إلى جانب الصفقة الإماراتية، من المتوقع أن نشهد صفقات بيع أصول أخرى للسعودية وقطر تمثل المزيد من شراء الوقت بالنسبة للحكومة المصرية. لكن الأزمة الاقتصادية المستمرة للاقتصاد المصري هي أكبر بكثير من السيولة الدولارية اللازمة لمدفوعات الديون وسد الفجوة التمويلية التي قدرها بنك جولدمان ساكس بـ25 مليار دولار على مدار السنوات الأربع القادمة. لدى مصر مدفوعات ديون كبيرة خلال السنوات الخمس القادمة، كما أن الضغوط على ميزان المدفوعات المصري مستمرة، وإن كانت سوف تصبح أقل مع السيولة الدولارية القادمة. فالأزمة هي أزمة النمط الاقتصادي الذي تبنته الحكومة المصرية والمعتمد بشكل كبير على الاقتراض المكثف لتمويل النمو الهش في قطاعات لا تحمل آثار توزيعية جيدة على الاقتصاد، مثل قطاعات البنية التحتية والعقارات. 

يعيدنا ذلك إلى دور المؤسسات الدولية في تبني النظام المصري لتلك السياسات. فقد كان الارتفاع المستمر في الديون الخارجية يتم تحت نظر صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الداعمة للحكومة المصرية، والتي أشادت بالإصلاحات الاقتصادية وعلى رأسها استراتيجية إدارة الدَّين العام التي بدأتها الحكومة المصرية بعد الاتفاق مع الصندوق، والتي تعتمد على إطالة آجال الديون، أي الاعتماد بشكل أكبر على الديون طويلة الأمد من أجل تمويل النمو الاقتصادي. لكن إدارة الدَّين العام لم تفلح فعليًا في الحيلولة دون زيادات مُطرَدة في الديون قصيرة المدى. 

الأزمة هي أزمة النمط الاقتصادي الذي تبنته الحكومة المصرية والمعتمد بشكل كبير على الاقتراض المكثف لتمويل النمو الهش في قطاعات لا تحمل آثار توزيعية جيدة على الاقتصاد، مثل قطاعات البنية التحتية والعقارات. 

كانت زيادة الديون طويلة وقصيرة المدى في الفترة ما بعد 2016، وبدء خطة الإصلاح الاقتصادي بالتعاون مع الصندوق، تعني عمليًا ارتهان البلاد بشكل أكبر لسداد مدفوعات الديون الخارجية بالدولار. وبالطبع، مع المشكلات الهيكلية للاقتصاد المصري، وضعف قدرات الاقتصاد الإنتاجية لتوليد العُملة الصعبة، فإن السبيل الوحيد لسداد مدفوعات تلك الديون هو مزيد من الاقتراض بشكل أكثر كثافة. مثَّلت عملية الاقتراض منذ عام 2016 وحتى الآن شراءً متجددًا للوقت من قِبَل الحكومة المصرية. وتوضح البيانات تلك المعضلة، فقد ارتفعت مدفوعات فوائد الديون الخارجية من 1.6 مليار دولار في 2016 إلى نحو 11 مليار دولار في عام 2022، وارتفعت معها الأقساط السنوية لأصل الدَّين من 6.1 مليار دولار في 2016 إلى نحو 22 مليار دولار في عام 2022. 

كما تزايد الاعتماد على الدَّين الخارجي في السنوات الأخيرة، بسبب الحاجة إلى تمويل بعض الاستثمارات الواسعة في مشاريع ضخمة غير مُنتِجة، أنفقت فيها الحكومة الجزء الأكبر من إيراداتها، وأبرزها مشروعات البنية التحتية التي بلغت تكلفتها 400 مليار دولار، وقناة السويس الجديدة التي بلغت تكلفة بنائها ثمانية مليارات دولار، والعاصمة الإدارية التي يُتوقَّع أن تصل تكلفتها إلى 300 مليار دولار، بالإضافة إلى تكلفة واردات الأسلحة التي زادت بنسبة 215% في الفترة بين 2013–2017، بالمقارنة مع الفترة بين 2008-2012. 

لم يكن ما سبق خفيًا على الصندوق أو البنك الدولي أو الشركاء الخليجيين الذين اشتكوا بأشكال مختلفة من الإنفاق الزائد الذي انتهجته الحكومة المصرية منذ 2016 وحتى الأزمة الاقتصادية الحالية. لكننا لم نسمع تلك الانتقادات سوى في وقت الأزمة، ولم نسمع عن سياسات الحكومة الاقتصادية الخاطئة إلا حين تعقدت الأزمة واحتاجت لتدخل الخليج والصندوق لتوفير الإنقاذ المالي لمصر. 

كان نمط الاستدانة يتم برعاية الصندوق، كما تتم اليوم عمليات بيع الأصول المصرية للخليج. في هذا وذاك، استمر المواطن المصري في تحمل معدلات مرتفعة من التضخم جاءت بالأساس من التخفيضات المتتالية لسعر الصرف، التي يطلق عليها الصندوق اسم المرونة السعرية للصرف، والتي أدت لفقدان الجنيه ما يقرب من 80% من قيمته خلال السنوات الثماني الماضية. وخلال تلك الفترة ازداد المصريون فقرًا، ولم تنجح وصفة الصندوق حتى في رفع المؤشرات الاقتصادية، فلم تزد الصادرات كنسبة من الناتج المحلي، ولم تنفذ الحكومة المصرية إصلاحات هيكلية في الاقتصاد. 

الخلاصة أنه وخلال العقد الأخير من عمر هذا البلد، كانت أزمات التمويل ثيمة رئيسية للنمط الاقتصادي الذي ركزت عليه الحكومة، والمعتمد بشكل أساسي على الاقتراض من أجل الإنفاق على المشروعات القومية الكبرى، وتمويل نمو الناتج المحلي من خلال نمو الإنفاق الحكومي على البنية التحتية. مر العقد الأخير ومصر تدخل أزمة وما إن تخرج منها لتبدأ أخرى، دون أي أفق لمستقبل غير معتمد على الدعم الدولي والخليجي من خلال القروض.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d8%aa%d9%86%d9%82%d8%b0-%d9%82%d8%b1%d9%88%d8%b6-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%86%d8%af%d9%88%d9%82-%d9%88%d8%a3%d9%85%d9%88%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ae%d9%84%d9%8a%d8%ac-%d9%85%d8%b5%d8%b1/feed/ 0
ما الذي يريده عرب الولايات المتحدة؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b9%d8%b1%d8%a8-%d8%a3%d9%85%d9%8a%d8%b1%d9%83%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b7%d8%b1%d9%8a%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b9%d8%b1%d8%a8-%d8%a3%d9%85%d9%8a%d8%b1%d9%83%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b7%d8%b1%d9%8a%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1/#respond Fri, 08 Mar 2024 08:19:50 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89431 (نشر هذا المقال بداية في مجلة المراسل، ويعاد نشره بالاتفاق مع المجلة.)

هنا في هذه المدينة الصغيرة شرق ولاية ميشيغان يتلاشى شعورك أنك في الولايات المتحدة أحيانًا. لوحات المحال من حولك كتبت بالعربية. العبارات الإعلانية تحمل أسماء عربية؛ حامد، علي، مانع، محمد. من سماعات السيارات المارة بجانبك، تستوقفك الأغاني اليمنية أو ألحان المجوز والطبل اللبناني. هذه ديربورن، مدينة بالكاد يتجاوز سكانها المائة ألف لكنها اليوم باتت محط اهتمام الإعلام العربي والدولي.

قبل قرن تقريبًا، قبل اشتعال الحرب العالمية الثانية، كانت هذه المدينة موئلًا للبنانيين القادمين للعمل في مصانع شركة فورد للسيارات. وصفتها إحدى الصحف المحلية بـ«مستعمرة السوريين» حين كان سكان بلاد الشام يوصفون عمومًا بالسوريين قبيل تقسيم المنطقة في اتفاق سايكس بيكو. وقبل قرن تقريبًا كانت هذه المدينة مستودعًا للعمالة العربية الرثة، المهمشة والمميز ضدها من الأميركيين البيض. 

بعد قرن تقريبًا، تربع على عرش بلدية المدينة عربي من أصول لبنانية اسمه عبدالله الحمود، بالكاد تجاوز الثلاثين من عمره لكنه سيطر على اهتمام الإعلام بتحريضه على التصويت ضد بايدن ونقده الحاد لدعم «إسرائيل». وفي مجلس مشيغان التشريعي يحتل الثلاثيني الآخر، إبراهيم عياش، مقعدًا. وحده، دفْع «عياش» نحو عرقلة بيان إدانة نيابي لحماس والمقاومة جعل ميشيغان من الاستثناءات الأميركية النادرة التي لم تنجرّ إلى حملة الدعم للمشروع الصهيوني. 

بعد قرن تقريبًا، باتت تلك الأقلية التي عانت التهميش والتضييق، تتوعد الرئيس الأميركي بالتصويت ضده، وتقود حملة «التخلي عن بايدن» في الانتخابات الرئاسية المقبلة عقابًا له على تمويله ودعمه الحرب على الفلسطينيين في غزة، وتدعو المصوتين إلى كتابة «غير ملتزم» Uncommitted في بطاقة الاقتراع. 

المدينة الصغيرة، التي تعد الوحيدة في البلاد التي يشكل العرب أغلبية قاطنيها المائة ألف تقريبًا، تقود مسارًا غير مسبوق في تاريخ العرب الأميركيين لصناعة الرؤساء، وإنهائهم في آن، وتجتذب كاميرات التلفزة والمراسلين والخبراء والمحللين لمحاولة فهمها واستيعاب مكانتها الجديدة في الخريطة السياسية الأميركية. 

عرب ميشيغان من التهميش لصناعة الرؤساء

على مدى أيام، تحدثتُ فيها إلى قيادات المجتمع العربي هنا، بدا لي تصميمهم على مواجهة بايدن في الانتخابات و«تدفيعه ثمن» مواقفه في الحرب الأخيرة مهمة يحركها شعور عميق بالمرارة. 

على الدوام، اعتادت نخبة الحزب الديمقراطي (غالبًا من البيض) التعامل مع الأقلية العربية بشيء من الفوقية، والنظر إليها بوصفها كتلة مصمتة ومحسومة لصالحها، خصوصًا بعد وصول دونالد ترامب للسلطة في 2016، وإعلانه من فوره حظرًا على السفر من تسعة بلدان ذات غالبية مسلمة، وتبنيه خطابًا عنصريًا ضد العرب والمسلمين. 

في هذا الموسم الانتخابي، لم يتغير الكثير.

 لا تزال النخب الليبرالية تعتقد بأن على العرب واجب التصويت لبايدن بمعزل عن أي شيء آخر. ويضعون مطلبهم في إطار محاججة مسطحة مفادها أن الوقوف خلف بايدن يبقى أفضل من أن ينتهي العرب ومعهم عموم البلاد في قبضة ترامب، كما أشارت حاكمة ميشيغان نفسها، غريتشن ويتيمر. 

على أن حسابات العرب هذه المرة ليست بهذا الضيق، ولا تبدو مذعورة من عودة الرئيس السابق إلى الحد الذي يدفعهم للوقوف إلى جانب بايدن، الداعم لواحدة من أبشع العمليات الحربية ضد مدينة محاصرة منذ نحو عقدين. الاحتقار الذي لمسته الأقلية العربية في تعامل الإدارة معها أقنع رموزها بأن على عرب أميركا عمومًا التوقف عن تقديم أنفسهم كمجموعة تصويتية تحت الطلب متى ما احتاجتها النخب الحزبية. 

اليوم تسود القناعة عند المصوّتين العرب بأن على الراغبين من ساسة البلاد ونخبها الحزبية الحصول على دعمهم، أن يسعوا في طلب هذا الدعم، ويبذلوا جهدًا في إقناعهم والاستماع إليهم واحترام توجهاتهم في السياستين الداخلية والخارجية، تماما كما يجري تقدير رغبات اللوبيات المؤيدة لإسرائيل. 

بالفعل، اليوم يعلن العرب أنهم لا يخشون من عودة ترمب في حال حَرموا بايدن أصواتهم. وينجح 100 ألف منهم ومن المسلمين وأقليات أخرى بالإدلاء بورقة كتب عليها «غير ملتزم» ( أي غير ملتزم بالتصويت لبايدن) في الانتخابات الداخلية لاختيار مرشحي الأحزاب ممن سيخوضون سباق الرئاسة. المدهش بالنسبة للمنظمين أن هذا الرقم يمثل 15٪؜ على الأقل من إجمالي من صوتوا في الحزب الديمقراطي. نسبة أكبر بكثير من سائر توقعاتهم التي كانت تدور حول 10 الاف صوت «غير ملتزم». 

بالنسبة لهؤلاء، تمثل عودة الرئيس السابق ثمنًا مؤقتًا واجب الدفع مقابل تمظهر وحدتهم كقوة انتخابية متماسكة ذات وعي مشترك واضح وأهداف وتأثير بالغيْن في السياسة الداخلية والخارجية. سيصل ترمب هذا الموسم، ربما، يقولون، لكن من سيطرحون أنفسهم للترشح مستقبلًا سيدركون محورية الصوت العربي ليس في ميشيغان فقط ولكن في عموم الولايات المتحدة. 

يقول منظم ومؤسس حملة «تخلوا عن بايدن» التي اجتاحت ميشيغان مؤخرًا، خالد الطرعاني، إن التنسيق قد بدأ بالفعل مع ولايات متأرجحة أخرى ذات حضور عربي وازن من أهمها جورجيا وبنسيلفانيا وأريزونا. 

«رياضيًا، هناك تسعة سيناريوهات لفوز بايدن. ثمانية من أصل هذه التسعة تقول إنه يجب عليه الفوز بميشيغان» يقول الطرعاني. بالمقابل تقترب فرص فوز بايدن بهذه الولاية دون الصوت العربي، من الصفر؛ فالرئيس الحالي كان فاز بها عام 2020 بفارق نحو 150 ألف صوت، من بينها نحو 140 ألف صوت قدمها العرب. 

قد توحي عبارة «غير ملتزم» بالتهديد فقط، أو للدقة، المساومة والمماحكة السياسية بحيث يعود العرب لدعم بايدن إن غير موقفه من غزة. لكن الحديث لبعض العرب هنا يشير إلى عكس ذلك تمامًا.

يتوجه المصوتون بالعموم لإسقاط بايدن في هذه الولاية الحساسة وإنهاء طموحه السياسي بمعزل عن التطوّرات على موقفه من الحرب على غزة؛ فالضرر، كما يقولون، قد وقع وانتهى الأمر بعد أن فقد غالبية الغزيين منازلهم وقفز عداد القتل اليومي إلى حدود الإبادة وتجاوزها. لذا، يبدو تغيير الموقف الأميركي الآن ضروريًا ومتأخرًا جدًا في آن. عبارة «غير ملتزم»، بهذا المعنى، تبدو محض محاولة من عرب الولاية للضغط على البيت الأبيض، وإغرائه في نفس الوقت، لوقف إطلاق النار الفوري في القطاع. 

العرب في المعادلة الانتخابية

تاريخيًا، تعد ولاية ميشيغان غير محسومة لأي من الحزبين في إطار تنافسهما على أصواتها. بكلمات أخرى، الولاية «متأرجحة» كما يقول التعبير الأميركي، وهو ما يعطيها تلك الأهمية الخاصة في أي انتخابات أميركية مؤخرًا. 

من غير المعروف على وجه الدقة ما هو عدد من يحق لهم التصويت للانتخابات في ولاية ميشيغان من العرب. بعض المصادر مثل مجلس العلاقات العربية الإسلامية، يتحدث عن نحو 126 ألفًا. لكن رموز الجالية العربية وناشطيها ممن عملوا في الانتخابات هنا يتحدثون عن ضِعف هذا الرقم. أيًا كان الحال، فالعرب ليسوا الوحيدين ممن أثرت بهم حملة إسقاط بايدن. 

اليوم، يقول أسامة سيبلاني ناشر ورئيس تحرير صحيفة عرب نيوز الناطقة باللغتين العربية والإنجليزية والأقدم في مدينة ديربورن، إن الموقف العربي يحظى بدعم المسلمين من غير العرب، من المهاجرين من أمريكا اللاتينية، والآسيويين. 

«ماذا يتوقع منا؟ لقد قالها صارحة «أنا صهيوني». وزير خارجيته أيضًا قدم نفسه كيهودي. العرب الأميركيون يتعرضون للمضايقات في جيئتهم وذهابهم من المطارات وأحيانًا تؤخذ هواتفهم بسبب انتمائهم وانحيازهم السياسي» يقول سيبلاني. 

بدأ عرب ميشيغان بالتنسيق مع أقرانهم في الولايات الأخرى بالفعل لجعل نشاطهم وحضورهم عابرًا في تأثيره حدود ولايتهم الضيقة. في جورجيا جنوب البلاد، يكتسي جهدهم أهمية خاصة قد تلحق خسارة مضاعفة بـ«جو بايدن» في الانتخابات المقبلة في نوفمبر تشرين الثاني. 

كانت جورجيا على الدوام محسوبة على الحزب الجمهوري إلى أن تمكن بايدن من تحويلها إلى قاعدة ديمقراطية في الانتخابات الماضية ضد ترامب. وهكذا ببساطة تحولت الولاية إلى متأرجحة أيضًا. 

عقب فوزه في جورجيا، خرج بايدن لشكر الأقلية السوداء على وقوفها إلى جانبه. لكن اليوم، تخرج نسب وازنة من هؤلاء لإعلان اعتراضها على سياسته المنحازة لإسرائيل. 

في كانون ثاني الماضي، اعترض ألف رجل دين أسود في جورجيا على دعم بايدن لتل أبيب في حربها على غزة داعينه، كما دعاه العرب في كل مكان، إلى تبني وقف فوري لإطلاق النار. إلى اليوم، يصر الرئيس على التمسك بموقفه الرافض لوقف الحرب. 

وكما هو حالها في ميشيغان، صعبة تبدو حسابات بايدن في جورجيا أيضًا.

في انتخابات 2020، فاز الرئيس الحالي بهذه الولاية المحافظة بفارق نحو 12 ألف صوت فقط عن ترامب. فقط 12 ألف صوت. يعني الأمر فيما يعنيه أن تحركًا عربيًا نصف منظم مع الأقلية السوداء هناك قد يقود إلى خسارته بشكل فادح. 

لكن ماذا لو خسر بايدن كلًا من ميشيغان وجورجيا، هل سيعني الأمر خسارته الانتخابات؟ إلى حد بعيد نعم، يقول منظمو حملة «تخلوا عن بايدن» من العرب. 

الفكرة ببساطة تعود إلى شكل الانتخابات الأميركية.

يفوز الرئيس الأميركي في الانتخابات إن تمكن من الفوز بعدد محدد من الولايات. هذا العدد يجب أن يضمن له الوصول إلى ما يشبه الرقم السحري وهو 270. 

يتوزع هذا الرقم على الولايات جميعًا على شكل ممثلين أو من يسمون «الكلية أو المجمع الانتخابي». لكل ولاية عدد مختلف من الممثلين. في جورجيا هنالك 16 ممثلا. في ميشيغان 15. 

نظريًا، لن يواجه بايدن مشكلة في الفوز بالولايات المحسومة أصلًا لحزبه، أي غير المتأرجحة. ستؤمن له تلك الولايات نحو 190 ممثلًا. لكن الوصول إلى 270 يتطلب منه كسب عدد كبير من الولايات المتأرجحة. واقع الحال، أيًا كانت محاولاته، إن خسر بايدن ممثلي ميشيغان وجورجيا، أي 31 ممثلًا، فيمكن القول إن مهمته بالوصول إلى ذلك الرقم باتت مستحيلة، وعليه باتت ولايته الثانية في البيت الأبيض غير ممكنة. وهذا تمامًا ما يعول عليه العرب اليوم. 

يبلغ تعداد الأقلية العربية في الولايات المتحدة نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة موزعين على عشرات الولايات وبنسبة تبلغ 2٪ على الأقل من إجمالي سكان البلاد. لكن النظام الانتخابي الأميركي بولاياته المحسومة والمتأرجحة، واحتواءه على قاعدة «الكلية الانتخابية» تلك، يجعل من العرب، رغم ضآلة تعدادهم، قوة سياسية قابلة للتوظيف بشكل بالغ الأثر في العملية التصويتية والسياسية عمومًا.

تاريخيًا لم يكن للعرب الأميركيين صوت يسمع في الشأن السياسي. وفي الوطن العربي، جرى النظر إليهم بوصفهم إما كمًّا سياسيًا مُهمَلًا بلا أي وزن نسبي في العملية الانتخابية، أو باعتبارهم منحازين لمصالحهم الخاصة على حساب مصالح الأوطان التي هاجروا منها. اليوم يبدو هؤلاء وقد عزموا على تغيير هذه الصورة النمطية مرة واحدة وللأبد.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b9%d8%b1%d8%a8-%d8%a3%d9%85%d9%8a%d8%b1%d9%83%d8%a7-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b7%d8%b1%d9%8a%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ba%d9%8a%d9%8a%d8%b1/feed/ 0
منشيّة الغياث والرويشد: ماذا بعد فشل التنمية؟ https://www.7iber.com/society/%d9%81%d8%b4%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%86%d8%b4%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%8a%d8%a7%d8%ab-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d9%8a%d8%b4%d8%af/ https://www.7iber.com/society/%d9%81%d8%b4%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%86%d8%b4%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%8a%d8%a7%d8%ab-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d9%8a%d8%b4%d8%af/#respond Thu, 07 Mar 2024 14:06:02 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=society&p=89398 منذ نحو عشر سنوات، بدأ اسم «البادية الشمالية» يتكرر بكثافة في الإعلام ونشرات الأخبار ومجمل النقاش العام في الأردن. وترافق ذلك مع التطورات السياسية في الجوار؛ في سوريا أساسًا وفي العراق تاليًا. وفي السنوات القليلة الماضية، وبشكل متزايد في السنة الأخيرة، أخذت أخبارٌ ذات طابع أمني ترافق ذكر هذه المنطقة، وخاصة ما يتعلق بملاحقة أنشطة تجارة المخدرات وتهريبها.

وإذا كان قسمٌ من المواطنين يعرف أو على الأقل يألف سمعه أسماء بعض مناطق البادية الشمالية القريبة من مدن المفرق وإربد والرمثا، فإن قلة منهم يعرفون شيئًا عن مناطق مثل «منشية الغياث» أو «الريشة» التي ترددت أسماؤها مؤخرًا.

منشيّة الغياث، قرية تابعة للواء الرويشد، وتعدّ آخر المناطق المأهولة شرق البادية على الحدود العراقية الأردنية، ولها سيرة تنموية تستحق أن تروى، إذ لها تجربة طويلة مع المداخلات الرسمية التي صنّفتها لزمن بأنها الأكثر فقرًا، ولا زالت في موقع «متقدم» في مستوى الفقر.

زرتُ القرية، وأقمت فيها عام 2013 لأسبوعين بغرض دراسة حالها وتأثير المداخلات الحكومية لمكافحة الفقر فيها، وقد خرجت وقتها بتقرير حمل عنوان «الرويشد.. كي لا تتحول إلى مأزق تنموي».[1] وقبل أيّام عدت لزيارتها من جديد، فقابلت عددًا ممن قابلتهم أوّل مرة، وزرت بعض المشاريع التي نُفّذت تحت عنوان مكافحة الفقر، والتي تحولت في الواقع إلى مجرد أطلال وخِرَب، لتغدو القرية وكأنها مصداق لما نبه له التقرير من قبل: مأزقًا تنمويًا.

وفق التقسيمات الإدارية المعتمدة، تحتل مناطق البادية الشمالية ما يقارب 30% من مساحة المملكة، وتشمل المنطقة ابتداء من حدود لواء الرمثا (محافظة إربد) غربًا، ثم تنعرج جنوبًا نحو مناطق غرب المفرق، ثم تتجه شرقًا لتغطي كامل المنطقة حتى الحدود مع العراق وتجاور الحدود مع سوريا شمالًا ومع السعودية جنوبًا.

يتوزع سكان البادية الشمالية بجزأيها (الشرقية والغربية) على نحو 103 قرى وتجمع سكني منتشرة بشكل خاص في الجزء الغربي القريب من مدينة المفرق، ثم يتوقف العمران بعد قرية «الصفاوي» لمسافة تصل إلى 110 كم، لنصل بعدها إلى قرية «منشية الغياث» و«الرويشد» التي تشكل مركز لواء صغير من حيث عدد السكان، إذ يبلغ عدد سكان منشية الغياث حوالي 1501 وعدد سكان الرويشد 5731،[2] لكن اللواء كبير المساحة، ويضم هاتين البلدتين وتجمعات سكانية قليلة أخرى. ويتبع كامل اللواء إداريًا لمحافظة المفرق، مع أن المسافة بين الرويشد ومدينة المفرق تبلغ حوالي 200 كم.

إن لفت الانتباه إلى مسألة المسافات هذه له أهمية كبرى تنمويًا واجتماعيًا، ذلك أن الإحساس بالبعد واضح في يوميات المواطنين القاطنين في تلك المنطقة، حيث يطلق سكان الرويشد ومنشية الغياث على باقي البلد اسم «مْغَرّب». فالقادم إليهم من عمان مثلًا أو حتى من المفرق، يعد قادمًا من «مغرّب»، وهذه مفردة دارجة ومستخدمة يوميًا، وتحمل عادة دلالات موقفية دفينة، فالمواطن إذا غاب ذهب إلى عمان فإنه ببساطة يقول «كنت مغرب» وكثيرون من السكان رحلوا كليًا إلى «مغرب»، ويستتبع ذلك مسميات مثل «أهل مغرب» أو «جماعة مغرّب».

جغرافيًا، تقع الرويشد وسط ما يعرف بصحراء «الحَـرّة» الممتدة شمالًا وجنوبًا نحو سوريا والسعودية. وتبلغ مساحة تلك الصحراء 45 ألف كلم مربع، تبلغ حصة الأردن منها حوالي الربع.[3] تغطي السطح الخارجي لصحراء الحرة صخور وحجارة بازلتية سوداء، تتخللها قيعان (مساحات منبسطة) ترابية طينية دائرية الشكل تقريبًا، وعشرات الأودية والسدود والبرك والحفائر (مواقع تجميع مياه الأمطار) القديمة والجديدة.

أُسّست بلدة الرويشد، على واحدة من هذه القيعان المنبسطة الترابية، ولهذا ظل اسمها المتداول شعبيًا هو «صوفة دوّارة»، وذلك بسبب المشهد المتكرر للعواصف الرملية التي تتحرك دائريًا للأعلى فكأنها قطعة صوف تتحرك بشكل دائري. وقد ظل اسم «صوفا» متداولًا وبشكل رسمي حتى أواخر ثلاثينيات القرن الماضي عندما تقرر اعتماد اسم «اجفور» وهو تعريب لـ(H4) الذي يشير إلى رقم نقطة خطوط أنابيب شركة النفط التي تمتد بين العراق وحيفا في الساحل الفلسطيني. وظل اسم «اجفور» معتمدًا رسميا حتى عام 1985 عندما تقرر تغيير الاسم الى «الرويشد»، وذلك لأن اسم اجفور لم تعد له أية دلالة أو ضرورة، فخط النفط توقف منذ زمن.

كانت منطقة الرويشد نقطة التقاء للبدو والتجار، ولكنها كانت مؤقتة ودورية وبلا عمران دائم، إلى أن قررت السلطات البريطانية في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي إقامة نقطة عمران دائمة بهدف خدمة منشآتها الخاصة بخطوط نقل النفط. فاستقرّ فيها التجار، الذين كانوا يتابعون حركة البدو في نقاط تجمعهم في الصحراء. كان هؤلاء المؤسسون قادمين من خارج المنطقة تمامًا، إذ قدموا من المدن الأردنية التي اشتهر أهلها بالتجارة، وخاصة من الرمثا ومعان وبعض الشوام ومن إربد وقراها ومن مدن فلسطينية، ويشكّل هؤلاء الآن «أهل البلد» بحسب الكلام الدارج في الرويشد، بما في ذلك عند البدو أنفسهم.

تاريخيًا، كان البدو يرتحلون وفق مقتضيات نمط عيشهم، بأريحية في البادية الممتدة بين الأردن وسوريا والعراق والسعودية، وكانت هذه حالهم حتى نهاية سبعينيات القرن الفائت. لكن ومع اتساع سيطرة دول المنطقة على حدودها كيّف البدو بالتدريج متطلبات عيشهم مع هذا الواقع الجديد، وحصلت حركة استقرار وتوطين سريعة.

شكلت قبيلة «الغياث» آخر المستقرين من البدو. ولكنها كانت في ماضيها تَعتبِر مناطقَ الرويشد «مَرَدّا» لها، أي أنها تقصدها في المواسم المناسبة، كما أنها شكلت نقطة التبادل التجاري الرئيسية للبدو مع المحيط. وعندما أقيمت نقطة خط شركة النفط ونقطة الحدود، استمرت المنطقة تلعب الدور ذاته.

حتى سبعينيات القرن العشرين، كان أغلب أبناء قبيلة الغياث يقيمون في سوريا، ولم يكن قد استقر منهم في الأردن سوى عدد قليل من الأسر، ولكن تحت تأثير التطورات السياسية في المنطقة، إلى جانب عوامل خاصة بالقبيلة، انتقل جزء كبير منها إلى الأردن، وتحديدًا إلى هذه المناطق التي يألفونها ويعرفونها بحكم تاريخ ترحالهم.

اتخذ المستقرّون الجدد من البدو من المساحات الأقرب إلى المناطق المأهولة في الرويشد مستقرًّا لهم، في بيوت شعر بداية، ومن ثم أبنية متواضعة من طوب الطين إلى جانب بيوت الشعر، ولا تزال بعض معالم تلك المرحلة قائمة إلى الآن.

هذا الاستقرار لم يعنِ انقطاعًا كليًا للبدو عن نمط حياتهم المتمحور حول تربية الحلال (الأغنام)، ولا زالت الصلة بتربية الحلال قائمة لليوم، وهناك استعداد، بل وشوق إلى عودتها. قال لي أحد الصامدين في هذا المجال: «لولا الحرام لكنا نصلي بين الحلال».

ورغم وجود عدد كبير من أبناء الغياث وغيرهم من البدو في الرويشد، إلا أنها وبسبب من ظروف نشأتها، ظلت تعتبر بلدة لغير البدو، والبدو يسمون أراضي الرويشد «منطقتنا» لكنهم لا يعتبرون البلدة ذاتها بلدتهم الخاصة، ويسمون غير البدو «أهل البلد» ولا ينافسونهم على ذلك. وقد شكّل تأسيس قرية خاصة باسم الغياث تعويضًا معنويًا أسهم في تعزيز حضورهم.

تأسيس منشية الغياث

تحمل قصة تأسيس القرية دلالات تنموية إيجابية، ويمكن لها أن تشكّل عناصر مفيدة في أي خطة تنموية حقيقية.

في عام 2013، زرت عدة مرات الشيخ عناد الهزاع الغياث، شيخ عشيرة الغياث، والذي يبلغ اليوم 82 عامًا، في بيت الشعر المقام إلى جوار بيته، وهو بيت شعر كبير «مسوبع» (بمعنى أنه يرتكز على سبعة أعمدة).

يقول الشيخ إنه وبعد شق الطريق الدوليّ مع العراق كبديل عن الشارع القديم الضيق، وبعد أن أنهت شركة المقاولات المنفذة للمشروع أعمالها، تركت خلفها عددًا من المنشآت، وهي غرف مسقوفة بزينكو، وبعض المكاتب، ونقطة لتزويد الشركة بالماء من خلال بئر قريب، اشتراها الشيخ وتعهّد بدفع ثمن المياه، ومن ثم أنشأ الناس 14 خط للمياه منها، وكان هذا قبل أن تصل القرية مياه سلطة المياه.

بدأ الناس يستقرون فيها وحولها. قلنا للمسؤولين، يروي الشيخ، نريد مدرسة ومعلمين، ثم سجّلنا أسماء 30 ولدًا للمدارس، وأخذنا قسمًا من غرف الشركة وعملنا فيها مدرسة. وبنيت غرف لإقامة المعلمين. وقتها لم يكن أبناء القرية يحملون الجنسية الأردنية، ولذا كان يتم تسجيل الأطفال في المدرسة بناء على توقيع من شيخ القبيلة وشهادة على أن هذا الطفل هو فلان ابن فلان.

ليس الفقر في الرويشد وعند بدو الغياث استثناء في البادية الشمالية، ففي هذه المنطقة تقع ست من أصل 27 جيب فقر، وفق آخر حسابات وطنية معلنة للفقر عام 2012

وفي العام 1987 صدر قرار ملكي باعتبار الغياث عشيرة أردنية، فتم تزويد أفرادها بدفاتر عائلة، وجاء القرية «موظف وأقام عندنا لإسبوعين وثق خلالهما عقود زواج للجميع، وكنتَ ترى زوجين «ختيار وختيارة» في السبعينيات من عمريهما، وقد خرجا بعد أن تم عقد قرانهما للتو، وكان يجري توثيق الأولاد بشهادتي وشهادة آخرين» يقول الشيخ.

أمّا أولئك الذين لم يكونوا موجودين في القرية وقت التسجيل لأنهم كانوا في البرية مع الأغنام أو لإنهم لم يكونوا مقيمين في الأردن وقتها فلم يتمكنوا من الحصول على الجنسية.

يقول الشيخ: «سوّيت» مجلس قروي لمنشية الغياث سنة 92 وصرت رئيسه مدة خمس سنين. وحصلنا على تسمية «منشية الغياث» بعد أن كان السكان يقولون إنهم يسكنون «في الشركة».[4]

كانت حرب الخليج عام 1991 نقطة تحوّل رئيسة في حياة المنطقة وسكانها، زادت عمليات ضبط الحدود من قبل الدول الأربعة، وهو ما حدّ من عمليات انتقال البدو مع مواشيهم للرعي أو للتجارة، كما حدّ من عمليات التهريب التي كانت تشكل قطاعًا هامًا، ولكن التهريب الدارج المعروف كان يقتصر حينها على الأغنام وسلع أخرى عادية كالأجهزة الكهربائية.

شهد النصف الثاني من التسعينيات بداية معضلتين هامتين بالنسبة للبدو: الأولى تمثلت في سنوات المحل والجفاف المتتالية، والثانية تمثلت في شروع الحكومات الأردنية بتطبيق سياسة رفع الدعم عن أسعار الأعلاف، وهما المشكلتان اللتان شكلتا ضربة كبيرة لقطاع تربية المواشي الذي يشكل أساس الحياة الاقتصادية والاجتماعية للبدو. في هذه السنوات بدأت عملية الاستقرار النهائي «القسري» ومغادرة العمل في تربية الحلال. إذ بدأ البدو يفقدون نمط عيشهم ومصدر رزقهم الاعتيادي، وتدهورت أوضاعهم سريعًا. ويمكن اعتبار تلك السنوات بداية انتشار ظاهرة الفقر في المنطقة.

في هذه الأثناء بدأ أغلب سكان المنطقة من غير البدو، يعودون إلى مناطقهم الأصلية، وانتهت مرحلة ما تسمى «أيام الخير». واليوم لم يبق من «المؤسسين» أو «أهل البلد» سوى العائلات التي تعمل في التجارة المحلية وبعض محلات تجارة الطريق الدولي الذي ضعفت حركته كثيرًا، أو في بعض الخدمات وفي المؤسسات الحكومية.

في عام 2008 كانت نسبة الفقر في لواء الرويشد 73% وهي أعلى نسبة معلنة في منطقة واحدة في تاريخ إحصاءات الفقر في الأردن. وقبل ذلك بسنوات، وابتداءً من عام 2005 كان قد بدأ اعتماد مفهوم «جيوب الفقر»، وجيب الفقر هي المنطقة التي تتجاوز نسبة الفقر فيها 25%. واعتبرت الرويشد جيب الفقر الأقسى.

ليس الفقر في الرويشد وعند بدو الغياث استثناء في البادية الشمالية، ففي هذه المنطقة تقع ست من أصل 27 جيب فقر، وفق آخر حسابات وطنية معلنة للفقر عام 2012، ولم تعلن دراسات تفصيلية لاحقة لذلك، غير أن مجرد معرفة أن عدد المتقدمين لطلبات الحصول على معونة وطنية قد تضاعف في السنوات العشر الأخيرة كفيلة بأن تقول لنا إن شيئًا لم يتغيّر.

وفق الإحصاءات ذاتها، نالت محافظة المفرق حيث تقع هذه المناطق الفقيرة المرتبة الأولى في عدد الفقراء فقرًا مدقعًا (فقر الغذاء). وفي المرتبة الثانية بعد محافظة معان في نسبة الفقر المدقع، حيث بلغت النسبة في المحافظة 1.27% بينما تبلغ النسبة على مستوى المملكة 0.32%، وبحساب عدد فقراء الغذاء، فإن حصة محافظة المفرق تبلغ 18.5% بينما يقطنها أقل من 6% من سكان المملكة.

التدخلات الحكومية لمعالجة الفقر

عند البدء بالدراسة الميدانية للمنطقة عام 2013 حصلتُ على قائمة رسمية بالمشاريع الحكومية التي نفذت في المنطقة تحت عنوان مكافحة الفقر. وقد تحققت من عمليات التنفيذ ووثقت ذلك في حينه، وكانت جميعها قائمة بالفعل ولكنها قد بدأت فورًا تعلن فشلها، والمفاجأة في الزيارة الأخيرة قبل أيام أن جميعها تحولت إلى أطلال وانتهت بشكل كلي غير قابل للإصلاح. وهذا عرض لهذه المشاريع.

مشروع المزرعة (أبقار ودواجن وأغنام)

إلى الجنوب الشرقي من الرويشد، أقيمت مزرعة أبقار ومصنع ألبان بتكلفة بلغت 400 ألف دينار.[5] وبعد تجهيز كامل البناء ومعداته اللازمة بما في ذلك حظائر الأبقار وأدوات التصنيع، أُعلِن التراجع عن المشروع بعد أن «اكتشف» أن تربية الأبقار غير مناسبة في المنطقة، ثم جرى تغيير عنوان المشروع إلى مزرعة دواجن، وأضيفت التجهيزات اللازمة، ثم أعلن التراجع للسبب ذاته، فأعلن مجددًا عن تحويل المشروع لمزرعة أغنام، وزُودتْ المزرعة فعلًا بـ200 رأس غنم. وعند زيارة المشروع في أيلول 2013 كانت الأغنام موجودة ومعها أحد الرعاة الذي كلف بالعناية وبحراسة المباني، وعندما زرته كان يشكو من انقطاع راتبه لشهرين، وقد ظن أني أمثل المسؤولين. كان ذلك يعني أن المشروع مهمل وغير متابع.

في الزيارة الأخيرة قبل أيام، كانت المفاجأة أن المشروع تحوّل إلى خرائب فانهارت أغلب مبانيه وجرى تفريغه من كل المعدات بل من الأبواب والسقوف والبلاط.

مزرعة الأبقار اليوم (أعلى، يسار) وفي 2013 (أسفل، يمين). تصوير أحمد أبو خليل.

مشروع منشار الحجر

اكتمل بناء هذا المشروع وتجهيزه عام 2010، وكانت كلفته 277 ألف دينار، ولكنه حتى عام 2013 لم يكن قد باشر الانتاج، وهو متوقف تمامًا منذ إقامته، بل إن البلدية توظف لخدمته أربعة حراس يتناوبون على مدار الساعة وتدفع رواتبهم، ومعنى ذلك أن للمشروع نفقات جارية.

قمتُ حينها برفقة الحارس المناوب بزيارة المنشار، وبالفعل لاحظت أن الصدأ بدأ يطال جسم المعدات.

في الزيارة الأخيرة قبل أيام، زرت المشروع مجددًا، وقد تحول إلى موقع مهمل وهدمت بعض أجزائه، وتبين أنه عمل لسنتين، من 2016 حتى 2018، ثم دخل بعدها في مشاكل قضائية مع الجهة التي شغلته، لكن وجود حراس البلدية حال دون نهب المحتويات بشكل كامل.

مشروع منشار الحجر اليوم (أعلى، يسار) وفي 2013 (أسفل، يمين). تصوير أحمد أبو خليل.

مشروع مقلع الحجر

تشتهر المنطقة بحجر الرويشد، ولهذا يفترض أن المشروع الذي كلّف 570 ألف دينار مناسب، وهناك في المنطقة مشاريع مماثلة قائمة وتعمل بشكل متواصل.

بدأ الإنتاج في المشروع عام 2010 وهو مملوك لوزارة التخطيط وتديره المؤسسة التي أحيل عليها عطاء مكافحة الفقر في المنطقة. وقد أعطي امتيازات خاصة مقارنة بالمقالع الأخرى، ومع ذلك فقد تحوّل فورًا إلى مشكلة أحيلت إلى القضاء منذ ذلك الوقت وتوقف المشروع تمامًا.

مشروع استخراج زيت الخروع

قبل الوصول إلى الرويشد بحوالي 15 كم وفي منطقة اسمها «مْقاط»، وعلى يمين الطريق العام الدولي مباشرة يقع مشروع حمل اسم: «مشروع إنتاج زيت الخروع».

مساحة المشروع 100 دونم، وعند زيارته عام 2013 كان فيه هانجر كبير يفترض أن يحوي مشغلًا لاستخراج زيت الخروع، وهناك بركة بلاستيكية كبيرة تصل إليها المياه من بئر ارتوازي يقع على الجهة الأخرى من الشارع، كما يوجد مبنى صغير مخصص للإدارة.

في ذلك الوقت كان الناظر يستطيع أن يلحظ أن هناك فعلًا محاولة قد جرت لزراعة نبات الخروع، فهناك أعداد كبيرة من الشجيرات الجافة، تتخللها شبكة من أنابيب الري بالتنقيط. المحاولة فشلت بالكامل، وأوقف المشروع، وفي شهر أيلول 2013 حضر مهندسون مشرفون وبدأوا بتجربة جديدة، ولكن هذه المرة لزراعة البرسيم والشعير، وقد اكتفوا بتجربة زراعة أربعة دونمات يجري ريها بالتنقيط بواسطة الأنابيب المتوفرة أصلًا.

في الزيارة الأخيرة قبل أيام، لاحظت أن اليافطة التي تشير إلى المشروع أزيلت، وأنه توقف كليًا بعد فشل محاولة زراعة البرسيم والشعير، وهناك الآن بعض الأطلال.

مشاريع حفائر المياه وحماية البيئة البدوية

ضمن برنامج تعويضات حرب الخليج، ومشروع الحفاظ على بيئة البادية الأردنية، عملت وزارة البيئة على إقامة حفائر (سدود ترابية صناعية) لحفظ مياه الأمطار، وللمنطقة خبرة طويلة في هذا المجال.

عام 2013 زرت اثنتين من الحفائر الجديدة، والواقع أن هذه الحفائر كانت حينها مثار تهكم السكان عمومًا، وعندما وصلت إلى موقعها، لاحظت أنه بالكاد تستطيع تمييز وجود عمليات حفر، وقد احتجت للتدقيق ولسؤال دليلي عن موقعها وهو يشير إلى أنها أمامي. فبالإضافة إلى الخلل في اختيار موقع الحفر، هناك خلل آخر في التنفيذ الفعلي. والناس هنا يتحدثون عن انعدام الخبرة في تحديد المواقع المناسبة، وسخر أحد مربي الأغنام بقوله: إن بعض رعاة المنطقة يعرفون اتجاه سير سعة دلو من المياه لو انسكب، بينما لم يوفق خبراء البيئة والزراعة في اختيار مواقع حفائرهم الكبيرة.

بعد منطقة الحفائر الوهمية، وإلى الجنوب الغربي من الرويشد، أقيم مشروع «محمية نبات الرّغّل»، وهي شجيرات صحراوية، وكان هذا المشروع أيضًا عبارة عن قصة للتندر، ورأيت مئات الحفر وأشتال الأشجار المكومة من دون أن تزرع، بينما كان بعض الشباب يتحدثون عن صور التقطت لهم كمستفيدين من فرص العمل التي وفرها المشروع.

صندوق المعونة الوطنية

التسمية الدارجة للمعونة المالية التي يقدمها صندوق المعونة الوطنية هي «راتب الشؤون»، وفي عام 2013 كان عدد من يقبضون «راتبًا» 387 حالة في مجمل اللواء.

ربما يكون الصندوق هو الجهة الوحيدة التي لها أثر فعلي، فهي تقدم معونة مالية للمستفيدين من خدماته ممن تنطبق عليهم الشروط. اليوم بعد عشر سنوات، زاد الطلب على الخدمة فارتفع عدد الحالات إلى 660 ويتوقع أن تصل قريبًا إلى 700 بناءً على الطلبات المقدمة.

هناك بنود عدة بموجبها توقف المعونة عن المستفيد، مثل امتلاك كوشان حلال، أو سيارة شحن او سيارة بكب[6] ومن يملك رخصة قيادة فئة رابعة توقف عنه المعونة أو تسحب منه الرخصة.

مشكلة تنموية تظهر كمشكلة أمنية

في الرويشد وما حولها، يخلو الموقف الرسمي عمومًا من «المنطق التنموي المناسب»، وجميع الإجراءات والتدخلات تتخذ مكتبيًا. وفي أحسن الأحوال يتم اعتماد حلقات من أبناء المجتمعات المحلية يتحولون إلى ما يشبه الزبائن لدى صاحب القرار في المركز على حساب المصالح الفعلية للسكان.

اليوم من الواضح أن مشكلة المنطقة هي في الأساس تنموية الطابع، وهي تبرز الآن كمشكلة أمنية. ويخشى سكان المنطقة اليوم من أن تشكّل قضيتا المخدرات والتهريب وصمة تتسبّب لهم بإشكالات متعددة. لقد كان التدهور المعيشي يحصل ببطء وبالتدريج. فخلال جيل واحد أو جيل ونصف، كان على السكان أن يعيدوا ترتيب حياتهم في منطقة لهم فيها تاريخ طويل، حيث أجبرتهم ظروف عامة «دولية» ومحلية على ترك أنماط عيشهم فيما لم يجدوا السند الكافي للانتقال إلى أنماط جديدة. إنهم يتذكرون حماسهم في البداية للاستقرار وإقبالهم على التعليم لدرجة أن الأسر بدلت مواقع عيشها لأجل الاقتراب من المدارس، وبذلوا جهودًا للتواصل مع الإدارات المركزية في شتى الشؤون، وكان ذلك سلوكًا جديدًا وصعبًا عليهم في البداية.

إن قصة الجهد لإنشاء قرية منشية الغياث المشار إليها فيما سبق، تعد قصة في إدارة التنمية الذاتية. وقد كتبت قبل عشر سنوات بعد الدراسة الأولى بأن لدى الشيخ عناد الغياث مؤسس القرية من الخبرة التنموية ما يكفي لأن يعتمد رأيه وموقفه قبل أي خبير آخر.

زرت الشيخ قبل أيام، وجدته يشعر بالكثير من الأسى. لا يزال يعتز بسيرته من الثقة التي بناها مع السلطة الرسمية ومع أبناء جماعته من العشيرة، لكنه قلق على إمكانية استمراره بمثل هذا الدور، رغم الحاجة الماسة له.

  • الهوامش

    [1] يمكن قراءة البحث في كتاب شاهد على الفقر.

    [2] بحسب التقرير الإحصائي للعام 2015.

    [3] صلاح الدين البحيري (جغرافيا الأردن) منشورات الجامعة الأردنية.

    [4] يشار إلى أن مفردة «منشية» المستخدمة في قرى البادية تعني أصلا «منشأة»، غير أن البدو يتخففون من الهمزة، فحولوها إلى «منشية»، وهناك عدة قرى تحمل هذه التسمية.

    [5] وفق أوراق وزارة التخطيط

    [6] هناك عدد كبير من الأهالي يملكون سيارات بكب قديمة يستخدمونها كوسيلة نقل ركاب داخل الرويشد وإلى المناطق المحيطة.

]]>
https://www.7iber.com/society/%d9%81%d8%b4%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%86%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d9%86%d8%b4%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d9%8a%d8%a7%d8%ab-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d9%8a%d8%b4%d8%af/feed/ 0
الأرشيف في غزّة: حرب على ما تبقّى https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%b4%d9%8a%d9%81-%d9%81%d9%8a-%d8%ba%d8%b2%d9%91%d8%a9-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%a7-%d8%aa%d8%a8%d9%82%d9%91%d9%89/ https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%b4%d9%8a%d9%81-%d9%81%d9%8a-%d8%ba%d8%b2%d9%91%d8%a9-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%a7-%d8%aa%d8%a8%d9%82%d9%91%d9%89/#respond Wed, 06 Mar 2024 13:36:35 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=society&p=89388 من أجل «إضفاء منظر جميل»، شيّد الصندوق القومي اليهودي عقب النكبة في مناطق كثيرة من فلسطين المحتلّة حدائق عامّة، وغرس حولها الكثير من أشجار السرو والصنوبر، اتخذت بعد سنوات شكل أحراجٍ صغيرة حول الحدائق عُرفت بـ«الرئات الخضر لإسرائيل».

اختيرت أماكن زراعة هذه الأشجار بعناية بالغة من أجل أن تكون: أوروبيّة المظهر، وخضراء، والأهم يهوديّةً، إذ زرعت فوق بقايا القرى الفلسطينية المهجرّة في النكبة وبقايا كروم الزيتون المجاورة لها مثل قرى: طيرة حيفا، الخالصة، المجدل.[1]

ورغم أن هذه الأشجار الجديدة لم تتواءم مع مناخ فلسطين، إلّا أن الصندوق القومي اليهودي ومعه الجيش والحكومة أصروا على زراعتها من أجل القول إن الأرض كانت خاليةً من السكّان أو غير مستغلّة زراعيًا.

بهذه الطريقة تكرّس سلب الأرض، وأعيد استخدامها بشكل جديد، وكذلك جرى التعامل مع التاريخ؛ إذ نهبت أرشيفات الدولة العثمانية، والانتداب البريطاني، والقنصليات الأجنبيّة،[2] والدوائر والمؤسسات والهيئات الفلسطينية[3] والبلديات[4] مثل: دفاتر الطابو، وسجلات الأملاك، والمحاكم الشرعية،[5] ودفاتر النفوس،[6] ما قدر حجمه بأربعة آلاف متر طولي ونقلت إلى أرشيف الدولة الذي أسّس أواخر سنة 1949.

أعيد استخدام هذه الأرشيفات بشكل جديد، من خلال إتاحتها بسخاء للباحثين والأكاديميين الصهاينة لإنتاج تاريخ جديد يستند إلى أجزاء منتقاةٍ منها قدّمت ما يظهر أنه الدليل العلمي على أحقية الصهيونية في أرض فلسطين لأنها: جلبت التحديث إلى فلسطين البدائية، وجعلت الصحراء جنّة، وأقامت دولة ديمقراطية هي الوحيدة في الشرق الأوسط لملايين اليهود والعرب، لكن العرب رفضوا بغباء هذا التحديث.[7]
ظلّ جزءٌ من هذه الأرشيفات ممنوعًا على الباحثين المشكوك في ولائهم للصهيونيّة، وجزءٌ متاح بسخاء للباحثين المرتبطين بالمشروع الصهيونيّ، وجزء ثالث ظلّ ممنوعًا على الفئتين.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

خلال اجتياحه جنوب لبنان ثم العاصمة اللبنانية بيروت العام 1982، نهب جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل ممنهج أرشيفات مقرّات مؤسسات منظمة التحرير، خاصة الأرشيف الأكبر الموجود في بناية من عدة طوابق في منطقة الحمرا ويتبع مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير.

كان المركز تأسس بدايات العام 1965 بعد وقت قصير من تأسيس منظمة التحرير وانتقل مع قياداتها إلى بيروت العام 1970 ليواصل عمله هناك كجهةٍ تنتج الدراسات والمنشورات، ويحتفظ بسجلات المنظمة نفسها منذ بداياتها، ولديه وثائق قديمة تختص بالحركة الصهيونية.

لفتت قصّة هذا الأرشيف الباحثين والمهتمين بسبب المصير المجهول لمحتوياته؛ إذ حرر في صفقة تبادل الأسرى العام 1983، وشحنت محتويات الأرشيف المحرر مع عدم القدرة على التأكد فيما إذا كانت هي كل الأرشيفات المنهوبة ليتنقّل في معسكرات جيش التحرير الفلسطيني في الصحراء الجزائرية، مثل معسكر الخروبة وتبسة ثم قاعدة البيَّض حيث استقرّ هناك عرضةً للتلف بسبب قوارض ورطوبة الصحراء الجزائرية لعدة سنوات.[8]

بالإضافة لهذا الأرشيف، دمّرت أو نُهبت الكثير من أرشيفات مؤسسات وهيئات فلسطينية في جنوب لبنان أثناء الاجتياح، منها أرشيفات مركز التوثيق، والإذاعة، ووكالة الأنباء الفلسطينية، ومؤسسة السينما الفلسطينية، ومركز التخطيط الفلسطيني وأرشيفات نهبت من مقرات منظمة التحرير والفصائل في جنوب لبنان.

وقد توصلت الباحثة هنا سليمان إلى أن هذه الأرشيفات استخدمت لأغراض أمنية أو من أجل تبرير شن الحرب على لبنان وظهر ذلك بعد أقل من عام على الاجتياح حين استخدم المؤرخ «الإسرائيلي» رفائيل يسرائيلي هذه الأرشيفات لإعداد وتحرير كتاب بعنوان «منظمة التحرير في لبنان» لتركيب صورة دعائيّة حول طبيعة عمل منظمة التحرير كمنظمة إرهابيّة لها صلات مع شبكة من الخارجين على النظام الدولي في البلاد العربية والإسلامية والكتلة الشرقية وأمريكا اللاتينية، وأن الجيش الإسرائيلي جاء من أجل تحرير جنوب لبنان من إرهابها.

ومن أبرز المراكز التي نهب أرشيفها أو دمر أرشيف مركز التخطيط. الذي تأسس بقرار من المجلس الوطني الفلسطيني العام 1967 ليتبع منظمة التحرير الفلسطينية، كهيئة تختصّ بتقديم الدراسات والبحوث والمعلومات بالقضية الفلسطينية، وعلى مدى سنوات شيّدت فيه مكتبة وأرشيف كبيرين لكنها دمرت أو نهبت في بيروت.

يمكن قراءة إبادة الأرشيف كجزءٍ مكملٍ للإبادة المكانيّة؛ دمّر جيش الاحتلال أكثر من نصف مباني غزّة وبنيتها التحتيّة. ثم دمّر الأرشيفات الإدارية التي تنظّم علاقات الناس بين بعضها، أو بينها وبين الحيّز المكانيّ الذي يعيشون فيه.

أعيد بناء الأرشيف والمكتبة في تونس العام 1985 في فترة وجود قيادات منظمة التحرير هناك، ثم انتقل بعد توقيع اتفاق أوسلو العام 1994 إلى غزّة ليواصل عمله من هناك ويراكم طوال هذه السنوات قرابة 100 ألف من وثائق الأرشيفات والمخطوطات النادرة لكنها دمّرت مرة أخرى في قصف طائرات جيش الاحتلال الإسرائيلي في الحرب الأخيرة على غزّة، مع أرشيفات 126 مركزًا حكوميًا، أبرزها الأرشيف المركزي في بلدية غزّة، وأرشيفات ومخطوطات كتب قديمة عمرها مئات السنين كانت موجودة في مكتبات 208 مسجد، وكنيستين.[9]

تقدّر الأرشيفات المدمّرة في هذه الحرب بمئات الآلاف من الوثائق، وهي أكبر عملية إبادة أرشيفات في غزّة بشقيها؛ الإداريّة الموجودة في الدوائر الحكوميّة التي تكون وظيفتها ضبط تعاملات الناس بين بعضها أو بين الناس والمؤسسات في قطاع غزّة مثل رخص المهن، وعقود الإيجارات، ووثائق ملكيّة العقارات والأراضي والمنشآت التجاريّة. والأرشيفات ذات الأهمية التاريخية التي تشكّل مصدرًا لدراسة تاريخ قطاع غزّة الاجتماعي والاقتصادي مثل قرارات المجالس البلدية القديمة، وإحصاءات السكّان، وقوائم تحصيلات الضرائب والملكيات القديمة، ومخطوطات ورسائل وكتب قديمة مثل تلك الموجودة في مكتبات مسجدي العمري والعبّاس، ومركز المخطوطات.

يمكن قراءة إبادة الأرشيف الإداري كجزءٍ مكملٍ للإبادة المكانيّة؛ دمّر جيش الاحتلال أكثر من نصف مباني غزّة، بما فيها أغلب المدارس والمستشفيات والبلديات، والبنية التحتيّة من شوارع وأرصفة وحدائق عامّة. ثم دمّر الأرشيفات الإدارية التي تنظّم علاقات الناس بين بعضها، أو بينها وبين الحيّز المكانيّ الذي يعيشون فيه.

يرى المهندس عاصم النبيه، مدير العلاقات العامة في بلدية غزّة، في تدمير واحد من أهم هذه الأرشيفات الموجود في مبنى بلدية غزّة المركزي، بوصفه تدميرًا يستهدف المدينة.

كذلك الأمر، يمكن قراءة إبادة الأرشيف القديم بوصفه محاولةً لاستكمال محو تاريخ هذا المكان وماضي الناس الذين يعيشون فيه؛ باعتبار هذا الأرشيف أحد المصادر الأوليّة في دراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، وبإبادته تتشكّل فجوات في كتابة التاريخ مستقبلًا في حال تناول فترة تاريخية محددة من تاريخ المكان، وهو بالمحصلة يعرقل كتابة هذا النوع من التاريخ «كلّ وثيقة نفقدها تفقد معها معلومة مهمة ونفقد تاريخًا مهمًا» كما يقول المؤرخ حسام أبو النصر ممثل فلسطين في اتحاد المؤرخين العرب.

صحيح أن إبادة شاملة لم تحدث في غزّة على غرار ما تركته القنبلة النووية التي أسقطت على هيروشيما صيف العام 1945 أو على غرار ما تمنّاه وزير التراث في حكومة الاحتلال، غير أنّ مجموعة الإبادات الجزئيّة هذه، أدت مهمة القنبلة النووية. إذ أبيد الإنسان بقتل وجرح عشرات الآلاف، وأبيد المكان بتدمير العمران وما يسيّر علاقة الناس به، وأبيد التاريخ بإتلاف الأرشيفات القديمة.
قصد من مجموعة الإبادات الجزئيّة هذه إبادة كليّة لما تبقّى من وجودٍ ناجٍ من النكبة والنكسة، أو تشكّل في الشتات أو تحت السنوات الطويلة تحت الاحتلال، وإن إبادته تفهم ضمن سياق أوسع تستهدف وضع حلّ نهائيّ لما تبقّى.

إن تدمير الأرشيفات عملٌ ممنهج وليس انتقاميًا، إنما له هدف يقصد منه حلّ معضلة أمام الرواية المضادة؛ وهي وجود حاضر وتاريخ ما زال قائمًا رغم التاريخ الطويل من الإقصاءات. فالأمم تاريخيًا، كما يشير إدوارد سعيد، عملت على سرد الروايات عن نفسها، أو إعاقة سرد روايات أخرى بديلة و منعها من التشكل والظهور، وهذا المنع عامل مهم جداً بالنسبة للثقافة والإمبريالية، بل تشكل أحد الارتباطات بينهما.

يحاول موظفون في بلدية غزّة جاهدين حصر الأضرار، يَطمئنُ النبيه للأرشيف الإداري الموجود في البلدية لوجود نسخة إلكترونيّة لأغلب وثائقه. لكن المصير المجهول يواجه أرشيفات إدارية أخرى موجودة في كثير من المؤسسات، سواءً الورقي منها أو الإلكترونيّ، بحسب المكتبة الوطنية الفلسطينية، ولا معلومات نهائيّة حول مصير هذا الأرشيف بسبب استمرار الحرب وصعوبة حصر الأضرار.

إن تدمير الأرشيفات عملٌ ممنهج وليس انتقاميًا، إنما له هدف يقصد منه حلّ معضلة أمام الرواية المضادة؛ وهي وجود حاضر وتاريخ ما زال قائمًا رغم التاريخ الطويل من الإقصاءات.

أما أرشيف البلدية القديم، فبعد الحرب ستبدأ محاولات البحث عن نسخ ورقيّة منه يمكن أن تكون موجودة في بيروت أو اسطنبول خاصةً تلك الوثائق التي تعود إلى فترة حكم الدولة العثمانية، أو في القاهرة فترة حكم مصر للقطاع، لكن كل ذلك مرتبط بانتهاء الحرب «نحن بحاجة إلى طواقم متخصصة في دراسة الأضرار، ومحاولة معالجتها إن أمكن، وهذا يتطلب مساعدة الجميع في التعاون مع بلدية غزّة». يقول النبيه.

كان أبو النصر شاهدًا على استهدافات الأرشيفات القديمة في غزة، ويتذكّر لحظات حرب العام 2014 حين خرج تحت القصف لمعاينة الأضرار التي لحقت بها مثل موجودات دائرة المخطوطات والآثار المحاذية لمسجد العبّاس.
في تلك الحرب، نُقلت الأرشيفات والمخطوطات المتضررة إلى مكتبة الظاهر بيبرس في المسجد العمري لتكون في مكان أكثر أمنًا، منها رسالة بعث بها شخص إنجليزي يقول فيها إنه أعاد نسخة مصحف مكتوب بخط اليد إلى غزة كان والده الجنرال في الجيش البريطاني قد سرقها في فترة الانتداب البريطاني.

لكن القصف طال كل شيء في هذه الحرب، ولا يعرف أحد مصير محتويات هذه المكتبة أو إن نجا شيء منها.
أخيرًا، بعد أكثر من سبعين عامًا على مشروع الصندوق القومي اليهودي في زراعة أشجار الصنوبر والسرو فوق بقايا كروم الزيتون التي زرعها سكّان القرى الأصليين، ظهرت أمراض في جذوع هذه الأشجار لم تفلح معها المعالجات المتكررة، من بين هذه الأمراض الغريبة تصدع جذوع الشجر إلى نصفين وبين التصدعات كانت تنمو، من جديد، شجيرات زيتون صغيرة.[10]

  • الهوامش

    [1] إيلان بابيه، التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 2007، ص 255

    [2] مثل: أرشيف القنصلية الألمانية والبريطانية في القدس، والنمساوية في فلسطين، وأوراق المندوبين الساميين التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر.

    [3] مثل أرشيف الدائرة القضائية، أرشيف اللجنة العربية العليا، أرشيف جيش الإنقاذ 1946-1948، ونوادي الشباب، والفتى العربي و النجادة والفتوة، والغرفة التجارية العربية بالقدس، ومقاولي البناء.

    [4] أرشيف البلديات مثل أرشيف بلدية حيفا والقدس.

    [5] مثل سجل محكمة الناصرة الشرعية، ومحكمة طبريا

    [6] محمود يزبك، الملف الفلسطيني في الأرشيفات الصهيونية، حوليات القدس، العدد(12) شتاء 2011، ص 86-90.

    [7] إيلان بابيه، فكرة إسرائيل: تاريخ السُلطة والمعرفة، ترجمة محمّد زيدان، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ط 1،2015، ص 40

    [8] سميح شبيب، مقال «المصير المأساوي لمركز الأبحاث الفلسطيني»، ضمن كتاب «أنيس صايغ والمؤسسة الفلسطينية»، المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، 2010، ص 49.

    [9] إحصائيّة أوليّة لدائرة المكتبة الوطنية الفلسطينية حتى تاريخ 12 شباط 2024.

    [10] إيلان بابه، التطهير العرقي في فلسطين، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 2007، ص 255

]]>
https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b1%d8%b4%d9%8a%d9%81-%d9%81%d9%8a-%d8%ba%d8%b2%d9%91%d8%a9-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%a7-%d8%aa%d8%a8%d9%82%d9%91%d9%89/feed/ 0
«زاكا» والإعلام الغربي: تحالفٌ صنعَ أكاذيب السابع من أكتوبر https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%ad%d8%a7%d9%84%d9%81-%d8%b2%d8%a7%d9%83%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d8%a8%d9%8a/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%ad%d8%a7%d9%84%d9%81-%d8%b2%d8%a7%d9%83%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d8%a8%d9%8a/#respond Mon, 04 Mar 2024 12:29:37 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89381 «وجدنا طفلًا مقطوع الرأس، بحثنا عن رأسه ولم نجده»؛ «رأيتُ امرأة حامل وسط بركة من الدماء.. بُقر بطنها، وطُعن جنينها»؛ «كانت الجدران والحجارة تصرخ: لقد اغتُصبت». منذ السابع من أكتوبر، اجتُرّت هذه المزاعم ومثيلاتها مرات لا تحصى على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين والغربيين، وعلى شاشات وصفحات وسائل الإعلام الغربية، وظلت تتكرر حتى بعد أن بدأ التشكيك بصدقيتها. لكن ما لم يحظ بكثير من الانتباه هو أن لهذه التصريحات منبعًا رئيسًا: منظمة إسرائيلية للاستجابة للطوارئ تدعى «زاكا». 

حضر أعضاء «زاكا» مبكرًا في مواقع الهجمات، فارضين سطوتهم باعتبارهم «شهود عيان» يتبعون جهة غير حكومية. وسرعان ما باتوا وافري الحضور في كبرى مؤسسات الصحافة الغربية: من رويترز، وسي إن إن، والنيويورك تايمز، والبي بي سي، إلى الواشنطن بوست، والوول ستريت جورنال، والغارديان، وغيرها الكثير. رغم ذلك، لم تكلف معظم هذه المؤسسات نفسها عناء البحث في خلفية «زاكا» وأعضائها. مثل هذا البحث كان ليحطم مشروعية الاعتماد عليها كمصدر رئيس لاتهامات بهذه الخطورة. فما سيتكشف سريعًا يرسم صورة لمنظمة متطرفة لطالما لاحقتها بلاغات الاحتيال والتزوير والفساد وحتى الاعتداء الجنسي. 

تلاعب واختلاس وفضائح جنسية

عام 1989، نفذت حركة الجهاد الإسلامي عملية استشهادية في القدس قتل فيها 16 إسرائيليًا. أحد الشهود على العملية كان يهودا ميشي زهاف، اليهودي الحريدي ذي الثلاثين عامًا، الذي نشأ في بيت معادٍ للصهيونية على أسس دينية، والذي كان قد قاد في شبابه مظاهرات معارضة لكسر السبت اليهودي، رشق فيها الشرطة بالحجارة. كان حضوره في ذلك المكان «نقطة تحول»، إذ دفعه لإدراك «المصير المشترك لليهود»، وتأسيس منظمة «زاكا» في العام نفسه، لتسجل رسميًا بعد ذلك بست سنوات. 

تعمل منظمة «زاكا» للبحث والإنقاذ (واسمها اختصار بالعبرية لـ«التعرف على ضحايا الكوارث») على جمع رفات القتلى، سواء في عمليات المقاومة أو حوادث السير أو الكوارث الطبيعية، من أجل دفنهم وفق الشريعة اليهودية التي تقتضي جمع كامل الجثمان وغسل الدماء، وتحضيرهم للدفن في أقرب وقت ممكن. تعتمد المنظمة بالكامل على التبرعات والمساعدات الحكومية، وغالبية أعضائها متطوعون من الحريديم المتشددين دينيًا. ونظرًا إلى أن الحريديم لا يخدمون في جيش الاحتلال لأسباب دينية، صُوّر هذا التطوع باعتباره مساهمتهم البديلة في المجتمع الإسرائيلي.

سرعان ما برز اسم المنظمة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، لتتوسع فتضم وحدات متعددة، وحتى تنشئ وحدة دولية أرسلت أعضاءها للكثير من مواقع الكوارث الطبيعية حول العالم. في الوقت نفسه، تعززت علاقتها بالحكومة، حيث تقول «زاكا» على موقعها إنها «تعمل بتعاون لصيق مع وزارة الخارجية الإسرائيلية والجيش وأجهزة الحكومة الأخرى». بدا وكأن المنظمة تحقق لـ«إسرائيل» هدفًا مزدوجًا؛ فمن جهة تخفف -ظاهريًا على الأقل- من التوتر الداخلي بين المتدينين والعلمانيين، ومن جهة أخرى تعمل على ترويج صورة «إسرائيل» كفاعل خير عالمي. 

نجحت «زاكا» بالفعل في حشد اعتراف دولي، فعام 2005، صنفتها الأمم المتحدة منظمةً إنسانية دولية، وفي 2016، منحتها الصفة الاستشارية. من بين الإشادات التي يعددها موقع «زاكا»، يقول الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون إن منظمته «سعيدة بكون «زاكا» شريكة في عملياتنا الإنسانية»، فيما تمدح سامانثا باور، السفيرة الأمريكية السابقة للأمم المتحدة والرئيسة الحالية للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، ميشي زهاف شخصيًا، قائلة إنه ومنظمته يمثلان «كل من يؤمن بمبادئ المساواة وحقوق الإنسان والكرامة».

داخل «إسرائيل»، لم تكن صورة ميشي زهاف ومنظمته ناصعة بنفس الدرجة. فعلى مستوى المصداقية، عُرف عن «زاكا» مبكرًا نشرها للمبالغات والتأويلات والأكاذيب. عبّر عن ذلك مراسل لإذاعة الجيش الإسرائيلي عام 2002 بالقول إن «زاكا ترسل كل شيء: ما حدث، ما يظنون أنه حدث، وما لم يحدث كذلك.. في الماضي، أرسلوا عدة أنباء اتضح أنها أكاذيب». 

عبر اختلاقها عشرات القصص حول قتل الأطفال واغتصاب النساء، تمكنت «زاكا» من ترويج نفسها كوجهة مثالية لتبرعات «دعم ضحايا الإرهاب»، ووفّرت لـ«إسرائيل» وليمة من المواد الدعائية التي سرعان ما التهمتها وسائل الإعلام الغربية، محولّة إياها لوقود لحرب الإبادة.

كما أن تاريخ «زاكا» لا ينسجم كثيرًا مع صورة مساهمتها في الوئام الداخلي. فانطلاقًا من مهمتها في تطبيق الشريعة اليهودية، كان الوقوف ضد عمليات التشريح وإحراق الجثث وحتى التنقيب عن الآثار في مواقع الدفن من أهم أولوياتها. تعمل المنظمة على ذلك عبر الضغط على الشرطة واللجوء للقضاء وحتى ملاحقة جثث اليهود حول العالم؛ فحيث يموت يهودي في ظروف غامضة، تسافر «زاكا» لنقل جثته ومنع تشريحه. عام 2007، اشتُبه بتورط المنظمة في إحراق منشأة إحراق جثث قرب نتانيا، بعد أن قدمت شكوى ضدها، وبارك ميشي زهاف منفذ العملية. في شبابه، ذهب ميشي زهاف أبعد من ذلك حين كان عضوًا في منظمة «كيشيت» السرية، التي كانت ترسل الطلقات والمتفجرات الزائفة لمنازل الأطباء وعلماء الآثار مصحوبة بعبارة «هذه المرة ستكون عبر البريد فقط»، وتصب الدهان والمُليّنات في مصادر مياههم، حسبما اعترف بنفسه في كتابه.

لكن تلك لم تكن أكبر فضائح «زاكا». ففي آذار 2021، نشرت هآرتس تحقيقًا يضم اتهامات لميشي زهاف بالاغتصاب والاعتداء الجنسي على امرأة وخمسة أولاد على الأقل، أصغرهم كان في الخامسة من عمره، بمشاركة ومساعدة إخوته ومقربين منه. في شهادتها، تقول المرأة إن ميشي زهاف اعتدى عليها عام 2011 حين تواصلت معه لمساعدة عائلتها الواقعة في ضائقة مالية، ثم هددها بالقول «إذا أخبرت أحدًا بأي شيء، ستدهسك إحدى سيارات زاكا». استجوبت الشرطة المرأة بعدها بعامين، لكنها أغلقت التحقيق «لنقص الأدلة».

بعد نشر التحقيق، تقدم آخرون بشكاوى مماثلة، وسُرّب تسجيل يُسمع فيه ميشي زهاف وهو يطلب من أحد موظفيه تنظيم حلقة جنس جماعي. على إثر ذلك، فتحت الشرطة تحقيقًا جديدًا ليتبين أن ميشي زهاف اعتدى على العشرات منذ الثمانينيات، فيما قال شهود من الحي الذي يقطنه ميشي زهاف وعائلته في القدس إن الأنباء لم تكن مفاجئة لهم. فقد سبق وأدين شقيقه رامي عام 2014 باغتصاب امرأة من أقاربه، فيما فرّ شقيقه الآخر موشيه من «إسرائيل» حينها. وسط الزوبعة، استقال ميشي زهاف من منصبه، واعتذر عن تلقي «جائزة إسرائيل» المرموقة التي كان يؤاف غالانت، وزير الحرب الحالي ووزير التعليم حينها، قد أعلن منحه إياها قبلها بأقل من شهر تكريمًا لـ«مساهمته في المجتمع الإسرائيلي». ورغم أنه أنكر جميع الاتهامات، بل هدّد بمقاضاة مشتكيه بتهمة التشهير، إلا أن ميشي زهاف حاول الانتحار بُعيد الفضيحة، ليدخل في غيبوبة ويموت بعدها بعام. 

إضافة لكل ذلك، لطالما أثار الوضع المالي لـ«زاكا» الشكوك، كونها سعت لجمع الأموال بكل طريقة ممكنة (بما في ذلك مقاضاة رجل قتل طفلته وأخفى جثتها لأنه اضطر «زاكا» لكسر السبت بحثًا عنها). شكّلت الانتفاضة الثانية فرصة ذهبية لاستقطاب التبرعات من داخل وخارج «إسرائيل»، نظرًا إلى أن «زاكا» كثيرًا ما كانت أول الواصلين لمواقع العمليات الاستشهادية واستطاعت بذلك الترويج لدورها في «تكريم» القتلى بجمع أشلائهم. لكن سرعان ما «انتهت الأوقات السعيدة»، كما قال متحدث باسم المنظمة، تعليقًا على تراجع التبرعات التي تلقتها مع خمود الانتفاضة. تقلص دخل «زاكا» من 3.7 مليون دولار عام 2003 إلى 2.1 مليونًا عام 2004. وبحلول 2005، باتت تدين للبنوك وجهات أخرى بـ1.8 مليون دولار. 

عندها، بدأت «زاكا» تبحث عن المال في أماكن أخرى. فنظرًا إلى أن حجم الدعم الذي تتلقاه من الحكومة الإسرائيلية يعتمد على عدد متطوعيها، بدأ هذا العدد يتضخم وفق السجلات المقدمة لوزارة الداخلية، ليبلغ ثلاثة آلاف عام 2022. لكن تحقيقًا أجرته هآرتس كشف أن العدد الفعلي للمتطوعين لا يتجاوز الألف، وأن هذا التزوير أدخل للمنظمة ملايين الدولارات، وأن الحكومة غضّت الطرف لسنوات عنه وعن مخالفات أخرى كعدم تحقيق شروط التدريب اللازمة. 

من جهة أخرى، عنى تراجع التمويل أن على «زاكا» أن تتنافس مع المنظمات التطوعية الشبيهة، وعلى رأسها «زاكا – تل أبيب» (التي انفصلت مبكرًا عن المنظمة الأم التي تتخذ القدس مقرًا لها) و«إيحود هاتزالا» (الإغاثة المتحدة)، فضلًا عن المنظمة الأكبر، نجمة داوود الحمراء. باتت هذه المنظمات تتصارع على الوصول أولًا لمواقع الحوادث والعمليات، وعلى إبراز اسمها في كل فرصة متاحة، على أمل جلب التبرعات.

جرى كل ذلك بينما كان كبار موظفي «زاكا» يتلقون حصة كبيرة من ميزانيتها كأجر سنوي، ويستخدمون اسم المنظمة لتحويل التبرعات لشركاتهم الخاصة، وشراء الفلل وحجوزات الفنادق الفارهة وتذاكر الطيران. 

لكن أزمة «زاكا» المالية تفاقمت بعد فضيحة ميشي زهاف، حيث سجلت ميزانيتها عجزًا في أربع من السنوات الخمس الأخيرة، لتصل إلى حافة الإفلاس العام الماضي. لذا، كانت هجمات السابع من أكتوبر بمثابة عطاء ضخم رسا على «زاكا»، جنت منه أكثر من 13.7 مليون دولار من التبرعات حتى نهاية كانون الثاني، إضافة لتلقيها عقدًا من وزارة «الدفاع» لتنظيف مواقع الهجمات. منذ اللحظات الأولى، حوّلت «زاكا» تلك المواقع إلى مسارح دعائية لحصد التمويل لصالح منظمة كانت شاهدة على «الفظائع». وكلما اشتدت فظاعة الصورة، ارتفعت الأسهم.

بحسب إيتان شوارتز، المستشار في مديرية الإعلام التابعة لرئاسة الوزراء الإسرائيلية، «كان لشهادات متطوعي «زاكا»، كأوائل المستجيبين على الأرض، تأثير حاسم في فضح الفظائع في الجنوب للصحافيين الأجانب الذين يغطّون الحرب. لقد كانت دولة إسرائيل بأكملها منخرطة في صياغة الرواية القائلة بأن حماس تساوي داعش وفي تعميق شرعية الدولة للردّ بقوة كبيرة».

مجددًا، بدا أن «زاكا» قد حققت هدفًا مزوجًا. فعبر اختلاقها عشرات القصص حول قتل الأطفال واغتصاب النساء، تمكنت من ترويج نفسها كوجهة مثالية للتبرعات بنية «دعم ضحايا الإرهاب»، ووفّرت في الوقت نفسه لـ«إسرائيل» وليمة من المواد الدعائية التي سرعان ما التهمتها وسائل الإعلام الغربية، محولّة إياها لوقود لحرب الإبادة.

شهادات خيالية

«حين ندخل بيتًا ما، نستخدم خيالنا. الجثث تخبرنا القصص التي حدثت لها، تقول لنا: هذا ما حدث».
يوسي لانداو

حين كان في العشرين من عمره، قرر الأمريكي اليهودي يوسي لانداو الهجرة إلى «إسرائيل». في صباه، شارك لانداو عائلته التطوع في منظمة إغاثية في نيويورك. بُعيد انتقاله، التقى بميشي زهاف، فكان من أوائل المتطوعين في «زاكا». حين وقعت هجمات 11 سبتمبر، كان لانداو يزور عائلته في نيويورك، فتطوع لإسعاف الجرحى، وكاد أن يصبح أحدهم عند انهيار البرجين. برز اسم لانداو كرمز للتطوع، فارتقى داخل هيكل المنظمة وشارك في بعثاتها الدولية. وحين حل السابع من أكتوبر، كان مسؤول عمليات المنطقة الجنوبية.

كان لانداو أحد أول المروجين لادعاءات قطع رؤوس الأطفال في مستوطنات غلاف غزة، زاعمًا على شاشة سي إن إن بعد عشرة أيام على الهجوم أنه رأى «طفلًا في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة بلا رأس». سرعان ما أصبحت روايته فضفاضة أكثر، فبات يؤكد لوسائل إعلام إسرائيلية ودولية العثور على «أطفال مقطوعي الرأس»، قبل أن يصبحوا «رضّعًا مقطوعي الرأس». في مقابلته على سي إن إن، قال أيضًا إنه وجد في مستوطنة بئيري عائلة من والدين وطفلين في السابعة أو السادسة من العمر، مقيدي الأيدي، وعلى أجسادهم علامات تعذيب، وقد قتلوا بطلقات في الرأس من الخلف. وفي مؤتمر صحافي بعدها بأيام، قال إنه رأى في بئيري جثة امرأة حامل قتلت بطلقة من الخلف وبقر بطنها وأخرج جنينها. 

كل هذه «الشهادات» أثبت كذبها. فقصة قطع رؤوس الأطفال التي تلقفها نتنياهو وبايدن، فضلًا عن الصحافة الغربية، صرح جيش الاحتلال نفسه بأنه «لا يستطيع تأكيدها»، ولحق به البيت الأبيض، قبل أن تتداعى الرواية بأكملها. بينما نقلت هآرتس أنه ما من دليل على قصة المرأة الحامل، وأن سكان بئيري أنفسهم لم يسمعوا بوجودها. أما قصة العائلة المقتولة، فلم تنطبق على أي من قتلى المستوطنة، إلا أن توأمًا في الثانية عشرة من العمر قتلا بالفعل في بئيري حين أطلقت دبابة إسرائيلية النار على البيت الذي كان فيه مقاومون من كتائب القسام، وفق تقرير نشره موقع ذا إنترسبت.

لم يثنِ ذلك وسائل الإعلام الغربية عن مواصلة الاعتماد على لانداو وغيره من أعضاء «زاكا» كمصادر في تغطياتها. فحتى بعد صدور تقارير تشكك برواية لانداو، أفردت النيويورك تايمز له ولزملائه مساحة واسعة للحديث عن «الصدمة» التي عاشوها نتيجة ما رأوه. في التقرير نفسه، تقر الصحيفة بأن «بعض النقاد تحدوا» هذه المزاعم، وأن «عددًا من أعضاء «زاكا» قدموا شهادات مضللة لوسائل الإعلام». لكنها تنقل تبرير لانداو لهذه «المبالغات» بقوله إن البعض انتحل صفة التطوع في المنظمة، وأن متطوعي «زاكا» كانوا يعملون تحت الضغط. كما نقلت الصحيفة عنه نفيه أنه ادعى العثور على جثث أطفال مقطوعي الرؤوس، رغم أن هذا الزعم موثق بصوته وصورته في مصادر عدة. لم تنقل النيويورك تايمز أيضًا أنه قبل أن يقدم لها الأعذار، كان قد صرح بأن المشككين بروايته «يجب أن يُقتلوا مع إرهابيي حماس».

لا حاجة للأدلة

كان لانداو واحدًا من بين عشرات المتطوعين في «زاكا» الذين شُرّعت لهم الأبواب لتقديم رواياتهم حول ما حدث في السابع من أكتوبر. من بينهم كان سيمحا غرينيمان، نائب قائد منطقة موديعين في المنظمة، الذي لعب دورًا رئيسًا في ترويج روايات الاغتصاب. 

نقلت الغارديان عن غرينيمان قوله إنه وجد في أحد الكيبوتسات «امرأة عارية من أسفل الخصر، محنية فوق سرير، في رأسها من الخلف طلقة، وفي يدها قنبلة يدوية». وفي تقرير لاحق على الغارديان أيضًا، قال إنه وجد في بيت آخر «امرأة ميتة وفي مهبلها أدوات حادة وأظافر». في موقع بوليتكو، نُشر تقرير يستند بالكامل إلى شهادة غرينيمان، مركزًا على أزمته النفسية في استيعاب ما رآه، بما في ذلك صور «النساء المقتولات.. كثير منهم كان الدم يسيل على أرجلهن، تفهم عندها أن ما حدث لم يكن إطلاق نار سريع فحسب». يقول غرينيمان إنه حين حضر إلى موقع حفلة «نوفا» قرب قاعدة ريعيم، وجد أشلاء مقطعة، وشابات عاريات من أسفل الخصر أطلقت عليهن النار، مجددًا استنتاجه بأن «شيئًا أكثر من إطلاق النار قد حدث لهن».

تتكرر المزاعم ذاتها نقلًا عن غرينيمان على صفحات مجلة التايم، وإذاعة إن بي آر، وفي جلسة استماع عقدت في الأمم المتحدة، تحدث فيها إلى جانب هيلاري كلينتون، ومديرة العمليات السابقة في فيسبوك، شيريل ساندبيرغ. يقول غرينيمان في الجلسة إن المرأة التي زعم أن «زاكا» وجدتها مقتولة وفي مهبلها أدوات حادة وأظافر «كان جسدها مشوهًا إلى درجة أننا لم نتمكن من التعرف عليها.. انتهك جسدها بشكل لم نتمكن من فهمه أو التعامل معه».

مرارًا، قدم غرينيمان نفسه تصريحات متناقضة تدفع للتشكيك بصحة روايته وبقدرته على الحكم على ما يزعم أنه رآه. «أنا لست طبيبًا، لكن مما تراه تفهم أن شيئًا فظيعًا قد حصل»، يقول في تقرير بوليتكو. في مقابلة مع قناة آي 24 الإسرائيلية، يضيف: «لا يمكنني القول إنه تم اغتصاب نساء لأنني لست طبيبًا ولا أستطيع إجراء فحوص طبية، أستطيع فقط جمع الجثث. لكن حين أجد امرأة مقيدة اليدين من الأمام، محنية على سريرها في بيتها، عارية من أسفل الخصر، وتنزف من أماكن عدة، فليس علي أن أجيب عمّا إذا كانت قد اغتصبت أم لا. ما من شك في ذلك».

بالنسبة للمؤسسات الإعلامية الغربية، ليست الحقيقة سوى شيء يصنع وفق الرغبات، ويعاد إنتاجه مرارًا وتكرارًا تحت غطاء اسم المؤسسة البرّاق، مهما خالفته الحقائق.

تنقل الغارديان عن عدد من متطوعي «زاكا» قولهم أنهم في البداية «لم يفكروا في الاغتصاب على الإطلاق»، عازية ذلك إلى كونهم محافظين دينيًا. يقول غرينيمان لبوليتكو إنه حين تبادرت للمتطوعين «الشكوك» بذلك، أبلغوا السلطات التي طلبت منهم توثيق الحالات بالفيديو، وحصلوا على تصريح خاص بذلك من حاخام «إسرائيل» الأكبر، مضيفًا «حاولنا، لكننا غير مدربين على فعل ذلك بشكل صحيح». لكن في مقابلة آي 24، التي أجريت بعد أسبوع واحد من نشر تقرير بوليتكو، يقول تعليقًا على المطالبات بنشر الصور كأدلة على مزاعم الاغتصاب: «لن ننشر صورًا كهذه أبدًا. كعضو في «زاكا» أحد أول الأشياء التي تتعلمها.. هي ألا تلتقط أي صورة أبدًا، لأننا نحترم الموتى». 

المؤكد أن كثيرًا من وسائل الإعلام الغربية لم تكن بين هؤلاء المطالبين بالأدلة. في تقرير استند حصرًا على شهادات من «زاكا»، تنقل رويترز عن المتطوع إيتزيك إيتاه أنه «حين تجد امرأة عارية ملقاة على وجهها، وواضح أنها لم تخلع ملابسها بنفسها، فهذه امرأة تعرضت للاغتصاب». متطوع آخر أوردت البي بي سي شهادته في تقرير حول مزاعم الاغتصاب كان الإسرائيلي الأوكراني نحمان ديكشتينا، الذي قال إنه رأى في موقع حفلة ريعيم «أكوامًا وأكوامًا من [جثث] النساء، كانت ملابسهن العلوية ممزقة، فيما كن عاريات بالكامل من الأسفل». جاء ذلك في شهادة مكتوبة سلّمتها «زاكا» مترجمة ومنقحة.

لكن الضجة الأكبر كانت للتقرير الذي نشرته النيويورك تايمز، والذي لم تقتصر عيوبه على الاستناد لـ«زاكا». في تقرير أنات شوارتز، المجندة السابقة في استخبارات سلاح الجو الإسرائيلي، التي لم تكن لديها أي خبرة صحافية قبل الحرب، نجد اسم لانداو مجددًا مع آخرين من «زاكا»، يتحدثون عن العثور على جثث نساء عاريات مقيدات. «لم ألتقط صورًا لأنني ممنوع من التقاط الصور.. لكنني أندم على ذلك»، يقول لانداو. ينقل تقرير على ذا إنترسبت أن شوارتز أمضت وزملاءها شهورًا في محاولة الوصول لما يؤكد الرواية، لكنها في النهاية لم تعثر سوى على ما كان منشورًا حتى حينه: أقوال المسؤولين والجنود الإسرائيليين، وبالطبع، «زاكا». لم يمنع ذلك النيويورك تايمز من المضي في نشر القصة، لكن بعد أن نفت عائلة إحدى الضحايا المزعومة صحة ما نُقل حول وقوع «اغتصاب جماعي» لابنتهم، بدأت صدقية التقرير تتهاوى، تزامنًا مع ظهور إعجاب شوارتز بمنشورات تدعو لتحويل غزة إلى «مسلخ»، لتقر لاحقًا بأنها «لم تجد دليلًا مباشرًا» على ادعاءات الاعتداء الجنسي. 

كان غياب الدليل القاسمَ المشترك في شهادات متطوعي «زاكا»، لكن ردهم على المطالبات المتكررة بتقديم أدلة كان انعدام التدريب المحترف. «لسنا محققين جنائيين»، يقول غرينيمان، دون الالتفات إلى أن ذلك يعني أيضًا أنه غير مخول بتقديم الأحكام التي صدّرها. بعد تفنيد قصة لانداو حول بقر بطن امرأة حامل في بئيري، أصدرت «زاكا» بيانًا قالت فيه إن متطوعيها «ليسوا خبراء في علم الأمراض وليست لديهم الأدوات المهنية اللازمة لتحديد هوية الشخص المقتول وسنه وكيف قُتل. ليست لديهم سوى شهادات العيان». ألا أن التدريب المحترف لم يكن وحده ما ينقص متطوعي «زاكا». فبحسب مصدر في جيش الاحتلال، كثيرًا ما كان عملهم فوضويًا وغير متقن، حتى في ما يفترض أنه في صميم مهمتهم. «لم تكن «زاكا» تكتب أي شيء على أكياس الجثث، وبوسعك أن تنسى أمر التوثيق»، يقول المصدر. 

وسط هذه الفوضى من التناقضات والتأويلات والأكاذيب، قد يتساءل المرء: كيف اختيرت «زاكا»، بتاريخها الفضائحي ومصداقيتها المعدومة وافتقارها للحرفية، لتكون المستجيب الأول في مواقع هجمات السابع من أكتوبر؟

ليس عن طريق الصدفة، تقول هآرتس. ففي تحقيق حول استفادة المنظمة من حضورها في مواقع الهجمات، تعزو الصحيفة هذا الاختيار للصلات التي يملكها حاييم أوتمازغين، رئيس العمليات الخاصة في «زاكا»، بجيش الاحتلال. فبوصفه ضابط احتياط في وحدة الجبهة الداخلية بالجيش، استخدم أوتمازغين علاقاته الوطيدة بقادته في الوحدة لمنح «زاكا» الأفضلية التي وظّفتها لإطلاق حملة دعائية ناجحة. قاد أوتمازغين بنفسه العمل في عدة مواقع، من بينها حفلة ريعيم ومستوطنات كفار عزة وبئيري، مانعًا منظمات منافسة من دخولها باعتبارها «مناطق عسكرية مغلقة»، ومستخدمًا المساحة المتاحة له حتى لتصوير فيديو غنائي يدعو المشاهدين للتبرع للمنظمة. بذلك، كان أوتمازغين حلقة وصل بين «زاكا» والجيش، ضامنًا الخروج بنتائج مفيدة للطرفين.

صناعة الحقيقة

عام 1997، كان المخرج والكاتب والصحافي الاستقصائي المستقل أندريه فلتشيك يجوب وحيدًا شوارع حي سيت سوليه العشوائي الفقير في هاييتي، ليتعثّر بقاعدة عسكرية أمريكية، اصطف فقراء الحي في طابور على بابها. كان هؤلاء ينتظرون الدخول إلى ما تبين أنه «عيادة»، تدرب فيها الممرضون والأطباء الأمريكيون على المرضى، وأجروا فيها عمليات جراحية بحد أدنى من التخدير الموضعي، بلا تعقيم ولا أجهزة تشخيص أو أي من الشروط البديهية في منشأة صحية. قرب العيادة، كانت هناك منشأة أخرى ناصعة ومكيّفة ومجهّزة بكل الأدوات والأجهزة المطلوبة، لكنها مخصصة للجنود والكوادر الأمريكيين وحدهم. كتب فلتشيك تحقيقًا مرفقًا بصور وثقت كل ما رآه، وأرسله إلى النيويورك تايمز والإندبندنت وغيرها، دون أن يتلقى منهم جوابًا. 

روى فلتشيك هذه القصة في مقال عام 2012 حول «موت الصحافة الاستقصائية» في الغرب. «وحدها الفظائع التي تخدم المصالح الجيوسياسية والاقتصادية للغرب يمكن اعتبارها فظائع حقيقية ويمكن الكتابة عنها وتحليلها في وسائل إعلامنا الكبرى»، يقول فلتشيك. 

كانت التغطية الغربية لهجمات السابع من أكتوبر وحرب الإبادة التي تلتها واحدة من أبرز الأمثلة على هذه الحقيقة، وأشدها دموية. رغم الاعتماد الكبير على «زاكا» كجهة قدمت لوسائل الإعلام الغربية ما تريد أن تسمعه، ومنحتها واجهة تختبئ خلفها لقول ما افترضته سلفًا، لم يكن اللجوء للمنظمة سوى مثال واحد على طريقة عمل هذه المؤسسات. فبعيدًا عن المحاضرات المهنية التي يحلو لها تقديمها، خاصة للعاملين في الصحافة خارج العالم الغربي، تؤكد قصة «زاكا» أنه بالنسبة لهذه المؤسسات، ليست الحقيقة سوى شيء يصنع وفق الرغبات، ويعاد إنتاجه مرارًا وتكرارًا تحت غطاء اسم المؤسسة البرّاق، مهما خالفته الحقائق. 

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%ad%d8%a7%d9%84%d9%81-%d8%b2%d8%a7%d9%83%d8%a7-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d8%a8%d9%8a/feed/ 0
المنظمات الإسرائيلية غير الحكومية: ذراع آخر للإبادة https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%83%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%83%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9/#respond Sun, 03 Mar 2024 14:37:37 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89362 إلى جانب بنك الأهداف الواسع الذي تتولى إعداده الوحدات الأمنية المختصة في جيش الاحتلال وأجهزة استخباراته، تتولى العديد من منظمات المجتمع المدني الإسرائيلية، وبغطاءٍ بحثي ورقابي في مجالات الصحافة والتعليم والعمل المدني، إعداد قوائم بأسماء شخصيات ومؤسسات فلسطينية، محرضةً عليهم باعتبارهم «إرهابيين» و«معادين للسامية» و«مطلوب القضاء عليهم». مع العدوان الإسرائيلي على غزة برزت مجموعة من هذه المنظمات، من بينها «Honest Reporting» و«Impact-se» و«NGOs Monitor» و«UN watch» و«Canary Mission» على سبيل المثال لا الحصر.[1]

تشكل هذه المنظمات جزءًا من مشهد أوسع لـ«المنظمات غير الحكومية المنظمة حكوميًا» (GONGO)،[2] وهو تعبير متداول في أوساط المجتمع المدني للإشارة إلى المنظمات غير الحكومية التي تأخذ دور الدفاع عن الحكومة وتتبنى مواقفها وتدار بتمويل مشبوه غير معلن عنه، غالبًا ما تقدم الجهات الحكومية جزءًا منه، خصوصًا وأن قانون المنظمات الأهلية الإسرائيلية يمنح المنظمات غير الحكومية فرصة الوصول بشكل مستمر للموارد الحكومية، بما فيها التمويل، حيث يمكن ضخ الأموال العامة في المنظمات دون رقابة تشريعية أو تنفيذية.

سبق وقادت بعض هذه المنظمات تحركات كثيرة لفسخ عقود فلسطينيين مع منظمات دولية بحجة معاداة السامية، وأججت المستوطنين الإسرائيليين داعية إياهم لمحو قرية حوارة في نابلس بالكامل، كما دفعت لاقتحام مقرات ست مؤسسات مدنية حقوقية في الضفة الغربية. لكنها في الحرب الحالية، عكفت على تكثيف جهودها التحريضية لتحفيز حالة من الانتقام يصل أثرها إلى حدّ إسقاط الصواريخ على غزة.

التحريض على الإعلام «المتحيز ضد إسرائيل»

في الثامن من تشرين الثاني الماضي، نشرت منظمة «تغطية صادقة» (Honest reporting) تقريرًا تتهم فيه مؤسسات إعلامية مثل «أسوشيتد برس» و«رويترز» و«سي إن إن» بتوظيف صحفيين فلسطينيين لديهم صلات بحركة حماس. جاء في التقرير أنه «لم يكن إرهابيو حماس وحدهم من وثّق جرائم الحرب التي ارتكبوها خلال هجومهم على إسرائيل، حيث تم التقاط بعض الفظائع من قبل المصورين الصحفيين الذين يثير وجودهم في المنطقة الحدودية المخترقة تساؤلات أخلاقية خطيرة»، مستهجنةً تواجد الصحفيين في الوقت المناسب من الصباح لتوثيق تفاصيل عملية طوفان الأقصى بما في ذلك اختراق السياج الحدودي أو اقتحام المستوطنات، واعتبرت أن عدم ارتداء الصحفي ياسر قديح -مثلًا- لسترة أو خوذة صحفية وهو يلتقط صورة له مع دبابة إسرائيلية تم احتجاز جنودها أمرًا مثيرًا للشبهات. ودللت على اتهاماتها بتنسيق صحفيين مع حماس عبر نشر صورة قديمة لصحفي آخر هو حسين اصليح تجمعه برئيس حركة حماس في غزة يحيى السنوار.

تتقصى هذه المنظمة الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي بحثًا عن أية مواد قد تساعدها في خلق روابط قد لا تكون منطقية بالضرورة،[3] لكنها تثير هلع الأوساط الإسرائيلية. ولطالما أثارت تقاريرها التحريضية ضجة إسرائيلية واسعة مصحوبة بتهديدات مباشرة بالقتل. فعلى سبيل المثال، اقترح عضو مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي، بيني غانتس، على خلفية مزاعم التنسيق بين الصحفيين وحماس، معاملة الصحفيين الفلسطينيين كإرهابيين ومطاردتهم، وقال المبعوث الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، داني دانون، إنه يجب «القضاء عليهم»، كما أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بيانًا اتهم فيه هؤلاء الصحفيين «بالتواطؤ في جرائم ضد الإنسانية»، تبعته تقديم شكاوى رسمية تطالب بتوضيحات و«إجراءات فورية» من وسائل الإعلام ذات الصلة.

سبق وقادت بعض هذه المنظمات تحركات كثيرة لفسخ عقود فلسطينيين مع منظمات دولية بحجة معاداة السامية، كما دفعت لاقتحام مقرات ست مؤسسات مدنية حقوقية في الضفة الغربية.

لا يقتصر دور هذه المنظمة على إصدار التقارير، إذ تدير قاعدة من المشتركين حول العالم، ويعمل فيها صحفيون إسرائيليون «يتمتعون بعلاقات جيدة مع القادة الإسرائيليين»، ولديها شبكة علاقات مع وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الذين تضغط عليهم ليتحول التحريض لفعل عملي. هكذا، أزالت الأسوشيتد برس الصور المذكورة من قواعد بياناتها، وأعلنت سي إن إن وقف العمل مع اصليح وصحفيين فلسطينيين آخرين، ونشرت رويترز بيانًا رسميًا نفت فيه علم صحفييها المسبق بهجوم حماس. وبعد خمسة أيام فقط من اتهامات المنظمة، استهدفت غارات إسرائيلية منزل قديح بأربعة قذائف أسفرت عن استشهاد ثمانية من أفراد أسرته، فيما اعتبر أنه نتيجة للتحريض الذي قادته المنظمة، إن لم يكن بتنسيق مباشر منها مع الأذرع الأمنية والعسكرية الإسرائيلية.

يُذكر أن مؤسسة «Honest Reporting» تأسست عام 2000 على يد الحاخام شاؤول روزنبلات، وهي تعمل بمنهجية الرصد (Watchdog) التي تفلتر وتراقب محتوى وسائل الإعلام «بحثًا عن أي تحيز ضد إسرائيل». وتزعم أنها تتبنى «قيم الديمقراطية السليمة وضمان الحقيقة والنزاهة والإنصاف، ومكافحة التحيز الأيديولوجي في الصحافة». وكانت أولى تحركات المنظمة مهاجمة صورة نشرت مع اندلاع الانتفاضة الثانية لجندي إسرائيلي يقف خلف فلسطيني مُصاب، زاعمةً أن الجندي كان يحاول حمايته وأن اتهام الاحتلال الإسرائيلي بقمع الفلسطينيين عارٍ عن الصحة. ومن ذلك الحين، تعمل هذه المنظمة على مراقبة المحتوى الإعلامي في وسائل الإعلام الغربية والتحريض ضد بعض المؤسسات الإعلامية والفلسطينيين الصحفيين.

في آب 2022، هاجمت المنظمة ثلاثة صحفيين فلسطينيين بحجة معاداة السامية، ما تسبب في إنهاء صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية التعامل معهم. وفي أيار 2023 ضغطت على جامعة «ماونت رويال» الكندية بهدف دفعها للتراجع عن منح الناشط محمد الكرد جائزة «كالغاري للسلام 2023». كما زعمت أن شاهد قناة الجزيرة في قضية استشهاد شيرين أبو عاقلة هو ناشط في حركة الجهاد الإسلامي، ونشطت مؤخرًا في التحريض ضد مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي ممن يغطون الحرب على غزة ويحظون بمتابعات واسعة.

وتحظى هذه المنظمة بدعم أمريكي له أشكال مختلفة، إذ سُجلت كمؤسسة خيرية غير حكومية في الولايات المتحدة،[4] حيث تولت مديرتها التنفيذية، جاكي ألكسندر، التي عملت لمدة 15 عامًا في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية «إيباك»، تنفيذ حملات سنوية لجمع التبرعات. وقدمت مؤسسة «فيديليتي» الخيرية الأمريكية[5] تبرعات للمنظمة بقيمة نصف مليون دولار في 2021، تشكل ربع موازنة المنظمة السنوية، علمًا بأن فيديليتي متهمة باستثمار الأموال في بناء مستوطنات إسرائيلية.

وقد لا يكون من السهل أحيانًا الفصل بين الدور «المدني» والعسكري لمسؤولي المنظمة، حيث عمل مديرها التنفيذي الأسبق، ومدير تحريرها الحالي جنودًا في وحدة المتحدثين باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، ودفعت علاقات المنظمة الوثيقة بالمسؤولين الإسرائيليين لوصفها بأنها «الهيئة الإعلامية الإسرائيلية التي نصبّت نفسها بنفسها».

القطاع التعليمي هدفًا

أواسط تشرين الثاني الماضي، نشرت منظمة تدعى «impact-se» تقريرًا بعنوان «التعليم في الأونروا: الكتب المدرسيّة والإرهاب»، يرصد منشورات عدد من موظفي الأونروا تزامنًا مع طوفان الأقصى، وقوائم أسماء مقاتلي القسام ممن تخرجوا من مدارس الأونروا، وتحليل محتوى الكتب الدراسية. اعتبرت المنظمة نشر بعض الآيات القرآنية والتأكيد على حق العودة دليلاً على الرغبة بـ«احتلال إسرائيل»، كما خلصت إلى أن ذكر غزوة بني قينقاع ومعركة الكرامة ودلال المغربي وخالد بن الوليد في المناهج المدرسية يعتبر حضًا على الجهاد والعنف ومعاداة السامية. بعد شهرين من نشر التقرير الذي راكم على موجة من الجهود الحكومية الإسرائيلية المحرّضة ضد الأونروا، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وهولندا وعشر دول غربية أخرى إيقاف تمويل الوكالة في ظل الحرب التي شهدت استهداف مدارس الأونروا وكوادرها ومراكزها الصحية.

تعمل منظمة «impact-se» أو «معهد السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي» بهدف مراقبة وتحليل محتوى الكتب المدرسية، وخاصة مضامينها ذات العلاقة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لتحديد ما إذا كانت «تنسجم مع المعايير الدوليّة للسلام والتسامح واللاعنف، على النحو المستمد من إعلانات وقرارات اليونسكو».[6] ورغم أن المنظمة الصهيونية تأسست عام 1998 ولديها مقران في لندن ويافا المحتلة، إلا أن نشاطها الجغرافي يتجاوز ذلك، إذ تقوم المنظمة بتحليل المناهج الدراسية وأدلة المعلمين من جميع أنحاء العالم، وتحظى الدول العربية والإسلامية باهتمام خاص، في مصر وتركيا وإيران وكندا وفلسطين. وسبق أن دفعت البرلمان الأوروبي لإصدار قرار تجميد جزء من تمويل السلطة الفلسطينية حتى تصبح مناهجها متوافقة مع المعايير الدولية.

لا تعمل المنظمة على محو القيم العربية والمفاهيم الدينية من المناهج الدراسية في المنطقة بحجة «السلام والتسامح الثقافي» فحسب، بل تسعى لتوجيه المناهج حتى تكون داعمة للسردية الصهيونية.

لا تعمل المنظمة على محو القيم العربية والمفاهيم الدينية من المناهج الدراسية في المنطقة بحجة «السلام والتسامح الثقافي» فحسب، بل تسعى لتوجيه المناهج حتى تكون داعمة للسردية الصهيونية. في كانون الثاني 2022، رفع السفير الإسرائيلي في البحرين إلى الأمين العام لمجلس التعليم العالي توصيات المنظمة بتعليم الطلبة «قيمة مبدأ احترام الثقافات الأخرى، وتشجيعهم على الفضول والحوار»، وتدريس الهولوكوست وتاريخ اليهود. وقد حظي المشروع بموافقة الديوان الملكي وباشرت الحكومة البحرينية تشكيل لجنة مصغرة مختلطة من المشرفين والتربويين لإدخال التعديلات المطلوبة في جميع المراحل الدراسية، رافقها لقاءات رسمية عدة مع ممثلي السفارة والمؤتمر اليهودي العالمي. وقبل نهاية العام، كانت الكتب الجديدة قد وزعت بشكل عاجل رغم المعارضة الشعبية الواسعة.

بالإضافة إلى «impact-se»، تأسست منظمة «Canari Mission» عام 2014 بهدف نشر ملفات عن الناشطين الطلبة والأساتذة والأكاديميين والمنظمات التعليمية ممن تعتبرهم معادين لـ«إسرائيل»،[7] وتركز في رصدها على جامعات أمريكا الشمالية. يضم موقع المنظمة آلاف الملفات لطلبة وأعضاء هيئة تدريسية انخرطوا في نشاط مؤيد للفلسطينيين، ويقوم بإرسال «قوائمه السوداء» بشكل شبه مستمر لأصحاب العمل المحتملين ورؤساء الجامعات الكبرى ومسؤولي الحكومة الإسرائيلية التي استخدمت هذه الملفات لاستجواب ومنع دخول المواطنين الأمريكيين المؤيدين لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات. وقد تسبب تحريض المنظمة بإلحاق الضرر بكثير من الأمريكيين من أصول فلسطينية وبعض رؤساء وأكاديميي الجامعات الأمريكية. وعندما سئلت المنظمة عن موظفيها ومصادر تمويلهم، ردت قائلة إن «العديد من منتقدينا يريدون فقط معرفة هويتنا حتى يتمكنوا من إيذائنا جسديًا».

عين على المنظمات المحلية والدولية

إلى جانب تقرير «Impact-se» وحملتها الإعلامية ضد الأونروا، عملت منظمة «UN watch» على تعزيز التحريض على الأونروا واتهامها بالإرهاب. تتخذ المنظمة من جنيف مقرًا لها، وتتمثل مهمتها المعلنة في «مراقبة أداء الأمم المتحدة وفقًا لمقياس ميثاقها»، وهي تتمتع بصفة استشارية خاصة لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة رغم أن الأوساط الغربية وصفتها بأنها «مجموعة ضغط لديها صلات قوية مع إسرائيل». ويتركز رصد المنظمة على انتهاكات حقوق الإنسان في الدول التي يعاديها الغرب، وتركّز أنشطتها على رصد الصين وكوبا وروسيا وفنزويلا وإيران، فيما تغيب عنها الانتهاكات الإسرائيلية.

تداولت المنظمة ادعاءات «Impact-se» ضد الأونروا، ودعا مديرها التنفيذي في كلمة أمام الكونجرس الأمريكي لأخذ زمام المبادرة في حل الأونروا، استنادًا إلى رصد قائم على ما اعتبروه ابتهاج ثلاثة آلاف معلم في الأونروا في إحدى مجموعات تيليغرام بأحداث عملية طوفان الأقصى. وبالإضافة إلى زعمها وجود أدلة موثوقة لمشاركة 12 من موظفي الأونروا في هجمات السابع من أكتوبر، أكدت «UN watch» أن 1200 موظف في الأونروا بغزة مرتبطون بجماعات إرهابية، ولدى ستة آلاف موظف فيها، عائلات بعض أفرادها لهم علاقات بـ«جماعات إرهابية»، معتبرة أنه «من غير الأخلاقي الاستمرار في تمويل الوكالة بأموال دافعي الضرائب». يُذكر أن الأونروا فصلت تسعة من موظفيها المتهمين بالمشاركة في هجوم السابع من أكتوبر قبل صدور نتائج التحقيق في المسألة، وبرّر مفوّضها العام إصدار القرار قبل الحصول على الأدلة بـ«طبيعة الاتهامات القوية والحاجة لاتخاذ القرار الأسرع والأجرأ لإظهار أننا كوكالة نتعامل مع هذا الادعاء بجدية».

تشكل هذه المنظمات جزءًا من مشهد أوسع لـ«المنظمات غير الحكومية المنظمة حكوميًا» وهي منظمات غير حكومية تأخذ دور الدفاع عن الحكومة وتتبنى مواقفها وتدار بتمويل مشبوه غير معلن عنه، غالبًا ما تقدم الجهات الحكومية جزءًا منه.

حظيت المؤسسات الفلسطينية المدنية بنصيبها من التحريض أيضًا، حيث نشرت منظمة «NGO monitor» في تشرين الأول 2021 تقريرًا يرصد 13 منظمة مجتمع مدني فلسطينية عاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة زعم أنها تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين استنادًا إلى مشاركة موظفين لمنشورات فيسبوك تحتفي بالشهداء، أو لاعتقال بعضهم بتهم الانتماء للجبهة قبل عشرات السنين، أو تنفيذهم أنشطة تصف «إسرائيل» كنظام فصل عنصري. بعد يومين من نشر التقرير، أعلنت وزارة الحرب الإسرائيلية تصنيف ست مؤسسات فلسطينية[8] منها على أنها «إرهابية».[9]

وقد وصف مؤسس منظمة «NGO monitor» منظمات المجتمع المدني الفلسطيني على أنها تعمل كمقاول «سياسي فرعي» يحض على مناهضة «إسرائيل». يقول وسام أحمد، رئيس مركز الحق الذي كان واحدًا من المؤسسات التي شملها تصنيف الإرهاب، إن المنظمة الصهيونية تستند في رصدها على التقارير المالية التي تصدر عن المؤسسات المدنية الفلسطينية من أجل تتبع تمويلها والضغط على الدول الممولة والاتحاد الأوروبي لوقفه بحجج الإرهاب ومعاداة السامية، لكنها حينما تفشل بذلك، توظف القوانين الإسرائيلية أو القوة العسكرية عبر اقتحام جيش الاحتلال لمكاتب المنظمات وتفتيشها وتخريب ممتلكاتها.

تعرّف «NGO Monitor» نفسها كمعهد بحثي يصدر التقارير الدولية بهدف «وضع حد لاستغلالها لمفهوم حقوق الإنسان العالمية لدفع أجندة سياسية وأيديولوجية»، وتأسست عام 2001 بمبادرة من مركز القدس للشؤون العامة الذي يمثل توجهات المحافظين في الولايات المتحدة و«إسرائيل» ممن يضمنون تمويلها. يشمل موقع المنظمة قائمة بأكثر من 100 منظمة غير حكومية مصنفة على أنها «مُعادية للسامية»، وقائمة بمنجزات التمويل التي نجحت في وقفها بالضغط على الدول المانحة.

يقول أحمد إن التحريض ضدهم أدى لاعتقال الموظفين إداريًا أو منعهم من السفر أو عرقلة إجراءاتهم أو التجسس على أجهزتهم أو حتى «نكون قاعدين بقاعة الاجتماعات ونسمع الزنانة فوق المكتب». مؤكدًا أن نشاط المنظمة ازداد مع انطلاق عملية طوفان الأقصى، حيث عادت لاتهام المركز «بالشيطنة المتطرفة تجاه إسرائيل».

تشكل معلومات هذه المنظمات قاعدة بيانات للمعسكر اليميني الصهيوني، وإن كانت تتستر بالشعارات الليبرالية، وتمتلك قدرة هائلة على التأثير في صناعة القرار الإسرائيلي وصياغة السياسات الحكومية، وهو ما اتضح أكثر بعد طوفان الأقصى ودخول «إسرائيل» في وضع حرب وطوارئ ارتفعت فيه مستويات العنصرية والتحريض في الخطاب العام. قد تكون هذه المنظمات خارج إطار المنظومة الأمنية الإسرائيلية الرسمية، إلا أن أثرها على الفلسطينيين لا يقل ضررًا. يقول أحمد: «تعودنا أن نرى هذه المنظمات كامتداد للأجهزة الأمنية الإسرائيلية وجزء من معركتنا ضد الاحتلال، لكن الأهم ألا يدفعنا تحريضهم للتوقف عن العمل».

  • الهوامش

    [1] تحدث بحث «صعود المجتمع المدني السيء في إسرائيل» لأمل جمال عن منظمات أخرى مثل معهد الدراسات الاستراتيجية الصهيونية وكلية عيدو زولدن للسياسات ومؤسسات إعلامية مثل كيرن تيكفا والقناة السابعة وصحيفة مكور ريشون، والمنظمة الاستيطانية ريغافيم، ومنظمات التفكير الاستراتيجي مثل منتدى كوهيلت.

    [2] GONGO اختصار لـGovernment-organized non-governmental organization.

    [3] هاجمت المنظمة رئيس منظمة «هيومن رايتس ووتش» السابق قائلة إن حسابه على منصة إكس يظهر إدانته في المتوسط لـ«إسرائيل» ضعف مرات إدانة إيران وحزب الله وداعش وروسيا وسوريا وطالبان مجتمعة. واستندت على هذه الادعاءات لاتهامه بالتحيز ضد «إسرائيل».

    [4] لديها مقران في نيويورك والقدس.

    [5] أكبر مؤسسة راعية للصناديق الاستشارية للمانحين، متهمة بالتورط في تحويل ملايين الدولارات من أموال المانحين إلى المنظمات التي تشجع وتزيد من القمع المنهجي على مستوى العالم، بما فيها استثمار الأموال في بناء مستوطنات إسرائيلية على الأراضي الفلسطينية.

    [6] تستند المنظمة في عملها إلى «إعلانات وقرارات اليونسكو والأمم المتحدة» ما يمنحها شرعية دولية جعلت من تقاريرها أدلة تستخدم في الكونغرس الأمريكي.

    [7] يرتبط ذكر هذه المنظمة التحريضية بمنظمة “أيم ترتسو” التي تأسست عام 2006 وتعمل برؤية مشابهة بهدف تطوير القيم الصهيونية في إسرائيل. تنشط المنظمة في الجامعات الإسرائيلية حيث تقدم اعتراضات ضد الأساتذة الذين يدعمون حركة المقاطعة وتطالب الجامعات بحظر الكتل الطلابية الفلسطينية.

    [8] وهي: الحق؛ الضمير؛ مركز بيسان للبحوث والإنماء؛ الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال- فرع فلسطين؛ اتحاد لجان المرأة العربية واتحاد لجان العمل الصحي.

    [9] بموجب قانون مكافحة الإرهاب الذي أقر عام 2016.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%af%d9%88%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%86%d8%b8%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a9-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%83%d9%88%d9%85%d9%8a%d8%a9/feed/ 0
الحياة في رفح: أن تموت من الجوع والبرد والقلق https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b1%d9%81%d8%ad/ https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b1%d9%81%d8%ad/#respond Thu, 29 Feb 2024 09:59:32 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=society&p=89352 ليس لدى النازحين في رفح أي وقت للحزن. هُجر نصف قطاع غزة قسرًا إليها هربًا من الموت. فقد معظمهم منازلهم وأحياءهم ووظائفهم. ترك كلّ منهم وراءه جثة أحد يعرفه جيدًا. لم يجدوا متسعًا لإدراك ما حلّ بهم بعد. فالحياة في بقعة جغرافية صغيرة معزولة، تضم أعدادًا هائلة من البشر، تعني أن ينخرط النازحون في دوامة من التفكير بعدد الطوابير التي ينبغي عليهم الوقوف فيها خلال اليوم الواحد، لتلبية احتياجات أساسية للحصول على الطعام والمياه والحمام والعلاج. عليهم أن يفكروا بالطريقة التي سيبقون فيها أحياء ليومٍ آخر. أصوات القصف فوق رؤوسهم تتصاعد يومًا بعد يوم، وتتملكهم حالة الترقّب أمام احتمال مواجهة اجتياح بريّ يحّذر منه العالم. 

رفح، المدينة التي استوعبت نحو 260 ألف نسمة في 2021، تستضيف اليوم أكثر من خمسة أضعاف هذا العدد، حيث وصل عدد النازحين فيها من كل أنحاء قطاع غزة إلى 1.3 مليون شخص، يقيمون في المدارس والمرافق العامة والخيام والبيوت الزراعية، ضمن مساحة صغيرة  نسبة لهذه الأعداد الهائلة. الشوارع مكتظة بالناس، والنازحون افترشوا الأراضي الرملية والزراعية بكثافة شديدة غرب ووسط المدينة، وجزء كبير منهم اتخذ منطقة الحدود المصرية مأوى له، حتى أن بعض أبناء رفح أنفسهم نزحوا عدّة مرّات داخل المدينة الحدودية بعد عمليات قصفٍ طالت مواقع مجاورة لهم منذ بداية الحرب.  

مع كل الظروف التي يعيشها المقيمون في رفح، تتوعد «إسرائيل» باجتياح بري، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة وعددًا من الدول للتحذير من حمام دم في حال تنفيذ عملية عسكرية. لم تكن رفح قط منطقة آمنة كما تدعي «إسرائيل». فمنذ اليوم الأول من الحرب على غزة، لم تُستثنَ رفح من الغارات الإسرائيلية. ولا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يتوعد باجتياح رفح حتى في حال التوصل إلى اتفاق هدنة مع حركة «حماس»، معولًا على هذه العملية لتحقيق انتصاره الموعود خلال أسابيع، وذلك في سياق محادثات باريس لبحث التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى وتهدئةٍ في القطاع بمشاركة مصر وقطر والولايات المتحدة ووفد إسرائيلي.

بعد تكرار مثل هذه التصريحات، قررت كثير من العائلات النزوح إلى خارج رفح عودةً إلى خانيونس أو المنطقة الوسطى، وأغلبهم نزحوا عدة مرّات خلال الحرب. كذلك هو حال عائلة أم منصور، التي كانت هي وعائلتها يفكّون خيمتهم المصنوعة من النايلون والخشب، على عجالة قبل بضعة أيام. منذ بداية العدوان على غزة اضطرت عائلتها المكونة من 15 فردًا، هي وزوجها وأبناؤها وأحفادها، لمغادرة شمال القطاع، في عدّة رحلات نزوح قسري بحثًا عن مكان آمن، حتى وصلوا مؤخرًا إلى رفح واستقروا في خيام في منطقة خربة العدس جنوب شرقي المدينة. في 12 شباط، وبسبب القصف الكثيف على رفح على مدار ساعتين تقريبًا، إثر العملية التي قالت القوات الخاصة الإسرائيلية إنها نفذتها لتحرير رهينتين، سقط حوالي 100 شهيد، بعضهم وقعوا ضحايا أمام أم منصور وعائلتها في الخربة. لذلك قرروا الرحيل إلى مكان آخر. عندما غادروا خربة العدس كان قرارهم التوجه إلى منطقة دير البلح، إلا أن السائق اقترح عليهم البقاء في غرب المدينة، قرب إحدى الاستراحات على طريق البحر، وما إن هبط عليهم الليل حتى دمرت العاصفة خيمتهم، فلجأوا إلى خيمة جارهم. صباحًا، قرروا فك ما تبقى من خيمتهم من أجل التوجه إلى دير البلح.  

«لا يريد الناس سوى أن يعرفوا مصيرهم. هل سيبقون أحياء؟ هل سيتم تهجيرهم مرة أخرى؟ معظم النازحين شُلت قدرتهم على التفكير بمخرج من رفح، فالوضع في المناطق الأخرى ليس أكثر أمانًا، ومراكز الإيواء خارج رفح ليست افضل حالًا أيضًا».

يعد من وجد منزلًا للنزوح إليه في رفح أكثر حظًا من غيره، فالسكن في مأوى من النايلون لا يمكن مقارنته بجدران منزل. هذا ما تشعر به سهاد (26 عامًا)، إذ تقول إنها محظوظة أن أول وجهة نزوح لعائلتها كانت منزل جدتها في رفح، لذلك لم يُهجّروا كثيرًا كمعظم النازحين في القطاع، إلا أنهم مع ذلك يعانون كما هو حال البقية. عندما وصلوا إلى رفح منذ بداية العدوان، بقيت هي وعائلتها في نفس المكان لأسبوعين. بعد ذلك بدأ النازحون بالتوافد أكثر، ونزح أفرادٌ آخرون من أقاربهم ومعارفهم مع عائلاتهم لمنزل الجدّة الصغير. اضطرت عائلتها للانفصال، فغادرت هي وأخواتها إلى منزل خالتها، حيث تفتقد والديها طيلة الوقت رغم أنهم في نفس المدينة. لا تستطيع سهاد التفكير بمعزل عن أهلها، لذلك تقطع مسافة طويلة إليهم مشيًا على الأقدام كلما استطاعت، لتطمئن عليهم ولتسمع منهم ما الذي يفكرون به للأيام المقبلة.

لا يوجد إرسال في رفح، ولا يوجد إنترنت في منزل جدة سهاد، وهو الحال في معظم مناطق القطاع. يشتري النازحون ممّن لا يمتلكون هواتف تدعم الشرائح الإلكترونية ورقةَ «إنترنت شوارع»، أي نقطة توزيع إنترنت من أفراد آخرين لديهم خطوط إنترنت، بما يعادل ربع دينار كافية لـ 12 ساعة، ضعيفة السرعة وتتطلب قربًا من الشارع لفرصة وصول أكبر. لذلك، يصعب على سهاد التواصل مع والديها كلما أرادت. يوم العملية الخاصة التي أجرتها «إسرائيل»، عاش أهل رفح حالة صعبة من القلق وعدم اليقين. «لما تسمع صوت القصف ويكون قريب منك وتكون بدك تعرف وينه بس ما فيش وسيلة (..) هذا إشي بوترك وبضغطك نفسيًا»، تقول سهاد، التي بقيت تحاول الاتصال بعائلتها ليلتها بلا فائدة، وبقي الجميع مستيقظين خائفين. ظن الناس أن الاجتياح آت لا محالة. في الصباح جاء والدهم ووالدتهم مسرعين وأخبروا البنات أن يجمعوا حاجياتهم لينضموا إليهم مرّة أخرى في منزل الجدّة «لإنه لازم نكون مع بعض». خشيت سهاد أن تكون تلك الليلة الأخيرة دون أن يروا بعضهم. 

يومًا بعد يوم، تلاحظ سهاد اكتظاظًا أكبر في رفح كلما نزلت للشارع. الناس قرب بعضهم في كل مكان، حتى أن فرص الاصطدام بأحدهم وشيكة دومًا. تنتشر الخيام المكتظة على امتداد البصر، ورغم أنها غير مؤهلة للعيش في ظروف البرد، إلا أن الخيمة الواحدة، القادمة في الأصل عبر المساعدات، لا يحصل الناس عليها مجانًا كما ينبغي، بل تكلف حوالي 500 دولار. يقول زكريا الذي نزح مع 17 فردًا من عائلته من الشمال تسع مرات حتى وصلوا قبل شهرين إلى رفح، إن الخيم لا تحمي من السيول والأمطار، و«لما ييجي مطر كل الخيمة بتغرق». وبسبب انعدام الصرف الصحي وقلّة الحمامات، يضطر النازحون لصناعة حمام في الخيم على الرمل، «الله يعزك المجاري تحت الخيم بتبقى». أما الاستحمام، فشحيح بسبب انعدام الأماكن المناسبة له وصعوبة الوصول إلى المياه.

رفح، مياه شرب، غزة

يعاني النازحون في رفح، كما في باقي مناطق القطاع، من شح شديد في المياه الصالحة للشرب.

يشتري النازحون المياه للاستخدام والغسيل، وبأسعار أكبر مياه الشرب، التي كيّفوا أنفسهم على الاكتفاء بقلّتها رغم العطش. يشير محمد،* وهو رب أسرة من ستة أفراد، إلى سيارة تقف أمام موقع نزوحهم، يباع فيها كل 16 لترًا من المياه الصالحة للشرب بـ200 شيكل (40 دينارًا). وتمدّ كل عائلة أنبوبًا لاستخدام مياه البحر بـ50-90 شيكل (حوالي 10-18 دينارًا). يقول إن ملابسهم بعد أن تجف من الغسيل بالمياه المالحة تصبح معبأة بالملح. أما سهاد، فيعبئ أهلها مياه الاستخدام بالخزانات بمبلغ يصل إلى 300 شيكل (58 دينار تقريبًا) ليتمكنوا من استخدام الحنفيات.

يعاني النازحون الذين فقدوا أي مصدر للدخل منذ خمسة أشهر من غلاء فاحش، فبعد أن كانوا يشترون ثلاث بيضات بشيكل واحد، أصبح سعرها 12 شيكلًا، وتضاعف سعر الخضار، وافتقد الناس الفاكهة واللحوم بأنواعها. ولأن الغاز منقطع، أصبحوا يشترون الحطب للطبخ وتسخين المياه. ولو وُجد الطحين من المساعدات، تصبح مسألة إشعال النار بالحطب معضلة أكبر بكثير. لا يوجد في رفح سوى مخبز واحد، يصطف الناس أمامه ساعات طويلة للحصول على بضعة أرغفة، لذلك تفضّل النساء الخبز في أفران طينية. ظهرت بعد الحرب بعض المبادرات الشبابية والمؤسساتية التي تخبز للناس بأفران الطين. بعض النساء يعملن في أحد المشاريع من السادسة صباحًا حتى الرابعة عصرًا مقابل 15 رغيفًا للسيدة، ثم يعدن إلى الخيم منهكات من العمل، من أجل توفير الخبز لأطفالهن. فيما وصل سعر حفاظات الأطفال إلى ما يعادل 40 دينارًا، بعد أن كان يومًا ما بثلاثة دنانير، لذا تحاول الأمهات التقليل من غيارات أطفالهن قدر الحاجة. 

وكبقية القطاع، تعاني المدينة على المستوى الصحي، فلا يوجد بها إلا عدد قليل من المستشفيات أبرزها مستشفى رفح المركزي، ومستشفى الكويت التخصصي، ومستشفى الشهيد أبو يوسف النجار الحكومي، ومستشفى الهلال الإماراتي المعروف بمستشفى تل السلطان للولادة، وهي مستشفيات صغيرة نسبيًا وتعمل فوق طاقتها. وإضافة إليها، تم تدشين المستشفى الإماراتي الميداني أثناء الحرب. وجميع هذه المستشفيات ليست مؤهلة لاستقبال الأعداد الكبيرة من النازحين، تحديدًا مع تفشي الأمراض بينهم، ونقص الإمدادات الطبية، وغياب الكهرباء ومصادر الطاقة. ومع توجه المرضى والجرحى من المدن الأخرى لمستشفيات رفح كملاذٍ أخير، خاصة بعد توقف مستشفيات أساسية عن العمل في مناطقهم، باتت مستشفيات رفح تعاني من نسبة إشغال تصل إلى 279%. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، تعاني مستشفيات رفح نقصًا شديدًا في الأدوية والمستلزمات الطبية وخاصة أدوية التخدير وخيوط العمليات الجراحية. كما تعاني المختبرات نقصًا حادًا في وحدات الدم ومشتقاته وفحوصات الفصيلة الدموية وفحص التوافق، وغيرها من المستلزمات الأساسية. 

كما يقنن النازحون طعامهم وشرابهم، باتوا أيضًا يقننون ذهابهم إلى المشافي. في منطقة النزوح التي يستقر فيها محمد، تعيش طفلة عمرها 15 عامًا، استشهد إخوتها الأربعة أمامها. بسبب الصدمة، بات جسدها يتشنج وتفقد وعيها عندما تسمع أصوات الطيران والقصف. لا يتمكن النازحون كل مرّة من الذهاب بها إلى المستشفيات بسبب عدم توافر المواصلات. 

ولا يستطيع أصحاب الأمراض المزمنة الحصول على الأدوية التي اعتادوا عليها في السابق لعدم توافرها، وإن توافرت تكون أسعارها عشرات أضعاف سعرها الطبيعي. 

بعض الناس قرروا الفرار من رفح، فالاجتياح حاصل لا محالة بنظرهم، والبعض لا يملك خيارًا حتى اللحظة، حيث نفدت أموالهم وأعدموا أي فكرة نزوح قبل ولادتها، بعدما استنزف غلاء الأسعار قدرتهم على الحصول حتى على أساسيات العيش. يعزي هؤلاء أنفسهم بأمل عدم حدوث اجتياح. يعتقد محمد* أن بقاءه نازحًا بجانب الحدود المصرية يعتبر ضمانةً لبقائه وعائلته آمنين، «لإنه فش إمكانية ييجي الجيش يقصفلك الحدود أو يقصف الضباط أو يقصف مواقع عسكرية مصرية ويخش في حرب إقليمية وتفتح عليه جبهة» يقول، متأملًا أن تنجح الوساطات في التوصل لوقف إطلاق النار، ليرى الناس كيف سيواجهون مصيرهم بعد الحرب. في الحقيقة، يبدو أن «إسرائيل» لا تتجنب قصف الحدود كما يُصور لمحمد، فبعد يومين من مقابلته، قصف الجيش الاسرائيلي خيم النازحين المتاخمة للحدود وسط ذعر الجموع. وهذه ليست المرة الأولى منذ بدء الحرب. 

رغم الفرضيات التي يصبّر بها محمّد نفسه، إلا أنه يشعر بأن صبره هو وعائلته قارب على النفاد في ظل انعدام مقومات الحياة، فيقول «إلك خاطر تقبع السياج المصري». لا يريد الناس سوى أن يعرفوا مصيرهم، يقول محمد. هل سيبقون أحياءً؟ هل سيتم تهجيرهم مرة أخرى؟ معظم النازحين شُلت قدرتهم على التفكير بمخرج من رفح، فالوضع في المناطق الأخرى ليس أكثر أمانًا، ومراكز الإيواء خارج رفح ليست افضل حالًا أيضًا. يقول نتنياهو لشبكة «سي بي إس» إن هناك «مساحة» للمدنيين «شمال رفح في المناطق حيث أنهينا القتال» يمكن العودة إليها. لكن البعض ترعبهم فكرة العودة إلى مناطقهم. فمعظم النازحين من الشمال لا يعرفون ما حلّ بمنازلهم أو إن تبقى لديهم مكان يأويهم أساسًا.

لكن بعضهم مستعد للعودة بأي حال. تشغل مسألة التهجير من رفح نقاشات سهاد وأهلها. «لو رجّعونا عالشمال، على غزة تحديدًا، أنا بروح بعمل خيمة ولا بضل برفح. مش لإشي، لإنه إحنا اشتقنا (…) إحنا حرفيًا مش عارفين وين بدنا نروح. وخايفين كثير من الاجتياح البري».


*اسم مستعار

]]>
https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%8a%d8%a7%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b1%d9%81%d8%ad/feed/ 0
الانتخـابات والحرب: غزة في السياسة الأمريكية https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%ae%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%ae%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/#respond Wed, 28 Feb 2024 09:08:23 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89316 تقترب حرب الإبادة المفروضة على قطاع غزة من إكمال شهرها الخامس، وما تزال الولايات المتحدة راعيها الأول بكل ما تستطيع: دعم عسكري لا ينقطع، وغطاء سياسي لا يتأثر بـ«الخلافات» بين القادة، وفيتو أممي جاهز للاستخدام ضد أي دعوة لوقف إطلاق النار. 

لا جديد في الموقف الأمريكي الرسمي الذي لطالما كان مسخرًا للدفاع عن «حق إسرائيل» في السعي نحو تحقيق أهدافها العسكرية بأي ثمن ممكن. لكن في الداخل الأمريكي، يبدو مشهد الاحتجاج على المشاركة الأمريكية في الحرب مختلفًا. فرغم تواصل دعم النخب والأحزاب والشركات للكيان، إلا أن حجم واتساع المظاهرات الداعمة لفلسطين غير مسبوق. ومع اقتراب انتخابات الرئاسة الأمريكية الخريف المقبل، تثار الكثير من الأسئلة حول تأثير الموقف الأمريكي من الحرب على مسار التصويت.

حول جذور الموقف الأمريكي من الحرب، والموقف من قضية فلسطين في المشهد الأوسع في الولايات المتحدة، وحدود العمل السياسي فيها، حاورنا الكاتب والأكاديمي ستيفن سلايطة، أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في الجامعة الأمريكية في القاهرة. كتب سلايطة عدة كتب حول السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية وتجاه العرب والمسلمين، من بينها «العنصرية ضد العرب في الولايات المتحدة: جذورها وانعكاسها على السياسة» (2006)، و«حروب جاهلة: العرب والمسلمون وفقر الفكر الليبرالي» (2008)، «روح إسرائيل الميتة» (2011)، و«طقوس/حقوق غير مدنية: فلسطين وحدود الحرية الأكاديمية» (2015).

حبر: نشهد في الحرب الدائرة على غزة مشاركة أمريكية واضحة ومباشرة بشكل غير مسبوق، من حيث الدعم العسكري والغطاء السياسي، بحيث بتنا نسمع كثيرًا أن هذه المشاركة تتجاوز موقف الانحياز أو التأثر بضغط اللوبي الصهيوني، إلى حد كونها حربًا أمريكية بذاتها. كيف تفسر ذلك؟ 

ستيفن سلايطة: الأمر أشد تعقيدًا مما كان عليه في السابق في الولايات المتحدة. قبل 20 أو 30 عامًا، كان الرأي العام الأمريكي في صف «إسرائيل» بشدة، لكن الأمر ليس كذلك اليوم. فالاستطلاعات تشير لمستويات عالية من التعاطف مع الفلسطينيين بين الديمقراطيين، أو على الأقل من الدعم لوقف إطلاق النار. لكن الجهاز الحاكم في الولايات المتحدة برمته يقف خلف «إسرائيل». لذا، بتنا نشهد تباينًا متزايدًا بين ما يمكن أن نسميه الناس العاديين من جهة، ومن جهة أخرى الحكومة ومؤسسات الطبقة الحاكمة المصطفة معها، ولوبيات الشركات الخاصة، من مصنعي أسلحة ومستشارين وغيرهم. 

هذا متأثر كذلك بالصعوبات الاقتصادية التي يواجهها الكثير من الأمريكيين، مع غلاء أسعار الغذاء، وخروج التضخم عن السيطرة، وانعدام قدرتهم على الإنفاق بالدرجة التي كانوا معتادين عليها. هذا يخلق ضغطًا اجتماعيًا واقتصاديًا في الولايات المتحدة. بالتالي، في مجتمعات مختلفة، بات هناك من يسأل: لماذا تنفق حكومتنا كل هذه الأموال لتساعد دولة أجنبية على ارتكاب إبادة جماعية؟ البعض يعارض دعم الولايات المتحدة للإبادة على أسس أخلاقية، والبعض الآخر يساءله على أسس تكتيكية واستراتيجية. لذا، هناك أشكال مختلفة من المعارضة.

لكن على مستوى الحكومة والشركات، فالولايات المتحدة مكرسة بالكامل لدعم دور «إسرائيل» بوصفها قاعدة متقدمة للإمبريالية في العالم العربي، في قلب نقطة الالتقاء بين آسيا وإفريقيا. وهذا لم يتغير. صحيح أننا رأينا معارضة صغيرة داخل الكونغرس لما تفعله الولايات المتحدة، فهناك قلة من السياسيين يعبرون عن اعتراضهم، ولكن هؤلاء من صغار الموظفين إن جاز القول، وحتى هؤلاء يجبرون على إدانة حماس و7 أكتوبر واستخدام الفلسطينيين للعنف. 

لذا، أعتقد أنه من السليم وصف الحرب بأنها حرب أمريكية، لأن «إسرائيل» ما كانت قادرة على خلق الخراب والدمار الذي أنتجته لولا دعم الولايات المتحدة. لقد سلّحوا «إسرائيل» مرارًا وتكرارًا، ويستمرون في ضخ الأموال إليها، ويرسلون المستشارين الاستراتيجيين وحتى الجنود، رغم أنهم لا يقرون بذلك. بالتالي، هي بالفعل حرب أمريكية، سواء على مستوى أخلاقي أو استراتيجي أو عسكري. بالطبع، «إسرائيل» هي الطرف المعتدي وهي مسؤولة في النهاية، لكن كل شيء تفعله «إسرائيل» يحمل بصمات الولايات المتحدة، ويحظى بدعم مادي منها. لذا في رأيي، الولايات المتحدة متورطة بالقدر نفسه في الحرب والدمار الذي نشهده.

كيف تفهم هذا التغير الذي وصفته في الموقف الشعبي تجاه فلسطين؟ ما الدلائل عليه؟ ومن هي الأطراف والمجموعات التي تقوده؟

هناك دلائل مختلفة على هذا التغير في الرأي. أجريت استطلاعات رأي متنوعة تشير إلى مستويات متصاعدة من الدعم للفلسطينيين، أو على الأقل، من المعارضة لما تفعله «إسرائيل»، وأعتقد أن هنالك فرقًا بين الأمرين. لكن على كل حال، هناك زيادة. كذلك، نرى هذا التغير على وسائل التواصل الاجتماعي في الطريقة التي يجري فيها التعبير عن معارضة الإبادة الجماعية بشكل أوضح وأوسع. 

أبرز محددات هذا التغير في الموقف هو العمر. فالأمريكيون الشباب ينحازون بشكل كبير لصالح الفلسطينيين، بينما الأكبر سنًا ممن باتوا متمترسين وراء آرائهم الصهيونية لعقود طويلة يميلون للتمسك بهذه الآراء. لكن الشباب، تحديدًا من هم دون سن الخامسة والثلاثين، يدعمون الفلسطينيين بشكل كاسح، وليس فقط يعارضون «إسرائيل». كذلك، كثير من الأقليات الإثنية تدعم الفلسطينيين بقوة، وجزء كبير من المهاجرين أيضًا. وبشكل عام، فإن دعم الفلسطينيين بين جمهور الحزب الديمقراطي في تزايد.

بالتالي، فإن قاعدة الدعم لـ«إسرائيل» اليوم هي بالدرجة الأولى في المجتمع اليهودي الأمريكي، والمجتمع المسيحي الإنجيلي، وهؤلاء موجودون بأعداد ليست بسيطة في الولايات المتحدة. كذلك الطبقة الوسطى والعليا البيضاء وسكان الضواحي ما زالوا إلى جانب «إسرائيل». لذا، يمكن القول أن هناك شرخًا عمريًا، وشرخًا على أساس العرق والدخل. 

ما القوة التي يملكها هؤلاء الداعمون للفلسطينيين في المشهد السياسي الأمريكي من حيث التأثير على النقاش والسياسات المتعلقة بفلسطين؟

قد اعتبر متشائمًا، لكنني لا أعتقد أن لديهم أي قوة تذكر. الرأي العام واضح، وهناك مظاهرات داعمة لفلسطين في كل مكان، والكثيرون يرفعون صوتهم، والشعور السائد ضد الإبادة بيّن. لكن أحدًا لم يفعل شيئًا لإيقافها. بالتالي، ما يقوله لنا ذلك عن الولايات المتحدة هو أن صورتها عن ذاتها بوصفها ديمقراطية هي ضرب من الهراء. وفلسطين تفضح هذا النفاق في تصور الولايات المتحدة لنفسها، ولأفكارها عن حرية التعبير، وللكثير من الأمور. يمكننا النزول للشوارع، وكتابة المقالات والتغريدات، وفعل هذا أو ذاك، لكنهم لا يصغون إلينا ولن يصغوا. 

أعتقد -أو آمل على الأقل- أن هذا سيدفع الكثير من الأمريكيين الشباب النشطين الواعين للتفكير ليس فقط في المعاناة الهائلة التي يعيشها الفلسطينيون، بل أيضًا في حدود نظامهم السياسي، وديمقراطيتهم التشاركية المزعومة. لو كانت هذه ديمقراطية، لتوقف ما يجري منذ زمن طويل.

على ذكر المظاهرات الداعمة لفلسطين، بالنظر لحالة الاستعصاء أو الجمود التي وصفتها في الحياة السياسية الأمريكية، أي تأثير يمكن توقعه لهذه المظاهرات والحركات؟ 

لا أعتقد أنه سيكون لها أي أثر على مستوى السياسات في الولايات المتحدة. آمل أن تؤثر، وأعتقد أن المشاركين فيها شجعان حقًا، وآمل أن يستمروا. لكن ما من مؤشر على أن المظاهرات وحدها يمكنها أن توقف أي شيء. في النهاية، سيتوجب على الناس أن يصبحوا أشد جرأة ويبدأوا بتعطيل أجهزة الحكومة. ولا أعلم إن كانوا مستعدين لمثل هذه الخطوات. لكن الأمر سيتطلب ما هو أقوى من المظاهرات، وقد يشمل أشكالًا صغرى من التخريب. 

لكن علينا أن نتذكر أن قوة الدولة في الولايات المتحدة مهولة. على سبيل المثال، قبل أيام تظاهرت مجموعة صغيرة من المحتجين أمام منزل رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة نانسي بيلوسي، وألقوا الطلاء الأحمر على الرصيف في إشارة لدماء الفلسطينيين، وبيلوسي تقاضيهم بتهمة التخريب، وهي جناية. إن كان قراؤكم لا يعلمون، في النظام القضائي الأمريكي، الجناية جريمة كبيرة، وهي جريمة مكلفة وكثيرًا ما تقتضي السجن، وحين توضع في ملفك يصبح من الصعب جدًا العثور على وظيفة. لذا، فقوة الدولة طاغية. والولايات المتحدة، كالكثير من الدول، لديها الوسائل العسكرية والحضور الأمني الذي يمكنها من إغلاق وتعطيل الكثير من الأشياء وإرهاب الناس، وهم يفعلون ذلك بالفعل. 

بالتالي، أنا متفائل وسعيد بالكيفية التي بدأ الناس يفكرون بها تجاه فلسطين، لأنني لم أر مثل ذلك من قبل. لكنني متشائم بشدة تجاه قدرة الناس العاديين على التأثير على اتجاه السياسة الخارجية الأمريكية، لأنها مثل أي سياسة في الولايات المتحدة لا تمارس وفق مصالح الناس وإنما وفق مصالح الطبقة الحاكمة، التي تحظى بدعم الجيش والشرطة. 

في هذا السياق، كيف تعلق على حادثة إحراق الجندي آرون بوشنل لنفسه أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجًا على المشاركة الأمريكية في الحرب؟ كيف يمكن أن تنعكس الحادثة على الأمريكيين الشباب المعارضين للإبادة ومساحات الاحتجاج المتاحة لهم؟

ما فعله بوشنل لا يمكن وصفه من حيث القدر والشجاعة. بالطبع، يحاول الكثير من الأمريكيين تأطير ما فعله باعتباره نوعًا من الجنون، لكن هذا المنظور مهين بشدة، فضلًا عن كونه كسولًا. في المقام الأول، لسنا في موضع يخولنا الحكم على الحالة النفسية للبشر. لذا علينا أن نفكر بقرار آرون بشيء من العطف وأن نتوقف عن تقديم أعذار فظيعة من أجل تجنب المسائل الجوهرية. لقد فسّر -وببلاغة شديدة- لماذا أحرق نفسه. وتجاهلُ هذا التفسير يعبّر عن فشل فكري وأخلاقي مهول. 

ليس لدي الكثير لأقوله أكثر من ذلك. يكاد التحليل يكون غير أخلاقي في ضوء قرار هذا الشاب، ولا شك أنه سيكون قاصرًا. لست متأكدًا كيف يمكن أن ينعكس ذلك على الأمريكيين الشباب المناهضين للإبادة التي يمارسها الكيان الصهيوني، لكن صداه سيبقى يتردد بشكل هادف ومستمر، فقد بات على الفور المعيار الذي تحاكم وفقه كل التصورات الأخرى عن التضحية. أثبت أن روح جون براون [المناضل الأمريكي ضد العبودية] ما تزال حية.

ذكرت أن الدعم لفلسطين يأتي بشكل أساسي من جمهور الحزب الديمقراطي. وقد رأينا مرات عدة، خاصة في الانتخابات الأخيرة، توظيف شعار «أهون الشرّين» لدفع الناس للتصويت للحزب. هل تعتقد أن هذا سينجح مرة أخرى وأن المعارضين لبايدن في هذه الحرب سيصوتون له في حال كان الخيار، كما هو متوقع، بين بايدن وترامب؟

من الصعب الجزم بالأمر. أعتقد أن الناس في النهاية يميلون لما يعرفونه، وشعار «أهون الشرين» بالغ القوة في الولايات المتحدة. هناك ضخ مكثف ومستمر للتحكم بالناس وضبطهم من أجل التصويت لمرشح ديمقراطي مقابل المرشح الجمهوري الفظيع. وإن كنت لا تتبع هذا المسار، فسيتم إقصاؤك وتوبيخك. لكن رغم ذلك، يمكنني القول إن هناك أمرًا مختلفًا هذه المرة.

لقد نشأت وسط المجتمع العربي الأمريكي، وقد صوّت العرب والمسلمون الأمريكيون بنسبة كاسحة لصالح بايدن في انتخابات عام 2020. لم يكن ترامب رحيمًا مع هؤلاء، فقد عبّر عن العنصرية تجاههم، وفرض حظرًا على دخول المسلمين، وخلق وضعًا سيئًا جدًا بالنسبة لهم. هذا المجتمع متنوع، لكنه متقارب في مواقفه إلى حد كبير. وما أراه لم يسبق لي أن رأيته من قبل. أعتقد أن غالبية الجمهور الأوسع للحزب الديمقراطي سيتحاملون على أنفسهم في النهاية ويصوتون لبايدن. لكنني أعتقد أن المجتمع العربي والمسلم جادون، ولا أعتقد أنهم سيفعلون الشيء نفسه. هذه المرة مختلفة؛ إنهم غاضبون، وقد ضاقوا ذرعًا. 

إن كان لي أن أتحدث من تجربة شخصية، فوالداي مهاجران للولايات المتحدة، أبي من مدينة مادبا الأردنية، ولطالما تعامل بجدية شديدة مع الانتخابات، كما يفعل الكثير من المهاجرين، على اعتبار أنه «واجبه المدني» وما إلى ذلك. أمي كذلك، كانت تقول لي دومًا «عليك أن تصوت»، وكانت تأخذني إلى مركز الاقتراع حين كنت صغيرًا حتى أرى كيف يجري الأمر، وهو أمر مضحك لأنني لم أكترث يومًا بالانتخابات، فهي لا تعني لي شيئًا على الإطلاق. لكن أمي قررت ألا تصوت هذه المرة، لأول مرة في حياتها منذ أن أصبحت مواطنة أمريكية. تقول «لا أستطيع أن أصوت لترامب لأسباب واضحة، وسأكون ملعونة إن صوّتت لبايدن، مستحيل». أما أبي، فسيصوّت لترامب، لسبب واحد ووحيد وهو 100% نكاية في بايدن. إنه يكرهه ويريد أن يعاقبه بأي شكل ممكن. 

إنني أسمع هذا المنطق بشكل متكرر وسط المجتمع العربي والمسلم؛ الغضب كبير وحاد لدرجة أن الناس يقررون ألا يصوتوا، أو أن يصوتوا لترامب، أو لحزب ثالث. لدي فضول تجاه منطقة ديترويت التي تضم عددًا كبيرًا من العرب والمسلمين، والتي تنوب عنها في الكونغرس رشيدة طليب. هل سيدفعها الديمقراطيون للعمل على جمع أصوات المنطقة للحزب الديمقراطي؟ لا أعتقد أنها ستفعل ذلك، ولا أعتقد أنها ستتمكن من ذلك لأن الغضب في هذا المجتمع كبير لدرجة أنه سينقلب عليها. 

لكن السؤال يبقى ما إذا كان هذا الغضب سيستمر حتى تشرين الثاني. أعتقد أنه سيستمر إلى حد كبير في أوساط هذا المجتمع، وفي أوساط الشباب، لكن الكثيرين في النهاية سيرضخون للضغط ويصوّتون لـ«أهون الشرين». لا يعني ذلك أن بايدن سيفوز بالضرورة. ليس لدي قدرة على توقع هذه الأمور صراحة. لكنني أعتقد أنه سيتضرر بدرجة ما.

بالحديث عن المجتمع العربي والمسلم، كتبت في السابق عن العنصرية والإسلاموفوبيا في الولايات المتحدة. كيف تصف مستوياتها في الولايات المتحدة اليوم؟ هل تعتقد أن الحرب الحالية قد أججتها؟ وكيف يتم التعامل معها؟

يمكن القول إنها ازدادت. لطالما كانت حاضرة بالفعل، كجزء من وعي الأغلبية في الولايات المتحدة. لكنها تعززت بشكل كبير منذ حرب عام 1967. كانت الصهيونية دافعًا كبيرًا للعنصرية تجاه العرب والمسلمين بوصفها جزءًا من السردية التي تبرر الاستعمار الصهيوني، لأنهم كانوا بحاجة لنزع إنسانية البشر الذين طردوهم وحرموهم من بلادهم. لكنها تأججت منذ الحرب بلا شك.

لا بد أن قراؤكم سمعوا بتعرض ثلاثة شبان فلسطينيين لإطلاق النار في ولاية فيرمونت، أحدهم بات مشلولًا. قبل ذلك، قتل طفل فلسطيني في ضواحي شيكاغو. لذا، هناك تصاعد في العنف على هذا الأساس. وفي أي وقت يظهر الناس رمزًا مرئيًا لعروبتهم، كالكوفية مثلًا، قد يتعرضون للعنف اللفظي والسخرية وأحيانًا للعنف الجسدي كذلك. وفي أي وقت يجتمعون فيه للتعبير عن دعمهم لفلسطين أو عن فلسطينيتهم، سنجد مجموعة من الصهاينة مجتمعين على الطرف المقابل يوجهون لهم الإساءات. 

إن تبرير الإبادة الجماعية بحد ذاته أمر عنصري في جوهره، وهذه العنصرية يعبر عنها باستمرار في الخطاب والسردية السائدة بأشكال قد لا نكون واعين بها دومًا، لأنها باتت مطبعّة ومألوفة إلى حد كبير.

لكن علينا أيضًا أن نفكر بالعنصرية ليس بوصفها مسألة متعلقة بالتعامل الشخصي فحسب، بل كمسألة بنيوية وخطابية. إن تبرير الإبادة الجماعية بحد ذاته أمر عنصري في جوهره، وهذه العنصرية يعبر عنها باستمرار في الخطاب والسردية السائدة بأشكال قد لا نكون واعين بها دومًا، لأنها باتت مطبعّة ومألوفة إلى حد كبير. بالتالي، هناك العنصرية التي يعبر عنها بالعنف اللفظي أو الجسدي، لكن هناك أيضًا العنصرية اليومية التي نراها في التغطيات الإخبارية وفي طريقة كتابة العناوين. بدلًا من أن يقولوا «إسرائيل قتلت طفلًا فلسطينيًا» يقولون أن «قاصرًا فلسطينيًا تعرض للأذى»، أي أن الطفل العربي ليس طفلًا، بل قاصرًا أو شابًا، وهو لا يُقتل بشكل متعمد وإنما عن طريق الخطأ، وقاتله لا يسمّى.

أما التعامل مع هذه العنصرية، فيختلف من شخص لآخر. لكن بصورة عامة، أعتقد أن الناس يتجرأون أكثر على مواجهتها، ولا يتراجعون. هناك دومًا توجس لدى العرب والمسلمين الأمريكيين من الظهور العلني لما يلحق به من مخاطر، والبعض ما زالوا يتجنبون ذلك لأنهم لا يريدون أن يفقدوا وظيفتهم أو أن يتعرضوا للأذى. لكن بشكل عام، أعتقد أن الناس باتوا أكثر تحديًا ويرفضون أن يتم إسكاتهم، وهذا أمر رائع. 

بناء على ما قلته حول الانتخابات، وفقدان البعض القناعة بأن عليهم التصويت من أجل التصويت، أو أن الانتخابات هي السبيل الوحيد للمشاركة السياسية، هل تعتقد أن هذه الحرب والمعارضة التي خلقتها يمكن أن تدفع نحو البحث عن مساحات جديدة لممارسة السياسة؟ وهل يمكن لذلك أن يؤثر في بنى السلطة المؤسسية في الولايات المتحدة؟

آمل ذلك بحق. يجب أن يدفع ذلك باتجاه شيء مختلف. يمكن أن أحاجج بأن الشكل المعتاد لممارسة السياسة في الغرب بشكل عام وفي الولايات المتحدة تحديدًا هو بالضبط ما قادنا إلى هذه اللحظة، بمعنى أن هذا الشكل لم يخلق أي شيء قادر على منع الولايات المتحدة ووكيلتها المسعورة من شن حملة هوجاء لإبادة الأبرياء. 

هناك كليشيه سائد في الولايات المتحدة بأن علينا أن «نحاسب السياسيين». كثير من المتشائمين، وأنا من بينهم، لطالما قالوا إن هذه الجملة أكثر الشعارات هراءً في الحياة السياسية الأمريكية. كيف يمكن أن نحاسبهم؟ بأي آلية؟ ما الذي ستفعلونه على أرض الواقع؟ لا توجد محاسبة. نحن نصرخ ونتظاهر وهم لا يصغون لأنهم ليسوا مضطرين للإصغاء. علينا أن ندرك ذلك، وأن نفكر بشكل مختلف بشأن المشاركة السياسية والتنظيم السياسي.

أكبر حركة سياسية يسارية شهدتها في حياتي كبالغ كانت حملة بيرني ساندرز الانتخابية من عام 2015 وحتى 2020. وقد جمعت الكثيرين، من الليبراليين وحتى الشيوعيين؛ الطيف اليساري برمته على اختلافاته. صبّ الكثيرون، خاصة الشباب، طاقتهم ووقتهم من أجل هذا الدجّال العجوز، لينتهي به الأمر بدعم الإبادة بملء الصوت. هناك درس ينبغي أن نتعلمه من هذه الحالة، وهو أنه حين يقدم شخص نفسه كصهيوني ناعم أو صهيوني ليبرالي، فهذا ما يعنيه: حين تصبح الأمور جدية، سترجح كفة ولائه للكيان الصهيوني في النهاية مقابل إنسانية الفلسطينيين. 

لا ينبغي التسامح مع هذه الأشكال من الصهيونية الناعمة لأنها ستتصرف دومًا بهذا الشكل حين توضع على المحك. ولا ينبغي أن تصب كل طاقتك من أجل انتخاب شخص ما رئيسًا، لأنه حين تجهض مؤسسات الدولة هذه الحركة، فما الذي سيتبقى؟ سيتبقى لديك عجوز ثرثار يدعم الإبادة الجماعية. لذلك، أعتقد أن هذه فرصة لدفع الناس للتفكير بشكل مختلف بما تعنيه الديمقراطية، وبمدى القوة التي نملكها في مواجهة الدولة. إنها فرصة لإدراك أنه لا يمكن للتصويت أن يخرجنا من الإمبريالية. 

أما بخصوص أي قوة يمكن أن نخلقها، فلا أعرف حقيقة. سيتطلب الأمر الكثير من التفكير. لكن هذا التفكير يجب أن يكون أشد جدية وأقل ثقة بأن الولايات المتحدة تتصرف في صالح العالم. يجب أن يسقط هذا الافتراض. وغزة تقدم دليلًا واضحًا على أن الولايات المتحدة لن تتصرف في صالح العالم، مهما حاولتَ الضغط عليها. وقد بدأنا نشهد بالفعل تغيرًا في التفكير بهذا الاتجاه.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%86%d8%aa%d8%ae%d8%a7%d8%a8%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%85%d8%b1%d9%8a%d9%83%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/feed/ 0
فتحي غَبِن: مناضل من لونٍ مختلف https://www.7iber.com/culture/%d9%81%d8%aa%d8%ad%d9%8a-%d8%ba%d9%8e%d8%a8%d9%90%d9%86-%d9%85%d9%86%d8%a7%d8%b6%d9%84-%d9%85%d9%86-%d9%84%d9%88%d9%86%d9%8d-%d9%85%d8%ae%d8%aa%d9%84%d9%81/ https://www.7iber.com/culture/%d9%81%d8%aa%d8%ad%d9%8a-%d8%ba%d9%8e%d8%a8%d9%90%d9%86-%d9%85%d9%86%d8%a7%d8%b6%d9%84-%d9%85%d9%86-%d9%84%d9%88%d9%86%d9%8d-%d9%85%d8%ae%d8%aa%d9%84%d9%81/#respond Wed, 28 Feb 2024 09:02:05 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=culture&p=89323 في عام 1984، وعن مطبوعات ابن رشد في القدس، صدرت لوحة «الهوية» للفنان فتحي غبن على هيئة بطاقة بريدية وزّعت بآلاف النّسخ في الضفة الغربية وغزة وحول العالم، «ما أثار حفيظة الاحتلال وتم اعتقالي على إثر ذلك»، يقول غبن.

وقبلها كان غبن قد رسم في بواكير لوحاته الوطنية شهيدًا من عائلته ملفوفًا بعلم فلسطين، وكانت حينها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، كما يروي الفنان الفلسطيني سليمان منصور، تلاحق الفنانين الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة وتمنع الأعمال الفنية التي يُمثّل فيها العلم الفلسطيني بشكله المجرد أو حتى ألوانه.

على إثر تلك اللوحة المطبوعة وجهت الحكومة الإسرائيلية لغبن تهمة التخريب الفكري. وصرّح وقتها مسؤول إسرائيلي لأحد الصحفيين الهولنديين المتضامنين مع غبن بالقول: «فتحي غبن رسم وطبع ألف صورة وزعت في الضفة الغربية وغزّة تُحرّض على حكومتنا، وتتسبّب في خروج الناس إلى الشوارع للتظاهر وإلقاء الحجارة وخرق القانون».

بملفٍ أزرق يحمل الرقم 83/2967، كُتبت لائحة الاتهام الموجهة من الاحتلال ضد فتحي غبن، وشملت ثلاث تهم، وهي استيراد منشورات، والاحتفاظ بهذه المنشورات، أما التهمة الثالثة فكانت: بتاريخ 19 آب 1983 حاول المتهم التأثير على الرأي العام في المنطقة، حيث رسم وعرض في معرض الجامعة الإسلامية (في غزة) صورًا لنسر، وعلم منظمة التحرير، وصورًا لصبي أصيب خلال المظاهرة، وعندما طلب المحامي العدول عن هذه التهم، أصرّ القاضي، وقال إن الجرائم التي ارتكبها الرسام خطيرة جدًا، لذلك فإن المحكمة لا تستطيع تجاهل خطورة الجريمة، وقررت تطبيق القانون بحذافيره.

حكم الاحتلال على فتحي غبن بالسجن ستة شهور، وغرامة مالية مقدراها 30 ألف شيكل، وبسبب الحملات التي أُطلقت للتضامن معه، عرضوا عليه الإفراج عنه مقابل توقيعه تعهّدًا بعدم العودة لرسم العلم، كما يضيف سليمان منصور، لكنه رفض، وفضل أن يقضي عقوبته على أن يتخلى عن رسم العلم، وحتى بعد خروجه من الأسر ظلّ لسنوات ممنوعًا من السفر، ليخسر فرص المشاركة في معارض فنية كان قد دعي إليها.

لوحة للفنان فتحي غبن بعنوان «الهوية» مطبوعة على بطاقة بريدية

التهجير رضيعًا 

ولد فتحي غبن في العام الذي سبق النكبة في قرية هِربيا، القرية السّاحلية الوادعة بين غزة ومجدل، والتي كان أهلها يغنون في مواسم الحصاد رغم نصبهم الفزاعات لطيور البحر «يا الله يطعمنا ويطعم الطّير..يا الله يا دار الرزق والخير».

وقبل أن يكمل السنة من عمره طهّر لواء جفعاتي الإسرائيلي مدعومًا بالقصف الجوي القرية عرقيًا، فهُجّر الرضيع مع عائلته إلى قطاع غزة، هجّر الفلسطينيون «لكنهم تركوا خلفهم آثار أقدامهم الغائصة في الأرض»، يقول غبن.

قطنت العائلة حي الزيتون وبعدها اتجهت إلى مخيم جباليا، المخيم الذي سيبقى فيه غبن طيلة حياته وحتى آخر أيامه، وفيه درس غبن من الصف الأول إلى السّادس الابتدائي، ولوّن لوحاته وخطّ خطوطها الأولى تحت سقفٍ من الزينكو.

في جباليا اكتشف المعلمون موهبة غَبن وشجعوه على المُضي قدمًا، وكان لشخصية طرزان الكرتونية أكبر الأثر في بداية مشواره الفني، «في مواضيع هذه اللوحات، بدأتُ أجسّد الحركة، حركة الحيوانات واقتتالها وتفاعلها مع بعضها البعض في الغابة».

بطاقة بريدية تحمل لوحة للفنان فتحي غبن بعنوان «خبز الصاج»

مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، احتلّت «إسرائيل» قطاع غزة لعدة شهور، وحينما غادرته رسم غبن خربشاته الوطنية الأولى كما يقول، إذ شاهد عملية جلاء قوات الاحتلال عن القطاع، ودخول قوات الطوارئ الدولية، فكانت لوحة جلاء الاحتلال الإسرائيلي عن غزة، وهو ما زال في الصف الثالث الابتدائي.

هذا الدعم الذي حصل عليه من زملائه الطلبة والمدرسين سيختلف عندما يجد فتحي نفسه مضطرًا لترك المدرسة بعد الصف السادس الابتدائي ليساهم في إعالة عائلته. «كان وقع ترك الدراسة في غاية الصعوبة على نفسي، لكنه لم يحل بيني وبين موهبتي في الرسم». وعلى مدى 15 عامًا لاحقة، عمل غبن بائعًا للجرائد والمجلات، «ومنها بدأتُ بتثقيف نفسي، ومطالعة القصص المصورة والرسومات».

النبوءة تتحقق

بعد ثلاث سنوات على خروجه من الأسر اندلعت الانتفاضة الأولى، وكان غبن قد رسم قبلها لوحة «الهوية» التي طبعت ووزعت وألصقت به، بالإضافة إلى لوحة الشّهيد وغيرها من اللوحات التي حملت ألوان العلم الفلسطيني، تهمة التحريض ضدّ الاحتلال، وجاءت مشحونة برموز الانتفاضة والثورة كالمقلاع واللثام والحجر.

يقول الناقد الفني مازن عصفور إن «أعمال غبن، كما لو أنها امتدادٌ لأعمال للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط وتأثُّرٌ بها، الألوان الانطباعية والتعبيرية الواضحة، المرأة الفلسطينية الحاضرة في غالبية أعماله كحضور رمزي يُمثل الأرض والهوية، الطبيعة والريف الفلسطيني، وهو كما لو أنه يبحث عن الفرح المستمر بألوانه وخطوطه وموضوعاته، وهو بذلك أقرب ما يكون إلى شمّوط أيضا، الذي عرف عنه هذا الهاجس وهذا الديدن».

أمّا الباحث محمد عباس، فيضيء على أعمال غبن بالقول إنها امتازت بالتركيز على الألوان القاتمة وإضافة الألوان الحارة في بعض المناطق من اللوحة للتدليل على الأجواء المشحونة وحالة الصراع. كما يلاحظ عباس الحضور المستمرّ للمقاومة في أعمال غبن، وعن هذا يقول إن «مفهوم المقاومة عند فتحي هو مفهوم ثابت ولكن أثره متغير تبعًا للواقع الذي يعيشه الشعب. ولكن بشكل عام تأثّرَ الفن الفلسطيني بشكل إيجابي من مفهوم المقاومة من خلال خلق بيئة خصبة للفنان ومساحة كبيرة للتعبير يستطيع من خلالها أن يصوّر كل ما يلج في خاطره بأسلوبه الخاص للتعبير».[1]

غبن الفنان المعلم

في لقاء مصوّر معه، يتحدث غبن عن اعتزازه بتجربة تعليمه الفنّ للأطفال، وعن سعادته أن عددًا منهم عندما كبروا صاروا فنانين، ومن الواضح أنه كان يؤمن بضرورة الأخذ بأيديهم وتعليمهم الفن ما أمكن.

يقول الفنان الفلسطيني من قطاع غزة، محمد الحاج، إن غبن بمثابة أب روحي له وقد التقاه فيما كان طالبًا جامعيًا في معارض لزملائه من الطلبة الفنانين، وتأثر به جدًا في بداية مشواره الفني. «أبو حسام، فتحي غَبن، إنسان متواضع جدًا، يلبي نداء الفنانين على اختلاف مستوياتهم الفنية، لا يفوّت أي معرض مهما كان مستواه، حاضر دائمًا ومحب لهم». وكان غبن قد ساهم عام 1973 في تأسيس رابطة الفنانين التشكيليين الفلسطينية رفقة مجموعة من الفنانين.

أمّا ماهر ناجي، وهو فنان من غزة، فيقول وهو الذي عرف فتحي منذ أن كان ماهر طفلًا صغيرًا، واشترك معه ومع زوجته في إقامة معرض فني عام 1996: «الأستاذ فتحي إنسان هادئ، طيب، وشخصية محبوبة من جميع فئات الفنانين، لم يسئ لأحد طيلة فترة مسيرته الفنية، ويمثل للفنانين الصاعدين نموذجًا يحتذى به، لعدة اعتبارات، مواضيع لوحاته تلامس قلوب الفنانين الناشئين قبل أن يتعرفوا إلى المدارس الفنية وتشعباتها».

الفنان التشكيلي الشّاب علي تايه، يقول إنه تعرف على فتحي غبن منذ تسع سنوات تقريبًا، وكان يسكن إلى جواره في مخيم جباليا، «كان يعتبرني مثل ابنه، وكنت أتردد عليه بشكلٍ شبه يومي، ولم يكن غبن ينتقد أي فنان مبتدئ أبدًا، كان يمدح الجميع وإن كان لديه أية ملاحظات فنية كان يأخذ الشاب على انفراد ويتحدث معه».

بساطةُ غبن وعفويتُه المُحبّبة وبساطة الحياة التي يعيشها بحلوها ومرها تظهر جلية في فيلم الهُوية، الفيلم التّسجيلي القصير الوحيد ربما حول تفاصيل حياته. يبدأ الفيلم بطرق خفيف على باب حديدي مكتوب على الجدار إلى جواره بالطباشير «دار غبن»، ثم سرعان ما يظهر من خلفه رجل نحيلٌ بشعر أبيض مسرّح كيفما اتفق، يبتسم للضيف ويأخذ بيده مباشرة إلى غرفة صغيرة تمتلئ باللوحات والألوان، إنه المرسم.

يشرب محيسن، الشاب الذي قابل غبن، الشاي المقدم بإبريقٍ معدني كأبسط ما يكون التقديم، ويجلس على قطع الأثاث البسيطة ليستمع لما يقوله غبن حول الأحلام والشّجون وتداعيات الذاكرة. وفي المشاهد اللاحقة نرى الفنان غبن وهو يشارك في الأعراس الشعبية البسيطة، ويرقص باحتراف على أنغام المجوز واليرغول. يقول إنه يعشق الدبكة ويدرّبها، ولا غرابة أن رسم ذات مرة عازف اليرغول بزيه الفلسطيني وحوله فتيات الدبكة.

لوحة عازف اليرغول وفتيات الدبكة للفنان فتحي غبن

يقول سليمان منصور، صاحب لوحة «جمل المحامل»، وهو الذي يقارب غبن في العمر وزمن التجربة، إن في داخل فتحي فلاحًا أصيلًا يحب الحياة ويسيطر عليه ألمُها لكنه مع ذلك كان شخصية طريفة للغاية. ويتابع إن فتحي كان صاحب نخوة وإذا ما طلبت منه خدمة فإنه يلبي مهما كانت الظروف، رغم أنه مثل الكثير من سكان غزة قد عانى شعورًا دائمًا بانعدام الأمان الاقتصادي. ويختتم منصور كلامه عن رفيق تجربته بأنه «ظاهرة فنية شعبية مميزة حازت شعبية جماهيرية كبيرة وكانت لوحاته تزين بطاقات الأفراح وسيارات الأجرة في غزّة».

لوحات مهشّمة تحت الأنقاض

خلال الحرب الحالية على غزة أُجبرت عائلة غبن على النزوح من جباليا إلى رفح، تاركة وراءها بيتًا مدمّرًا وركامًا بكل ما حمله ذلك البيت من ذكريات ولوحات عمل فتحي على إنجازها طيلة حياته. «الأعمال الفنية تهشّمت بصورةٍ بشعة»، يقول خالد فتحي غبن، الابن التاسع في ترتيب أبناءه، «وقبل أن تلقى مصيرها تحت الأنقاض جرّاء القصف الإسرائيلي، كانت قد تعرّضت لنهش القوارض والفئران».

ويضيف أن لوحتين من اللوحات المميزة للأب قد سرقتا هذه المرة أيضًا؛ لوحة عين جالوت، ولوحة الهوية الثانية، والأخيرة كان قد رسمها غبن بعد ضياع النسخة الأولى منها عام 1984، «وجدنا الإطارات فقط دون اللوحات تحت الأنقاض، وقد أخذت اللوحات منها».

تعني لوحة «الهوية» الكثير لغبن ولها مكانة خاصة عنده، إذ فُقدت النسخة الأولى منها بعد أن أسر بسببها، «كان الوالد قد وضعها أمانة عند أحدهم لكن عندما خرج من السّجن لم يجدها وتنكر لها الرجل، ولغاية اللحظة لا أحد يعلم أين هي، وهل أخذها الاحتلال أم لا».

لوحة عين جالوت للفنان فتحي غبن

استشهاد فتحي غبن

قبل أيام على استشهاده نشرت ابنته ربوع تسجيلًا تناشد فيه بمساعدة والدها، وبينما كانت الابنة تقول «أنا بطالب الجهات المعنية..»، قاطعها والدها قائلًا: «أنا بطالب بنفسي، أنا بطالب بنفسي، بديش حاجة، بدي أتنفس».

لم يكن الفنان بداخل فتحي غبن هو من يختنق هذه المرة، إنما الإنسان المحب والبسيط. يقول الفنان الغزّي غانم الدن، والذي رافق غبن في أيامه الأخيرة في دير البلح: «الفسفور الأبيض الذي تلقيه قوات الاحتلال من وقت لآخر، وأدخنة الحرب وأغبرتها، وبرد الشتاء القارس، وقلة العناية في المستشفيات التي بالكاد تتمكن من متابعة الجرحى والشهداء، كل ذلك عمل على خنق غبن وعلى استفحال حالة ضيق النّفس لديه».

رغم أن المعاملات المالية وأوراق الخروج من القطاع للعلاج في مصر كانت قد جُهزت منذ أكثر من أسبوع، وتمت الموافقة عليها من أعلى المستويات في الجانبين الفلسطيني والمصري، إلا أن التلكؤ كان من جانب الاحتلال، فلم يسمح له بالمغادرة، انتظرنا طويلًا أن يُدرج اسمه على قوائم الخروج، لكن ذلك لم يحدث، تقول الابنة ربوع.

وتضيف أن الآلام والمصائب تراكمت على الأب، فخلال هذه الحرب فقد ابنه، وحفيده، وأقرباء من العائلة، (أخوه، وزوجة أخيه، وبنات الأخ) الذين قصفوا في مكان نزوحهم في الجنوب، بالإضافة إلى أن تدمير اللوحات، ووجودها تحت الأنقاض أضاف ألما آخر له، إذ كان يعتبرها كما لو أنها من أبنائه.

على نحو مفاجئ، وعلى سرير في مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، انقطع النّفس عن فتحي غبن، حاول الأطباء أن يضخوا المزيد من الأكسجين، كما يروي خالد، لكن محاولاتهم باءت بالفشل، فقد لفظ فتحي غبن آخر أنفاسه، وفارق الحياة في 25 شباط 2024، ليدفن في مقبرة المدينة.

وهكذا طويت صفحة الفنان الفلسطيني الغزي فتحي غبن، عن عمرٍ يزيد عن عمر النّكبة بعام أو عامين، وقد ولد في حرب، واستشهد في حرب، ليرتقي بعد سنينٍ صعبة، قضاها مناضلًا من لونٍ مختلف.

مجلة (المجلة) 27 كانون الثاني 1987. العدد 362. الكاتب محمد الظاهر، من أرشيف الفنان سليمان منصور.

  • الهوامش

    [1] كتاب مفهوم المقاومة في بعض أعمال النحت الفلسطيني محمد عباس.

]]>
https://www.7iber.com/culture/%d9%81%d8%aa%d8%ad%d9%8a-%d8%ba%d9%8e%d8%a8%d9%90%d9%86-%d9%85%d9%86%d8%a7%d8%b6%d9%84-%d9%85%d9%86-%d9%84%d9%88%d9%86%d9%8d-%d9%85%d8%ae%d8%aa%d9%84%d9%81/feed/ 0
من سيف القدس إلى الطوفان: رمضان كهاجس إسرائيلي https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b1%d9%85%d8%b6%d8%a7%d9%86-%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%82%d8%b5%d9%89/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b1%d9%85%d8%b6%d8%a7%d9%86-%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%82%d8%b5%d9%89/#respond Tue, 27 Feb 2024 10:31:00 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89307 يحضر رمضان باستمرار على الأجندة الأمنية الإسرائيلية، لكن ذلك لا يعني أنّ المشهد الذي امتدّ في رمضان 2021 في صورة «معركة سيف القدس» هو الأصل الثابت في موقع رمضان من كفاح الفلسطينيين ضدّ الكيان الإسرائيلي.

انتقلت الأحداث وقتها من سلسلة تفاعلات في القدس، في باب العمود وحي الشيخ جراح واقتحامات المستوطنين الصهاينة للمسجد الأقصى، في مشهدية كفاحية ملحمية لفّت الفلسطينيين في كلّ مكان، وصولًا إلى المعركة المسلحة التي خاضتها المقاومة من قطاع غزّة إسنادًا للمقدسيين وتفاعلًا مع الهبّة العامّة ودفاعًا عن المسجد الأقصى وتأكيدًا على الموقع الوطني العامّ للمقاومة المتمركزة في قطاع غزّة، والتي منحت المواجهة اسم «سيف القدس» وصارت العنوان الجامع لهبّة الفلسطينيين الشاملة.

في معركة سيف القدس اجتمعت ثلاثة عوامل صاغت الملحمة، أوّلها التفاعلات المستمرّة التي جعلت القدس، وفي قلبها المسجد الأقصى، في صدارة الحالة الكفاحية الفلسطينية منذ العام 2014، منذ هبّة الطفل محمد أبو خضير، مرورًا بهبّة القدس 2015 والتي عُرِفت بهبّة السكاكين، ثمّ هبة باب الأسباط 2017، فهبّة باب الرحمة 2019، ليجتمع في العام 2021 هذا التراكم النفسي المعنوي الناجم عن الخطّ المتجدد للهبّات المقدسية، والذي كثّفَ الرؤية الفلسطينية العامّة نحو القدس مع تزامن عيد الفصح اليهودي مع رمضان ذلك العام، وتصعيد الاقتحامات اليهودية الصهيونية للمسجد في أثناء إصرار أعداد من المعتكفين على البقاء فيه رغمًا عن إرادة الاحتلال، ثمّ تحفّز المقاومة في غزة للدخول على خطّ الأحداث ومنحها بعدًا آخر.

كان عام 2021 استثناءً بهذه العوامل الثلاثة، وهو الأمر الذي مدّ التحفز إلى العام التالي لاستمرار ذلك التزامن، وتحوّل المسجد الأقصى في رمضان اختبارًا لمفاعيل معركة سيف القدس، ومحاولة كلّ طرف الاستعلاء بإرادته على الآخر، فمن جهة شعر الفلسطينيون بضرورة البناء على مكاسب معركة سيف القدس وفرض الاعتكاف الفلسطيني المفتوح في الشهر من أوّله لا في العشر الأواخر فحسب، بينما نظرت المؤسسة الإسرائيلية للمسجد الأقصى بوصفه من العناوين الأولى لمعركة السيادة على القدس، فتطابقت إجراءاتها مع مشاريع جماعات الصهيونية الدينية.

لم تنقطع الاقتحامات الصهيونية الدينية بالحماية الأمنية الإسرائيلية للمسجد الأقصى في رمضان 2023، كما باتت مجمل الممارسة الإسرائيلية تجاه المسجد الأقصى طوال العام، إلا أنّ مساحة الاحتكاك والتوتر كانت أقلّ من العامين الماضيين. فمن أين يأتي القلق الإسرائيلي من شهر رمضان، وما علاقته بالمسجد الأقصى؟

رمضان والأقصى والحالة النضالية

بالنسبة للفلسطينيين يمكن الحديث في قضيتين، الأولى هي الاستثمار في الحالة الإيمانية المتأتية من روحانية الشهر وتعاظم الاجتماع أثناءه في المساجد، واستعادة المواقع الجهادية الكبرى التي حصلت أثناءه كمعركة بدر وفتح مكة، وربط الصيام بالجهاد بوصفه مجاهدة لصيقة لشهوات النفس وما يتصل بذلك من قيم الصبر والتراحم، وفي إطار هذه القضية كانت خطابات حركة حماس في الانتفاضة الأولى تجعل من الشهر مناسبة للتذكير بتلك المعاني، ومن بعض أيامه مناسبة للتصعيد في فعالياتها الشعبية، إلا أنّ ذلك لا يعني بالضرورة فورية نضالية منبعثة من هذا الخطاب الإيماني، فإمّا أنّ رمضان كان يأتي متزامنًا مع حالة كفاحية قائمة بالفعل فتكون الإضافة بالدرجة لا بالنوع كما في الانتفاضتين، أو يمر باعتباره خطابًا اعتاد عليه الفلسطينيون في هذا الشهر من كل عام.

وتتمحور القضية الثانية حول التلازم بين رمضان والمسجد الأقصى، إذ من عادة الفلسطينيين شدّ الرحال إليه أيام الجمع وفي رمضان، للخصوصية الدينية لهذه المناسبات التي تُربط بالبداهة الدينية بما تختص به فلسطين من مقدس مكاني وهو المسجد الأقصى. هذه العادة بدأت تتعثر بالإجراءات الإسرائيلية مع تأسيس السلطة الفلسطينية إذ بات الوصول من الضفة الغربية للمسجد الأقصى محكومًا بالتصاريح الأمنية الإسرائيلية، وهو الأمر الذي تعقّد تمامًا بعد انتفاضة الأقصى، ليعود الاحتلال تاليًا بعد انتهاء الانتفاضة، وبعد ما يسمى بالانقسام، إلى انتهاج سياسات أمنية متجددة كل عام بخصوص وصول الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى القدس.

القرار الإسرائيلي مع الحرب على غزة يتجه لمنع أهالي الضفة الغربية، رجالًا ونساء، من الوصول للقدس، وتقييد وصول الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وأهالي القدس أنفسهم، تحت سقف عمريّ لأوّل مرّة.

من نافلة القول إنّ القدس كانت جزءًا من الضفة الغربية، لكون شرقيها كما بقية المنطقة التي أطلق عليها الضفة الغربية؛ صارت من بعد النكبة، جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية، إلى حين احتلالها عام 1967، ثمّ أمعن الاحتلال في فصل القدس بفرض بطاقات هوية خاصة على المقدسيين، ثمّ بالبناء الاستعماري الذي سماه القدس الكبرى، وعزل به القدس تمامًا عن فضائها الجغرافي والديمغرافي الممثل بالضفة الغربية، والتي يجد أهلها كما بقية الفلسطينيين في المسجد الأقصى أحد مكونات هويتهم الوطنية والقومية بالإضافة لقداسته الدينية، وأحد عوامل التثوير المهمة منذ هبة البراق عام 1929، مرورًا بمجزرة المسجد الأقصى عام 1990، ثم هبة النفق 1996، فالملحمة الكبرى المسماة انتفاضة الأقصى عام 2000، عبورًا بسلسلة الهبات القريبة سالفة الذكر، وصولًا إلى «طوفان الأقصى» الراهنة.

مع الوقت، صار وصول أهالي غزّة إلى المسجد الأقصى مستحيلًا إلا حالات محدودة للغاية، وبقي وصول أهالي الضفة الغربية وفق تصاريح أمنية لا تُمنح لأكثرهم، أو سقف عمري كان يصعد ويهبط بحسب التطورات الأمنية ورؤى المؤسسة السياسية الإسرائيلية المتحولة، وهو ما كان يعني آلاف محاولات الوصول عنوة بالتهريب كلّ جمعة لمن لا تنطبق عليهم المعايير الإسرائيلية، وبما كان ينتهي ببعضهم إلى الاعتقال أو الكسر لسقوطه عن الجدار الفاصل، وسوى ذلك من مخاطر مترتبة على محاولات الوصول للأقصى.

وفي حين صار مسموحًا للفلسطينيين من الضفة الغربية الوصول للقدس في رمضان ضمن سقف عمري معين للرجال تحديدًا دون سقف للنساء، فإنّ القرار الإسرائيلي مع الحرب على غزة يتجه لمنع أهالي الضفة الغربية، رجالًا ونساء، من الوصول للقدس، وتقييد وصول الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، وأهالي القدس أنفسهم، تحت سقف عمريّ لأوّل مرّة.[1]

طوفان الأقصى يشعل الهوس الإسرائيلي برمضان

تعكس النقاشات الإسرائيلية حول قيود الوصول إلى المسجد الأقصى في رمضان هذا العام أثناء الحرب على غزّة، مع تباين في الرأي داخل المؤسسة الإسرائيلية، هوسًا إسرائيليًّا برمضان غير مسبوق في تاريخ الصراع، حتى مع وقوع حرب تشرين الأول 1973 في رمضان، التي لم يكن لها كبير أثر على رؤية الإسرائيليين لموقع رمضان بالنسبة للفلسطينيين، بل كانت المؤسسة الإسرائيلية في إعلامها الرسمي الناطق بالعربية، قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، تسعى لإظهار تفاعلها مع المسلمين في الشهر الكريم.

بدأ هذا الهوس بعد العام 2021، أي بعد معركة سيف القدس، ولسبب عيني واقعي تمثل في تزامن الأعياد اليهودية مع رمضان، ومساعي أحزاب الصهيونية الدينية لتكريس وقائعها في المسجد، وهو الأمر الذي امتد للعام الذي يليه، وترافق مع التعاطي الإعلامي الإسرائيلي المستجد برمضان من طرف الإسرائيليين الذين لم يزل للإعلام التلفزيوني تأثيره لديهم، وهو ما ساهم في تكريس ذلك الهوس. ومع تصاعد العنصرية الدينية، أصبحت الأطروحات الغرائبية ذات الطبيعة الاستشراقية جذابة أكثر لجمهور عنصري على احتكاك مصيري مع الآخر الذي هو الفلسطيني المسلم.

عام 2015، كتب المستشرق الإسرائيلي مردخاي كيدار مفسّرًا تصاعد العمليات في فلسطين، ومعلقًا على بعض الأحداث التي شهدتها المنطقة وقتها، رابطًا بين حصولها وشهر رمضان الذي أطلق عليه «رمضان العنيف»، فقال بعد أن قدم تعريفًا للجمهور الإسرائيلي برمضان وشعائر المسلمين فيه:

«التقرب إلى الله خلال شهر رمضان يعني زيادة الصلاة، وزيادة صلاة الليل، وقضاء ساعات طويلة في المسجد، والاستماع إلى المواعظ الدينية من الدعاة والمتحدثين، والحرص الزائد على أداء الوصايا وتجنب التجاوزات. وفي الوقت نفسه، وعلى مدار تاريخ الإسلام، كان رمضان أيضًا شهر مجد للإسلام، حيث إن العديد من المعارك التي خاضها المسلمون في رمضان انتهت بانتصار الإسلام، ويعزى النصر إلى التزام الأمة الإسلامية بفريضة الصيام. نحن في هذه الأيام من حالة الوعي الديني الجماعي المتزايد، ولا شك أن الأجواء المشبعة بأبخرة الوقود الديني تؤثر على ما يحدث في العالم الإسلامي».

هذه رؤية استشراقية مبالغ فيها، إلا أنّ المهم هو تأثير كيدار هذه الأيام على الجمهور الإسرائيلي، الذي يُستعاد للتعقيب في سياق السجال الإسرائيلي الداخلي حول القيود التي يُناقش فرضها على وصول المسلمين الفلسطينيين للمسجد الأقصى، وبما يكشف عن جوهر دواعي الساعين لتكريس هذه القيود وتحولات الكيان الإسرائيلي نحو المزيد من اليمينية العنصرية.

يعيد كيدار في عدد من القنوات التلفزيونية الإسرائيلية، التذكير بنظرياته الخاصة حول المسجد الأقصى، فالمسجد الذي بالقدس ليس هو المقصود في سورة الإسراء، ثمّ إنّ الشعائر الإسلامية، والكلام لكيدار، لا توجب على المسلمين زيارة المسجد الأقصى في رمضان. ليست القضية هنا في أنّ كيدار يحاول أن يبدو وكأنّه أعرف من المسلمين بشريعتهم، ولكن الأهمّ رؤيته الرافضة للسجالات الدائرة التي تنظر إلى المسجد الأقصى بوصفه وضعًا أمنيًّا بما في ذلك وصول المسلمين له في رمضان، تبدو هذه الرؤية صالحة لتفسير التباينات بين وزير الأمن القومي الإسرائيلي زعيم حزب «العظمة اليهودية» بن غفير، وبين المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ولا سيما «الشاباك».

قد تظهر رؤية بن غفير بوصفها الأكثر مناسبة للإسرائيليين، من الناحية الأمنية القائمة، وهي الحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة، مع تحفز مشاعر الفلسطينيين إزاء ذلك، وإمكان تحوّل الاجتماع في المسجد الأقصى إلى فرصة للمواجهة.

يقترح بن غفير منعًا مطلقًا لوصول فلسطينيي الضفة الغربية إلى لقدس، مع تقييد عمري لشرائح من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 48، وبينما يقترح الشاباك تقييدًا عمريًّا لسكان الضفة وسماحًا مطلقًا لفلسطينيي الـ48، فإنّ الشرطة الإسرائيلية تتخذ موقفًا وسطًا بزيادة القيود العمرية التي يقترحها الشاباك على سكان الضفة، وتخفيض القيود العمرية التي يقترحها بن غفير لأهالي الـ48، أو استهداف أشخاص معينين بالمنع دون تحديد سقف عمري للجميع. تقول الشرطة الإسرائيلية إنها قادرة على تحديد خمسة آلاف فلسطيني من الداخل المحتل، من شأنهم إثارة الأحداث في المسجد الأقصى، ومن ثمّ الاكتفاء بمنعهم دون غيرهم.

لا يعني ذلك أن بن غفير أكثر قلقًا من المؤسسة الأمنية، ولا أنّ المؤسسة الأمنية أكثر اطمئنانًا، ولكن الأمر من جهة يرجع إلى الجانب المهني، إذ تعوّل المؤسسة الأمنية باستمرار على قدرتها على احتواء أي تصعيد في الأقصى وتشديد القيود لاحقًا بحسب التطورات، ومن جهة أخرى تحاول النظر إلى مدى استراتيجي أكثر بعدًا من المخاطر الأمنية الراهنة.

بن غفير بدوره، في كلّ النقاشات، يذكّر بفشل المؤسسة الأمنية في توقع عملية «طوفان الأقصى» وبأنه لا ينبغي الاطمئنان إلى تقديراتها بخصوص فلسطينيي الـ48، إلا أنّ المؤسسة الأمنية، وتحديدًا الشاباك، تخشى من توسيع مساحة الوعي الفلسطيني والعربي والإسلامي بالحرب الجارية الآن على غزّة، إذ يقول رئيس الشاباك رونين بار إنّ هذا المنع الواسع والتقييد الكبير لوصول المسلمين للمسجد الأقصى، يعني تصوير «إسرائيل» في وضع من الحرب الدينية ضد المسلمين كلهم، في حين تسعى «إسرائيل» إلى تصويرها حربًا ضدّ حماس فحسب، ومن ثمّ فهذا المنع والتقييد يفكّك الفصل بين الساحات التي تسعى «إسرائيل» إلى تكريسه وترى أنها نجحت في ذلك، أمّا الشرطة فمقترحها تقني صرف يلاحظ العبء الذي يمكن أن يكون ملقى عليها، بينما يخشى الجيش من مفاعيل فورية لقرار المنع من شأنه أن يضطره لنقل قطاعات من قواته خارج ميدان المعركة الأساس.

تعكس النقاشات الإسرائيلية حول قيود الوصول إلى المسجد الأقصى في رمضان هذا العام أثناء الحرب على غزّة، مع تباين في الرأي داخل المؤسسة الإسرائيلية، هوسًا إسرائيليًّا برمضان غير مسبوق في تاريخ الصراع.

يطالب بن غفير بألا يزيد عدد المصلين في المسجد الأقصى عن خمسة آلاف مع تصريح مفتوح للشرطة الإسرائيلية باقتحام المسجد كلما رُفعت شعارات مؤيدة لحماس أو صور لقادتها، أمّا نتنياهو الذي يرى في أربعين إلى خمسين ألفًا رقمًا معقولًا، فإنه لا ينظر فقط إلى الموازنة بين مختلف الأطراف المؤثّرة بين متخذي القرار الإسرائيليين وحساباته إزاء ذلك، ولكنه أيضًا يفكّر في انعكاس ذلك على مستوى الدعاية السياسية الإسرائيلية في الإقليم والعالم.

يحاجج بن غفير بأنّ رفع شعارات حماس وصور قياداتها يعني أنّ المعركة ضدها فشلت، وإذا كان دخول اليهود للمسجد مقيد فينبغي تقييد دخول المسلمين، وبينما يهتم الشاباك بالصورة وبقضية السيادة فإنّه لا يتحمّس للجانب الديني الكامن في أطروحة بن غفير. فتقييد المسلمين كما هو تقييد اليهود، يعني أنّ الإجراء الأمني الإسرائيلي يرتكز فقط إلى كون المسجد الأقصى مكانًا يهوديًا بكلّيته، هنا بن غفير يرغب بالعودة منتصرًا إلى جمهوره اليميني الذي يستعجل إقامة الهيكل وينتظر نزول المسيح المخلص بعد معركة يأجوج ومأجوج، ولكنه في الوقت نفسه يسعى لتحول مفهوميّ في وضعية المسجد الأقصى، وهو ما تحدث عنه مردخاي كيدار.

كيدار في تعقيباته على نقاش فرض القيود هذا يقول إنّ الاعتبار الأمني خاطئ، ولكن وصول المسلمين للمسجد الأقصى ينبغي أن يستند إلى كونه مكانًا خاصًّا باليهود، بمعنى أنّ المسلمين سيكونون ضيوفًا على اليهود، أو بحسب تعبيره: «هذا مكاننا، مدينتنا، هذا مكان معبدنا، أنتم مدعوون للمجيء إلى هنا، فقط احذروا. من يفعل فوضى سنطرده، لماذا؟ لأنكم ضيوفنا». النقاش بالنسبة لكيدار هو في القاعدة وليس في الإجراءات، بمعنى على أي قاعدة يُسمح للمسلمين بالوصول إلى المسجد الأقصى؟ والجواب على قاعدة أنّ هذا ليس مكانًا للمسلمين، وأنّ معاملتهم الأمنية فيه ومستويات السماح لهم بوصوله منوطة باحترامهم لمضيفهم اليهودي وشروطه!

يقدّر كيدار أنّ مجرد إعلان هذه القاعدة سيدفع أعدادًا كبيرة من المسلمين للامتناع عن الوصول للمسجد الأقصى حتى لا يمنحوا هذا الادعاء اليهودي الشرعية، وبحسب كيدار فإنّ التسامح المفرط يعني أن تقتل «إسرائيل» نفسها كما تفعل أوروبا اليوم بسماحها بهحرة المسلمين إليها «الذين يجلبون مساجدهم معهم»، أمّا اليونان التي يستدل بها على صوابية رأيه، فهي تمنع المسلمين من بناء المساجد على أراضيها أصلًا.

سيتخذ نتنياهو القرار بخصوص مستويات تقييد وصول المسلمين الفلسطينيين للمسجد الأقصى في الأسبوع الأوّل من رمضان، وهو قرار قابل للتعديل بحسب التطورات الأمنية. سيكون قرار نتنياهو على الأرجح وسطًا بين مختلف تلك الآراء، لكن طبيعة هذا السجال تكشف المسار الإسرائيلي بخصوص المسجد الأقصى، وما ينبغي أن يُلاحظه العرب والمسلمون، والحالة هذه، هو عين المؤسسة الإسرائيلية الراسخة على كيفيات التعامل العربي والإسلامي مع هذه القضية، بما في ذلك ساحات الفلسطينيين المتعددة، بينما هناك أوساط إسرائيلية لا تقيم وزنًا لذلك، أو تعتقد أنّ كلّ ردّ فعل سيكون محدودًا أو قابلًا للاحتواء.

  • الهوامش
    [1] حين القول «أوّل مرّة» عن إغلاق المسجد الأقصى أمام شرائح عمرية من المقدسيين وأهالي الأراضي المحتلة عام 1948، فإنّ ذلك بالنظر لاستمرار هذا الإغلاق المُقترح الآن بهذا النحو طول شهر رمضان في حال لو أُقرّ هذا المقترح، إلا أنّ إغلاق المسجد في وجوه الفلسطينيين كلّهم أو فرض قيود عمرية على المقدسيين للوصول إليه كان يحصل في أوقات سابقة مخصوصة لاعتبارات أمنية أو مناسبات إسرائيلية.
]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b1%d9%85%d8%b6%d8%a7%d9%86-%d8%a8%d8%b9%d8%af-%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%82%d8%b5%d9%89/feed/ 0
عامان على حرب أوكرانيا: هل اقتربت النهاية؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b1%d8%a8%d8%aa-%d9%86%d9%87%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a3%d9%88%d9%83%d8%b1%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a%d8%a7/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b1%d8%a8%d8%aa-%d9%86%d9%87%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a3%d9%88%d9%83%d8%b1%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a%d8%a7/#respond Sun, 25 Feb 2024 12:36:06 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89302 (نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة Canadian Dimension بتاريخ 22 شباط)

يمكن القول إن أحدًا لم يستطع التنبؤ بدقة بتقلبات الحرب في أوكرانيا، المستمرة منذ عامين. في البداية بالغ المحللون في تقدير قوة الجيش الروسي، معتقدين أنه سيهزم أوكرانيا سريعًا. وحين تبين أن ذلك غير صحيح، أخطأ المحللون مرة أخرى بالتقليل من شأن روسيا، معتقدين أن أوكرانيا لا بد أن تنتصر.

بدأت الدائرة تدور مرة أخرى الآن، وتلقي بظلالها القاتمة على الغرب، وهو يواجه واقع أن روسيا لم تنهَرْ تحت ثقل العقوبات، كما لا يظهر الجيش الروسي أي إشارة نحو التفكك، بل إن أوكرانيا هي التي تبدو في وضع أسوأ في المعارك الأخيرة. لذلك، فالسؤال المطروح الآن هو إذا ما كان وجوم الغرب الحالي مبررًا أم أنه سوء فهم آخر للواقع.

يختلف الوضع العسكري اليوم كثيرًا عنه قبل عام، عندما كان المعلقون العسكريون يتوقعون بثقة أن النصر النهائي أصبح في متناول أوكرانيا. عُلقت الكثير من الآمال على الهجوم الذي خُطط لربيع وصيف عام 2023، والذي كان اتجاهه واضحًا على نطاق واسع؛ لدرجة أنه منح الروس الكثير من الوقت للاستعداد. كان الأوكرانيون يخططون لضرب جنوب مقاطعة زباروجيا للوصول إلى البحر الأسود وبحر أزوف، بحيث يفصلون شبه جزيرة القرم عن روسيا ويقطعون طرق إمدادها. ساد الاعتقاد بأن روسيا ستضطر حينها إلى الاعتراف بهزيمتها، بل إن النخب الروسية الساخطة قد تجرد بوتين من السلطة أيضًا في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه وسط هذه الكارثة.

بينما اعتقد بعض المحللين العسكريين أن هذا الهدف قد يكون مبالغًا فيه بالنسبة لأوكرانيا، إلا أنهم مع هذا توقعوا بأن يحقق الأوكرانيون تقدمًا ملحوظًا في بعض المناطق. ارتفع منسوب التفاؤل، واستمر ذلك حتى بعد أن واجه الهجوم -الذي رُوّج له كثيرًا- مصاعب كبرى، مباشرةً بعد انطلاقه في مطلع حزيران. تغيرت السردية بعدها، وسارع المعلقون للقول إن السيطرة على الأراضي ليست بالأمر المهم، إنما ما يهم هو تدمير جيش العدو، وأن الروس يعانون -على حد زعمهم- من إصابات تفوق إصابات الأوكرانيين (وهو ادعاء لم يقدم عليه برهان دامغ قط). وفق تلك السردية، كان حساب الاستنزاف لصالح أوكرانيا. إذ بالدعم الاقتصادي الغربي الهائل، بات محتومًا انتصار أوكرانيا على روسيا التي باتت أضعف بكثير.

أشد المحللين تفاؤلًا يتحدثون الآن عن أن أوكرانيا عليها أن تصمد في مواقعها خلال عام 2024، لتعاود الهجوم عام 2025. وحتى هذا يعتمد على زيادة الإمدادات الغربية من الأسلحة إلى أوكرانيا.

بيد أن الأمر لم يكن كذلك. فمع بداية تشرين الأول، كان الجيش الأوكراني قد تخلى عن هجومه، بعدما تقدم 10 كيلومترات على أكثر تقدير في محورين صغيرين على الجبهة. استُهلك المخزون الهائل من الذخيرة الذي تم تكديسه من أجل الهجوم، في حين كان الجيش الروسي، وهو أبعد ما يكون عن خسارة معركة الذخائر، قد أصبح أقوى من ذي قبل. بحلول منتصف تشرين الأول، بات الروس الذين أسندوا بأعداد كبيرة من المجندين الجدد، وبتصنيع عسكري متزايد، وإمدادات من الأسلحة من إيران وكوريا الشمالية، يهاجمون على طول الجبهة التي تمتد لما يقارب ألف كيلومتر. الأسبوع الماضي أثمر هجومهم أخيرًا باحتلال أحد أكثر المواقع الأوكرانية تحصينًا، وهي بلدة أفديفكا. وما يزال متوقعًا أن يحقق الروس المزيد من التقدم. 

علاوة على فشل هجوم أوكرانيا في الصيف، عزز الاستيلاء على أفديفكا أجواء الوجوم بين السياسيين الأوكرانيين والمعلقين في الغرب، واختفى الحديث عن انتصار أوكراني كليًا تقريبًا. فحتى أشد المحللين تفاؤلًا يتحدثون الآن عن أن أوكرانيا عليها أن تصمد في مواقعها خلال عام 2024، لتعاود الهجوم عام 2025. وحتى هذا يعتمد أيضًا على زيادة الإمدادات الغربية من الأسلحة إلى أوكرانيا، إضافة إلى حل الأوكرانيين أنفسهم لمشاكل أعداد القوات المسلحة. أما في الوقت الحالي، فإن تدفق السلاح قد تباطأ عن العام الماضي، بينما يجاهد الجيش الأوكراني لتجنيد عدد ملائم من السكان. نُقل عن العسكريين المسؤولين عن التجنيد إقرارهم بأنهم لم يحققوا أهداف التجنيد الإلزامي، وحتى من ينجحون في تجنيدهم هم غالبًا من كبار السن و«فاقدون للياقة البدنية، ويعانون من مشاكل صحية تحد من قدراتهم القتالية»، بحسب معلقين موالين لأوكرانيا. يجري العمل حاليًا على تمرير قانون تجنيد جديد في البرلمان الأوكراني، ولكن حتى إذا مُرِّر، سيقتضي الأمر مرور أشهر كي تصبح تأثيراته ملموسة، وليس هناك ضمانات بأنه سينجح في تمكين الدولة الأوكرانية من سحب المزيد من سكانها العازفين عن الخدمة العسكرية. يعلق المحلل العسكري الأمريكي روب لي بأن «أوكرانيا تواجه قضيتين خطيرتين الآن: نقص الذخيرة ونقص المشاة». وهذا هو تقريبًا تعريف الجيش الذي يخسر.

من الناحية الأخرى، لدى روسيا مشاكلها أيضًا. فخسائرها كبيرة، وبينما تظهر قدرتها على كسب انتصارات تكتيكية محدودة، فإنها لم تثبت بعد قدرتها على تحويل هذه الانتصارات إلى نجاحات عملياتية أوسع. وفي الوقت نفسه، تستمر باستهلاك الإمدادات بمعدل أسرع من إنتاجها، وهي عملية لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، إذ سرعان ما سينفد المخزون. وفي حين تطلق روسيا القذائف المدفعية أكثر من أوكرانيا بكثير، إلا أنها لم تعد تطلق الكم الذي أطلقته في السابق. وهذا يقود البعض للقول إن «القدرات المحلية الروسية لإنتاج الذخيرة ليست كافية في الوقت الحالي لتلبية احتياجات الصراع مع أوكرانيا».

زيادة الإنتاج العسكري الروسي تعني بأن الصناعة الروسية تفوق حاليًا الناتو بأكمله في أغلب الحقول المهمة، مثل القذائف المدفعية والدبابات والمسيّرات.

رغم ذلك، فإن الزيادات في الإنتاج العسكري الروسي تعني بأن الصناعة الروسية تفوق حاليًا الناتو بأكمله في أغلب الحقول المهمة، مثل القذائف المدفعية والدبابات والمسيّرات. وحتى الآن، ليس هناك مؤشرات على أي انخفاض مهم في قدرات روسيا القتالية. رغم أن القذائف الروسية باتت أقل فعالية إلى حد ما، إلا أنها تبقى قوية، وقد تم تعويض انخفاض فعاليتها بالاستخدام المتزايد للمسيرات و«القنابل الانزلاقية» الكبيرة التي تطلق من الجو، مثل قنابل فاب 500 و1500 كيلوغرام، التي ألقي العشرات منها يوميًا على أفديفكا خلال الأيام الأخيرة من المعركة هناك. تتفوق روسيا عسكريًا حاليًا بشكل كبير على أوكرانيا، وحتى لو ازدادت المساعدات الغربية لأوكرانيا بشكل مفاجئ، فلا يبدو أنها ستزداد إلى الحد الذي يجعلها متكافئة مع روسيا، هذا إذا نحينا جانبًا الأفضلية الكبيرة المطلوبة لتحقيق اختراق عسكري.

أضف إلى ذلك أن روسيا تتمتع بأفضلية ملحوظة في القدرات البشرية، ليس لأن تعدادها السكاني أكبر بكثير من أوكرانيا فحسب، بل أيضًا لأنها أثبتت قدرتها على تجنيد أعداد كبيرة من المتطوعين. بحسب كيريلو بودانوف، رئيس الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، تجند روسيا حوالي 30 ألف متطوع شهريًا، وهو عدد قريب من الادعاءات الرسمية الروسية التي تقارب 400 ألف متطوع سنويًا. بالمقابل، أثبتت أوكرانيا خلال العام المنصرم أنها غير قادرة على تجميع ولا حتى نصف هذا العدد من المجندين من خلال التجنيد الإجباري (أما التطوع في الجيش الأوكراني فبات شحيحًا هذه الأيام). ادعى المحللون الغربيون لزمن طويل أن إحدى أكبر أفضليات أوكرانيا على روسيا هي الرغبة الأكبر بالقتال، لكن إذا صحّ هذا يومًا ما، فإنه لا يبدو كذلك اليوم.

كل هذا يجعل احتمالات النصر الأوكراني الحاسم تبدو ضئيلة جدًا. فحتى لو استطاعت أوكرانيا استعادة المبادرة بشكل ما، يبدو مستبعدًا أن تستعيد يومًا درجة التفوق العسكري اللازم لتحقيق هدفها السياسي المعلن باستعادة حدودها لعام 1991. ليس من الحكمة القول باستحالة الأمر، إلا أنه يصعب حقيقة تخيل كيف سيتم ذلك في الوقت الحالي. وحتى لو تمكنت من ذلك، فسيستغرق الأمر سنوات طويلة جدًا، إلى حد يدفع المرء للتساؤل عمّا سيتبقى من أوكرانيا وسكانها بنهايتها.

لدى روسيا مشاكلها أيضًا. فخسائرها كبيرة، وبينما تظهر قدرتها على كسب انتصارات تكتيكية محدودة، فإنها لم تثبت بعد قدرتها على تحويل هذه الانتصارات إلى نجاحات عملياتية أوسع.

بالنظر إلى هذا الواقع، بدأ النقاش يتنقل أكثر فأكثر من كيفية مساعدة أوكرانيا على كسب الحرب إلى كيفية مساعدة أوكرانيا على إجبار روسيا على التخلي عن أهدافها السياسية المتطرفة (تحييد أوكرانيا ونزع عسكرتها) وتقّبل نتائج أكثر محدودية. قد يتطلب هذا أن تحتفظ روسيا بالأراضي التي تسيطر عليها عند وقف إطلاق النار، مع احتفاظ أوكرانيا بخيار الانضمام إلى الناتو فيما بعد. هذا هدف أكثر واقعية بالنسبة لأوكرانيا من استعادة حدودها السابقة. ولكن يجب الانتباه إلى أن هذا أيضًا سيتطلب سنوات عديدة من الصراع، من أجل إقناع القيادة الروسية بعدم قدرتها على تحقيق ما يفوق ذلك والقبول بما أنجزته من انتصارات. مرة أخرى، فإن الثمن الذي يتوجب على أوكرانيا دفعه لمثل هذه الحرب المطولّة سيكون هائلًا، ما يضطر المرء إلى التساؤل ما إذا كان الأمر يستحق ذلك.

في واقع الحال، بعد سنتين من الصراع، فإن المحصلة ما تزال غير أكيدة، رغم توضح الكثير من الأمور. تبدو فرص النصر الأوكراني الحاسم الآن ضئيلة جدًا، لكن الأقل تأكيدًا هو ما إذا كانت روسيا نفسها تستطيع تحقيق مثل هذا النصر. ليس هناك الكثير من المؤشرات على تحقيق روسيا اختراقًا مفاجئًا للخطوط الأوكرانية والعودة إلى حرب المناورات السريعة. إلا أن هنالك احتمالًا بأن يتسبب استمرار الضغط خلال الأشهر القليلة القادمة بحصول شيء ما في مكان ما يؤدي إلى انفجار على الجانب الأوكراني. إلا أن هناك احتمالية بأن يصمد الأوكرانيون بشكل ما، وأن خليطًا من الدعم الغربي المتجدد والتعبئة الناجحة للقوات المسلحة الأوكرانية، ستمكن الأوكرانيين من الحفاظ على درجة من التوازن العسكري، تؤدي إلى جمود طويل الأجل.

تحظى الأشهر القليلة القادمة بأهمية حاسمة، كونها ستحدد على الأرجح في أي مسار من هذه المسارات ستتجه الحرب. وفي انتظار ذلك، يبقى أمامنا قتال طويل ودامٍ.


بول روبنسون هو أستاذ في كلية الدراسات العليا في الشؤون العامة والعالمية في جامعة أوتاوا، وزميل متقدم في معهد السلام والدبلوماسية. ألف عددًا كبيرًا من الأعمال حول التاريخ الروسي والسوفييتي، بما فيها «المحافظة الروسية» (Russian Conservatism)، الصادر عن منشورات جامعة شمال إلينوي عام 2019.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b1%d8%a8%d8%aa-%d9%86%d9%87%d8%a7%d9%8a%d8%a9-%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a3%d9%88%d9%83%d8%b1%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a%d8%a7/feed/ 0
«الغرب نحو حتفه»: حدود الهيمنة وانحسار المعنى https://www.7iber.com/culture/%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%86%d8%ad%d9%88-%d8%ad%d8%aa%d9%81%d9%87/ https://www.7iber.com/culture/%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%86%d8%ad%d9%88-%d8%ad%d8%aa%d9%81%d9%87/#respond Sat, 24 Feb 2024 14:09:19 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=culture&p=89291 يستمد عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي، إيمانويل تود، تأثيره الفكري في العالم الفرنكفوني من كونه أحد الأهداف المفضلة لدى وسائل الإعلام السائدة وتيار التفكير المهيمن، بوصفه معاديًا للنيوليبرالية والتبعية الأوروبية لواشنطن. ولعل تحوله إلى هدف للنقد، مصدره النزعة الانشقاقية لديه، إذ يمشي طرقًا لا يمشيها الآخرون، غير مطمئنة للبداهة التي ترسخها مجموعات التفكير والإعلام القريبة من السلطة، ولاسيما من الطبقة الليبرالية الأوروبية. لذلك كان دائمًا وحده.

قبل خمسة عقود نشر تود أولى كتبه «السقوط الأخير»، ومن خلال نهج ديموغرافي أنثروبولوجي وصل إلى حتمية سقوط الاتحاد السوفياتي، قبل عقد ونصف من سقوطه الفعلي. كرست تلك النبؤة تود كواحد من المؤثرين في الساحة الفرنسية. قبل أيام نشر تود كتابه الأخير «هزيمة الغرب». 

مستندًا إلى نهج متعدد التخصصات، جمع التاريخ والأنثروبولوجيا والاقتصاد، يتوقع تود أن الغرب قد غادر قمة جبل العالم، وأخذ طريق المنحدر. ليجد الهجوم نفسه، ودون أن تغبطه حقه في القدرة على التنبؤ تصفه جريدة لوموند، صوت الصحافة السائدة، بالنبي ذو العيون المغلقة.

لكن هل نشهد اليوم حقًا هزيمة الغرب، وما طبيعة هذه الهزيمة وأسبابها؟ لا يتعلق توصيف تود للهزيمة بالجانب العسكري، مع أنه لا ينفيه تمامًا فيما يجري على الجبهة الأوكرانية، وكذلك فيما يتعلق بالقطاعات الاقتصادية المرتبطة بالصناعات الدفاعية. الهزيمة هنا فكرية، تتمثل في فقدان الغرب سلاحه الأساسي الذي سيطر من خلاله على العالم على مدى خمسة عقود. 

المُختبر الأوكراني

ينطلق الكتاب من ذيل مخطط التاريخ الذي وضعه الكاتب لسيرة هزيمة الغرب. يعتقد تود أن بذور الهزيمة ولدت في لحظة النصر، أي عند النشوة التي أصابت الغرب بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. لتظهر الهزيمة واضحةً بعد دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا عام 2022. يبدأ تود تحليله من الحرب في أوكرانيا، من خلال طرح إشكالية: لماذا استهان الغرب بالخصم الروسي، وكيف قاد الوهم زعماء الغرب، بشقيه الأوروبي والأمريكي، إلى الاقتناع بنتائج مفترضة كانت جميع الأرقام تقف ضدها. 

يعتقد تود أن الغرب قد استقر مسيطرًا حتى أصبح عاجزًا عن رؤية أي فرضية للتنوع في العالم خارج هيمنته، لذلك كان عاجزًا حتى عن قراءة الأرقام والتحليلات العلمية التي تنتجها مؤسساته. عبر منهج إحصائي يمارس الكاتب خبرته في حشد طائفة واسعة من الأرقام للبرهنة على أن الخصم الروسي كان له من الاستقرار والاستعداد ما يكفي لدفع ثمن العملية العسكرية في أوكرانيا، عكس ما اعتقدت واشنطن وبروكسل. 

يعتمد تود على «الإحصاءات الأخلاقية» لإثبات صلابة الجبهة الداخلية الروسية بين عامي 2000 و2017، وهي المرحلة المركزية لتحقيق الاستقرار في عهد فلاديمير بوتين، حيث انخفض معدل الوفيات الناجمة عن إدمان الكحول في روسيا من 25.6 لكل 100 ألف نسمة إلى 8.4 لكل 100 ألف نسمة. كما اخفض معدل الانتحار من 39.1 إلى 13.8، ومعدل القتل من 28.2 إلى 6.2. وهذا يعني، بالأرقام الأولية، أن الوفيات الناجمة عن إدمان الكحول انخفضت من 37214 وفاة سنويًا إلى 12276 وفاة، وحالات الانتحار من 56934 حالة إلى 20278 حالة، وجرائم القتل من 41090 جريمة إلى 9048 جريمة. أما معدل الوفيات السنوية بين الرضع، فقد انخفض من 19 لكل 1000 «طفل ولد حيًا» في عام 2000 إلى 4.4 في عام 2020، وهو أقل من المعدل الأمريكي البالغ 5.4 (بحسب اليونيسيف). ومع ذلك، فإن هذا المؤشر الأخير، بقدر ما يتعلق بأضعف الناس في المجتمع، له أهمية خاصة لتقييم الحالة العامة للمجتمع.

أما البيانات الاقتصادية لروسيا فتثبت الارتفاع السريع في مستوى المعيشة بين عامي 2000 و2010، وتلاه بين عامي 2010 و2020 تباطؤ ناجم عن الصعوبات الناجمة بشكل خاص عن العقوبات التي أعقبت ضم شبه جزيرة القرم. لكن الاتجاه الذي توضحه الإحصاءات الأخلاقية أكثر انتظامًا وعمقًا، ويعكس حالة من السلام الاجتماعي وإعادة اكتشاف الروس بعد كابوس التسعينيات، أن العيش المستقر أمر ممكن. 

لكن هذه العناصر الموضوعية لم تمنع العديد من المنظمات غير الحكومية، وهي في أغلب الأحيان وكالات غير مباشرة تابعة للحكومة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، من الحط من شأن روسيا بشكل مستمر في تقييماتها، وهذا شكل جزءًا أساسيًا من فخ الوهم الذي سقط فيه الغربيون. ويشير الكاتب إلى أن منظمة الشفافية الدولية، التي تصنف دول العالم الثالث حسب معدل الفساد فيها، عندما وضعت في عام 2021 الولايات المتحدة في المرتبة 27 وروسيا في المرتبة 136، وضعتنا أمام استحالة. فالدولة التي تتمتع بمعدل وفيات بين الرضع أقل من الولايات المتحدة لا يمكن أن تكون، برأيه، أكثر فسادًا منها. ذلك أن معدل وفيات الأطفال، يشكل في حد ذاته مؤشرًا أفضل للفساد الحقيقي من هذه المؤشرات المصنعة وفقًا لمعايير لا أحد يعرفها. 

أما «الإحصاءات الاقتصادية»، فتؤكد أن فرضية الاقتصاد الحقيقي التي راهنت عليها موسكو كانت أحد دروعها الأساسية في الحرب. فقد نجحت روسيا، في غضون سنوات قليلة، ليس فقط في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي، بل في أن تصبح واحدة من أكبر مصدري المنتجات الزراعية في العالم. وصلت صادرات الأغذية الزراعية الروسية إلى مستوى قياسي بلغ 30 مليار دولار، وهو رقم أعلى من عائدات صادرات الغاز الطبيعي في العام نفسه (26 مليار دولار). وهذه الديناميكية، التي كانت مدفوعة في البداية بالحبوب والبذور الزيتية، أصبحت الآن تعتمد أيضًا على صادرات اللحوم. كما سمح أداء القطاع الزراعي لروسيا بأن تصبح مصدرًا صافيًا للمنتجات الزراعية في عام 2020، وذلك لأول مرة في تاريخها الحديث: بين عامي 2013 و2020، وتضاعفت صادرات روسيا من الأغذية الزراعية ثلاث مرات، في حين انخفضت الواردات إلى النصف. أما استمرار وجود روسيا باعتبارها ثاني أكبر مصدر للتكنولوجيا النووية على مستوى العالم فهو أقل إثارة للدهشة. حيث كان لدى شركة روساتوم، الشركة الحكومية المسؤولة عن هذا القطاع، في عام 2021، 35 مفاعلًا قيد الإنشاء في الخارج (لا سيما في الصين والهند وتركيا والمجر). 

يعتقد تود أن الغرب قد استقر مسيطرًا حتى أصبح عاجزًا عن رؤية أي فرضية للتنوع في العالم خارج هيمنته، لذلك كان عاجزًا حتى عن قراءة الأرقام والتحليلات العلمية التي تنتجها مؤسساته.

ويبدو أن كل نظام من أنظمة العقوبات دفع روسيا إلى تنفيذ عمليات إعادة تحويل اقتصادية متسلسلة واستئناف استقلالها عن السوق الغربية. ولعل مثال إنتاج القمح هو الأكثر إثارة للإعجاب. في عام 2012، أنتجت روسيا 37 مليون طن من القمح، وفي عام 2022، أنتجت 80 مليون طن، أي أكثر من الضعف خلال عشر سنوات. تبدو هذه المرونة منطقية عند مقارنتها بالمرونة السلبية التي تتمتع بها الولايات المتحدة.

العامل الثاني الذي يستند إليه تود لتحليل الوهم الغربي في مقاربة الخصم الروسي هو اعتقاد قطاع واسع من النخب الغربية السياسية والفكرية، بأن تنامي الطبقات الوسطى واتساع مجال التعليم العالي، سيجعل من بقاء نظام الرئيس بوتين محل تهديد. يستند هذا الوهم الغربي إلى فكرة التطابق بين الطبقات الوسطى في الغرب والطبقة الوسطى الروسية. وعن ذلك يذهب الكاتب إلى أن هذا التطابق، نابع من رغبة الغرب في تصور العالم غير الغربي على صورته. يعتقد تود أن مثل هذا التمثيل يتجاهل ما يميز الطبقات المتوسطة الروسية عن نظيراتها الغربية. إذا كانت الطبقات الوسطى الروسية بالتأكيد أكثر ليبرالية قليلًا من بقية السكان، فهي أبعد ما تكون عن التشابه الكامل مع الطبقات الوسطى الغربية، ويرتكز الاختلاف بينهما على خلفية أنثروبولوجية فريدة، والتي تشكل أيضًا أحد العناصر التي تفسر صلابة روسيا في مواجهة الغرب، وهي قيام الطبقة الوسطى على الأسرة لا الفرد. 

كما أن ما جعل روسيا قوية، وما سمح لها بالحفاظ على سيادتها في نظام معولم، هو قدرتها العفوية على منع تطور الفردية المطلقة، فما زال في روسيا القدر الكافي من القيم المجتمعية لضمان بقاء نموذج الأمة المدمجة وعودة شكل معين من أشكال الوطنية إلى الظهور. حيث مازال النموذج العائلي المهيمن على التشكيل الاجتماعي الروسي قادرًا على إنتاج تصور روحي للدولة-الأمة، أي تصورًا للمصير الجماعي المشترك بين أفراد المجتمع. 

لا يحضر النموذج الروسي في الحرب الأوكرانية في كتاب إيمانويل تود إلا بوصفه شاهد خسارة للغرب، أي لوحةً يمكن من خلالها أن نقبض على مواطن الهزيمة مجسمةً في تفاصيل وأرقام وأوهام. لذلك كانت فصول المفتتح عن الحرب الجارية في أوروبا الشرقية مدخلًا لطرح أسباب هزيمة الغرب.

الأثافي الثلاثة 

ترتكز نظرية تود في هزيمة الغرب على ثلاثة عوامل: أولًا التراجع الصناعي الغربي، ولاسيما الأمريكي، بسبب العولمة وتخلي الغرب عن الدور التصنيعي لفائدة منطق سلاسل التوريد، لزيادة التراكم لدى الطبقة التي يسميها الكاتب بـ«الأوليغارشية الليبرالية»، التي أصبحت الطبقة المهيمنة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وكذلك بسبب عدم كفاية التدريب الهندسي، وبشكل أكثر عمومية، انحدار المستوى التعليمي منذ عام 1965 في الولايات المتحدة. حيث تحولت دول مثل الصين والهند إلى مصدر أساسي للمهندسين. مع الكشف عن الطبيعة الوهمية للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. 

أما العامل الثاني فهو العزلة الإيديولوجية للغرب، فقد كشفت الحرب في أوكرانيا عن تفضيل بقية العالم لروسيا. وقد اكتشف الغرب عجزه عن الهيمنة عندما لم ينجح في إقناع حتى حلفائه خارج العالم الغربي (تركيا، الخليج، باكستان، إلخ) في الانحياز له ضد روسيا بشكل قطعي، كما فعل خلال الحرب الباردة. يفسر تود ذلك بما يسميه الحداثة الثقافية المجنونة للغرب، والتي جعلت روسيا تبدو كقوة محافظة في العالم، تقدس العائلة وتضع اعتبارًا للدين، لذلك كان المزاج العام خارج الغرب قريبًا منها. والأكثر من ذلك، النظرة التي يحملها سكان بقية العالم عن الغرب في عصر العولمة، بوصفه كيانًا مستغلًا يعيش على العمل المتدني الأجر، الذي يقوم به الرجال والنساء والأطفال من العالم الثالث السابق، مما يجعل منظومته الأخلاقية تفتقر إلى المصداقية. 

لا يتجاهل الكاتب العوامل السياسية، كالنظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية والتدخلات العسكرية وغيرها، في تشكيل نظرة بقية العالم للغرب، ولكنه يعتبرها ثانويةً أمام الخلل الذاتي الذي يعاني منه الغرب، وهذا الخلل هو علة تلك العوامل السياسية. ويعيد تود تلك الصدمة الغربية إلى فكرة النرجسية الثقافية التي يستقيها من عالم الاجتماع الأمريكي، كريستوفر لاش، في كتابه «ثقافة النرجسية: الحياة الأمريكية في عصر التوقعات المتناقصة» (1979). تحليل الكاتب عن تفتيت المجتمعات المتقدمة، وعن الفرد المأزوم في سياقات انهيار الدين والإيديولوجيات، لا يمكن اعتباره إلا امتدادًا لعمل لاش. لكن مفهوم النرجسية وفقًا لتود له تطبيق أوسع: فهو لا يفسر الظواهر الداخلية في المجتمعات الغربية فحسب، بل يسمح لنا أيضًا أن نفهم سياستها الخارجية.

ومن اللافت في الواقع أن نلاحظ إلى أي مدى أصبح الغرب، منذ بداية هذه الأزمة، بفرعيه الأميركي والأوروبي، مقتنعًا، على عكس كل الواقع الموضوعي، بأنه لا يزال مركز العالم. متجمدًا في مكان ما بين عامي 1990 و2000، بين سقوط جدار برلين ولحظة وجيزة من القدرة المطلقة. لقد مر أكثر من ثلاثين عامًا منذ ذلك الوقت، ومن الواضح أنه بالنسبة لبقية العالم الآن، وخاصة منذ الركود العظيم في الفترة 2007-2008، لم يعد النصر الغربي مثيرًا للإعجاب. فالعولمة التي أطلق لها العنان بدأت تنفد، وغطرسة الغرب تثير السخط. لقد أصبحت النرجسية الغربية، وما يترتب على ذلك من عمى، أحد الأصول الاستراتيجية الكبرى التي تمتلكها روسيا والصين.

من اللافت إلى أي مدى أصبح الغرب، منذ بداية هذه الأزمة، بفرعيه الأميركي والأوروبي، مقتنعًا، على عكس كل الواقع الموضوعي، بأنه لا يزال مركز العالم. متجمدًا في مكان ما بين عامي 1990 و2000.

لكن العامل الثالث، الذي يطلق عليه الكاتب اسم «الصفر بروتستانتية»، هو الذي برأيي يشكل إضافة نوعيةً لهذا الكتاب. ينطلق الكاتب من نظرية ماكس فيبر حول «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية»، التي يشرح فيها تطور الرأسمالية منذ منتصف القرن الثامن عشر، من خلال تطور الروح البروتستانتية، وبشكل خاص الكالفينية. وفقًا لفيبر، كان الإصلاح البروتستانتي هو أصل أخلاقيات العمل في الرأسمالية. لذلك شهدت الرأسمالية ذروة قوتها في ظل الصعود الجيوسياسي للعالم البروتستانتي، إنجلترا والولايات المتحدة وألمانيا الموحدة والدول الاسكندنافية. لقد أنتجت البروتستانتية مستوىً تعليميًا عاليًا، لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية، ومحو الأمية الشامل، لأنها تطلبت أن يكون كل مؤمن قادرًا على قراءة الكتاب المقدس بنفسه. بالإضافة إلى ذلك، فإن الخوف من اللعنة والحاجة إلى الشعور بأن الله اختاره قد حفز أخلاقيات العمل، والأخلاق الفردية والجماعية القوية. وقد أنتج هذا التقدم التعليمي وأخلاقيات العمل تقدمًا اقتصاديًا وصناعيًا كبيرًا. يحلل تود مسار انحسار هذه البروتستانتية، وعلى نحو عكسي يؤدي الانهيار الأخير للبروتستانتية إلى انحدار فكري، واختفاء أخلاقيات العمل والجشع الجماعي ممثلًا في الليبرالية الجديدة.

يؤكد الكاتب أن عوامل عديدة حجبت لفترة طويلة اختفاء البروتستانتية (والدين بشكل عام) في الولايات المتحدة. أولًا، معدلات الممارسة أعلى مما هي عليه في أوروبا، لكن الدراسات التفصيلية أظهرت أنه تم المبالغة في تقديرها، فحتى الإحياء الديني الإنجيلي في السبعينيات، رغم أنه سمح لبعض إلهاماته بكسب الكثير من المال، جلب في المقام الأول عناصر رجعية: قراءة حرفية للكتاب المقدس، وعقلية مناهضة للعلم بشكل عام، وقبل كل شيء النرجسية المرضية. ولكي ندرك إلى أي مدى لم يكن تطور البروتستانتية الأمريكية مختلفًا كثيرًا عما حدث في أوروبا الغربية، فإن الأمر الأكيد هو متابعة تطور الخصوبة. حيث يعتبر انخفاض الخصوبة بين السكان المتعلمين هو أفضل مؤشر على تراجع التدين، فبحلول عام 1980، في نهاية الطفرة الإنجيلية، انخفض عدد المواليد في أميركا إلى 1.8. وفي الوقت نفسه، كانت إنجلترا عند 1.7 وفرنسا عند 1.9. ولا شيء هنا يشير إلى أن الدين الحقيقي قد نجا عبر المحيط الأطلسي. لكن تحليل تود للعنصر الديني لا يدل -كما يؤكد هو نفسه- على أي حنين أو رثاء أخلاقي، بقدر ما هو ملاحظة تاريخية. ويشير في الوقت نفسه إلى أن تراجع البروتستانتية أدى أيضًا إلى تراجع العنصرية ضد السود وصعود حركة الدفاع عن الأقليات العرقية والجنسية.

انحسار المعنى 

وراء انحسار البعد الديني، وتراجع القوة التصنيعية، والانفصال بين الجمهور والطبقة الأوليغارشية الحاكمة، يضع الكاتب يده على إحساس يصادفه الواحد منا -هنا في الغرب- وهو فقدان المعنى. يفترض تحليل تود أن هذا المعنى لصيق بالروح الجماعية، أي تجاوز الفرد لذاته نحو كيان أكبر، ديني أو قومي أو أممي. لكن العقيدة النيوليبرالية ونتاجها الفرداني، جعل من هذا التجاوز مستحيلًا، واضعًا الفرد في سجن الفردانية، التي تتغذى على العزلة والنرجسية والاستهلاك.

قبل الطور النيوليبرالية، وجدت الليبرالية الكلاسيكية روحها الجماعية في البعد الديني، وكذلك في الدولة القومية. هذه الدولة التي خاضت الحروب، وحولت الفرد إلى جزء من مجموعة تدافع عن وجودها وخلقت له معنى أكبر. لقد ظهر ذلك جليًا خلال النصف الأول من القرن العشرين، لاسيما في الحربين العالميتين والحرب الأهلية الإسبانية والكفاح ضد الفاشية. وهو معنى ملحمي يظهر في روايات إرنست همنغواي، مستعينًا في رواية لمن تقرع الأجراس بأحد تأملات الشاعر الإنكليزي، جون دون (ت 1631) يقول فيه: «لسنا جزرًا مستقلة بذاتها، كلنا جزء من القارة، جزء من كل. فإن جرف البحر حفنة من التراب نقصت أوروبا؛ موت أي كائن ينتقص مني، فأنا معني بالبشرية، ولذا لا تراسلني أبدً لتسألني لمن تقرع الأجراس؛ إنها تقرع من أجلك».

الأيام الصعبة التي صنعت الغرب هي سنوات الصراع، وحين اختفى الأعداء، اشتد الرخاء، منتجًا أسوأ ما في الغرب: النيوليبرالية والفردانية وفقدان المعنى. 

يدفع فقدان المعنى، الذي يحلله تود ببراعة، إلى إفراغ الخطاب الغربي التقابلي بين عالمٍ حُرّ ديمقراطي تعددي في مواجهة عالمٍ شمولي استبدادي، من معناه. هذا الخطاب الذي شكل أحد الأدوات الإيديولوجية لليبرالية خلال الحرب الباردة، وحافظ على قوته بعد ذلك، لتبرير عودة الاستعمار المباشر بعد غزو العراق، أصبح في عالم اللامعنى الغربي مجردًا من كل قوة تأثير، ذلك أن الصبغة الكونية لهذا الخطاب قد كُشف زيفها، وبدا واضحًا أن ذلك البعد الليبرالي الديمقراطي محدود التطبيق ضمن المجال الغربي حصرًا، وهو ما تؤكده الحروب الاستعمارية الجديدة القديمة في العراق وفلسطين وأفغانستان.

لكن وجهًا آخر من وجوه تحليل تود لهذه الهزيمة الغربية المعنوية، يحيل إلى الدورة الخلدونية في قيام الأمم وسقوطها. فالأيام الصعبة التي صنعت الغرب هي سنوات الصراع، وحين اختفى الأعداء، اشتد الرخاء، منتجًا أسوأ ما في الغرب: النيوليبرالية والفردانية وفقدان المعنى.  في الوقت الذي كانت فيه دول بقية العالم تعيش أيامها الصعبة، التي صنعت أجيالًا وطبقاتٍ لديها معانٍ ذات روح جماعيةٍ، صار من الصعب على الغرب هزيمتها. لكن المعضلة أن بقية العالم، ليس كتلةً واحدةً، قادرةً حتى الآن على صياغة معانٍ كونية قادرة على احتلال مكان الهيمنة الغربية، بقدر ماهي كيانات تحكمها قوانين الوحدة والصراع.

]]>
https://www.7iber.com/culture/%d9%83%d8%aa%d8%a7%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b1%d8%a8-%d9%86%d8%ad%d9%88-%d8%ad%d8%aa%d9%81%d9%87/feed/ 0
حرب من كلمات: كيف خسرنا معركة «الشعار السياسي» وكيف نستعيدها؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%ae%d8%b3%d8%b1%d9%86%d8%a7-%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%ae%d8%b3%d8%b1%d9%86%d8%a7-%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a/#respond Wed, 21 Feb 2024 09:36:10 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89278 يشكو قطاع واسع من العرب مما يسمونه «الشعاراتية». وهي شكوى لا يصدقها الواقع، ربما كانت آثار هزيمة 1967 مازالت ماثلةً في الأعماق. في أعقاب النكسة، ظهرت طبقة من المثقفين المتخصصين في «كره ذاتهم الثقافية»، وأشاعوا بين الناس عداء الشعارات السياسية، بوصفها سبب الهزيمة. والحال أن أسباب الهزيمة لم تكن في مضمون الشعارات بل في تنفيذها. لم يكن ذلك على الأرجح بدافع النية الحسنة أو مفعول الصدمة بقدر ما كان ممنهجًا. أصبحت الشعارات السياسية وقائلها، محلّ سخرية. ثم جاء عبد الله القصيمي لينتج مقولة «العرب ظاهرة صوتية»، في تلخيص بائس لأفكاره العنصرية تجاه نفسه وقومه (البؤس هنا بمعناه الفلسفي). أصبح كتاب القصيمي إنجيلًا لليبراليين العربّ، فيما يذهب البعض منهم إلى وضعه ضمن الكتب ذات المنهج العلمي في دليل على أنه لم يفتحه، فهو لا يتجاوز مجموعة مقالات قصيرة كتبت في فورةِ غضب لا تخطئها عين أي قارئ.

بقدر ما كانت الشعاراتية تخفت، كانت «السياسة الواقعية»، التي رعتها «محاور الاعتدال العربي» في صعود متواصل. وبموازاة ذلك تحولت كل الخطوط الحمراء، التي كانت شعارات الخمسينيات والستينيات بمثابة الدرع النفسي الواقي لها، مجرد ظلال باهتةٍ. «ما أخذ بالقوة» لم يعد يسترد بالقوة بل يسترد ربعه أو ثلثه بالسلام الهشّ. و«اللاءات الثلاث» أصبحت كلها نعم. أما «من النهر إلى البحر» فقد تضاءلت، حتى أصبحت مجرد جزر متفرقة من البلدات والمدن في بحر الاحتلال. وفي الوقت نفسه كان الواقع كل يوم يفند مقولة «الظاهرة صوتية»، حيث كانت السلطويات العربية تعمل بتفانٍ لوأد أي صوت. فما ينساه القصيمي أن العربي -وعلى عكس ما يذهب له- يحتاج مساحة أكبر للصراخ وإبراز صوته، وأن الشعارات مكونات أساسية في مسار تحرري ديمقراطي كان أو وطني أو قومي أو طبقي. والاحتلال الإسرائيلي كان على وعي بهذا. 

لكن الأكثر مكرًا في هذا التاريخ القصير هو أن شعاراتنا التي نحتناها لواقعنا، وكانت يمكن أن تشكل سلاحًا لحركة التحرر العربية، سرقها الاحتلال كما سرق الأرض، وهو قائم منذ سنوات على تنفيذها حذو النعل بالنعل. لذلك فإن سكب قليل من الخل في سكر الإجماع والبداهة التي تفرضها علينا الأيديولوجية السائدة حول «الشعاراتية» أصبح ضروريًا، في وقت تحتاج فيه حركة التحرر العربي شعارات مركزية أكثر من أي وقت مضى.

الشعار ليس هتافًا

ربما كان الخلط بين الهُتاف، بوصفه الجملة القصيرة ذات الإيقاع التعبوي، وبين الشعار هو ما يجعل تيار مناهضة الشعاراتية ينمو ويزدهر عربيًا. لذلك يجري الجمع دائمًا -ببراءة أو دون براءة- بين الصخب والضجيج والجعجة والعنتريات، وبين رفع الشعار السياسي القوي والواضح. 

أما الهُتاف، فعمره في الزمن قصير. يناشد العاطفة وينتج عن لغة مفرطة في التبسيط، أحيانًا يكون المتحكم فيها قافية الهتاف وموسيقاه لا مضمونه. كما يستخدم الإغفال لخلق صورة غير متوازنة للموقف؛ وهدفه الإثارة. هو بالمختصر قوة كلمة تسعى إلى تحريك الجسد، ولذلك يشيع استعماله في التدريبات العسكرية والاحتجاجات التي تحتاج صدامًا بقدر ما. على العكس تمامًا، يبدو الشعار السياسي، ممتدًا في الزمن، بدوام قضيته. يناشد العقل والعاطفة معًا. وهدفه إثارة العقل، نحو اتجاه معين. ومع هذا التقابل بينهما توجد صلات قوية، فالشعار يمكن أن يتحول إلى هتاف في حال كانت الكتلة التي ترفعه قادرةً على الحركة في المجال العام (الواقعي والافتراضي). أي أن قوة الكلمة، المصقولة بعناية العقل والمنطق، وفقًا لمقتضيات قضية ما، يمكن أن تتحول إلى كلمة سرّ للحركة. 

الشعار يقوم دائمًا، وفق تكوينين رئيسيين: إما الدحض (أي رفض مشروع ما أو ردّ على العدو) أو الاستيلاء (أي تبني فكرةٍ ما). لكن هذه الاستراتيجيات البلاغية، سلبيةً كانت أم إيجابية، تهدف في النهاية إلى تشكيل روح جماعية. وهذه الروح هي الرابط بين البرنامج السياسي المعقد والمفصل، الذي تتبناه القيادة السياسية أو الحركة التحررية، وبين الجماهير. تكمن عبقرية أي شعار سياسي مركزي أو فرعي، في مدى ترجمته البسيطة والمكثفة والبلاغية لبرنامج سياسي أو تحرري طويل ومعقد ومملّ. 

«ما أخذ بالقوة» لم يعد يسترد بالقوة بل يسترد ربعه أو ثلثه بالسلام الهشّ. و«اللاءات الثلاث» أصبحت كلها نعم. أما «من النهر إلى البحر» فقد تضاءلت، حتى أصبحت مجرد جزر متفرقة من البلدات والمدن في بحر الاحتلال.

في مستوى ثانٍ لعبت الشعارات السياسية -على الأقل في قضية فلسطين منذ نكبة 1948 وحتى نكسة 67- دور السقف أو الخط الأحمر، الذي كان لا يجرؤ أي نظام عربي أو حتى فرد على تخطيه في مسار التنازل. وكذلك الحد الأدنى بالنسبة لحركة التحرر عربيًا وفلسطينيًا. حيث لم تكن شعارات «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» و«لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني» مجرد قوالب بلاغية، بقدر ما كانت حواجز نفسية وسياسية، صيغت في قالب لغوي قصير ومكثف وبليغ، يعبر عن البرنامج السياسي والكفاحي لحركة التحرير، ويرسم معالم السياسة الخارجية للأنظمة. 

عبرت الشعارات عن واقع المرحلة السياسي والفكري في مرحلة ما بعد العدوان الثلاثي وصولًا إلى حزيران 67، حين كان الأمل معقودًا على الناصرية للنهوض بمهام التحرير. لكن الذي وقع بعد الهزيمة ليس خسارة الأرض فحسب، بل التنازل عن الشعارات السياسية المركزية، لأن الطرف العربي الرسمي المهزوم، اعتبر أن حرب 67 معركة فاصلة، وليست جولةً في صراع يحتاج طول نفس. لقد خسرنا الأرض والكلمات معًا. وهو ما انعكس سلبًا على حركة التحرر الفلسطينية، وأساسًا اليمين السائد داخلها، الذي شرع منذ السبعينيات وخيبة ما بعد عبور 73 في تعديل شعاراتها خطوةً فخطوةً، حتى وصلنا إلى أوسلو. 

كانت أوسلو، مقبرةً عميقةً، للعديد من الرموز والعلامات والشعارات والملصقات والأناشيد والأماني. بتحول حركة التحرير -أو قاطرتها على وجه الدقة- إلى سلطة محلية، أصبحنا أمام حلقة مفرغة من العمل السياسي اليومي، وليس إزاء مسار تحرر. وهنا غابت الشعارات تمامًا. بلا شعار ولا منهج، كانت سلطة أوسلو كل يوم هي في شأن. كان آخر الشعارات التي تمسك بها ياسر عرفات حتى وفاته، والتي ربما عصفت بكل مسار التسوية، هو «القدس الشرقية عاصمة لفلسطين»، ورغم أن الشعار كان ينقصه نصف مدينة عظيمة كالقدس، فلعبة الشرقية والغربية لم تكن حاضرة في الشعار الأصلي، إلا أنه حافظ على قوته التعبوية والروحية في النفوس. وقوته تلك، هي التي جعلت منه عقبة يصعبُ تجاوزها من طرف السلطة، بعد أن تجاوزت عمليًا كل الشعارات والخطوط الحُمر.

كيف خسرنا معركة «الشعارات»؟ 

لم تكن خسارتنا -كعرب- لمعركة الشعارات السياسية، بالتخلي عن شعاراتنا المركزية فحسب، على الأقل في قضية فلسطين. بل في تسليم العدو الإسرائيلي هذه الشعارات. فبينما كان الليبراليون العربّ يسخرون من هذه الشعارات كانت «إسرائيل» ترفعها وتنفذها. وفي الوقت الذي دائمًا ما تجابه دعوات تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، أو على نحو أدق «من رأس الناقورة إلى أم الرشراش»، بالسخرية والوصف باللاواقعية وبالشجب العربي أحيانًا، لا يجد البرنامج السياسي لحزب «الليكود الإسرائيلي» منذ عام 1977 حتى اليوم أي حرج في القول: «إن حق الشعب اليهودي في أرض إسرائيل هو حق أبدي وغير قابل للجدل (..) لذلك، لن يتم نقل يهودا والسامرة (الضفة الغربية) إلى أي سلطة أجنبية على الإطلاق؛ بين البحر والأردن لن يكون هناك سوى مساحة واحدة للسيادة الإسرائيلية». 

الأصول الدقيقة لهذه العبارة متنازع عليها. يذهب المؤرخ الإسرائيلي، عمير بارتوف، إلى أن التوظيف الصهيوني لهذا الشعار يسبق إنشاء الكيان الإسرائيلي عام 1948، وقد بدأ مع «الحركة الصهيونية التصحيحية» بقيادة فلاديمير جابوتنسكي، التي كانت شهيتها مفتوحةً نحو ما وراء النهر، ويظهر في أحد أناشيدها: «للأردن ضفتان، هذه لنا والأخرى أيضًا»، في إشارة إلى دولة يهودية تمتد حتى إلى الأردن.

شكل تنازل العرب عن شعار تحرير فلسطين، كل فلسطين، مكسبًا معنويًا للاحتلال، حيث تحولت قاعدة التفاوض إلى مساحة أقل. وبالتالي دفع هذا التنازل المعنوي، حتى وإن كانت الأرض فعلًا تحت الاحتلال، الشرعية الدولية إلى مراجعة نفسها، من منطلق أن أصحاب الشأن أنفسهم قد تنازلوا. رغم أن هذه الشرعية قد أقرت عشية النكبة قرارًا لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، على نحو يكاد يكون متساويًا، رغم بعض الأفضلية لليهود. إلا أنها منذ شروع العرب في مسار التسوية، أصبح التنازل يدور حول حدود ما بعد 1967، ثم أصبح في أوسلو أقل من ذلك بكثير. 

لكن الأشد خطورةً من ذلك، هو تحويل الشعار المركزي لتحرير فلسطين إلى برهان جريمة معاداة السامية في العالم الغربي. حيث أصبح كل ناطق بهذا الشعار، داعيًا إلى إبادة اليهود ومعاديًا للسامية في الميديا وحتى لدى السلطات القانونية الأوروبية والأمريكية. في أعقاب طوفان الأقصى، اقترحت وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا برافرمان، محاكمة أولئك الذين يستخدمون هذا الشعار في سياقات معينة. كما منعت شرطة فيينا مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، متذرعة بظهور عبارة «من النهر إلى البحر» على ملصق الدعوات. وقال المستشار النمساوي كارل نيهامر: «إن العبارة سيتم تفسيرها على أنها دعوة للقتل». كما فتحت الشرطة الإستونية تحقيقات جنائية ضد خمسة من المشاركين في مسيرة هتفوا «من النهر إلى البحر، فلسطين ستتحرر». وفي ولاية بافاريا الألمانية، حذر مكتب المدعي العام من أنه «سيتم اعتبار استخدامها، بغض النظر عن اللغة، بمثابة استخدام لرموز المنظمات الإرهابية. وقد يؤدي ذلك إلى عقوبة لمدة تصل إلى ثلاث سنوات سجن أو الغرامة». والحال نفسه في جمهورية التشيك وكندا.

في الوقت الذي يعاقب فيه الكونغرس الأمريكي، النائبة رشيدة طالب، لأنها رددت شعار تحرير فلسطين من «النهر إلى البحر»، رغم أن هذا الترديد لم يتجاوز تأثيره الصوت الذي بلغ مداه ما يبلغه صوت أي كائن بشري، كانت حكومة الحرب الصهيونية بصدد تنفيذه على الأرض، بالتهجير والإبادة، دون اعتراض من أي طرف دولي. وهو برهان إضافي، على أنه عندما تدخل مسار التنازل، فإنك تعطي خصومك أسلحةً ليحاربوك بها. لكن هذا الهوس الغربي الصهيوني بمحاربة هذا الشعار وكتم صوته، يكشف في الحقيقة عن قوة تأثيره، وعن أن شيوعه على الألسن وبين الحناجر سيكسر ذلك الحاجز السميك الذي شيدته «إسرائيل» بعد نكسة 67، بخفض سقف التوقع والتفاوض إلى حدود ما بعد النكسة، وبالتالي تحويل مسألة تحرير فلسطين التاريخية إلى مجرد أسطورة أو أمنية مستحيلة التحقق.

لم تكن شعارات «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر» و«لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني» مجرد قوالب بلاغية، بقدر ما كانت حواجز نفسية وسياسية ترسم معالم السياسة الخارجية للأنظمة. 

أما الشعار الثاني، الذي تخلينا عنه، أو تخلت عنه حركة التحرير الفلسطينية، وتمسكت به «إسرائيل» حتى اليوم، فعلًا لا مجرد قول يتعلق بالتكتيكي أكثر منه بالاستراتيجي، وهو شعار «وراء العدو في كل مكان». الذي صاغه الشهيد غسان كنفاني، وقام على رعايته تخطيطًا وتنفيذًا وديع حداد. ومع أن الشعار ينتمي إلى تقاليد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إلا أنه كان شعارًا أساسيًا لدى أغلب فصائل المقاومة الفلسطينية منذ بداية العمل الفدائي وإلى حدود نهاية الثمانينيات. 

كانت الفكرة تنطوي في مرحلة تاريخية ما، على توسيع مجال الصراع، ليكون كل العالم، انطلاقًا من أن «إسرائيل» ليست كيانًا معلقًا في سماء فلسطين، بل شبكة واسعة من الامتدادات، رافدها الأساسي الإمبريالية الأمريكية. وضع هذا الخيار التكتيكي، القضية الفلسطينية منذ نهاية الستينيات في قلب الاهتمام العالمي. لكن خطاب تجريم الإرهاب، الذي أيدته أطراف عربية ودولية مساندة للقضية الفلسطينية، جعل من هذا التكتيك والشعار يتراجعان بقوة، ضمن مسار أكبر من تراجع عقيدة الكفاح المسلح، كنهج للتحرير. حتى وصلنا إلى مرحلة تجرم فيها قطاعات واسعة من المقاومة الفلسطينية هذا الشعار وتكتيكاته. 

لكن في مقابل ذلك، حافظت «إسرائيل» على رفع ذلك الشعار «وراء الإرهاب الفلسطيني في كل مكان». لا بالقول فحسب ولكن بالأفعال، من خلال عمليات الاغتيال السياسي التي حصدت أرواح مئات القيادات الفلسطينية في الخارج، في الدول العربية والغربية، وحيثما عثرت عليهم. كما واصلت نهج تنفيذ عمليات إرهابية بالقصف والتفجيرات، كما حصل مؤخرًا في إيران، أو قبل ذلك في قصف مقر منظمة التحرير في تونس عام 1985 والمفاعل النووي العراقي عام 1981. دون أن توصف هذه العمليات بالإرهاب، ودون أن تجرمها الشرعية الدولية التي ترى فقط في العمليات الفلسطينية إرهابًا.

«عالم» جديد، شعارات جديدة

رغم فعاليتها واستخدامها الإلزامي عمليًا في العمل السياسي والتحرري، فإن الشعارات هي مجال لم يتم بحثه إلى حد كبير في الخطاب السياسي العربي، ولا سيما البنية المفاهيمية الكامنة وراءها، والتي يمكن أن تكون أيضًا بمثابة نقطة انطلاق لمزيد من التحقق من طابعها الذكي والجذاب والبلاغي القابل للترديد.

ولكشف سلطة الشعار تصبح مسألة قصة الأصول، أي تأليف الشعار أو أمومته، أمرًا ضروريًا. وهنا تظهر براعة الأدباء أو الشعراء المنضويين في المقاومة، القادرين على تلخيص مئات الصفحات المعقدة والمملة في شعار بسيط يتحول إلى تعويذةٍ أو تعليمات للجماهير كي تتحرك. كان غسان كنفاني واحدًا من هؤلاء، وغيره كثيرون ممن كانوا في صفوف الثورة الفلسطينية. لكن الاهتراء الذي تعرضت له حركة التحرير، جعلها مكانًا خاويًا من عباقرة الكلمات. وذلك ما سهل مشروع العدو في سرقة جميع كلماتنا.

يصف لينين الصراع الأيديولوجي بأنه صراع من أجل إعادة الاستيلاء على الكلمات التي اختطفها الخصم الطبقي، ككلمة «الحرية» مثلًا. فهو صراع لدحض التشوهات التي يلصقها الخصم الطبقي بهذه الكلمات: وبالتالي فإن ما تفهمه البرجوازية من «الديمقراطية والحرية» لا علاقة له بالديمقراطية الحقيقية والتحرر بمعناه الواسع. والحال نفسه مع الخصم القومي، فالمقاومة هي أيضًا صراع من أجل استعادة الشعارات والكلمات التي استولى عليها العدو، دون القفز على الواقع وطبيعة علاقات القوة السائدة. 

لذلك يجب على أي إرادة لصياغة شعارات المقاومة اليوم، وفي واقع ما بعد الطوفان العظيم، أن تضع شعارًا مركزيًا، يشكل السقف أو الهيكل الذي يمكن أن تضع فيه برنامجًا للتحرير. هذا الشعار المركزي، ببلاغة وتكثيف، لا بد أن يكون معبرًا عن وجهةٍ متحررةٍ من أسر الراهن، نازعًا نحو أمل ما. ولا بد أيضًا من شعارات فرعية، غير مركزية، تتميز هي الأخرى بخاصيتين قد تبدوان للوهلة الأولى متناقضتين. فمن ناحية، لا بد من تعديل هذه الشعارات لتلائم الوضع الراهن، ومن خلال التمسك بالراهن يصبح الشعار فعالًا. ولكن، في الوقت نفسه، يجب أن يكون الشعار صحيحًا أيضًا: يجب أن يقول حقيقة الوضع حتى عندما يشكل هذا الوضع تراجعًا أو لا يقنع الجماهير في البداية.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%ae%d8%b3%d8%b1%d9%86%d8%a7-%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%b9%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a/feed/ 0
جنسيات للبيع https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ac%d9%86%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%84%d9%84%d8%a8%d9%8a%d8%b9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ac%d9%86%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%84%d9%84%d8%a8%d9%8a%d8%b9/#respond Tue, 20 Feb 2024 13:53:08 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89104 «إلى السلاح أيها المواطنون» هكذا تبدأ اللازمة في النشيد الوطني المعتمد لفرنسا بموجب المؤتمر الثوري لعام 1795 «لامارسييز» (La Marseillaise). لم يعد هناك عبيد ولا رعايا ولا تابعون، بل مواطنون متساوون.

المواطن تصنيف سياسي تلاشى مع العالم القديم؛ «أنا مواطن روماني» (cives romanus sum)، غير أنه بزغ من جديد متضمنًا الحقوق المُكتسبة بموجب الثورة ورابطًا المجتمع المتخيل للدولة القومية ببعضه البعض. ومن شأن هذا التصنيف أن يعزز حقوق المواطنة مع مرور الوقت (كالحق في التعليم والصحة والعمل، إلخ) جنبًا إلى جنب مع الواجبات الموازية له (مثل واجب التجنيد الإلزامي ومهمة هيئة المحلفين وتسديد الضرائب المفروضة، وغيرها). وهنا يكمن تمايز جوهري بين هذا وحقوق الإنسان المعاصرة: أي الهدف المتمثل في منح محتوى إيجابي للمساواة الرسمية والنظرية، كما عُبر عن ذلك بمبدأ «رجل واحد، صوت واحد». 

بلغ مفهوم المواطنة -وبالتالي الدولة- ذروته في ستينيات القرن الماضي، ثم أخذ بالانحدار. غير أنه ما زال يعدّ صورةً من صور الانتماء الذي يُكتسب إمّا بالولادة «حق المواطنة بالولادة» (ius soli)، أو عن طريق النسب «حق الدم» (ius sanguinis)، أو من خلال إقامة طويلة في الدولة. إلا أن المواطنة قد «ضعفت»، حيث تضاءلت الحقوق (بزوال دولة الرفاه) وتقلصت الواجبات (بتخفيف العبء الضريبي)، لكن بقي التجنيد الإلزامي. وبانتصار النيوليبرالية تحولت المواطنة إلى سلعة، بمعنى أنها أصبحت شيئًا يباع ويشترى. حيث تشير عالمة الاجتماع الأمريكية، كريستين سوراك، في كتابها جواز السفر الذهبي، إلى أن لدينا الآن «صناعة للمواطنة» منتشرة في العالم بأسره. يحتوي كتابها على  كنز دفين من المعلومات والبيانات وروايات جاءت من مصادرها المباشرة تتناول تاريخ أول أربعين سنة لهذه الصناعة. 

لكن لمَ يحتاج المرء لشراء جنسية؟ يطمح المرء بالحصول على جنسية أخرى لأن الجنسيات ليست سواء. فحياتنا تعتمد على «يانصيب حق الولادة». تذكرنا سوراك أننا في حال ولدنا في بوروندي فإن معدل ما نأمل عيشه سيكون 57 عامًا بدخل يبلغ 300 دولار سنويًا، بينما إذا ولدنا في فنلندا فإن متوسط العمر سيكون 80 عامًا والدخل السنوي يقدر بـ42 ألف دولار. وبالتالي فإن الهجرات الكبرى التي نشهدها الآن معتمدة على التفاوت الجيوسياسي اللامحدود. وتعمل الحدود على إبقاء هذه الهوّة موجودة: فتركيا تتلقى ستة مليارات يورو من بروكسل لمنع اللاجئين السوريين والأفغان وغيرهم من الوصول إلى الاتحاد الأوروبي؛ واعتبارًا من 2023، ستتلقى تونس 1.1 مليار يورو لمنع الهجرة من جنوب الصحراء الكبرى. كما تحصل جمهورية ناورو الصغيرة (جزيرة تبلغ مساحتها 21 كليومترًا مربعًا وعدد سكانها 12600 نسمة) على نصف إجمالي إنتاجها المحلي على مدى العقد الأخير من التعامل مع طالبي اللجوء المرفوضين من أستراليا.

بلغ مفهوم المواطنة ذروته في ستينيات القرن الماضي، ثم أخذ بالانحدار، حين تضاءلت الحقوق بزوال دولة الرفاه وتقلصت الواجبات. وبانتصار النيوليبرالية تحولت المواطنة إلى سلعة تباع وتشترى.

ورغم أن الجنسيات ليست سواسية بصورة عنيفة، إلا أننا ما نزال نواجه المخيال القانوني الزاعم بأن كل الدول تتمتع بسيادة متساوية، وهي فكرة تعود لإمير دي فاتل صاحب كتاب قانون الأمم (1758)، الذي يحاجج بأنه إذا كان الرجال في حالة الطبيعة متساوين، رغم كل اختلافاتهم، بالتالي ينبغي أن ينطبق الأمر نفسه على الدول. لا تحظى جميع الدول بأي شكل من الأشكال بسيادة متساوية. فناورو لا تحظى بسيادة مساوية لتلك التي تحظى بها دولة كألمانيا، رغم أن صوتها له الثقل ذاته في الأمم المتحدة، وبمقدورها فتح سفارات في كافة أرجاء العالم، وتوفير حصانة لدبلوماسييها، وهلمّ جرا. وبهذا الصدد تقتبس سوراك قول ستيفن كراسنر، المضمن في كتابه «السيادة» (1999): «إن ما نجده في غالب الأحيان، حين يتعلق الأمر بالسيادة، هو النفاق المنظم». إن إعادة صياغة المواطنة بوصفها سلعة ليس إلا نتيجة لهذا التناقض بين المساواة الشكلية واللامساواة الحقيقية. ويؤكد ذلك ما قاله توماس همفري مارشال عام 1950، «المواطنة توفر أسس المساواة الذي يمكن تشييد بنية اللامساواة عليه». 

لذا، فإن من الطبيعي أن يفر العديد من الناس من هذه اللامساواة؛ وفي الغالب الأعم يتم ذلك عن طريق الهجرة. لكن للقلة التي بمقدورها تحمل تكاليفها، هناك مصعد عوضًا عن السُلّم لبلوغ مراتب المواطنة. عادةً ما تُشترى المواطنة من قبل الطبقات الموسرة ذات الامتيازات القادمة من دول بلا امتيازات، أي تلك الواقعة على هامش التجارة العالمية، والخاضعة لعقوبات إمبريالية، والموسومة بالاضطرابات السياسية أو الحروب أو الحكم الاستبدادي. توضح سوراك بأن سوق الجنسيات ينشأ من «التلاقي بين الدول واللامساواة بينها». ونجد أن سعر الجنسية للفرد وعائلته يترواح بين بضع مئات من الدولارات وصولًا إلى بضع ملايين. غالبًا ما يكون المشترون من أصحاب الملايين، لكن قد يكون المشتري فلسطينيًا يسعى للحصول على وضع قانوني، أو رجل أعمال إيراني متضرر من العقوبات، أو فردًا من نخبة صينية تحاول حماية نفسها من مصادرة أملاكها من قبل الدولة الحزبية، أو من الأوليغارشيين الروس الذين يسعون لإيجاد ملجأ من حكم بوتين المتقلب، ومن مخاطر الحرب حاليًا. وفي وقت ما، كان سكان هونج كونج أكبر العملاء نتيجةً لشعورهم بالقلق حيال تعديات بكين. لكن قد يكونون أيضًا مدراء ومسؤولين تنفيذيين -هنود وباكستانيين وإندونيسيين- رفيعي المستوى يعملون في دول الخليج، أو لا يحق لهم البقاء هناك قانونيًا عند تقاعدهم وليس لديهم رغبة في العودة إلى بلدهم الأم. 

ونظرًا لأن جنسية بعض الدول على وجه الخصوص تعد امتيازًا باهظًا، فإن حامليها الحاليين حريصون على حمايتها عن طريق إقامة عراقيل يستحيل تذليلها. لذا، حتى أولئك ذوو الثراء الفاحش، ليس من السهل عليهم شراء جنسية دولة تقع على قمة الهرم الجيوسياسي (رغم وجود استثناءات؛ إذ جنسّت فرنسا الملياردير إيفان شبيغل، المؤسس المشارك لسناب شات، كما فعلت نيوزيلندا الأمر نفسه مع الملياردير بيتر ثيل، مؤسس باي بال). وهناك سبيل آخر يتمثل في شراء جنسية أدنى مرتبة تخولك من الدخول والإقامة في دول ذات مرتبة عليا؛ أي أن التسلسل الهرمي للدول يتوافق مع التسلسل الهرمي للتنقل الدولي. فحملة جواز الاتحاد الأوروبي أو الجواز الياباني بإمكانهم دخول 191 دولة؛ وحملة الجواز الأمريكي يمكنهم دخول 180 دولة؛ وحملة الجواز التركي يدخلون 110 دولة. تقول سوراك إنه بينما يتوجب على المهاجرين العيش في الدولة التي يأملون الحصول على جنسيتها، فإن أولئك الذين يشترون الجنسية ليسوا بحاجة أي شيء سوى أموالهم لينالوا الإقامة هناك. 

نظرًا لأن جنسية بعض الدول تعد امتيازًا باهظًا، فإن حامليها حريصون على حمايتها عن طريق إقامة عراقيل يستحيل تذليلها. لذا حتى ذوو الثراء الفاحش ليس من السهل عليهم شراء جنسية دولة تقع على قمة الهرم الجيوسياسي.

دول الكاريبي كانت أول المُنتفعين من تجارة بيع الجنسيات: أي الدول الكاريبية الـ15 الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها مجتمعة 18.5 مليون. سانت كيتس ونيفيس حققتا سابقة في ذلك من خلال سن قانون عام 1984 يقضي بمنح الجنسية لأولئك الذين استثمروا مبلغًا مُعينًا فيها. وأصبح هذا يعرف بـ«الجنسية عن طريق الاستثمار» (CBI). لعقود كان ازدهار هذه الجزر معتمدًا على إنتاج السكر، حيث أنتجت 20% من الناتج العالمي للسكر في القرن الثامن عشر. لكن وبحلول السبعينيات دخلت هذه الدول في أزمة اقتصادية، فاقمها نمو صناعة الرحلات البحرية. ومن ثم غطى برنامج منح الجنسية عن طريق الاستثمار 35% من كامل الناتج المحلي الإجمالي. لقد حظيت هذه الدول بامتياز كونها جزءًا من الكومنويلث البريطاني، حيث يطبق القانون العام [القانون الأنجلوساكسوني]، أي حين يستند القانون إلى أحكام قضائية سابقة: فالقانون العام يعين ما يُحظر فقط، بينما يحدد القانون المدني ما هو قانوني، لذا فهو أكثر تقييدًا. ولا عجب إذًا أن تحذو دول الكومنولث الكاريبية، كأنتيغوا وغرينادا وسانت لوسيا، حذوهما، ثم جاءت دومينيكا، التي كان اقتصادها بالكامل يعتمد على إنتاج الموز، الذي كان يُصدر في المقام الأول لأوروبا حتى التسعينيات، حين سمحت لوائح منظمة التجارة العالمية لشركة «تشيكيتا» (Chiquita) برفع طعنٍ قانوني ناجح. ونظرًا لأن «حرب الموز» قد دفعت الجزيرة إلى حافة الهاوية، فقد أصبح برنامج منح الجنسية عن طريق الاستثمار ثروتها الأساسية؛ ولتواكب الميزات التي حظي بها جيرانها من دول الكومنويلث فقد عرضت الحصول على جنسيتها بأسعار أقل وقدمت مزايا أخرى (مثل تيسير تغيير الأسماء). ومنذ عام 2009، سُمح لحملة جوازات سفر سانت كيتس وأنتيغوا بحرية الوصول إلى منطقة شينغن؛ ولاحقًا عام 2015، قدمت دومينيكا وغرينادا وسانت لوسيا الامتياز ذاته لحملة جوازاتها.

إن الرغبة في الحصول على جواز سفرٍ ما تعتمد على قابلية التنقل التي يوفرها. ومن هذا المنطلق، فإن الجنسية مختلفة عن الإقامة. لدينا ما يقارب خمسين دولة (من بينها البرتغال وإسبانيا وأستراليا والولايات المتحدة) تتيح الحصول على الإقامة مقابل الاستثمار لكنها لا تمنح الجنسية. ومع ذلك، فإن إمكانية التنقل لا تعتمد على الدولة التي جنستك بقدر ما تعتمد على تلك التي تسمح لك بدخولها (فعلى سبيل المثال، فقدت سانت كيتس ميزة الدخول المجاني إلى كندا، وذلك عام 2015، وبالتالي انخفضت قيمة جواز سفرها). ولذلك، حين انتقلت صناعة الجنسية تدريجيًا من مرحلة كونها صناعة صغيرة، وطوّرت المزيد من القواعد والإجراءات، ازدادت سطوة تأثير الدول الكبرى على منح الجنسيات. حيث إن الحصول على جنسية إحدى الدول الكاريبية الصغيرة حاليًا يتطلب الحصول على موافقة الولايات المتحدة (وكذلك بشكل متزايد موافقة الدول الأوروبية).

وبالانتقال إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط، فإن البائعين الأساسيين للجنسية هما مالطا وقبرص، وذلك لأسباب مرتبطة بتاريخهما. يعود هذا في حالة مالطا إلى كون لغتها الرسمية هي اللغة الإنجليزية إضافةً إلى موقعها وعضويتها في الاتحاد الأوروبي. غير أن شروط برنامجها لمنح الجنسية عن طريق الاستثمار كانت محل خلاف محتدم بين  أحزاب المعارضة المالطية والبرلمان الأوروبي، فقد فُرض حد أقصى للتجنيس يبلغ منح 1800 جنسية؛ ومن ثم أُغلق عام 2020 وأعيد فتحه حينها بحد أقصى يصل إلى 400 جنسية سنويًا و1500 جنسية إجماليًا (وذلك نظير استثمار متواضع تبلغ قيمته 700 ألف يورو، بالإضافة لدفع 50 ألف يورو لكل فردٍ من أفراد العائلة أو للموظفين). 

أما قبرص فتتمتع أيضًا بامتياز كونها عضوًا في الاتحاد الأوروبي، لكنها كانت كذلك من ضمن دول عدم الانحياز خلال الحرب الباردة، ولديها حزب شيوعي قوي. وعند انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت قبرص ما تزال تضم عددًا كبيرًا من المتخصصين الناطقين باللغة الروسية، جزء كبير منهم كانوا من العاملين في القانون والشؤون المالية، كما كانوا ذوي صلات قوية بموسكو. لذا سرعان ما أصبحت وجهة مفضلة للروس نظرًا لقربها ومناخها حيث أشعة الشمس وإمكانية الوصول إلى أوروبا. وأعيدت تسمية عاصمتها بشكل غير رسمي وأطلق عليها «Limassolgrad» أي موسكو المشمسة، وتشير سوراك إلى أنها كانت تضم مدارس ومتاجر وأندية ومطاعم وصحفًا روسية. وبحلول الأزمة اليونانية عام 2013، فرضت دول الترويكا ضرائب كبيرة (تصل إلى 100%) على جميع  الودائع المصرفية غير المؤمنة التي تزيد عن 100 ألف يورو، وبعد عدة سنوات، أغلقت قبرص برنامج الجنسية مقابل الاستثمار، كما أدت الجائحة إلى زيادة الطلب على جوازات السفر من قبل أولئك الهاربين من الإغلاقات الصارمة في الصين وغيرها. لذا توجب على الروس البحث عن ملجأ آخر.

وجد الروس ضالتهم في تركيا كخيار استثنائي ضمن بائعي الجنسية. فعدد سكانها 80 مليون نسمة ولديها جيش قوي، كما أنها واحدة من أقوى 20 اقتصاد عالميًا. ومع ذلك فهي تفتح أبوابها مرحبةً بأكثر من نصف مشتري الجنسيات في العالم. ربما تفتقد إلى ميزة كونها عضوًا في الاتحاد الأوروبي، إلا أنها تحظى بميزات أخرى. فعلى النقيض من دول الكاريبي الصغيرة أو فانواتو، بل حتى مالطا، فإن إسطنبول تعد حاضرةً ملائمة للعيش بصورة مثالية للمغتربين الأثرياء. في بداية الأمر، كان أغلب المتقدمين من العراق وأفغانستان وفلسطين ومصر، ومن ثم انضم إليهم الأجانب المقيمون في دبي. وبحلول جائحة كوفيد والحرب في أوروبا، انضم الأوكرانيون والباكستانيون إلى الركب. أما بالنسبة للأثرياء الإيرانيين، فإن تركيا تحظى بجاذبية خاصة، لا تقتصر على كونها دولة مجاورة وكونها إحدى الدول القليلة التي يمكنهم دخولها بلا تأشيرة، بل أيضًا لأن الليرة التركية شهدت انخفاضًا حادًا في قيمتها (فقد خسرت في السنتين الأخيرتين نصف قيمتها مقابل الدولار) نظرًا لارتفاع نسبة التضخم (التي بلغت 39% لعام 2023). بالتالي فإن العقوبات الواقعة على الإيرانيين الذين يشترون عقارات في تركيا تكون أقل من غيرها في مكان آخر نظرًا لانخفاض قيمة العملة والتضخم، إذ إن متوسط ما يشترونه حاليًا يبلغ 10 آلاف وحدة سكنية سنويًا. وهذه أصول مربحة، لأن أسعار المساكن في إسطنبول ترتفع وكذلك هو الحال على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط. ويمكن الاستعانة بما قالته إحدى وكالات طلبات التجنيس، «يمكنك التفكير بتركيا كوطن وتأمين واستثمار».

وبهذه الطريقة أصبحت الجنسية مؤموَلة (Financialized)، أي تحولت إلى مُنتج شبيه بأدوات الاستثمار المهيكلة. ومع ذلك، فإننا حين نقارنها بالتدفق العالمي للمهاجرين (الذين يصل عددهم إلى 200 مليون)، فإننا نجد أن التجنيس عن طريق الاستثمار ضئيل للغاية -أي ما يقارب 50 ألف سنويًا- وهو أمرٌ كاشف عن التجنيس أكثر مما نفترض، فهو يوضح المزيد حول مدى تأثير التجنيس على الجنسية خارج بلادنا، إذ إننا نحملها على الدوام معنا ولا يمكننا الفكاك منها. وبزيارتي للهند، لطالما أدهشتني قدرة السكان المحليين على التنبؤ بجنسية السياح الأوروبيين. وأدركت أن نظام الجنسية عندنا يكون في نظرهم نظامًا طائفيًا، وأنهم متمرسون للغاية في التمييز بين الطوائف التي نشأوا فيها (فهناك ما يقارب ثلاثة آلاف طائفة، يتفرع عنها 25 ألف طائفة فرعية).

ولعل الظاهرة الأكثر غرابة من بين ما أشارت له سوراك تكمن في كون الأمريكيين يسعون للحصول على جنسية مزدوجة. العديد من هؤلاء يقيمون في دول أخرى ولا رغبة لديهم في الاستمرار بدفع الضرائب للولايات المتحدة [ويسعون للحصول على جنسية الدول التي يقيمون فيها] (فالنظام الضريبي الأمريكي يقتضي أن تسدد الضرائب بصرف النظر عن مكان إقامتك أو المكان الذي تكسب منه دخلك في العالم). بينما هناك أشخاص آخرون يسعون للحصول على جنسية ثانية تمكنهم من السفر؛ فقد أخبرتني عالمة اجتماع كبيرة تتمتع بجنسية مزدوجة بأنها تسافر دائمًا منذ 11 سبتمبر بوثائق أوروبية، وآخرون قدموا للجنسية الثانية بعد انتخاب ترامب، ومَن يدري ما القادم.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ac%d9%86%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d9%84%d9%84%d8%a8%d9%8a%d8%b9/feed/ 0
تصعيد في صفد: إلى أين تتجه المواجهة في جبهة لبنان؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d8%aa%d8%ac%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ac%d8%a8%d9%87%d8%a9-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d8%9f/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d8%aa%d8%ac%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ac%d8%a8%d9%87%d8%a9-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d8%9f/#respond Sun, 18 Feb 2024 14:56:24 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89266 بعد أكثر من 130 يومًا على عملية طوفان الأقصى واندلاع الحرب على غزة، تستمرّ المواجهة القتالية بين حزب الله و«إسرائيل» في التصاعد تدريجيًا دون الوصول لعتبة الحرب الشاملة. لكنها تشهد بين فترة وأخرى قفزات في المستوى إثر المحاولات الإسرائيلية المتكررة لخرق قواعد الاشتباك السائدة منذ الثامن من أكتوبر، كان آخرها الغارات التي استهدفت بلدتيْ النبطية والصوانة جنوب لبنان وراح ضحيتهما عشرة شهداء من المدنيين. 

كان ذلك بعد أن تعرّض مقر القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي في صفد لهجوم بعدد كبير من الصواريخ، قتلت على إثره جندية وأصيب ثمانية على الأقل، وهو الهجوم الثاني على هذه القاعدة منذ بدء الحرب. استنفر الهجوم القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية لتكرار تهديداتها بشن حرب واسعة على لبنان، في ظل استمرار أزمة تهجير ما لا يقل عن 100 ألف مستوطن من شمال فلسطين المحتلة على وقع ضربات حزب الله. ووسط كل ذلك، بقي السؤال الكبير حول احتمال تطور المواجهة في الجبهة اللبنانية حاضرًا كما كان منذ أكثر من أربعة أشهر، يتجدد مع كل ارتقاء في مستوى العمليات. 

حول هذا السؤال الكبير، وتداعيات الهجوم الأخير على صفد، واستهداف المدنيين في الجنوب، وتصاعد المواجهة في لبنان وارتباطها بالتطورات في غزة، حاورنا الكاتب والباحث اللبناني في الشؤون الإسرائيلية علي حيدر.

حبر: بعد أكثر من ألف عملية نفذها حزب الله منذ الثامن من أكتوبر، أتى الهجوم على مقر القيادة الشمالية للجيش الإسرائيلي كتصعيد جديد، من حيث قوة الهجوم وكثافة الصواريخ المستخدمة، وإن لم يكن الهجوم الأول على القاعدة. كيف تفهم هذه العملية والتصعيد المقصود منها؟

علي حيدر: أولًا، حزب الله لم يتبنَّ مسؤولية قصف قيادة المنطقة الشمالية والأهداف الأخرى، وفي الوقت نفسه لم تتبناها أي جهة أخرى، لذلك نحن مضطرون بالتحليل أن ننطلق من هذه الحقيقة. ولكن في كل الأحوال، شكلت هذه العملية ضربة نوعية، كونها استهدفت أهدافًا نوعية كقيادة المنطقة الشمالية للجيش الإسرائيلي، بمديات تصل إلى 15-16 كم، أي خارج المدى المألوف للنطاق الجغرافي لقواعد الاشتباك السائدة منذ أربعة أشهر بين المقاومة اللبنانية ودولة الاحتلال. وبطبيعة الحال، يمكن النظر لهذه العملية كجزء وامتداد للمعركة الدائرة بكل ما انطوت عليه من ديناميات تصعيد وتراجع، بغض النظر عن من يقف وراءها. ولكن بناء على القدرات النوعية الخاصة بهذا الاستهداف، يعتقد الكثيرون أن حزب الله هو من يقف وراءه، ويمكن قراءة الاستهداف كجزء من رفع مستوى الظهور على الجبهة مع كيان الاحتلال، وأيضًا في سياق الرد على الكثير من الاعتداءات والخروقات التي نفذها الجيش الإسرائيلي قبل استهداف القيادة المنطقة الشمالية. كما أنها تعبير عن إرادة سياسية من الواضح أن القيادة الإسرائيلية فهمت مغزاها، وهي أن المقاومة مستعدة إلى أن تذهب إلى أبعد الحدود على قاعدة التناسب.

في المقابل، ردت «إسرائيل» على استهداف قيادة المنطقة الشمالية بغارات على مجموعة من القرى والبلدات، الأمر الذي أدى إلى استشهاد عشرة مدنيين، وفي رده على هذه الاستهدافات التي وصفها الأمين العام لحزب الله بالخطيرة، توعد بالرد من على قاعدة «الدماء مقابل الدماء». هل نحن أمام مستوى آخر من التصعيد؟

في الواقع، ما ميز مجزرة النبطية والصوانة ليس فقط أنها تجاوز للنطاق الجغرافي لمنطقة الاشتباك العسكري المتعارف عليها منذ الثامن من أكتوبر الماضي، فقد سبق للعدو أن قام بذلك، بل أنها تعمدت استهداف المدنيين عند استهداف مقاتلي حزب الله. وبهذا، هي تحاول أن تفرض معادلة جديدة مفادها أنه أينما وجد مقاومون تريد أن تستهدفهم فإنها لن تتوانى عن ذلك حتى لو كان ذلك سيؤدي إلى استشهاد المدنيين، على خلاف القاعدة التي التزمت بها «إسرائيل» حتى الآن بشكل عام. 

هذا الارتقاء في الاستهداف له أكثر من غاية عند الإسرائيلي، منها توسيع نطاق الضغوط على حزب الله ومحاولة التأثير على خياراته في المبادرة والرد، وأيضًا الضغط على بيئة المقاومة ومحاولة تأليبها عليها. طبعًا هذا أمر خطير جدًا بالنسبة للحزب، لأنه يفاقم الخسائر البشرية ويؤدي إلى استباحة المدنيين إضافة إلى تداعيات أخرى. في مقابل هذه السياسة العملياتية الجديدة، أراد حزب الله القول للإسرائيلي إن هذا الأمر يستوجب الرد بأدوات ومستوى ونطاق معين لم يعتد عليه الجيش الإسرائيلي في هذه المواجهة حتى الآن. وهذا الرد المرتقب من حزب الله سيكون بمثابة رسالة إلى القيادة الإسرائيلية أنه إذا وسعتم الاعتداء بالمعنى الجغرافي أو بالمعنى البشري (أي الانتقال من استهداف المقاتلين إلى استهداف المقاتلين والمدنيين) أيضًا سنوسع من الرد، وإذا ارتقيتم سنرتقي، لتصبح الكرة الآن في ملعب الإسرائيلي. إن كان سيواصل هذه السياسة، عندها حزب الله سيضطر إلى رفع مستوى ردوده، وهكذا دواليك.

وكان بارزًا أنه معادلة «الدم بالدم» كانت حاضرة جدًا في الإعلام الإسرائيلي، وهناك تقارير تحدثت عن رفع حالة الاستنفار وبأن الجيش يتعامل على أساس أنه مقبل على مرحلة قتالية مختلفة. وحذر العديد من الخبراء، وخاصة من الذين كانوا يتولون مناصب أمنية سابقة، من رد حزب الله وما سيترتب عليه من تداعيات. لذلك نستطيع القول بأن هذه المعادلة وصلت إلى كل من يجب أن تصل.

إذًا، نحن أمام محطة تأسيسية للمرحلة المقبلة: هل سيعود الإسرائيلي بموجب رد حزب الله إلى الالتزام بقواعد الاشتباك التقليدية السائدة منذ أكثر 130 يومًا أم أنه سيصر على هذا الواقع الجديد، وعندها ستأخذ هذه المواجهة منعطفًا جديدًا.

في ظل كل المتغيرات الحاضرة على الجبهة اللبنانية والخروقات المتكررة من قبل «إسرائيل» وردود المقاومة عليها، أي حالة ردع يمكن الحديث عنها اليوم؟ كيف يمكن فهمها بناء على السلوك الإسرائيلي ما بعد طوفان الأقصى؟

مما يميز المواجهة والمعركة الدائرة على حدود لبنان أن منسوب الردع الاستراتيجي لحزب الله لا يزال حاضرًا بقوة، ويتمثل ذلك بالتزام العدو إلى حد كبير بقواعد الاشتباك التي فرضها الحزب منذ بداية المعركة. علينا أن نتذكر أن المعارك التي تجري منذ أكثر من 130 يومًا تجري على أراضٍ هي وفق التصنيف الإسرائيلي «أراضٍ سيادية»، أي خارج الأراضي اللبنانية المحتلة. ومع ذلك لم تجرؤ «إسرائيل»، حتى الآن، على استهداف العمق اللبناني كما كانت القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية تهدد منذ اليوم الأول من هذه المواجهة. يمكن النظر إلى حالة الردع بين حزب الله و«إسرائيل» اليوم، كحالة ردع متحركة وفقًا للمتغيرات والتطورات وقد تكون الأمور مفتوحة على مستوى أعلى من التصعيد السائد الآن. ولكن وفق المعطيات والقراءات، نستطيع أن نستبعد حتى الآن سيناريو دراماتيكي يؤدي إلى نشوب حرب شاملة قد تأخذ المنطقة إلى حرب إقليمية. والأداء الإسرائيلي حتى الآن [يوحي بذلك] رغم رفع الصوت والتهديدات. وحتى من يهددون بضرب وتدمير بيروت، مثل وزير الجيش يوآف غالانت، هو نفسه تحدث منذ أيام عن أن الأولوية لديه تركز على الدفع باتجاه محاولة التوصل إلى تسوية سياسية بعيدًا عن الدخول في الحرب. إذًا، نحن أمام حالة ردع استراتيجي لا زالت آثاره واضحة، ولكنه ردع متحرك بسقوف مختلفة تحت سقف الحرب الشاملة، يتبادل فيها الطرفان الضربات ضمن القواعد العسكرية المعمول بها بشكل عام منذ الثامن من أكتوبر الماضي.

وصل التهديد الإسرائيلي بشن حرب واسعة على لبنان وأولوية «تأمين الجبهة الشمالية» ذروته قبل أسابيع بالتزامن مع الحديث عن ما سمي المرحلة الثالثة في غزة. لكن رغم حشد ثلاث فرق إسرائيلية في الشمال واستمرار عمليات الحزب، لم ينفذ هذا التهديد بل يبدو أنه صار أبعد. ما الذي يمنع «إسرائيل» من ذلك؟

ما يمنع «إسرائيل» من تنفيذ تهديداتها بضرب العمق اللبناني رغم حشدها لثلاثة فرق والكلام عن أن «إسرائيل» الآن في مرحلة جديدة وما إلى ذلك، هو ما ستتعرض له الجبهة الداخلية الإسرائيلية بكل ما فيها من منشآت استراتيجية واقتصادية وعسكرية وسياسية، وهم يدركون ذلك جيدًا. حيث أن الجبهة الداخلية ستتعرّض لضربات قاسية من حيث الكم والنوع بشكل لا مثيل له طوال تاريخهم حتى أيام الحروب العربية الإسرائيلية السابقة، التي كانت تجري على الحدود وكان الداخل الإسرائيلي في مأمن من الضربات. حتى أن أحد كبار المسؤولين الإسرائيليين تحدث مرة وقال إن الزمن الذي كان فيه الشباب والشابات الإسرائيليون يتسامرون في شارع ديزنغوف في تل أبيب في الوقت الذي تدور فيه الحروب على الجبهات انتهى، وإنما ستكون الجبهة الداخلية ساحة الحرب الأقسى في أي حرب مقبلة. وكان هذا نتيجة لرؤية وتقدير وخيارات تبنتها المقاومة، وانعكس ذلك في بناء قدراتها من أجل إحداث قدر من التوازن في الردع مقابل ما يمتلكه العدو من قدرات كمية ونوعية هائلة على مستوى التدمير، وشاهدنا نموذجًا لها في غزة. بمعنى آخر، الإسرائيلي لا يوجد ما يكبحه من أن يكرر ما حصل في غزة في أي ساحة أخرى، إلا حين يدرك بأن الأثمان ستكون كبيرة جدًا، عندها يرتدع وفقط بسبب ذلك يرتدع.

تستمر التهديدات الإسرائيلية باجتياح رفح في ظل ما يبدو أنه طريق مسدود وصلت إليه المفاوضات المنبثقة عن اجتماع باريس، فيما لا يبدو أن أيًا من الضغوط السياسية على الكيان يترك أثرًا. في هذا الإطار، يشكك البعض بقدرة الجبهة اللبنانية على التأثير على خيارات «إسرائيل» في غزة. كيف تفهم تأثير هذه الجبهة على المسار الذي يتخذه الكيان في عدوانه على القطاع؟

عندما نريد قياس تأثير جبهة لبنان أو غيرها من الجبهات يجب أن نأخذ بالحسبان مجموعة من النقاط، أهمها أن المقاومة ليست دولة عظمى، فالمقاومة اللبنانية وإن شكلت قوة إقليمية ولكنها تبقى حركة مقاومة. ومن هنا يمكن أن نقيس تأثير جبهة لبنان عبر رؤية عناصر الانتصار للمقاومة في فلسطين والتي تتمثل في صمود أهلها، وهذا يتجلى بأقوى صوره، وصمود المقاومة العسكري والسياسي، واستمرار استنزاف العدو وإيصاله إلى مرحلة اليأس من تحقيق أهدافه. عادة، كل حركات المقاومة للاحتلال تعتمد هذه الاستراتيجية للانتصار على الأعداء. تساهم المقاومة في لبنان في تعزيز صمود المقاومة في غزة من خلال تحييد وجذب جزء من الفرق العسكرية التي تخفف عن المقاومة في غزة بنسب معينة، كما أنها تلعب دورًا مهمًا في استنزاف العدو من خلال تهجير المستوطنين من شمال فلسطين المحتلة، وتشكيل حزام أمني داخل الأراضي الإسرائيلية، وزيادة الضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. خذ مثلًا تقرير مؤسسة موديز التي خفضت فيه التصنيف الائتماني لـ«إسرائيل»، والذي يذكر الجبهة الشمالية كواحد من مجموعة عوامل ساهمت في تخفيض درجة الائتمان. 

إضافة لهذا، تسعى المقاومة اللبنانية لتيئيس «إسرائيل» من إمكانية فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة، وكانت المواقف الأخيرة للأمين العام لحزب الله واضحة في هذا الصدد حين اعتبر، ولو على شكل طرفة، أن إزاحة نهر الليطاني إلى الحدود أكثر واقعية من إرجاع المقاومة إلى شمال النهر، وبأن ضغط المقاومة سيتواصل حتى تتوصل المقاومة في غزة إلى اتفاق وقف إطلاق النار. وهذا يعني أن المقاومة في غزة عندما تريد أن تجلس إلى طاولة المفاوضات مع الوسطاء الدوليين والعرب فبأيديها مجموعة من أوراق القوة، أهمها صمود غزة وأهلها ومقاومتها، وأيضًا جبهات الإسناد من لبنان إلى اليمن.

مع تصاعد النقاش الإسرائيلي لمعضلة تهجير 100 ألف مستوطن من شمال فلسطين المحتلة، هدد الأمين العام لحزب الله بأن توسيع الحرب تعني تهجير مليونيْ مستوطن. كيف تقرأ تفاعل هذه الأزمة داخل الكيان؟ أي مخارج واقعية يتصورها الإسرائيليون لهذه المعضلة؟

المقصود من هذا التهديد أنه في حال نفذت «إسرائيل» تهديداتها في الساحة الجنوبية فإن التهجير المضاد سيشمل مليوني مستوطن وصولًا لمدينة حيفا نفسها. أي إذا تهورتم في خياراتكم من أجل أن تعيدوا 100 ألف أو 200 ألف أو أكثر أو أقل، فإنكم لن تعيدوا المائة ألف وإنما ستهجرون كل الشمال وصولًا إلى حيفا. وهذه معضلة حقيقية أمام صانع القرار الإسرائيلي، لأنه يدرك أن حزب الله يمتلك القدرة والإرادة، ومجرد إعلان أمين عام حزب الله هذا الالتزام العلني يعني أن هناك قرارًا في هذا الاتجاه. ويجب أن نلتفت إلى أن أمين عام حزب الله لا يهدد بما لا يريد أن ينفذه إذا تطلب الأمر، ولا يهدد بما لا يستطيع أن ينفذه. و«إسرائيل» وكل العالم يعلم أن حزب الله يستطيع أكثر من ذلك، فهو لديه القدرة لتهجير سكان مدينة تل أبيب، لذلك في سنوات سابقة كان الإسرائيليون يتحدثون عن إيلات كملجأ لهم، باعتبارها النقطة الأبعد عن لبنان، في حال حصول حرب شاملة مع حزب الله. وهذا يعني أنهم يقرّون بأن مسألة تهجير سكان تل أبيب أمر ممكن، فما بالك بحيفا؟ إذًا هذا جزء من المعادلة الرئيسية التي تؤثر على صانع القرار في تل أبيب، وهو مضطر رغمًا عنه أن يأخذ ذلك بالحسبان عند دراسة خياراته وإلا قد يتورط في مغامرة لا يعلم أحد أين ستذهب تداعياتها.

منذ بدء الحرب، تتواصل الوفود الآتية للبنان بطروحات لترتيبات أمنية في الجنوب لوقف القتال، من الحديث عن سحب قوات حزب الله إلى ما وراء الليطاني أو سحبها لـ10 كم شمالًا. كيف يتعاطى حزب الله مع هذه الطروحات؟ وهل يمكن أن يكون لهذه الطروحات مكان في مرحلة ما بعد الحرب؟

أولًا، مسألة تعامل حزب الله مع الوفود حسمها أمين عام حزب الله وقضى عليها عندما وصفها بأنها محاولة لترويج المطالب الإسرائيلية وليست واسطات، أي أن هذا الموضوع خارج التداول. ثانيًا، سحب حزب الله إلى ما وراء شمال الليطاني أيضًا غير ممكن. إلا إن كانوا يقصدون ألا يكون هنالك مظاهر مسلحة كما حصل في فترة ما بعد القرار 1701، فهذا أمر يبحث في وقت لاحق. لذلك، حزب الله يتعامل على أساس أن أي تفصيل يرتبط بالمرحلة التالية نقاشه ليس الآن. يبدو أن حزب الله لا يريد أن يعطي أي موقف في هذا المجال، وإن كل الأمور مؤجلة إلى ما بعد توصل إلى ترتيبات معينة في موضوع غزة، وحينها يتحدث. وقد يكون حزب الله هو الذي لديه مطالب وليس «إسرائيل». 

هناك مسألة أخرى. فهم يعانون من مشكلة يتم تداولها أحيانًا في الساحة الإسرائيلية، وهي أن هنالك قرى لبنانية على مسافة صفر من السياج، أو على بعد عشرات أو مئات الأمتار، وهذه القرى كلها مع حزب الله. ماذا يمكن أن يفعلوا مع هذه القرى؟ هل [ترتيبات المرحلة التالية] تعني أن على عناصر حزب الله أن يخرجوا منها؟ هذا حلم، ولو فُرض فسيتسبب في حرب. ثانيًا، المسألة ليست رمزية، فجزء من تواجد حزب الله في منطقة الحدود يرتبط بقوة ردعه ودفاعه وقدرته على الرد، لذلك هو ليس مسألة ثانوية، بل توازي في أهميتها القدرات الصاروخية. التواجد على الحدود هو جزء من الدفاع عن لبنان وامتلاك قوة الردع. وهذا لا يمكن لحزب الله أن يهادن فيه لأنه مرتبط بالمرحلة التالية، لأن الصراع لم ينتهِ، ونحن نعرف أننا لسنا أمام معركة نهائية، بل نحن في جولة من الجولات التي ستليها جولات أخرى. وعلى كل حال، هذا كله مرتبط بمآلات الحرب على غزة.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d8%aa%d8%ac%d9%87-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%88%d8%a7%d8%ac%d9%87%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%ac%d8%a8%d9%87%d8%a9-%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86%d8%9f/feed/ 0
هل نقول وداعًا للديمقراطية في السنغال؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d9%86%d9%82%d9%88%d9%84-%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9%d9%8b%d8%a7-%d9%84%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b7%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d8%ba%d8%a7%d9%84/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d9%86%d9%82%d9%88%d9%84-%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9%d9%8b%d8%a7-%d9%84%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b7%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d8%ba%d8%a7%d9%84/#respond Wed, 14 Feb 2024 14:36:30 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89259 مرحلة مفصلية تواجهها السنغال اليوم، إذ وبينما كانت البلاد تستعدّ لإجراء الانتخابات الرئاسية الثانية عشر في تاريخها لانتخاب الرئيس الخامس للبلاد، أعلن الرئيس إرجاء الانتخابات، في إجراء هو الأوّل من نوعه في البلد التي تمتعت حتى اليوم بسجل انتخابات ديمقراطية، ما يدفع للتساؤل حول مصير الديمقراطية في البلاد، خاصة في ظلّ ما يشهده محيطها من أزمات حكم، انعكست اضطرابات وانقلابات. 

يتميز تاريخ الرئاسة في السنغال باستقرار فريد، من عهد الرئيس الأول ليوبولد سنغور (1960-1980) وخلفه عبدو ضيوف (1981-2000)، إلى الرئيس عبد الله واد (2000-2012) الذي أجرى تعديلًا لمدة الرئاسة إلى سبع سنوات، وصولًا إلى الرئيس الحالي ماكي سال، والذي يحكم البلاد من 2012 حتى اليوم، وقد عاد بمدة الرئاسة إلى خمس سنوات. 

منذ العام 1963 تعيش السنغال تعددية سياسية، وتمثّل نموذجًا ديمقراطيًا في غرب أفريقيا، ولذا جاء القرار الرئاسي صادمًا، ويشي بنزعات سلطوية، تحديدًا إذا ما نظرنا للشكل الذي تم عبره تأجيل الانتخابات. وقد برّر الرئيس هذا التأجيل بوجود خلاف بين المجلس الدستوري والبرلمان، ودعا إلى حوار وطني شامل، رغم أن البلاد قد شهدت هذا الحوار قبيل تأجيله للانتخابات. 

الطريق إلى تأجيل الانتخابات

ينص الدستور السنغالي على منع تأجيل الانتخابات أو إلغائها، وأنّ ذلك من اختصاصات المحكمة الدستورية فحسب. وهو ما تعززه الأنظمة الصادرة عن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «الإيكواس»، التي تحظر أي تغيير في مواعيد الانتخابات خلال الأشهر الستة السابقة على موعدها المحدد. مع ذلك، تجاوز الرئيس ماكي سال هذه القيود بإصداره مرسومًا رئاسيًا يتيح له طرح فكرة تأجيل الانتخابات على الجمعية الوطنية (البرلمان). وتُوّج هذا الإجراء بتصويت البرلمان لصالح التأجيل حتى 15 كانون الأول 2024، وذلك عقب دخول الدرك لحرم البرلمان، وإخلائه من قوى المعارضة بالقوة. 

تتجلى الأسباب الكامنة وراء قرار إلغاء الانتخابات في رغبة الرئيس ماكي سال، في الحيلولة دون وصول منافسه القوي، ائتلاف عثمان سونكو المناهض لفرنسا والمرشح عن حزبه «باستيف» إلى سدة الحكم. يعد الرئيس سال حليفًا قويًا لفرنسا، وقد أظهر ذلك مرارًا، خصوصًا مع تزايد توجه بعض دول غرب أفريقيا نحو روسيا. قبل نهاية ولايته، عين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس سال في لجنة متابعة اتفاق باريس للكوكب والشعوب، الأمر الذي قوبل بالرفض من قِبل المعارضة باعتباره تدخلًا في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

اختار حزب الرئيس «أحمدو باه» للانتخابات الرئاسية، لكنه أظهر نقصًا واضحًا في الشعبية والكاريزما، ولذا اختارت كتلة الاغلبية الرئاسية «كريم واد»، ابن الرئيس السابق والثالث للجمهورية عبد الله واد، وهو الآخر حليف لفرنسا، ومدعوم من قبل نخبتها، ويرى على أنه الخليفة المثالي للرئيس الحالي. لكنه واجه تحدي الجنسية المزدوجة التي تنافي الدستور السنغالي الذي يمنع ترشح من يحملها. ولمواجهة هذا التحدي، تنازل كريم عن جنسيته الفرنسية في مرسوم صدر تاريخ 16 كانون الثاني الماضي.

في المقابل، وبعد منع سونكو من الترشح إذ وجهت له تهم الاغتصاب وإفساد الشباب ووضع في السجن، اختار تحالفه ترشيح «بشيرو ديوماي فاي» والذي أظهر تفوقًا ملحوظًا في استطلاعات الرأي مقارنةً بمرشح الحزب الحاكم.

لكن المشهد تعقّد عندما أعلن المجلس الدستوري في 20 كانون الثاني عن قائمة نهائية للمرشحين لم تشمل اسم كريم واد، بدعوى تأخر وصول ملف التنازل عن الجنسية الفرنسية. وفي ظل هذه الظروف، تقدم حزب كريم واد بدعوى ضد المجلس الدستوري، متهمين إياه بالفساد.

برّرت الحكومة الدعوة لتأجيل الانتخابات بالأزمة الحاصلة بين الجمعية الوطنية والمجلس الدستوري حول مزاعم فسادٍ لقضاة دستوريين، فأُنشِئت لجنة تحقيق برلمانية للتحقيق في صحة الترشيحات التي يفحصها المجلس الدستوري، كما ردّت قرار التأجيل للمخاوف من تأثير النزاعات الانتخابية على الاستقرار السياسي في البلاد. لذا قالت الحكومة إنه وبناء على طلب ممثلي الشعب ولتفادي قلاقل ما بعد الانتخابات، فإن تأجيل الرئيس للانتخابات عمل دستوري.

ومع تأجيل الانتخابات، يعود بإمكان كريم واد الترشح من جديد. ورغم أن واد لا ينتمي لحزب الرئيس، إلّا أنه يمكن القول إن من مصلحة الرئيس تكمن في وصول مرشح مؤيد للعلاقات مع فرنسا لسدّة الرئاسة. خاصة إذا أُخذت في الاعتبار الادعاءات القائلة بأن أعضاء حزب الرئيس لا يثقون في قدرة مرشحهم الحالي أحمدو باه على الفوز. الأمر الذي يتطلب اتخاذ تدابير ملائمة لمنع وصول كتلة سونكو إلى السلطة.

الحراك السياسي في السنغال قبل «الانقلاب الدستوري»

في ظلّ الأحداث السياسية المفاجئة التي شهدتها دول منطقة الساحل من انقلابات عسكرية كالنيجر ومالي وبوركينا فاسو، والتي غالبًا ما كانت موجّهة نحو حكومات موالية لفرنسا، يبرز الحراك السياسي في السنغال بصورة مختلفة، حيث تعود جذوره إلى ما يزيد عن خمسة عشر عامًا، مستهدفًا تحويل الواقع السياسي الذي نشأ ما بعد الاستقلال، في مسعى لتغيير ديناميكية النظام القائم الذي فرضته الأيادي الكولونيالية قبل الرحيل. 

تعدّ السنغال محورًا رئيسيًا للنفوذ الفرنسي في المنطقة، حيث كانت مركزًا لبناء البنى التحتية الاستعمارية الفرنسية، بما في ذلك مؤسسات مثل الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA). هذا الاتحاد يدير العملة الموحدة للمستعمرات الفرنسية السابقة، مترابطًا مع البنك المركزي الفرنسي. كما تُعد السنغال مركزًا ثقافيًا للغة الفرنسية، حيث تُفضل على اللغات المحلية. وفي كلّ مناسبة، يؤكد الرئيس ماكي سال على دوره كحامٍ لهذه العلاقات ولما نجم عنها من مؤسسات. 

بدأت شرارة الحراك السنغالي في كانون الثاني من العام 2011، مع ظهور حركة «يانا مار» التي تعني بالفرنسية «لقد اكتفينا»، وهي تعبير عن الرفض للفساد السياسي والاقتصادي السائد. تتخذ الحركة من العبارة «ليس هناك مصير محتوم، هناك فقط مسؤوليات مهجورة» شعارًا لها، مُعرِّفة نفسها كحركة مواطنة سنغالية شعبية، غير سياسية، تهدف لمواجهة الفساد والإدارة الفاسدة وتدهور الأوضاع الاجتماعية والخدمات، مطورةً أساليبها لتشمل التظاهرات الشعبية والمؤتمرات ذات التأثير العارم، ومعبّرة عن سخط الشباب السنغالي.

يُبرِز سخط الشباب السنغالي التباين الجيلي، حيث يتمرد جيل الشباب الذي لم يعاصر الكولونيالية، على الجيل التليد الذي تأقلم مع الاستعمار وأدواته، رافضًا أن تُولي القيادة السنغالية اهتمامها لمصالح طبقة حاكمة فقط أو لقوى أجنبية على حساب هموم المواطنين.

يعكس هذا التغيير في الديناميكية السياسية والتحول من البنية القديمة إلى الجديدة؛ جوهر الأزمة السياسية في السنغال. إذ برز نجم عثمان سونكو، النقابي السياسي الشاب، بفضل حراك «يانا مار»، إذ مثّل وقوفًا في وجه زمرة الرئيس ماكي سال، الذين تجاوزوا الستين والسبعين من عمرهم ويمثلون تراث الاستعمار الفرنسي في البلاد.

بدأ سونكو مشواره المهني عام 2001 كمفتش للمالية والضرائب، حيث أظهر بمهارة العديد من التجاوزات المالية وسوء الإدارة في القطاعات الحكومية السنغالية، وكانت خطاباته الشعبية تنبض بدعوات جادة لتعزيز الشفافية في الحكومة والإدارة ومحاربة الفساد المستشري في الاقتصاد السنغالي.

في عام 2014، أسس سونكو حزب «الوطنيون من أجل العمل والأخلاق والأخوة»، الذي يُعرف اختصارًا بـ«باستيف»، وسرعان ما نال الحزب دعمًا واسعًا من الشباب ومن بينهم حركة «يانا مار». وبحلول عام 2017، كان سونكو قد حقق إنجازًا بالغ الأهمية بفوزه بمقعد في البرلمان السنغالي، وبدأ يرسم لنفسه خطة طموحة للوصول إلى قمة هرم السلطة. في انتخابات عام 2019، تقدم سونكو كمرشح للرئاسة تحت راية ائتلاف «سونكو بريزيدانت»، واستطاع أن يحصد المركز الثالث بنسبة 15٪ من الأصوات. كانت شعارات حملته الانتخابية التي ركزت على محاربة الفساد ومواجهة اختلاس أموال الدولة، قد أثارت المخاوف في أوساط خصومه السياسيين.

في آذار 2021، اُعتقل سونكو بسبب الاتهامات السابقة بالاغتصاب وتهديد بالقتل، والتي نفاها معتبرًا إياها محاولة سياسية لإقصائه عن السباق الرئاسي في 2024، وهو ما نفته الحكومة. رغم النفي الرسمي، ارتأت جموع من المراقبين أن القضية كانت محاولة لمنع ترشحه، متوقعين أن وراءها دوافع تتعلق بتأمين ولاية ثالثة للرئيس أو دعم مرشحه.

تلا الاعتقال احتجاجات دامية استمرت أسابيع، سقط فيها قرابة مئة ضحية واعتقل ما يزيد عن ألف متظاهر. المظاهرات التي بدأت دعمًا لسونكو تحولت إلى تعبير عن عمق الأزمة الاقتصادية والسياسية بالبلاد، معتبرة التجاوزات تهديدًا للديمقراطية السنغالية مع تزايد التشكيك في الطبقة السياسية الحاكمة.

مستقبل الديمقراطية في السنغال

عليو ممادو ديا، واحد من عشرين مرشحًا تم قبولهم من قبل المجلس الدستوري قبل انهيار عملية الانتخابات، أعرب مثل آخرين عن قلقه مما سماه «انقلابًا دستوريًا»، ووصف الوضع بأنه «احتجاز البلاد كرهينة». كما عبّر مواطنون سنغاليون من مختلف الشرائح الاجتماعية عن عدم ثقتهم بالمؤسسات الرسمية بسبب تأجيل الانتخابات، مما يعكس شعورًا واسع الانتشار بالإحباط والقنوط إزاء مستقبل الديمقراطية في البلاد.

وقد شكّل 13 مرشحًا رئاسيًا تحالفًا معارضًا لتأجيل الانتخابات وقدموا طعنًا أمام المحكمة العليا بهدف إلغاء المرسوم الرئاسي الذي أبطل الدعوة للانتخابات. 

الخطة المقبلة -بحسب بيان التحالف- تتضمن التعاون مع النقابات والمجتمع المدني وعموم الشعب السنغالي، لدعوة المؤسسات المجتمعية للمشاركة في التعبئة ضد قرار الإرجاء. تُظهِر هذه الخطوات أن استراتيجية الاعتراض على قرار التأجيل ستكون عبر القنوات القانونية والمؤسساتية، بدلًا من اللجوء إلى الاحتجاجات الشعبية في الشوارع، على الأقل في الوقت الراهن.

وفي هذا السياق، قد تساعد المعارضةَ حملة الانشقاقات الجديدة التي ظهرت في ائتلاف النظام الحاكم بعد قرار التأجيل. عبرت وزيرة الدولة حواء ماري كول سيك عن خلافها مع الرئيس ماكي سال بقولها: «تستحق السنغال احترام تقويمها الجمهوري» وقدمت استقالتها، ويعيش المرشح الرئاسي نفسه خلافًا مع الرئيس نتيجة اعتراضه على التأجيل. وعلى إثر التأجيل تشهد السنغال حاليًا موجة من الاحتجاجات العنيفة التي اتسمت بدرجة عالية من العنف، أسفرت حتى الآن عن وفاة ثلاثة أشخاص ولا تزال مستمرة.

الدور الخارجي في الأزمة السنغالية

في إطار العلاقة مع الغرب ودوره في الأزمة، يمكن القول إنّ تأجيل الانتخابات السنغالية مدفوع ولو جزئيًا بدوافع استراتيجية، أبرزها حماية الاستثمارات الفرنسية في السنغال عبر الحفاظ على المؤسسة الرئاسية من وصول شخصية معارضة لفرنسا مثل عثمان سونكو للسلطة. 

في 2021، أثار اعتقال سونكو تداعيات جسيمة، إذ اعتبر أنصاره الاعتقال محاولة سياسية لإعاقة ترشحه، وأدى إلى موجة من الهجمات نفذها أنصاره ضد المؤسسات الفرنسية في السنغال، تضمنت شركة أورانج ومحطات توتال وشركة أوشان.

لا يدعو سانكو، على خلاف ما حصل في باقي دول غرب أفريقيا، إلى قطع العلاقات مع فرنسا بل إلى إعادة تقييمها بما يخدم مصالح السنغال أولًا، خاصة فيما يتعلق بالعملة الفرنسية، وهي المسألة التي تشكل مصدر إزعاج لفرنسا. 

مصدر المخاوف الأخرى يكمن في ميول سونكو السياسية نحو التقارب مع دول الساحل البعيدة عن النفوذ الفرنسي والقريبة من روسيا. تعهد سونكو بدعم مالي ضد الإرهاب وبإرسال قوات سنغالية إليها إن لزم الأمر، مما يشير إلى إمكانية تغيير في سياسة السنغال الخارجية تحت إدارته. هذا التوجه يمثّل تحديًا للمصالح الفرنسية، خاصة مع تقرب مالي من روسيا ومجموعة فاغنر، وانسحاب تلك الدول من منظمة «إيكواس» التي يرون أنها تحت هيمنة باريس.

يدعم هذه الرؤية حول احتمالات تأثر الحضور الفرنسي في حال انتخاب رئيس معارض للمسار الحالي للبلاد، التقارير التي تشير إلى زيارة برنارد إيميي رئيس الاستخبارات الفرنسية السابق، إلى السنغال، أي قبل أربعة أيام من إعلان ماكي سال تأجيل الانتخابات.

اللقاء الذي جرى في قصر روما، القصر الرئاسي السنغالي، كان تحت ستار من التكتم الشديد، حيث ناقش إيميي مع الرئيس سال قضايا حساسة، مركزًا بشكل خاص على ضرورة تأمين الاستثمارات الفرنسية بعد الانتخابات، وهو ما يعكس قلق الإليزيه. هذه الزيارة التي كشف الغطاء عنها بعد يومين من مغادرته، تُعدّ دليلًا على العلاقة المعقدة بين السنغال وفرنسا والتأثير الفرنسي القوي في السياسة السنغالية، والذي يُظهر كيف يمكن للمصالح الجيوستراتيجية الأجنبية أن تشكل التغييرات السياسية في البلاد. 

بعد تأجيل الانتخابات في السنغال، اتخذت فرنسا موقفًا يدعم إعادة تحديد موعد سريع للانتخابات، مما يتماشى مع مصالح المؤيدين للتأجيل. وهو ما يتعارض مع الموقف الأمريكي الذي وصف التأجيل بأنه غير شرعي. موقف لقي ترحيبًا واسعًا من قبل الشعب وقوى المعارضة.

وترتيبًا على ما سبق، تلوح في الأفق السياسي السنغالي الآن مجموعة من الاحتمالات المتباينة. إما أن يتحدى الرئيس كل القواعد ويتجاوز المجلس الدستوري ليفرض بالقوة اسم مرشحه ومرشح فرنسا، كريم واد، أو يستغل الاضطرابات السياسية الناشئة عن هذا المرسوم المثير للجدل للبقاء في السلطة باسم الأمن، أو حتى يبرر لنفسه ولاية ثالثة بتلاعب محكم. ورغم تأكيداته المتكررة بعدم السعي لولاية ثالثة، فإن الأمثلة لا تبعد كثيرًا، كما في حالة الحسن وتارا في ساحل العاج، حليف فرنسا الآخر، الذي اتبع نفس النهج وترشح لولاية ثالثة.

مع التشكيك في أسباب تأجيل الانتخابات، إلّا أنه من المبكر الحسم حول المسار الذي يمكن للبلاد أن تدخله، خاصة إذا ما نظرنا إلى أن تاريخ السنغال منذ 1963 يشهد على تداول السلطة بشكل سلمي، ولا يبدو أن الشعب سيسمح بتقويض الديمقراطية أو اغتيالها كليًا.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d9%86%d9%82%d9%88%d9%84-%d9%88%d8%af%d8%a7%d8%b9%d9%8b%d8%a7-%d9%84%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%82%d8%b1%d8%a7%d8%b7%d9%8a%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%86%d8%ba%d8%a7%d9%84/feed/ 0
«كأنها معجزة»: عن الولادة في زمن الحرب والنزوح https://www.7iber.com/society/%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%84%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b2%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/ https://www.7iber.com/society/%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%84%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b2%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/#respond Tue, 13 Feb 2024 11:24:01 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=society&p=89248 في اليوم السادس من الحرب، استيقظت مريم (32 عامًا) على صوت انفجار ضخم خلع باب شقتها وكسر شبابيكها. لم يعد لديها حينها خيار إلا الرحيل، مع أنها أصرت بشدة قبل ذلك أن تبقى في المنزل. رغم أن معظم جيرانها غادروا بيت لاهيا شمال قطاع غزة منذ اليوم الأول للحرب، إلا أنها رفضت المغادرة بسبب حاجتها للخصوصية أثناء حملها وهي في نهاية شهرها السادس. قضت مريم خمسة أيام مرعبة منذ بداية الحرب، ثم نزحت تدريجيًا هي وابنها (ثمانية أعوام) وابنتها (ستة أعوام) إلى حي أبعد في بيت لاهيا، ثم إلى خارج بيت لاهيا. أما زوجها فقد بقي في المنطقة متطوعًا كممرض في المستشفى الأندونيسي بنظام 24 ساعة دون راتب.

مع اشتداد القصف في الشمال، اضطرت مريم إلى اللجوء مع أهل زوجها دون علمه –بسبب قطع شبكة الاتصالات– إلى مركز إيواء في خانيونس. «أول ما نزلنا دورت كتير على حمام. أكثر شيء بحتاجه، لقيت وضع الحمامات يرثى له ما قدرت أفوتها». كان عليها أن تقطع مسافةً طويلة للحمامات وأن تقف في صف طويل، وأن تنتظر أحيانًا أكثر من ساعة. وعندما يحين دورها تكون المياه مقطوعة في كثير من الأوقات.

قبل الحرب، عانت مريم من حمل قاسٍ، حتى إن طبيبها صنّف حالتها ضمن حالات الحمل الخطرة، لأنها تعاني من انخفاض ضغط الدم ونقص الفيتامينات، وكانت تعتمد على العلاج لتستطيع تمضية أيام الحمل. وعندما نزحت لم يكن بحوزتها أي ملابس أو أغطية، حالها حال الكثير من النازحين، ما زاد وضعها الصحي سوءًا حتى تضاعفت أعراض الحمل وأصيبتْ بنزيف وألم وعدم قدرة على المشي. ولهذا عادت إلى بيت خالتها في غزة عندما كانت العودة متاحة، رغم القصف والدمار الشديد هناك، لتشعر ببعض الراحة من معاناة مراكز الإيواء «كل شوي أحكي لخواتي كلها موتة». لم تكن مريم تستطيع توفير الطعام بسهولة في غزة «لدرجة طعميت أولادي الخبز المعفن لإنه ما كنا نلاقي الخبز».

بداية تشرين الثاني زاد القصف في المنطقة، حتى إنها شاهدت الجثث في الشارع دون وصول الإسعاف أو الدفاع المدني إليها، فقررت أن تنجو بأطفالها بالعودة للجنوب. دفعتْ أجرة باهظة للحصول على سيارة توصلها إلى الحاجز الذي تمركز فيه جيش الاحتلال، والذي يُمنع المرور من خلاله إلا مشيًا. كانت حالتها الصحية سيئة للغاية وقدرتها على المشي ضعيفة. «مرينا عالحاجز وكأنه الدقيقة ستين ألف عام من كتر الرعب والخوف»، شاهدتْ مريم جثث أطفالٍ وشبابٍ وحيواناتٍ على الحاجز، وكانت الطائرات تحوم من فوقهم والدبابات من حولهم ما دبّ الرعب في قلوب أطفالها. كان الناس بالمئات «لدرجة الأم ما تقدر تلحق ابنها لو بعد عنها. كثير عائلات بعد ما تعدينا الحاجز صاروا بس يدورا عولادهم». قطعوا الحاجز في ساعتين رغم أن المسافة قصيرة جدًا. يصعب على مريم أن تنسى خوفها عند الحاجز «أكتر إشي كنت أخاف منه أموت وأترك أولادي لحالهم».

«خلصنا الحاجز وطلعنا من الموت. عيطنا كتير إنه طلعنا عايشين»، أكملت مريم وأطفالها الطريق باستخدام عربات الحمير والأحصنة وبأسعار مرتفعة. حتى ركبوا شاحنة بأعداد هائلة أوصلتهم إلى نقطة استقلت منها سيارة عائدة إلى مراكز الإيواء التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ولبعض المنظمات الدولية الأخرى. صار هناك نظامٌ جديدٌ يمكّن الحالات الحرجة من استخدام حمامات الإدارة «بس لازم توقفي تترجي الأمن، وأوقات يفوتوني وأوقات أضطر أمشي المشوار الطويل وأوقف ع الدور». 

في أحد الأيام أغرق المطر الخيم التي يسكنونها. «قضينا الليل وإحنا ندير بالنا عصغارنا وننقلهم من خيمة لخيمة» منهم من أصابته الحمى والاسهال والاستفراغ. تذكرُ أنها اضطرت في اليوم نفسه للذهاب إلى حمامات الإدارة، حاولتْ كثيرًا أن تقنع موظف الأمن بالسماح لها بالدخول، إلا أنه رفض تمامًا «يومها انقهرت من كل قلبي وتحسبنت عليه (..) ورحت ع الحمام أنتظر دور وأنا بعيط». بعد يوم وبوساطة ما، استطاعت مريم أن تستبدل مركز الإيواء بآخر أفضل حالًا في مبنى جامعة الأقصى بخانيونس. خلال شهر ونصف فقدت مريم الاتصال بزوجها لأيام وليالٍ. وعندما كانت تسمع أخبارًا عن استهداف المستشفى الذي يعمل به كانت تترقب أي خبر لتعلم أنه بخير. استطاع زوجها أن يخرج من المستشفى وتوجه للجنوب ووصل في منتصف تشرين الثاني. لم تكن تعرف أنه اتجه جنوبًا حتى تمكن من الوصول إلى مركز الإيواء. منذ اللحظة الأولى لوصوله بكى كثيرًا، تقول مريم، وظلّ فترةً طويلة يعاني من الصدمة «ما يحكي أو ياكل أو يتعامل بشكل طبيعي لحتى أخذ على وضع النزوح والمسؤوليات الجديدة» في حرب موازية كما تصفها مريم من أجل البحث عن المأكل والمشرب والنار.

في القطاع بأكمله تعاني نحو 50 ألف سيدة حامل من سوء التغذية والمضاعفات الصحية، وخاصة ذوات الحمل الخطر، نتيجة عدم توفر مياه الشرب والنظافة والطعام والرعاية الصحية في مراكز الإيواء. وتشير التقديرات إلى نحو 180 ولادة يوميًا في ظروف قاسية أثناء الحرب، وأن 15% من النساء الحوامل سيتعرضن لمضاعفات الولادة، أي أن أكثر من 25 امرأة يوميًا تتعرض حياتهن لخطر كبير عند رعاية التوليد وحديثي الولادة في حالات الطوارئ. تقول آمال عوض الله، المديرة التنفيذية للجمعية الفلسطينية لتنظيم وحماية الأسرة، لحبر إن غالبية النساء نزحن من منازلهن على الأقل مرة واحدة، ونسبة كبيرة منهن قد نزحن عدّة مرّات من مكان إلى آخر، خوفًا على حياتهن خلال فترة تزيد عن مائة يوم. وأثناء نزوحهن تحمل النساء الحوامل أوزانا ثقيلة بقدر ما يستطعن ويضطررن إلى المشي أو الركض لمسافات طويلة بحثًا عن مكان «آمن» للإقامة.

في غزة، تعاني نحو 50 ألف سيدة حامل من سوء التغذية والمضاعفات الصحية، وخاصة ذوات الحمل الخطر، نتيجة عدم توفر مياه الشرب والنظافة والطعام والرعاية الصحية في مراكز الإيواء.

وتشير عوض الله، إلى قلق العاملين في الصحة من المضاعفات المتوقعة على النساء اللواتي يعانين من فقر الدم ونقص الفيتامينات. وتوضح أن معدل الإجهاض بين النساء الحوامل في غزة ارتفع خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب بنسبة 300%. مع عدم توفر المياه والطعام في غزة لأكثر من ثلاثة أشهر لغاية اللحظة، أصبحت مشكلة الحصول على التغذية الكافية قلقًا حقيقيًا للنساء الحوامل، وأعلنت اليونيسف في دراسة استقصائية أن التنوع الغذائي للنساء الحوامل والمرضعات بدا متدنيًا منذ الشهر الأول للحرب، حيث أن 25% منهن يستهلكن مجموعة غذائية واحدة فقط في اليوم، ونحو 65% يستهلكن مجموعتين فقط. رغم أن النساء الحوامل والمرضعات لديهن احتياج أعلى من الماء والسعرات الحرارية.

منذ بداية كانون الأول كان الهجوم قد انتقل إلى المناطق الجنوبية، وكان وضع مريم الصحي بغاية السوء. ولأن الأضرار النفسية الناجمة عن العدوان على القطاع تؤدي إلى تبعات مباشرة على الصحة الإنجابية، زادت حالات الإجهاض الناجمة عن الإجهاد النفسي، وحالات ولادة أطفال ميتين، وحالات الولادة قبل الأوان. وخشيت مريم حصول ولادة مبكرة وهي غير مستعدّة بعد، حتى على مستوى ملابس الرضيعة، فبعد محاولات يائسة للبحث في السوق، حصلت على ملابس مستخدمة طلبتها من الناس.

تقول الصحفية الفلسطينية وفاء العاروري التي قابلت عشرات النساء الحوامل منذ بداية الحرب، إن معظمهن كنّ يعانين من نقص الملابس لهن ولأطفالهن، فقد خرجت الكثيرات من منازلهن في جو حار، ولم يكنّ قد حضّرن ملابس أطفالهنّ الرضّع لعدم توافر الموسم الشتوي في السوق بعد. بعد أن حلّ الشتاء، كانت الأسواق أيضًا فارغة من الملابس الشتوية وإن وُجدت تكون أسعارها باهظة جدًا. ولم يكن بحوزتهم في الخيم أي ملابس دافئة أو أغطية. تقول مريم إن مراكز الإيواء لا توفر أيًّا من هذه الاحتياجات. «ربنا بعلم كيف دبرنا الصغار، كل صغير بغيارين» وكل أسبوع تبدّل الأمهات ملابس أبنائها مرة، ويستحمون بمياه باردة بسبب عدم وجود الكهرباء والغاز، ونقص المياه وازدحام الحمامات. تقول مريم إنها تتألم على أطفالها وهم يصرخون من برودة مياه الاستحمام في الشتاء. وكذلك الأمر بالنسبة لها، إذ ليس لديها سوى غيارين طيلة أشهر الحرب، وفي الليل فإن أغلبهم لا يتمكنون من النوم من شدّة البرد وعدم توفر الأغطية. 

منذ بداية الحرب تتالت استهدافات مستشفيات التوليد، ما عرّض حياة السيدات في أقسام الولادة والطواقم الطبية للخطر. وأصبحت حظوظ النساء في الولادة في المستشفيات منخفضة جدًا، فأصبحن يلدن في الخيام والسيارات والمنازل، ما يمثل خطرًا عليهن وعلى أطفالهن. إحدى السيدات فقدت جنينها بعد أن أنجبته في حمام مراكز الإيواء عقب عودتها من إحدى المستشفيات القليلة المتاحة للولادة في رفح، حيث كانت غرف المستشفى ممتلئة ولم يتسع لها أثناء المخاض. 

بسبب نقص الكوادر البشرية في مستشفيات الوسط والشمال تضاءلت أعداد الولادات الطبيعية ونادرًا ما تتوافر الأدوات لإجراء عمليات قيصرية. وتوقفت بعض مستشفيات الصحة التي كانت شريانًا لعمليات الإنجاب عن استقبال حالات الولادة، وحولت حالات الولادة إلى مستشفيات خاصة، إلا أن سعتها الكلية منخفضة لتقوم بأي دور فارق نسبةً لأعداد النساء الحوامل. وأما في الشمال فهناك عيادة واحدة هي الصحابة تقدم خدمات التوليد ولكنها غير كافية.

ما يزيد الوضع سوءًا بحسب طبيب الطوارئ مراد عابد، هو فقدان خدمات المتابعة أثناء الحمل وعدم قدرة النساء التواصل مع الأطباء الذين يتابعون أحمالهن، وانعدام أغلب الأدوية التي تحتاجها النساء. تقول عوض الله إنه في حال تمكنت النساء من الوصول إلى مركز صحي أو مستشفى، يتم قبولهنّ فقط عندما تسمح الظروف بذلك نظرًا لكثرة الحالات التي تتلقاها المستشفيات. ويتم فصلهنّ في غضون ساعات قليلة بعد الولادة، نظرًا لاكتظاظ المرافق والموارد المحدودة للغاية مما ينعكس سلبًا على تقديم الخدمات الصحية الضرورية بعد الولادة.

في 28 كانون الأول اضطرت مريم لمغادرة الجامعة بسبب قطع الاتصالات وزيادة القصف. فرحلت مع أهلها وابنتها دون زوجها إلى مراكز اللجوء في رفح حتى تستطيع الوصول إلى المستشفى الميداني الإماراتي بشكل أسرع، وبقي ابنها مع والده في خانيونس. وقضت أسبوعين لاحقين في خيمة بانتظار موعد ولادتها. ولأن حملها لم يكن يسيرًا منذ البداية فقد اشتدت عليها الآلام آخر أيامها، وأصابها تصلب في منطقة الحوض وكانت تتألم مع أي حركة. 

صباح الإثنين 15 كانون الثاني، في الساعة السادسة صباحًا، استيقظتْ على خروج ماء الرحم، فعرفتْ أنه يوم الولادة. تعرف مريم مسبقًا وضع المستشفيات المكتظة، لذلك انتظرت أن يشتدّ ألم المخاض. بعد حوالي عشر ساعات وصلت حدًا لا يمكنها تحمله. فخرجت مع أختها إلى المستشفى بسيارة أحد موظفي الأونروا. وصَلَتْ وكان عليها أن تنتظر دورًا بسبب الضغط الكبير على كوادر المستشفى، ولم يكن هناك أي سرير متاح لتنتظر عليه. فحصتها الطبيبة وجُهّزت أوراق الدخول الساعة الرابعة. بعدئذٍ تلقت طلقًا صناعيًا لينتظم المخاض لديها. وانتظرت ساعة، حتى استطاع العاملون بالمستشفى توفير سرير. «عيطت كتير من كتر البرد» إذ لم تكن هناك أغطية تكفي الجميع، فبقيت دون غطاء. بدأت آلام المخاض بالانتظام عند الساعة الثامنة والنصف، لم تعد تستطيع التحمل أكثر. «وقتها بس حسيت روحي حتطلع مني وما قدرت أتنفس»، فحصها طبيب آخر وأخبرها أنها تحتاج وقتًا طويلًا لتلد. من شدّة صراخها نقلها الممرضون إلى سرير الولادة، وما إن وصلت حتى شعرت بخروج رأس الجنين. «وفعلًا إجت القابلة ونزلت رزان، وكأنها معجزة إنه ولدت والحمد لله».

كان الوضع الصحي لمريم وطفلتها جيدًا، إلا أنها بقيت دون أغطية فأصابتها الحمى، وبكتْ من شدّة البرد حتى حصلت على مسكنٍ لخفض الحرارة. ولم تستطع أن تحظى بملابس أخرى، فهو غيار ترتديه وآخر جلبته معها لما بعد الولادة. ارتدت ملابسها النظيفة ولكنها اتسخت بفعل النزيف الذي أصابها بعد الولادة. وبقيت بنفس الملابس لليوم التالي حتى جفّت ملابسها الأخرى. كان عليها أن تغادر المستشفى في نفس اليوم، فوجدت والدتها سيارة أجرة تعود بهن إلى مركز الإيواء في منتصف الليل. عندما وصلوا، مُنعت السيارة من الدخول إلى مركز الإيواء. وكان على مريم التي خرجت للتو من ولادتها أن تقطع مسافة طويلة للوصول إلى خيمتها مع البرد الشديد، و«من ستر ربنا أول ما فتت لقيت شب مُقعد، نزل عن كرسيه المتحرك وأعطاني اياه ووصلني شب تاني للخيمة».

تشير عوض الله إلى أن النساء الحوامل حتى لو كان لديهن الحظ الكافي للولادة بشكل آمن، يبقين عرضة في الظروف الحالية لخطر الإصابة بالتهابات خطيرة، حيث لا خيار لديهن سوى البقاء في مأوى مكتظ، دون وجود رعاية بعد الولادة أو إمدادات طبية أو مقدمي رعاية صحية لمتابعة حالاتهن. كما أن الظروف البيئية غير الصحية التي يعاني منها معظم السكان في غزة، تؤدي لانتشار الأمراض والعدوى بشكل واسع. وتوضح أن نقص المياه والطعام لا يسمح للأمهات بإنتاج الحليب لإطعام أطفالهن الرضع. حتى إن الحصول على ملابسٍ وحفاظات لأطفالهن بات أمرًا بغاية الصعوبة. إضافة إلى ذلك، مع البرد والمطر، تكون الظروف أكثر قسوة لضمان بقاء أطفالهن الرضع بصحة جيدة.

وثق مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة تراجع الحالة الغذائية والصحية لنحو 135 ألف طفل رضيع في قطاع غزة دون سن الثانية من عمرهم. كما أن هناك نحو 20 ألف طفل ولدوا في ظروف الحرب القاسية بحسب اليونيسيف.

يعد الاعتناء بطفل رضيع في هذه الظروف تحديًا كبيرًا للأمهات، تقول مريم إن أغلب طعامهم «معلبات ونواشف» ما جعل الاعتماد على الرضاعة الطبيعية غير كافٍ بالنسبة لطفلتها. وقد استطاعت أن تجد هي والأمهات الجدد حليبًا صناعيًا من نوع واحد لا تعرف مكوناته الغذائية، متوافر بالسوق ومع الباعة المتجولين بسعر متوسط، أما بالنسبة للحفاظات، فأسعارها تفوق أسعار الحليب بمراحل، ولا يمكنهن الاستغناء عنها، لذلك فقد أصبحت تنفق ما تبقى لديها هي وزوجها على هذين المنتجين الأساسيين. وتقول إن مراكز الاونروا كانت توفر هذه المنتجات بداية الحرب ولكنهم لم يعودوا يوفرونها مطلقًا. عدا عن ذلك فقد تعرّضت طفلتها الرضيعة لالتهابات جلدية حاولت مريم معالجتها بمرهم كان بحوزتها إلا أنها لم تستفد، راجعت عيادة مركز الإيواء عدّة مرات، إلا أن العلاج اللازم غير متوافر في العيادة، وما تزال الالتهابات منتشرة في كامل جسمها.

وثق مركز الميزان لحقوق الإنسان في غزة تراجع الحالة الغذائية والصحية لنحو 135 ألف طفل رضيع في قطاع غزة دون سن الثانية من عمرهم. كما أن هناك نحو 20 ألف طفل ولدوا في ظروف الحرب القاسية بحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف). تصف مريم أشد لحظاتها صعوبة مع طفلتها الرضيعة باضطرارها للاعتناء بطفلتها وتبديل ملابسها في البرد الشديد بمياه قارصة ومحاولاتها لتدفئتها بنفس الوقت «تخيلي حالك بثلاجة وبدك تغير للطفل بنص الليل». في عتمة الليل تستخدم مريم ضوء الهاتف لتبديل حفاظات ابنتها، لذلك تدفع مبلغًا شبه يومي لتشحن هاتفها بالطاقة الشمسية. 

ما تزال حالة مريم الصحية سيئة، ولا تحظى إلا بنوم قليل فالسهر إجباريّ من أجل اعتنائها بالرضيعة، ونهارًا يصعب أن تحصل على قدر من النوم بسبب ظروف المخيم والعدد الكبير الموجود في نفس خيمتها. ولأن معاناة النساء بانتظار دور لاستخدام الحمامات صعبة للغاية فقد عمدت هي والنساء الأخريات لبناء مكان يشبه الحمام قرب خيمتهن لقضاء حاجتهن كي لا يقفن في دور لمدّة ساعات. وبالنسبة للفوط الصحية التي تحتاجها النساء في فترة النفاس فقد زاد سعرها ثلاثة أضعاف، ولكنها كانت قد جلبت حاجتها قبل الولادة بفترة. الاستحمام بمياه قليلة باردة في الشتاء يمثل عقوبة مضاعفة لمريم التي أصبحت تشتهي حمامًا اعتياديًا كالسابق. «أمنيتي آخد شاور طبيعي بحمام نضيف أو ألاقي نوع شامبو كويس متل اللي كنا نستخدمه قبل». 

يسيطر التوتر والقلق وكثرة التفكير على مريم، التي يجتاحها إحساس بالعجز تجاه أطفالها. ورغم ذلك فهي تحاول قدر استطاعتها الاهتمام بنظافة أبنائها وتوفير احتياجاتهم واحتياجاتها. في كثير من الأحيان، تتمنى لو أنها لم تنجب أطفالًا ليعيشوا هذه الظروف القاسية، ولكن أكثر ما تحاول فعله هو البقاء بقربهم قدر الإمكان «عشان لو صار إشي كلنا نروح سوا وما يضلوا يواجهوا الحياة لحالهم».

]]>
https://www.7iber.com/society/%d8%b9%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%84%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%b2%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/feed/ 0
هل وصلت الصين حقًا إلى نهاية ازدهارها الاقتصادي؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%aa%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a7%d8%b2%d8%af%d9%87%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%aa%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a7%d8%b2%d8%af%d9%87%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86/#respond Sun, 11 Feb 2024 13:10:32 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89233 نشر هذا المقال في 30 كانون الثاني 2024 في مجلة Canadian Dimension.

نما الاقتصاد الأمريكي بنسبة 2.5% في عام 2023 مقارنة بعام 2022، وفقًا للتقدير الأول للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للربع الرابع من العام المنصرم، الصادر في الأسبوع الأخير من كانون الثاني. قابل الاقتصاديون الغربيون المنتمون للتيار السائد هذا الأمر بالابتهاج، معتبرين أن الولايات المتحدة تندفع للأمام، بما يثبت أن «المتنبئين بالركود» كانوا على خطأ فادح. في وقت سابق من الأسبوع ذاته، أُعلن أن الاقتصاد الصيني نما بنسبة 5.2% في عام 2023. وعلى عكس الولايات المتحدة، اعتبر الاقتصاديون الغربيون هذا النمو فشلًا ذريعًا يظهر أن الصين في ورطة عميقة (رغم زعمهم أن الصين تنشر بيانات مزيفة على أي حال). رغم أن الصين تنمو بضعف معدل الولايات المتحدة، وهي صاحبة الاقتصاد الأفضل أداءً في مجموعة السبع بفارق كبير، ولكن الصين هي التي «تفشل» في حين أن الولايات المتحدة «تزدهر».

يواصل الاقتصاديون الغربيون الزعم بأن الاقتصاد الصيني يتجه نحو الهاوية. لقد فنّدت هذه اللازمة المألوفة في مناسبات عديدة سابقًا، ليس لأنني أدعم ما يسمى بنظام الحزب «الشيوعي» بشكل غير نقدي، بل على العكس من ذلك. فقد رفضت هذه اللازمة لأن النقد الغربي ليس صحيحًا من الناحية الواقعية، وأيضًا لأن الهدف من هذا النقد هو الهجوم على الدور المهيمن الذي يلعبه قطاع الدولة في الصين وقدرته على الحفاظ على الاستثمار والإنتاج. يهدف هذا النقد إلى صرف الانتباه عن حقيقة أن الاقتصادات الرأسمالية الغربية (باستثناء الولايات المتحدة على ما يبدو) تتخبط في الركود وتقارب الانحدار.

فلنأخذ هذا المقال في موقع بيزنس إنسايدر كمثال لوجهة النظر الغربية تجاه الصين: «لقد استنفد النموذج الاقتصادي الصيني طاقته بالفعل، إلى حد أن الأمر بات يتطلب إعادة هيكلة مؤلمة». في الواقع، إذا نظرنا إلى معدل نمو الولايات المتحدة في الفترة من 2020 إلى 2023 وقارناه بمتوسط معدل النمو في الفترة من 2010 إلى 2019، فسنجد أن أداء الاقتصاد الأمريكي نفسه قد تراجع. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان متوسط معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي السنوي في الولايات المتحدة 2.25%، أما في عشرينيات القرن الحادي والعشرين حتى الآن، بلغ المتوسط 1.9% سنويًا.

إذا قارنا معدل نمو الصين الذي بلغ 5.2% مع بقية الاقتصادات الكبرى، فإن الفجوة أعظم حتى من نظيرتها في الولايات المتحدة. نمت اليابان بنسبة 1.5% في 2023، وفرنسا بنسبة 0.6%، وكندا بنسبة 0.4%، والمملكة المتحدة بنسبة 0.3%، وإيطاليا بنسبة 0.1%، وتراجعت ألمانيا بنسبة 0.4%. وحتى بالمقارنة مع أغلب ما يسمى بالاقتصادات الناشئة الكبيرة، فإن معدل النمو في الصين كان أعلى بكثير. يبلغ معدل النمو في البرازيل حاليا 2% على أساس سنوي، والمكسيك 3.3%، وإندونيسيا 4.9%، وتايوان 2.3%، وكوريا 1.4%. فقط الهند تتجاوز الصين بنسبة 7.6% واقتصاد الحرب في روسيا بنسبة 5.5%، وهما الأعلى (من بين الاقتصادات الكبرى).

هناك محاولة مستمرة لتشويه الإحصاءات الرسمية التي تقدمها السلطات الصينية وخاصة أرقام النمو. لقد ناقشت صحة هذا النقد في منشورات من قبل، لكن الحجة الحالية هي أن أرقام الناتج المحلي الإجمالي الصيني مزيفة، وإذا نظرت إلى طرق أخرى لقياس النشاط الاقتصادي مثل الكهرباء أو توليد الصلب أو حركة المرور على الطرق والموانئ، فإننا سنحصل على رقم نمو أقل بكثير. ولكن حتى لو قمت بتخفيض معدل النمو بمقدار الثلث على سبيل المثال، فإن ذلك سيظل يعني معدلًا يعادل ضعف معدل النمو في معظم الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة وأعلى من معظم الاقتصادات الرأسمالية الأخرى. ونحن نتحدث عن عملاق اقتصادي، وليس عن جزيرة صغيرة مثل هونج كونج أو تايوان.

أما الأرقام الخاصة بالهند، فهي محل خلاف ومثيرة للجدل شأنها شأن الأرقام الصينية من جانب الاقتصاديين الغربيين. بالعودة إلى عام 2015، أعلن مكتب الإحصاء الهندي فجأة عن أرقام منقحة للناتج المحلي الإجمالي. وقد أدى ذلك إلى تعزيز نمو الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من نقطتين مئويتين سنويًا بين عشية وضحاها. فقد جرى حساب القيمة الحقيقية للنمو الاسمي للناتج القومي من خلال معامل انكماش أسعار محدد على أساس أسعار إنتاج الجملة وليس على أسعار المستهلك في المتاجر، لذلك فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بطريقة ما. كما أن أرقام الناتج المحلي الإجمالي لم يتم «تعديلها موسميًا» لتأخذ في الاعتبار أي تغييرات في عدد أيام الشهر أو ربع السنة أو الطقس، وما إلى ذلك. وكان التعديل الموسمي ليُظهر أن نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في الهند أقل كثيرًا من الرقم الرسمي. ويمكن العثور على مقياس أفضل للنمو في بيانات الإنتاج الصناعي. وهو ما يبلغ 2.4% فقط على أساس سنوي في الهند، في حين يبلغ في الصين 6.8%.

في الواقع، يعتقد صندوق النقد الدولي أن الصين ستنمو بنسبة 4.6% هذا العام، في حين أن الاقتصادات الرأسمالية لمجموعة السبع ستكون محظوظة إذا تمكنت من تحقيق معدل نمو يبلغ 1.5%، مع دخول العديد منها على الأرجح في حالة من الركود الخالص. وإذا كانت توقعات صندوق النقد الدولي حتى عام 2027 دقيقة، فإن فجوة النمو سوف تتسع.

وكما أشار جون روس، إذا استمر الاقتصاد الصيني في النمو بنسبة 4 إلى 5% سنويًا على مدى السنوات العشر المقبلة، فسوف يتضاعف ناتجه المحلي الإجمالي؛ ومع انخفاض عدد السكان، سيرتفع الناتج المحلي الإجمالي لكل شخص بشكل أكبر: 

«لتحقيق هدفها المتمثل في مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2020 و2035، تحتاج الصين أن تحقق متوسط معدل نمو سنوي يبلغ 4.7%. وحتى الآن منذ عام 2020، حققت الصين معدل نمو سنوي متوسطه 5.5%، مع زيادة سنوية في متوسط نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي بلغت 5.6%، ولكي تتمكن الصين من تحقيق هدفها لعام 2035، كان لا بد أن تصل إجمالي الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي بين 2020 و2023 إلى 15.5%، وما تحقق بالفعل بلغ 17.7%.

ومن باب المقارنة الاستراتيجية، بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي للولايات المتحدة على مدى السنوات الـ12 الماضية، أي ذات الفترة المتبقية حتى عام 2035، 2.2%. يتوقع مكتب الموازنة التابع للكونجرس الأمريكي، الذي يعِدّ التوقعات الاقتصادية الرسمية لصناع سياسة الحكومة الأمريكية، أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 1.8% سنويًا حتى عام 2033 و1.4% سنويًا من ذلك الحين فصاعدًا. ولكن حتى لو تم تحقيق معدل نمو سنوي أعلى بنسبة 2.2%، فإن الاقتصاد الأمريكي لن ينمو إلا بنسبة 39% بين عامي 2020 و2035، في حين سينمو الاقتصاد الصيني بنسبة 100%. وهذا يعني أن نمو الصين سيكون أسرع مرتين ونصف من نمو الولايات المتحدة».

لكن الاقتصاديين الغربيين يعتقدون أن هذا الهدف لن يتحقق. فأولًا، يزعمون أن عدد السكان العاملين في الصين يتراجع بسرعة، وبالتالي لن يكون هناك ما يكفي من العمالة الرخيصة لتعزيز الناتج. لكن زيادة الناتج لا تعتمد فقط على نمو قوة العمل، بل تعتمد بشكل أكبر على زيادة إنتاجية تلك القوة العاملة. وكما أوضحت في مقالات سابقة، هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن إنتاجية العمل في الصين سوف ترتفع بالقدر الكافي للتعويض عن أي انخفاض في عدد العمال.

ثانيًا، يتلخص الإجماع الغربي في أن الصين غارقة في ديون ضخمة، وخاصة في الحكومات المحلية وشركات التطوير العقاري. وهذا من شأنه أن يؤدي في نهاية المطاف إلى حالات الإفلاس وانهيار الديون، أو في أفضل الأحوال، إرغام الحكومة المركزية على الضغط على مدخرات الأسر الصينية لدفع ثمن هذه الخسائر، وبالتالي تدمير النمو. ويبدو أن هؤلاء الاقتصاديين يتوقعون انهيار الديون كل عام، ولكن لم يحدث أي انهيار منهجي في القطاع المصرفي أو في القطاع غير المالي.

بدلًا من ذلك، زاد القطاع المملوك للدولة الاستثمار ووسعت الحكومة البنية التحتية للتعويض عن أي تراجع في سوق العقارات المثقلة بالديون. والواقع أن القطاع الرأسمالي في الصين (الذي يتمركز أغلبه في مناطق غير منتجة) هو الذي يواجه المتاعب، في حين يتولى قطاع الدولة الضخم في الصين زمام المبادرة في التعافي الاقتصادي.

والحقيقة هي أن الصين تواصل قيادة القطاعات الإنتاجية في العالم، مثل التصنيع. والصين الآن هي القوة الصناعية العظمى الوحيدة في العالم. إذ يتجاوز إنتاجها إنتاج الدول المصنّعة التسعة الأكبر مجتمعة. لقد احتاجت الولايات المتحدة ما يقرب من قرن من الزمن لتصعد إلى القمة، لكن الأمر استغرق الصين حوالي 15 أو 20 عامًا.

في عام 1995، كانت الصين تمثل 3% فقط من صادرات الصناعات التحويلية عالميًا، وبحلول عام 2020، ارتفعت حصتها إلى 20%. وبدلًا من أن تجد الصين نفسها محشورة في الزاوية بسبب «فك الارتباط» الذي تمارسه الولايات المتحدة بتقليص الاستثمار في السلع الصينية والطلب عليها، فإن الولايات المتحدة تعتمد أكثر على الصادرات الصينية وليس العكس.

كما تتجه الصين نحو سد الفجوة مع الولايات المتحدة في منتجات التكنولوجيا الفائقة، بما في ذلك أشباه الموصلات والرقائق. ولا يزال أمامها مسافة يجب أن تقطعها لتجاوز القوة الاقتصادية المشتركة للاقتصادات الإمبريالية، لكنها تقلص الفجوة، وهذا ما يقلق الولايات المتحدة وحلفائها.

ولكن كما يقول الاقتصاديون الغربيون، فإن تركيز الصين على الإنتاج الصناعي والاستثمار في البنية التحتية والتكنولوجيا بدلًا من زيادة استهلاك الأسر هو النموذج الخاطئ للتنمية. ووفقًا للنظرية الكلاسيكية الجديدة (والكينزية)، فإن الاستهلاك هو الذي يقود النمو، وليس الاستثمار. لذا فإن الصين تحتاج إلى تفكيك قطاعها الحكومي الضخم، وخفض الضرائب المفروضة على المؤسسات الخاصة، وتحرير القيود التنظيمية للسماح للقطاع الخاص بتوسيع مبيعات السلع الاستهلاكية.

ولكن هل أدت حصة الاستهلاك الضخمة في الاقتصادات الغربية إلى نمو أسرع للناتج المحلي الإجمالي الحقيقي والإنتاجية، أم أنها أدت عوضًا عن ذلك إلى الانهيارات العقارية والأزمات المصرفية؟ أليس صحيحًا أن الاستثمار الأكثر إنتاجية يعمل على تعزيز النمو الاقتصادي وتشغيل العمالة، وبالتالي رفع الأجور والإنفاق، وليس العكس؟ هذه هي التجربة التي شهدتها الصين على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، حيث أدى النمو المرتفع والاستثمار إلى ارتفاع الأجور والإنفاق الاستهلاكي. وسنرى خلال هذا العام من هو على حق فيما يتعلق بالصين.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%87%d9%84-%d9%8a%d8%aa%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a7%d8%b2%d8%af%d9%87%d8%a7%d8%b1-%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86/feed/ 0
يزن النعيمات: الطريق إلى نهائي آسيا https://www.7iber.com/sports-outdoors/%d9%8a%d8%b2%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b9%d9%8a%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d9%86-%d8%b3%d8%ad%d8%a7%d8%a8-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%83%d8%a3%d8%b3-%d8%a2%d8%b3%d9%8a%d8%a7/ https://www.7iber.com/sports-outdoors/%d9%8a%d8%b2%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b9%d9%8a%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d9%86-%d8%b3%d8%ad%d8%a7%d8%a8-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%83%d8%a3%d8%b3-%d8%a2%d8%b3%d9%8a%d8%a7/#respond Sat, 10 Feb 2024 10:06:02 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=sports-outdoors&p=89217 قبل أقلّ من خمسة أشهر من وفاته عام 2012، توّج محمود الجوهري، مستشار رئيس الاتحاد الأردني لكرة القدم في ذلك الوقت، والمدرب السابق للمنتخب الأردني، فريقَ مركز سحاب بدوري مراكز الأمير علي للواعدين بعد فوزه في المباراة النهائيّة على فريق مركز إربد بهدف وحيد.

كان الفريقان قد تأهلا إلى المباراة النهائيّة من بين 24 فريقًا تمثّل المراكز المنتشرة في مختلف محافظات المملكة، ويضمّ كل مركز منها ثلاثين واعدًا تتراوح أعمارهم بين 8 – 12 سنة، يُدرّبهم مدربون معينون من الاتحاد ليكونوا جاهزين للالتحاق بفرق الناشئين في الأندية، والمنتخبات ضمن فئة أقل من 14 سنة.

لفت أداء عدة لاعبين في تلك المباراة الحضور، منهم: نزار آل رشدان من مركز إربد، ويزن النعيمات من مركز سحاب. وقد كان هذا الأخير صاحب هدف المباراة الوحيد الذي توّج فريقه باللقب.

قبل مرحلة التدريب في الأردن، كان الجوهري قد صنع لنفسه مسيرة تدريبيّة فارقة في الكرة المصريّة قاد فيها أندية الأهلي والزمالك للفوز بأول ألقابهما في القارة الإفريقيّة، بالإضافة إلى قيادة المنتخب المصري للتأهل إلى نهائيات كأس العالم العام 1990 بعد غياب دامَ 56 عامًا. 

وعندما تعاقد مع الاتحاد الأردني لتدريب المنتخب الأوّل وضع بصمة واضحة في مسيرة الكرة الأردنيّة عندما قاده إلى التأهل لأول مرة إلى كأس آسيا، والوصول به إلى الدور ربع النهائيّ في نسخة البطولة عام 2004 قبل أن يخسر بركلات الترجيح أمام منتخب اليابان الذي سيتوج بلقب تلك البطولة. وفي عهده، وصل المنتخب إلى المرتبة 37 في تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم، وهو أعلى تصنيفٍ في تاريخه.

بالتزامن مع توليه تدريب المنتخب الأوّل أشرف الجوهري على مراكز الواعدين  منذ تأسيسها في بداية الألفية الجديدة، ووضع خطط المدربين فيها، وحين استقال من تدريب المنتخب الأول واصل العمل فيها حتى وفاته عام 2012.

جاءت مراكز الواعدين هذه لتبكير الاهتمام باللاعبين، وللتعامل مع ظاهرة المحسوبيات التي تنتشر في فرق الفئات العمرية الصغيرة.

في العام الذي توّج فيه النعيمات مع مركز الواعدين، خاض كذلك مباريات الدوري الأردني تحت سنّ 14 سنة مع فريق نادي سحاب الذي كان يلعب في الدرجتين الأولى والثانية، كأصغر لاعب مُسجّل في الدوري. وبعد المباراة النهائيّة أمام فريق نادي الطرّة التي انتهت بتتويج فريق سحاب باللقب كذلك، قال الجوهري لرئيس نادي سحاب مشيرًا إلى النعيمات: «ده حيكون أحسن مهاجم بالأردن».

تسليم الكابتن محمود الجوهري للميدالية الذهبية ليزن النعيمات بعد فوز فريق سحاب بدوري مراكز الأمير علي للواعدين 2012، من أرشيف المدرب صلاح الجلاد

الطريق نحو الاحتراف

منذ ظهوره الأوّل في مركز الأمير علي للواعدين، ومن ثم فرق الناشئين في نادي سحاب لفت النعيمات كل من شاهده يلعب بسبب سرعته ومهارته والذكاء في التصرّف أمام المرمى. وكان السرّ في تفوقه الالتزام الصارم في التمارين، وعدم التغيّب عنها، بالإضافة إلى تطبيق ما يُطلب داخل الملعب، كما يقول مدربه في الفئات العمريّة صلاح الجلّاد. 

يقول الجلّاد، إن اللاعب الذي يلفت انتباه المدرب يمتلك ثلاث ميزات: السرعة والمهارة والقوّة، ويزن كان يمتلك السرعة والذكاء، لكنه يفتقد القوّة بسبب صغر حجمه ونحوله، الأمر الذي يفقده ميزة التفوق في الالتحامات الثنائيّة ولعب دور دفاعيّ، وهو ما دفع بالمدرب إلى إشراكه احتياطيًا في كثير من المباريات خوفًا عليه من الإصابات. 

سترافق نقطة الضعف هذه النعيمات لاحقًا، وستكون واحدة من الأسباب التي لم يُستدع بسببها لتمثيل منتخب الناشئين في هذه الفئات، بالإضافة إلى عامل آخر، وهو أن المدربين عادة ما يختارون لاعبي المنتخبات من أندية دوري المحترفين، فيما كان سحاب يلعب في الدرجتين الأولى والثانية.

خالف مدرب منتخب تحت عمر 18 سنة أحمد عبد القادر هذه العادة باستدعائه النعيمات للعب في المنتخب، لاعتقاده أن هذا النوع من المهاجمين يفتقده المنتخب منذ زمن طويل، وهو المهاجم الصيّاد الذي يعرف كيف يتحرّك ومن ثم يسجّل أمام المرمى، والمهاجم الذي يكلّف خطأ المدافع أمامه هدفًا.

بشكلٍ شخصيّ، عمل عبد القادر على تأهيل النعيمات بدنيًا داخل نادي لياقة بدنيّة لتجاوز نقطة ضعفه. يقول عبد القادر، «كان النعيمات رفيع كثير، يمتلك أساسيات المهاجم لكن البنية ضعيفة، وأنا كنت مقتنع إنه سيكون رقم صعب في الأردن».

في موسم 2018-2019، كان نادي سحاب يلعب ضمن الدرجة الاولى، وفي سبيل التأهل لدوري المحترفين تعاقد مع المهاجم الغاني محمد أنس، لكنه أصيب في فترة التحضير، وهنا حمل النعيمات الفريق منذ المباريات الأولى ولمّا يكن عمره قد تجاوز العشرين، لتساهم أهدافه لا في صعود الفريق إلى درجة المحترفين موسم 2019-2020 وحسب، إنما كذلك ليكون بهذه الأهداف هدّاف دوري الدرجة الأولى.

كانت سنة 2021 السنة الفاصلة في مسيرة النعيمات؛ فقد شارك في ثلاث بطولات، واحدة محليّة واثنتين دوليتين. في الدوري المحلي مع نادي سحاب، بالرغم من صغر سنه (22 سنة) كان أكثر لاعب محلي تسجيلًا للأهداف (13 هدفًا) وجاء خلف المحترف في نادي السلط الكاميروني وانجا (15 هدفًا). بالرغم من نتائج فريقه الذي احتل المرتبة التاسعة في الدوري من أصل 12 فريقًا.

يزن النعيمات أقصى يمين الصورة عام 2011، في بطولة مدرسية مع نادي سحاب. من أرشيف المدرب صلاح الجلاد

دوليًا، شارك مع المنتخب الأردني تحت عمر 23 سنة في بطولة غرب آسيا، ومع أنه لم يسجل في مرحلة المجموعات، إلّا أنه سجّل في الأدوار الإقصائيّة بما فيها المباراة النهائيّة ضد المنتخب السعودي. ليحصل على جائزة أفضل لاعبٍ في تلك البطولة، وجائزة أفضل لاعب في المباراة النهائيّة.

وفي الشهر الأخير من تلك السنة، شارك مع المنتخب الأول في كأس العرب وفاجأ المتابعين بأسلوب لعبه؛ فقد سجل ثلاثة أهداف، واحد منها على حارس منتخب مصر محمد الشناوي أفضل حارس في قارّة إفريقيا، وحاز على جائزة الحذاء البرونزي.

لا يشكّل خوض المباريات الكبيرة ضغطًا نفسيًا على النعيمات، إذ عوّد نفسه على أن يكون مستعدًا طوال الوقت، فلا يسهر ولا يهمل التمارين. وفي المباريات التي تشكّل ضغطًا على أي لاعب مثل مباريات المنتخب، يرفع النعيمات من معنويات الجميع بمن فيهم أفراد عائلته لا العكس، «هذا روتينه الطبيعي، الاستعداد الدائم والثقة بالنفس»، يقول شقيقه بدر.

ساهمت هذه المشاركات والأداء الملفت في تلقي النعيمات عروض احتراف من أندية عربية وأجنبيّة في من بلجيكا والخليج والعراق، كما يقول رئيس نادي سحاب علي أبو حمّاد. وفي النهاية انتقل إلى النادي الأهلي الذي يلعب في دوري النجوم القطري مع بداية العام 2022. ومثلما فعل مع سحاب، واصل النعيمات الأداء الجيد في ناديه الجديد مساهمًا في فوزه بعد انقطاع طويل، واختير ضمن أفضل لاعبي الجولة الأولى في موسمه الأول مع النادي.

بعد هذا الاحتراف والتألق، يتابع اللاعبون الصغار في سحاب يزن كلاعبٍ استطاع الوصول إلى المنتخب ومن ثم الاحتراف، من فريق كان يلعب في الدرجة الأولى. يقول بدر النعيمات «الشباب كلها صارت بدها تلعب وتوصل للي وصله يزن».

عموتة وكأس آسيا 2024

قبل مشاركته في هذه النسخة من كأس آسيا، شارك المنتخب الأردني في أربع نسخ سابقة، وصل في ثلاث منها إلى مرحلة ربع النهائي، المرة الأولى العام 2004 بقيادة الجوهري، وخرج من واحدة من الدور الأوّل.

في هذه المشاركة الخامسة وصل المنتخب إلى المباراة النهائيّة، متجاوزًا منتخبات أعلى منه في تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، وأخرى كانت مرشحةً للفوز بالكأس، ليس في النتيجة وحسب، إنما في الأداء. ففي مباراة نصف النهائي، تمكّن من الفوز على المنتخب الكوري الجنوبي، وهو المنتخب الذي يضمّ لاعبين محترفين في كبرى الدوريات الأوروبية، بل ولم يستطع المنتخب الكوري
تسديد أي كرة على المرمى الأردني، ما يدل على منظومة كروية تعمل بشكل متجانس في المنتخب.

لم يكن التفوق في هذه البطولة وليدة اللحظة، إنما نتيجة سنوات طويلة، بدأت في اكتشاف المواهب وتدريبها من عمر صغير في مراكز الواعدين الذين يشكلون الآن عماد المنتخب، فبالإضافة إلى النعيمات، تدرب في هذه المراكز: موسى التعمري وإحسان حدّاد وعبدالله نصيب ونزار آل رشدان وآخرون من محافظات مختلفة.

بالإضافة إلى ذلك، ساهم احتراف أغلب لاعبي المنتخب في دوريات عربية وأجنبيّة، واحتكاكهم بلاعبين دوليين، وتدرّبهم على يد مدربين دوليين، في خلق حالة من الانضباط أثناء التمارين، والثقة داخل المباريات الكبيرة، والالتزام بخطة المدرب، وعلى الالتزام بنظام حياة اللاعبين المحترفين، مثل الالتزام بالنظام الغذائي المناسب، والحفاظ على اللياقة البدنية.

 لعب موسى التعمري في دوريات أوروبية منذ العام 2018 في قبرص وبلجيكا وفرنسا، واحترف محمود مرضي ونور الدين الروابدة مع فريق المحرّق البحريني الذي حصل العام 2021 على بطولة كأس الاتحاد الآسيوي، بالإضافة إلى احتراف عدد كبير من اللاعبين الأردنيين في دوريات عربية في فترة توقف الدوري المحلي. 

ساعدت الذهنية الاحترافية المدرب المغربي الحسين عموتة الذي يُدرّب المنتخب منذ تموز الماضي، على تنفيذ خططه التي تتطلب ثقافة من الانضباط، وتطبيق تعليمات الانتقال في الخطط داخل المباراة واللياقةَ العالية. وقد أسهم المحترفون في أغلب أهداف المنتخب في هذه البطولة، وكان نصفها من نصيب النعيمات والتعمري.

يفرح الجلّاد عندما يرى لاعبين درّبهم في فترة مراكز الواعدين، أو في الفئات العمرية، يمثلون المنتخب الأردني، لكن المتعة الحقيقية التي يراها الجلاد، مثل مدربي هذه الفئات صغيرة السنّ، ليست النتيجة إنما الأساس الذي يرفد المنتخبات باللاعبين، مثل اكتشاف موهبة جديدة كما حصل مع النعيمات قبل قرابة 15 عامًا: «هاي أفضل جائزة رح تكون».

يزن النعيمات لحظة تسجيله هدفًا في مرمى كوريا الجنوبية في نصف نهائي كأس آسيا.

]]>
https://www.7iber.com/sports-outdoors/%d9%8a%d8%b2%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%b9%d9%8a%d9%85%d8%a7%d8%aa-%d9%85%d9%86-%d8%b3%d8%ad%d8%a7%d8%a8-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%83%d8%a3%d8%b3-%d8%a2%d8%b3%d9%8a%d8%a7/feed/ 0
في سبيل «الروح المعنوية»: جيش الاحتلال يخفي أعداد مصابيه https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ac%d9%8a%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%84-%d9%8a%d8%ae%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%b9%d8%af%d8%a7%d8%af-%d9%85%d8%b5%d8%a7%d8%a8%d9%8a%d9%87/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ac%d9%8a%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%84-%d9%8a%d8%ae%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%b9%d8%af%d8%a7%d8%af-%d9%85%d8%b5%d8%a7%d8%a8%d9%8a%d9%87/#respond Wed, 07 Feb 2024 11:35:57 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89205 في العشرين من تشرين الثاني الماضي، أي بعد مرور أكثر من شهر على بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، استضافت هيئة البث الإسرائيلية طبيبًا يعمل في إحدى المستشفيات الإسرائيلية، في خطوة قالت المذيعة إنّها تهدف إلى تعريف الجمهور الإسرائيلي على وضع الجنود المصابين خلال المعارك المتواصلة في قطاع غزة. ومع أن الطبيب لم يعرض أي أرقام حول عدد الإصابات في صفوف جيش الاحتلال، إلا أن المذيعة قررت حينها أن تبدأ مقابلتها بمقدمة طويلة بررت فيها أن المعلومات التي سيقدمها ضيفها لا تهدف إلى «إحباط الروح القتالية عند المجتمع الإسرائيلي»، وإنما إلى إطلاعه على كافة التفاصيل.

أيام قليلة بعد تلك المقابلة، وبعد ضغوطات مستمرة من صحيفة «هآرتس»، قرر جيش الاحتلال أن يكشف للمرة الأولى عدد الإصابات في صفوفه، مزودًا الصحيفة بأن العدد وصل إلِى ألف مصاب خلال المعارك في قطاع غزة وعلى الجبهة اللبنانية، وهو رقم شككت فيه الصحيفة، وقالت إنه من خلال مراجعة أعداد المصابين الذين وصلوا إلى المستشفيات فإن الرقم الحقيقي يبلغ أضعاف ما أعلنه الجيش. وبحسبها، فقد رفض الجيش في البداية إفادتها بالمعلومات حول أعداد المصابين في صفوفه، رافضًا توضيح سبب الامتناع.

لاحقًا، قرر جيش الاحتلال نشر أعداد مصابيه بشكل رسمي على موقعه، معلنًا إصابة 1593 جنديًا، وهو ما دفع وسائل إعلام إسرائيلية عدة للتشكيك مرة أخرى فيما يعلنه جيش الاحتلال، والعمل على نشر أعداد المصابين من خلال مراجعة الأرقام التي تصل المستشفيات الإسرائيلية.

تشكيك في الأرقام

مع إضافة الجيش خانة مخصصة لعدد المصابين والقتلى من جنوده عبر موقعه الرسمي، مدعيًا أنه يحدث البيانات والأرقام عند الساعة الواحدة ظهرًا من كل يوم، يدرك أي زائر للموقع أن الأرقام لا يتم تحديثها فورًا، حتى إن الأرقام الجديدة التي يعلن عنها المتحدث باسم الجيش نفسه في كل مؤتمر لا تضاف إلا بعد أيام. وفي آخر تحديث له، أعلن جيش الاحتلال أن عدد المصابين من جنوده وصل 2828 جنديًا منذ السابع من تشرين الأول الماضي، منهم 1276 منذ بدء العملية البرية في القطاع، وتوزعت الإصابات منذ بدء الحرب بين 1665 إصابة بجروح طفيفة، و734 بجروح متوسطة، و429 بجروح خطيرة.

خلال الفترة الماضية، أقر مسؤولون وأطباء في المستشفيات الإسرائيلية أن عملية نشر أعداد المصابين تخضع في معظم الوقت لرقابة جيش الاحتلال، وأن الجنود المصابين يرفضون التحدث إلى وسائل الإعلام. فيما أكد أطباء آخرون أن المستشفيات الإسرائيلية لم تشهد مثل هذه السياسة في التعامل مع الإصابات في الحروب السابقة.

في محاولة لوضع تصور أولي حول أعداد المصابين من جنود الاحتلال، قالت صحيفة هآرتس بعد مراجعة أعداد الواصلين إلى المستشفيات الإسرائيلية إنّ هنالك فجوة كبيرة بين ما أعلن عنه جيش الاحتلال وبين ما أعلنت عنه المستشفيات الإسرائيلية. ومن خلال رؤية أعداد المصابين الذين وصلوا إلى المستشفيات، يتضح أن العدد هو ثلاثة أضعاف ما أعلنه الجيش، إذ في الوقت الذي أعلن فيه جيش الاحتلال أن أعداد مصابيه بلغت 1595، كانت المستشفيات تصرّح بأن عدد المصابين بلغ 4591 مصابًا. فيما أكدت صحيفة يديعوت أحرنوت أنه وحتى تاريخ التاسع من كانون الأول، بلغت أعداد المصابين في جيش الاحتلال أكثر من خمسة ألف جندي. لاحقًا، كشفت وسائل إعلام إسرائيلية أن المستشفيات الإسرائيلية تعاملت مع ستة آلاف إصابة من كافة الرتب العسكرية في جيش الاحتلال. فيما نشرت يديعوت آحرنوت في الثامن من شباط الحالي أن عدد مصابي الجيش بلغ قرابة 13 ألفًا، ما يجعل من هذه الحرب الأعلى في عدد مصابي الجيش، في كلّ حروب دولة الاحتلال، باستثناء حرب النكبة التي بلغ عدد المصابين فيها 15 ألفًا. 

جدل حول نوعية الإصابات

منذ بداية التوغل البري في قطاع غزة، انشغل محللون وصحفيون إسرائيليون بالإشارة إلى أن المعارك البرية ستكبّد جيش الاحتلال خسائر بشرية كبيرة، خصوصًا وأن المعادلة العسكرية الأساسية تقر بأن المجموعات المسلحة أقدر على خوض حروب المدن من الجيوش النظامية، فيما تخوف محللون آخرون من أن شكل الإصابات في تلك المعارك سيكون مختلفًا عن حروب «إسرائيل» السابقة، حتى عن تلك التي خاض فيها جيش الاحتلال مواجهات برية طويلة نسبيًا مثل حرب تموز في عام 2006، لأن جيش الاحتلال كان ينوي منذ اللحظات الأولى خوض حرب طويلة في غزة، على عكس ما كان يريده في حروبه السابقة.

بعد مرور 100 يوم من الحرب على غزة، كشف موقع «والاه» العبري أنه تم تصنيف ما يقارب من أربعة آلاف جندي على أنهم معاقون بفعل الإصابات التي تعرضوا لها في قطاع غزة وخلال المعارك على الحدود الشمالية مع لبنان، مرجحًا ارتفاع الرقم إلى 30 ألفًا، وهو عدد وصفه الموقع بأنه الأعلى في حروب «إسرائيل» السابقة من حيث نوعية الإصابة، مشيرًا إلى أن جيش الاحتلال يمتنع عن الكشف عن أعداد الجرحى فى صفوفه في محاولة لحماية «الروح المعنوية».

ترافقت إعلانات وسائل إعلام إسرائيلية عن أعداد المصابين مع تحذيرات أطباء إسرائيليين يستقبلون الجنود المصابين من أن المستشفيات الإسرائيلية «لم تمرّ بشيء كهذا في تاريخها»، بسبب شكل الإصابات وأعدادها.

وبحسب التعريفات الإسرائيلية، فإن عملية تصنيف الجندي «معاقًا» تخضع لعدة شروط قانونية وطبية، وتركز بالأساس على إثبات لجنة طبية نسبة «عجز» ما لدى الجندي المصاب، تكون عائقًا أمام استمراره في تأدية عمله، سواء علي الصعيد النفسي أو الجسدي، وتختلف الامتيازات التي يحصل عليها الجندي حسب نسبة «العجز» التي تثبته اللجنة الطبية المخصصة لفحص ذلك.

وفتحت الحرب على غزة نقاشًا طويلًا حول قدرة المؤسسات الإسرائيلية على تحمل تكاليف مثل هذه الأرقام من أعداد المعاقين، خصوصًا أن الحكومة في حالة «إسرائيل» مضطرة لتغطية تكاليف علاج المعاقين وأجورهم الشهرية (حسب نسبة العجز)، وهو ما دفع المؤسسات إلى «عرقلة» الموافقة على طلبات الجنود بتشخيصهم على أنهم «معاقون». ويسود التخوف في «إسرائيل» من أن أعداد كبيرة من الجنود المعاقين في هذه الحرب هم من فئة الشباب، وهو ما يعني تكلفة إضافية كبيرة، لأن القوانين الإسرائيلية تلزم الحكومة بدفع تعويضات للجندي المعاق مدى الحياة.

وترافقت إعلانات وسائل إعلام إسرائيلية عن أعداد المصابين مع تحذيرات أطباء إسرائيليين يستقبلون الجنود المصابين من أن المستشفيات الإسرائيلية «لم تمرّ بشيء كهذا في تاريخها»، بسبب شكل الإصابات وأعدادها، إذ اعترفت رئيسة قسم إعادة التأهيل في وزارة الأمن الإسرائيلية ليمور لوريا أن المستشفيات تستعجل في إخراج الجرحى من أجل استقبال مصابين جدد حتى قبل الانتهاء الكامل من علاجهم. وأضافت أن 58% من مجمل المصابين يعانون من إصابات خطيرة في اليدين والقدمين، وقد احتاج جزء منهم إلى بتر أحد أطرافه للبقاء على قيد الحياة، فيما تعرّض 12% من الجرحى إلى تهتك في الأعضاء الداخلية، و7% إلى إصابات تضر بسلامتهم العقلية، مرجحةً ارتفاع هذا الرقم لأن الإصابات التي تؤثر على العقل يتم استكشاف معظمها بعد أشهر.

وبحسب تصريحات صحفية لمدير وحدة جراحة العظام في مستشفى سوروكا فإن 80% من الجنود الجرحى الذين يصلون من قطاع غزة كانوا مصابين بإصابات في الأطراف العلوية والسفلية، مضيفًا أن العديد من الجرحى فقدوا أطرافهم في هذه الحرب. تصريح يؤكد فيه الطبيب على اعترافات كوادر طبية أخرى بأن هذه الحرب شهدت نوعية إصابات ذات طابع معقد وخطير لم يشهده جيش الاحتلال في حروبه السابقة.

إعادة مساءلة القدرة العسكرية لجيش الاحتلال

منذ اليوم الأول للحرب على غزة، أدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو الرجل الذي تمثل هذه الحرب بالنسبة له موضوعًا مصيريًا يقاتل فيها على مستقبله السياسي، أن التوغل البري في قطاع غزة لم يكن خيارًا سهلًا، إذ عمد مقربون منه منذ الأيام الأولى، بحسب ما كشفت تقارير إسرائيلية، إلى إدارة حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تروّج لمخاطر الدخول البري إلى غزة، وتطالب بتأجيلها حتى تدمير جميع أنفاق حركة حماس باستخدام القصف الجوي، وهو رأي تبناه نتنياهو ودفع باتجاهه خلال النقاشات في مجلس الحرب الإسرائيلي. وبحسب صحيفة يديعوت أحرنوت فقد كرر مقربون من نتنياهو مشاركون في الحملة تأكيدهم على أن «حياة الجنود الإسرائيليين تأتي في المقام الأول».

لاحقًا، ومع بدء التوغل البري وتصاعد الإشارات بأن خسائر جيش الاحتلال في غزة وعلى الجبهة اللبنانية باتت أكبر مما كان المجتمع الإسرائيلي يتوقعه، بدأ مسؤولون إسرائيليون ومحللون سياسيون بالتشكيك في قدرة جيش الاحتلال العسكرية على متابعة الحرب بنفس أسلوب القتال، في وقت انهارت فيه التصورات الإسرائيلية عن منظومة «الجيش الصغير ذو القدرات الذكية» الذي عملت «إسرائيل» على تطويره خلال السنوات الماضية من خلال التركيز على القدرات التكنولوجية في القطاع العسكري، وعاد السجال حول تجنيد المتدينين إلى الطاولة مرة أخرى.

وفي مقال لها تعقيبًا على مقتل 21 جنديًا وضابطًا إسرائيليًا، في 23 كانون الثاني، وصفت زعيمة حزب العمل السابقة شيلي يحيموفيتش، قرار الحكومة الإسرائيلية بالاستمرار في الحرب مع كل هذه الخسائر بأنه أشبه بـ«لعبة المقامرة»، التي تدفعك الخسائر الكبيرة فيها إلى المواصلة والاستمرار رغم حساباتها غير المنطقية، قائلةً إنّ هذه هي حصيلة الاندفاع نحو «هدف وهمي ومتغطرس ومخفي». رأي انضمت فيه يحيموفيتش إلى تصورات محللين إسرائيليين عديدين يرون أن نمط القتال الحالي الذي يعتمده جيش الاحتلال «لن يحقق» أهداف الحرب التي وضعها.

دفعت خسائر جيش الاحتلال في قطاع غزة، تحديدًا تلك التي حصلت خلال محاولة جنود إسرائيليين الدخول إلى أنفاق حركة حماس، بعض المسؤولين الأميركيين أيضًا إلى التشكيك في قدرات «إسرائيل» العسكرية، والقول إنّ «جيش الاحتلال مدرّب على تدمير الأنفاق فقط، لكنه لا يملك خبرة في البحث عن المحتجزين فيها»، وهو ما تظهره مقاطع مصورة عديدة نشرتها كتائب القسام، تكشف كمائن تعرض لها جنود جيش الاحتلال خلال محاولتهم اختراق أنفاق غزة. مشاهد دفعت المسؤولين الأميركيين إلى التشكيك أيضًا في قدرة «إسرائيل» الاستخباراتية، خصوصًا مع حديث صحيفة «وول ستريت جورنال»، في 28 كانون الثاني، عن أن 80% من أنفاق حركة حماس لا تزال في حالة «سليمة» رغم القصف الإسرائيلي المتواصل على مناطق متفرقة من القطاع.

دفاعًا عن «الروح المعنوية»

على غرار ما افتتحت به مذيعة هيئة البث الإسرائيلية، قررت صحف إسرائيلية عدة أن تفتتح أو تنهي تقاريرها بالإشارة إلى أن جيش الاحتلال يرفض الاعتراف بالأرقام الرسمية لحصيلة مصابيه حفاظًا على «الروح المعنوية» للمجتمع الإسرائيلي.

ومنذ بدء الحرب على غزة، تحديدًا بعد عملية «طوفان الأقصى»، التي استطاعت فصائل المقاومة الفلسطينية فيها كسر صورة جيش الاحتلال أمام العالم وأمام المجتمع الإسرائيلي، سعى الجيش عبر موقعه الرسمي إلى نشر فيديوهات كانت أقرب إلى الاستعراضية لمعاركه في قطاع غزة، ترافق ذلك مع نشر جنود إسرائيليين عبر صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة يتباهون فيها بتدميرهم منازل المدنيين في غزة، وحتى بمحاولتهم «إذلال» الفلسطينيين في الضفة الغربية. مشاهد كثيرة كان واضحًا أنها تهدف إلى استعادة صورة فقدها جيش الاحتلال في الساعات الأولى من صباح السابع من أكتوبر، وما زال حتى هذه اللحظة يقاتل من أجل استعادتها.

رغم محاولته ضبط ما ينشر في وسائل الإعلام منذ الأيام الأولى من الحرب على غزة، لم يستطع جيش الاحتلال الاستمرار في بناء سرديته البطولية، خصوصًا بعد أن دخلت فصائل المقاومة في هذه المعركة الإعلامية.

رغم محاولته ضبط ما ينشر في وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ الأيام الأولى من الحرب على غزة، بما فيها حجب المعلومات عن أعداد المصابين، لم يستطع جيش الاحتلال الاستمرار في بناء سرديته البطولية، خصوصًا أن فصائل المقاومة استطاعت أيضًا الدخول في هذه المعركة الإعلامية، من خلال توثيق عملياتها التي كان من السهل على أي مشاهد لها، أن يدرك حجم الخسائر الكبيرة في صفوف جيش الاحتلال بفعلها.

لا تمثل هذه العمليات المستمرة لعرض صورة البطولة في المجتمع الإسرائيلي في ظل الحرب استعارة رمزية فقط، وإنما تلعب دورًا حاسمًا في المحافظة على «الإجماع» الإسرائيلي بما يتعلق بمواصلة القتال، الذي تهدد شكل المعارك والخسائر الحالية بفقدانه وتراجع نسبة التأييد الإسرائيلي له. ففي حين اعتبر المحلل الإسرائيلي عاموس هارئيل أن «استمرار شكل المعارك بصورها الحالية يعني سيلًا متواصلًا من الأخبار عن موت الجنود الإسرائيليين»، قال إنّ استمرار تأييد الإسرائيليين للحرب يرتبط بشرطين يتضاءلان تدريجيًا مع مرور الوقت، وهما «وجود هدف واضح للحرب، وفهم أن النصر أمر ممكن التحقيق»، مرجحًا أن يتراجع التأييد الشعبي للحرب مع مرور الوقت.

وبالتأكيد، لا يتعلق الأمر فقط بالمعارك المتواصلة في قطاع غزة، ففي وقت يؤكد فيه مسؤولون إسرائيليون استعداد جيش الاحتلال لخوض حرب مفتوحة في لبنان في حال استدعى الأمر ذلك، قال وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، إنّ «إسرائيل» لا تريد أن تكون في وضع تضطر معه إلى خوض حرب مع «حزب الله». تصريح يبدو أنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتخوف «إسرائيل» من ارتفاع خسائرها في هذه الحرب، خصوصًا وأن التقديرات تشير إلى أن القوة الصاروخية لـ«حزب الله» أعلى بكثير من تلك الموجودة في غزة.

في ظل كل هذه المؤشرات، يبدو الشارع الإسرائيلي متهشمًا من الداخل، وعادت الخلافات السياسية إلى السطح مرة أخرى، وبدأ المسؤولون الإسرائيليون بتراشق الاتهامات حول طريقة إدارة الحرب، بعدما تمكن خطاب «القضاء على حركة حماس» من توحيد الصفوف في الأشهر الأولى من الحرب، بعد فترة شهدت فيها «إسرائيل» أحد أشد الخلافات السياسية داخلها.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ac%d9%8a%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%84%d8%a7%d9%84-%d9%8a%d8%ae%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%b9%d8%af%d8%a7%d8%af-%d9%85%d8%b5%d8%a7%d8%a8%d9%8a%d9%87/feed/ 0
«ليست كافية»: ما نفع منظومة حقوق الإنسان؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ad%d9%82%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%84/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ad%d9%82%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%84/#respond Tue, 06 Feb 2024 12:36:40 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89197 قصف، مجازر، إعادة إعمار، ثالوث الحياة في غزة. ثلاث كلمات شكلت دائرة مفرغة، لا تتوقف منذ أكثر من عقد، وظنّ الجميع أنه واقع لا فكاك منه. إلّا أنّ كل شيء تغير بعد السابع من أكتوبر، ذلك اليوم المشهود للمقاومة، والشاهد على همجية الاحتلال؛ يوم انخرطت الديمقراطيات الغربية بشكل مباشر في الحرب على المدنيين، ضاربة بعرض الحائط كل مفاهيم الإنسانية وحقوقها.

منذ ذلك الحين، صبت الإرادة السياسية الغربية الداعمة للاحتلال جل اهتمامها الداخلي على حصر موجات التضامن بالترهيب تارة، وبالتشريعات القانونيّة تارة أخرى. هذا الاتجاه العدائي الذي سلكته الديمقراطيات الغربية وضع مفاهيم حقوق الإنسان على المحك، ودفع ازدواجية معايير وتطبيق حقوق الإنسان حول العالم إلى أقصاها، طارحًا تساؤلات حول جدوى مبادئ وقوانين حقوق الانسان إذا لم يكن تطبيقها عالميًا أمرًا ممكنًا، وما إذا كانت هذه المنظومة كافية أساسًا.

لنفترض أنّ مواطنًا ما، يعيش في دولة -ولتكُن ناميّة أو من العالم الثالث بالتوصيف الأقدم- ولنفترض أيضًا أنّ هذا المواطن في تلك الدولة وفي لحظة ما، أصبح حرًا يملك حقوقه السياسيّة، فلا تنازعه الدولة في قراره أمره وحياته، ولا تعرف السجون والتعذيب والنفي ووسائل القمع طريقها إليه. لنفترض أيضًا أن تلك الدولة طبقت معايير حقوق الإنسان العالميّة بحذافيرها، وضمنت لهذا المواطن أن يعيش مع باقي سكانها على حد الكفاية، ولديه ما يكفي أن يفصل بينه وبين من هم تحت، أي تحت خط الفقر. فإن سألنا هذا المواطن: «هل هذا كافٍ؟» فماذا ستكون إجابته؟

على أغلب الظن ولأغلب البشر، فإن الإجابة البديهيّة على سؤالنا الافتراضي السابق هي لا. أخذ صامويل موين أستاذ التاريخ والقانون بجامعة ييل، من واقع هذه الإجابة البديهيّة منهجيّة لكتابه «ليست كافية: حقوق الإنسان في عالم غير عادل»،[1] ومنذ البداية يتحدى الكتاب قرّاءه بسؤال: كيف تخدم حقوق الإنسان مصالح العدالة العالمية عندما يتزامن عصر حقوق الإنسان مع عصر عدم المساواة؟

يُعد هذا الكتاب مُتممًا لمشروع كبير استهله موين في 2010 بكتاب صدامي أتى بعنوان «اليوتوبيا الأخيرة: تاريخ حقوق الإنسان». ارتكز المشروع على محورين رئيسيين، الأول هو تفنيد مفهوم حقوق الإنسان وتاريخه في كتابه السابق، والثاني هو بحث العلاقة بين عصر النيوليبرالية مع صعود خطاب حقوق الإنسان في سبعينيات القرن الماضي وهو ما يعنى به كتابه الأخير.

حين قدم موين «اليوتوبيا الأخيرة»، كانت آثار الانهيار الاقتصاد العالمي عام 2008 قد وصلت ذروتها، بما نتج عنها من تحركات مجتمعية ثورية، وكارثة وجد العالم الغربي نفسه معها في اختبار صعب لإنسانيته، صدق فيه القليل وسقط فيه الكثير. بينما ارتفع في أروقة السياسة ومراكز صنع القرار خطاب الالتزام بحقوق الإنسان وسوق على أنه الحل الوحيد والنهائي لكل المشاكل.

وسط هذا المدّ الإنساني، ألقى موين بكتابه الصدامي «اليوتوبيا الأخيرة» قائلًا إنّ المفهوم الحديث لحقوق الإنسان يختلف جذريًا عن مفهومها السابق الذي ورد في كتابات جان جاك روسو، سواء كانت الأدبية مثل رواية «جولي» أو كتابه الأهم «العقد الاجتماعي». تابع موين تفنيده للحقائق الراسخة نافيًا إرجاع مفهوم حقوق الإنسان الحالي للحظة كتابة مسودات الرئيس الأميركي توماس جيفرسون في القرن الثامن عشر، موضحًا أنّ تلك الحقوق كانت تتعلق بالعلاقة بين الدولة ومواطنيها، بينما تعبر حقوق الإنسان اليوم عن أخلاقيات عالميّة لحقوق الإنسان تتجاوز الدولة وتستقل عنها من الناحية المفاهيميّة.

جادل موين بأنّ مفهوم حقوق الإنسان في تلك الفترة لا يمكن وصفه «بالعالميّة»، إذ إنّ قوائم الأشخاص غير الجديرين بالمشاركة في العمليّة السياسية لم تكتفِ باستثناء الأطفال والمساجين والأجانب، لكنها شملت أولئك الذين لا يحوزون الممتلكات، والرقيق، والأحرار السود، والأقليات الدينية في بعض الأحوال، والنساء، دائمًا وفي كل مكان. ويتعجب موين من المؤرخين القائلين إنّ الحقوق الفرديّة كانت عالميّة منذ أواخر القرن الثامن عشر، بالنظر إلى أنها ولدت من أمثال جيفرسون مالك العبيد، وماركيز لافاييت الأرستقراطي!

لذا يُمكن تفهم التباين الذي استقبل به كتاب «اليوتوبيا الأخيرة» ما بين نقد وهجوم، ومدح وثناء. فما قدمه موين من سرديّة مختلفة يطعن في مفاهيم وتاريخ حقوق الإنسان الراسخ في الوجدان الغربي كأيديولوجيا عالميّة، في وقت مضطرب تكثّفت فيه المُطالبات بإعلاء تلك الحقوق. فكان من الطبيعي أن سرديّة موين قُبلت بنقد واسع لا يخلو من اتهامات بـ«تعمد التهميش» و«إغفال» لحظة مهمة ومؤسسة في أربعينيات القرن التاسع عشر عقب الحرب العالمية الثانية، لحظة تدشين الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، وأن هذا الإعلان يعد المنطلق الأول لعصر حقوق الإنسان الحديث.

ارتكز مشروع موين في كتابه الأخير «ليست كافية» على تفنيد تلك السردية والرد عليها. يرى موين الادعاء بأن الأربعينيات كانت حقبة عظيمة من حقوق الإنسان هو «جريمة تاريخية»، معللًا ذلك بأنّ أثر تلك الفترة وهذا الإعلان يكاد لا يذكر، ولأنه أثبت فشل واستحالة تطبيق هذه المفاهيم بشكل عالمي، والأهم من ذلك في رأي موين، أن هذه المفاهيم لم تحمل إجابات على أسئلة مهمة مثل عدالة التوزيع أو أي إشارة إلى المساواة الاقتصادية في أهدافها. لم يكتف موين بذلك واستبعد أن تكون حقوق الإنسان بشكلها الحالي -المعترف بها وتحظى بحماية دولية- نابعة من عصر التنوير، أو من الدوافع الإنسانية في القرن التاسع عشر.

رفض النظام الاقتصادي الدولي الجديد الهدف المتمثل في المساواة العالمية لصالح المُثل العليا للمصلحة التي تمّ اعتمادها في الغرب، وظل مفهوم حقوق الإنسان غير مطالب به حتّى إعادة تعريفه في السبعينيات والثمانينيات.

يعتقد موين بأنّ المفهوم الحديث لحقوق الإنسان ظهر بهذا الشكل «من العدم» في السبعينيّات، كاستجابة أخلاقيّة غير مسيسة لخيبة الأمل من المشاريع السياسية الثورية، وفشل حركة تقرير المصير الوطني، في ضمان الكرامة الإنسانية للشعوب، وكجزء من جهود الرئيس الأميركي، جيمي كارتر، لجعل حقوق الإنسان إحدى ركائز السياسة الخارجية للولايات المتحدة، في حربها الباردة. يبحث موين عن تفسير لما أسماها بـ«أسئلة ملغمة»، مثل كيف يتماشى صعود عصر النيوليبرالية، الذي يعتقد أنه ترسخ في أواخر القرن العشرين، بشكل شبه كامل مع عودة خطاب حقوق الإنسان بشكل جعلها أيديولوجية عالمية؟ وكيف يمكن أن تكون تلك الحقبة التي كان فيها مفهوم الذات الأخلاقي متجذرًا في حركة عابرة للحدود الوطنية هي نفسها الحقبة التي سمحت لأصحاب رؤوس الأموال الأثرياء بالحصول على الغالبية العظمى من مكاسب الإنتاجية الاقتصادية؟ ولماذا لم تستغل حالة التضامن البشري عقب الحرب العالمية في الأربعينيات لإضفاء الطابع المؤسسي على روح المساواة بشكل دائم في أي بلد؟ وكيف دفعت الدول دفعًا نحو اللامساواة؟

خصص موين الفصول الأولى من كتابه لتناول شرح تاريخ وتطور العلاقة بين بعض المؤسسات أو المفاهيم، والأهداف والآثار الأوسع نطاقًا لحقوق الإنسان. لذا، منذ بداية الكتاب يتتبع موين مسار تطور حقوق الإنسان بين الأربعينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، ثم يناقش الآثار المترتبة على هذا التاريخ في خطاب العدالة الاجتماعيّة اليوم، وفي وضع حقوق الإنسان في مجالاتها الجغرافيّة والزمنيّة والسياسيّة.

في هذا السياق، اهتم موين بتوضيح التمايز الواضح بين خطاب حقوق الإنسان في الأربعينيات وخطاب السبعينيات؛ إذ شمل الأول مجموعة واسعة من الحقوق، بما في ذلك الحقوق الجماعية والاقتصادية والاجتماعية. بينما ركز الأخير في المقام الأول على الحقوق والحريات السياسية الفردية، والعلاقات الرسمية بين الأفراد مع الدولة مثل «المساواة أمام القانون» و«حق الاقتراع»، وضيّق نطاق التركيز على الحقوق السياسية الفردية والقضاء إلى حد كبير على أشكال محددة من الأذى الجسدي الذي تسببه الدولة. ويلاحظ موين أيضًا كيف تم إغفال معالجة قضية المساواة الاقتصادية أو مسائل التوزيع الأوسع في السبعينيات، الأمر الذي يراه فشلًا فكريًا وأيديولوجيًا ونسخة مبتورة من حقوق الإنسان، وأداة مفيدة في الحجج الأخلاقية التي تدعي تفوق الرأسمالية الليبرالية الغربية على الأنظمة الاشتراكية الشرقية.

أفرد موين فصلًا كاملًا للحديث عن لحظات الفرص الضائعة في منتصف القرن، لتعميم مفهوم المساواة وكيف أنّ الاقتصاد العالمي الذي طرحه الحائز على جائزة نوبل غونار ميردال في الخمسينيات من القرن الماضي، قدم لدول النظام الاقتصادي الدولي الجديد أساسًا تأسيسيًا لتعزيز المساواة بدلًا من الحقوق الاجتماعية. ركز ميردال في عمله ليس على الحد من الفقر -أي تحسين الأسوأ إلى الحد الأدنى من الاكتفاء- ولكن بدلًا من ذلك طالب بمساواة عالميّة، وجادل ميردال بأنّ السياسات القومية ذاتها التي جعلت دول الرفاه ممكنة محليًا كانت هي من تمنع تحقيقها عالميًا. وبالنسبة له، كان هذا يرجع إلى حد كبير إلى تركيز العدالة الاجتماعية على الكفاية بدلًا من المساواة.

تعمق موين في الديناميكيّات التاريخية المُحيطة بالتعايش بين صعود الليبرالية الجديدة وخطاب حقوق الإنسان، ساعيًا إلى كشف العلاقة المعقدة بين هاتين القوتين وتأثيرهما على عدم المساواة العالمية. قدم موين عمل ميردال كإجابة على مخاوف المدافعين عن ما بعد الاستعمار، مثل المفكر الفرنسي فرانتز فانون الذي أثار فكرة الحقوق، والتخطيط الوطني، والمواطنة، ضمن نظريته «لإنهاء الاستعمار» الغربي.

وصف موين كيف تم رفض الهدف المتمثل في المساواة العالمية من قبل النظام الاقتصادي الدولي الجديد، لصالح المُثل العليا للمصلحة التي تمّ اعتمادها في الغرب، وكيف ظل مفهوم حقوق الإنسان غير مطالب به حتّى إعادة تعريفه في السبعينيات والثمانينيات.

يؤكد موين على أن خطاب حقوق الإنسان لم يكن مجهزًا بشكل جيد لمعالجة عدم المساواة الاقتصادية وصعود السياسات النيوليبرالية، وأن التركيز على الحقوق الفردية وانتهاكات الدولة جعل من الصعب على حقوق الإنسان أن تتحدى امتيازات الجهات الخاصة القوية اقتصاديًا، ونتيجة لذلك، كانت حقوق الإنسان بمثابة القشرة الأخلاقية لفاكهة النيوليبرالية المسمومة.

اتهم موين مفكرين من أمثال بول ستريتن وروبرت ماكنمارا بـ«التضليل» في تحديد مفهوم حركة حقوق الإنسان، وخصص الفصل الخامس من كتابه في الرد على أفكارهم القائلة بأنّ حقوق الإنسان واحتياجاته الأساسية يمكنهما التواجد بشكل مستقل عن الآخر، عن طريق إعادة تصوير حقوق الإنسان -مثل الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية- من خلال سياسات التوزيع العالميّة، ومحاربة الفقر عن طريق التنمية، والتخلي عن المثل العليا للمساواة صعبة التحقيق. ومع ذلك، ورغم هجومه الشديد على هؤلاء المفكرين، فإنّ موين يُلاحظ أمرًا مثيرًا للاهتمام في المناقشات النقدية التي نشأت لاحقًا، ويستغل ذلك في سرد كيفية تزامن الصعود الجديد لحقوق الإنسان مع الاهتمام بالأفراد بدلًا من الدول. وصل موين لتلك النتيجة من خلال الخوض في تحليل البيانات التفصيليّة لأنماط توزيع الدخل والثروة فيما يقرب من 12 دولة صناعية، بالاعتماد على أعمال علماء مثل توماس بيكيتي. إذ يكشف فحص موين أن منتصف القرن العشرين مثل فترة استثنائيّة من المساواة الاقتصادية، وهو ما يتناقض بشكل حاد مع عدم المساواة الصارخة التي استمرت خلال القرن التاسع عشر، والتي تم تخفيفها إلى حد كبير بسبب تدمير الثروة في زمن الحرب وسياسات الرعاية الاجتماعية بعد الحرب. ومع ذلك، ابتداءً من السبعينيات، بدأت التفاوتات في الدخل والثروة في الظهور من جديد، مما أدى إلى مستويات من عدم المساواة تذكرنا بالقرن التاسع عشر.

لم يكن خطاب حقوق الإنسان مجهزًا بشكل جيد لمعالجة عدم المساواة الاقتصادية وصعود السياسات النيوليبرالية، وجعل التركيز على الحقوق الفردية وانتهاكات الدولة من الصعب على حقوق الإنسان أن تتحدى امتيازات الجهات الخاصة القوية اقتصاديًا.

لا يمكن إخفاء ميول موين اليسارية في كتابه تحديدًا في الفصل السادس، حيث يتعمق في سياسات العدالة التوزيعية، من خلال إشراك جون رولز وتشارلز بيتز وهنري شو. ففي هذا الفصل يميز موين بين مبدأين أخلاقيين مختلفين ينطبقان على مجموعة متنوعة من المجالات، سواء كانت اقتصادية أو سياسية: هما «أخلاقيات المساواة» مقابل «أخلاقيات الاكتفاء». تؤكد أخلاقيات «المساواة» أنّ النظام الأخلاقي العادل يعتمد على تحقيق توزيع متساوٍ تقريبيّ «للأشياء الجيدة في الحياة» بين الأفراد، بما في ذلك السلع المادية ولكن أيضًا الكرامة والسلطة السياسية. بينما على النقيض من ذلك، تهدف روح «الاكتفاء» إلى ضمان أن كل فرد يلبي الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية. يُجادل موين أنّ كلًا من خطاب حقوق الإنسان ومبررات تطوير دول الرفاه في الأربعينيات كانت غامضة، ورغم أن هناك بعض الأفراد الذين سخروا من المساواة، إلا أنّ جزءًا كبيرًا من دافع دول الرفاه في بناء المدن الكبرى كان تجنب المواجهة المباشرة لمسألة المساواة. وعند تحقيق الحد الأدنى من الدعم الاجتماعي، ساهم ذلك في تقليل الفروق بين الأفراد الأقل حظًا والأكثر حظًا، على الأقل سياسيًا. ومع ذلك، فإن الفشل ترسيخ المساواة كأخلاقية أساسية لدول الرفاه في اللحظة نفسها أدى إلى عودة عدم المساواة في السنوات اللاحقة.

يستحضر موين في آخر فصول كتابه وجهات نظر مختلفة لعدد من المفكرين من نعومي كلاين إلى توماس بيكيتي لدعم أطروحته حول دور حقوق الإنسان في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ويشير إلى أن حقوق الإنسان قد سمحت بالفعل بنمو التوزيع الاقتصادي العالمي، وخلقت فرصًا للناس للخروج من حالات الفقر بشكل أكبر من أي آلية أخرى. مع ذلك، يرى موين أنّ حقوق الإنسان ظهرت كرد فعل على عقبات النيوليبرالية، وأنها تعمل داخل الهيكل النيوليبرالي وتعززه، وأن حقوق الإنسان ليست كافية بذاتها لتحقيق هدف المساواة في التوزيع. ينظر موين إلى العلاقة بين حقوق الإنسان والهيكل النيوليبرالي بشكل نقدي ويقترح استخدام حقوق الإنسان كجزء من استراتيجية أو إطار أو مكمل للتصدي لمشكلات العدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية الأكبر.

النقطة المهمة التي يحاول موين توضيحها هي أنه ليس هناك حاجة إلى التخلي عن حقوق الإنسان، بل استخدامها بشكل أكثر فعالية في معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى، إذ يمكن أن يكون لديها دور في تعزيز التوزيع العادل للثروة والفرص في المستوى العالمي وليس فقط في تقديم الحماية من انتهاكات الحقوق. ويختتم الكتاب بأمل ضعيف في أن تتمكن روح المساواة التي تم إحياؤها من معالجة القضية الملحة المتمثلة في عدم المساواة العالمية.

ومع ذلك، يعترف موين بالتحديات التي تفرضها الطبيعة العالمية للاقتصادات المعاصرة، وأنّ قدرة رأس المال على التحرك عبر الحدود تجعل من الضروري النظر في المؤسسات العالمية القادرة على تنظيم وإعادة توزيع الموارد على نطاق الكوكب. يقودنا هذا إلى الفكرة الاستفزازية المتمثلة في تشكيل حكومة عالمية، والتي قد تكون ضرورية، رغم طبيعتها الطوباويّة الواضحة، في التصدي للتحديات المعقدة التي يواجهها العالم.

  • الهوامش
    [1] صامويل موين، «ليست كافية: حقوق الإنسان في عالم غير عادل»، ترجمة أمين الأيوبي، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2022.
]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ad%d9%82%d9%88%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d9%86%d8%b3%d8%a7%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85-%d8%ba%d9%8a%d8%b1-%d8%b9%d8%a7%d8%af%d9%84/feed/ 0
وائل الدحدوح: من الأسْر إلى نقل الإبادة https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%88%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%ad%d8%af%d9%88%d8%ad-%d9%85%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d9%84-%d8%b4%d9%83%d9%84%d8%aa%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%88%d8%a8/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%88%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%ad%d8%af%d9%88%d8%ad-%d9%85%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d9%84-%d8%b4%d9%83%d9%84%d8%aa%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%88%d8%a8/#respond Mon, 05 Feb 2024 13:50:18 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89190 لو لم تكن غزّة تحت الاحتلال ربما كان الدحدوح سيواصل حياته في حيّ الزيتون التاريخيّ في غزّة؛ على طريقة أسلافه منذ مئات السنين؛ أفرادًا في عائلات ميسورة الحال يُديرُون أملاكًا كثيرة، وينشطون في الزراعة والتجارة.[1]

لكن الوعي المبكر للإنسان في نهاية المطاف ليس إلا خليط من تاريخ محيطه ومجموعة الأحداث التي تجري في هذا المحيط؛ وهذا ما كان عليه وعي الدحدوح المولود في العام 1970؛ والذي يحمل تاريخًا عائليًا من جيليْن حاربا الاحتلال؛ الأول في معارك 1948، مثل خالد محمود الدحدوح الذي استشهد دفاعًا عن مدينة يافا، والثاني حارب الاحتلال بعد 1967، مثل الحاج شعبان الدحدوح الذي اعتقل عام 1968 بتهمة دعم الفدائيين وتوفير المخبأ لهم.

ويتأثرّ هذا الوعي كذلك بمجريات الأحداث الحاضرة في محيطه حين خرج جيله في انتفاضة الحجارة عام 1987 لمواجهة المحتلّ. يقول الدحدوح عن الجوّ العام السائد في محيطه تلك الفترة: «مكنش ممكن الواحد إلّا يمارس أعمال الانتفاضة، زيه زي آلاف الشباب في البلد؛ احتلال بطخّ وبقتل ويجرح ويهدّم، فش إمكانيّة تقف متفرّج».

وائل الدحدوح: من المعتقلات البداية

أُسرَ الدحدوح ومعه آلاف الفلسطينيين بسبب نشاطهم في الانتفاضة، وحكم عليه بالسجن سبع سنوات. وهو ما  صقل وعيه على يد الحركة الأسيرة التي كانت تمرّ -من ناحية التنظيم والاهتمام بالفرد- بالمرحلة الثالثة من مسيرتها التي امتدت بين الأعوام 1984 و1993.

جاءت هذه المرحلة بعد مرحلتين؛ الأولى بين 1967 و1977 حاولت فيها إدارة السجون بشكل ممنهج  تحويل الأسرى إلى أرقام من خلال محاربة أشكال التنظيم الداخلي بين الأسرى بمنع الجلسات الثقافيّة والتوعويّة السياسيّة ومنع الكتب السياسية والأدبيّة عنهم، ومن خلال افتعال المشاكل بينهم.[2] أنهى الأسرى هذه المرحلة بعد إضراب معتقل عسقلان 1976 الذي امتد تأثيره لباقي المعتقلات فسمح لهم بإدخال الصحف والكُتب، والاجتماع في حلقات ثقافيّة وتنظيمية لتتحوّل المعتقلات إلى مراكز إنتاج الكوادر التنظيمية والفكرية والثقافية.

كادت مرحلة التنظيم هذه أن تنتهي عام 1985 عندما خرج آلاف المعتقلين، وبينهم قياديون، من المعتقلات في صفقة لتبادل الأسرى بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين -القيادة العامة- والاحتلال، لكن سرعان ما أعاد الأسرى فرز قيادات جديدة عملت على صقل وتنظيم وعي المعتقلين حديثي التجربة من أسرى انتفاضة الحجارة، من خلال إصدار المجلات والدوريات الثقافية السياسيّة والاحتفالات المجمّعة،[3] وكان الدحدوح ابن 18 عامًا أحد هؤلاء الأسرى صغار السنّ وحديثي التجربة الذين دخلوا المعتقل عام 1988.

برزت ممارسات الدحدوح للثقافة التي تلقاها في الأسر حين غطّى أحداث الانقسام الفلسطيني المسلح بين حركتيْ فتح وحماس في غزّة صيف العام 2007، ثم لاحقًا تداعيات هذا الانقسام سياسيًا.

يصف الأسير اللبناني المحرر حسن حجازي، والذي كان معتقلًا مع أحد أقارب الدحدوح في تلك الفترة، أثر نشاط الحركة الأسيرة التوعويّ والسياسيّ داخل المعتقلات على ثقافة الأسرى صغار السن بأنها مكّنت هؤلاء الشباب ليكونوا أكثر استعدادًا لتبني نمط من الثقافة والسلوك المرتبط بمواجهة المحتلّ، وتأسيس وعي معمّق من خلال تبادل الكتب، وإقامة النشاطات والدورات الثقافية اليومية ذات الطابع السياسي والثقافي، بالإضافة إلى الأنشطة المجمّعة.

يتحدّث الدحدوح عن تأثير هذه المرحلة من عمره على حياته الشخصيّة، وبدايات حياته المهنية لاحقًا بالقول إن مرحلة الأسر كان لها دور في إضفاء بصمة على شخصيّته وانعكست على أدائه في الميدان من خلال اهتمامه بالشؤون العامّة ومنها السياسية. كما ستشكّل هذه المرحلة مخزونه المعرفي، سواء أكان في مرحلة دراسته الصحافة أو في المرحلة التي تلتها، وهي عمله في الصحافة المكتوبة إبّان انتفاضة الأقصى. وبرزت ممارسات الدحدوح للثقافة التي تلقاها في الأسر حين غطّى أحداث الانقسام الفلسطيني المسلح بين حركتيْ فتح وحماس في غزّة صيف العام 2007، ثم لاحقًا تداعيات هذا الانقسام سياسيًا.

كانت ثقافة الحركة الأسيرة لسنوات طويلة تهتمّ بالوفاق الوطني داخل المعتقلات بين الفصائل، وتضمّ في قيادتها أسرى من كافة التنظيمات، ومن خارج فصائل منظمة التحرير، إضافة إلى الأسرى العرب. وتجري إدارة شؤون الأسرى بشكل توافقيّ في هذه القيادة، خاصة في القرارات التي تتطلب تنسيقًا بين المعتقلات مثل الإضرابات أو تصدير مواقف سياسيّة مثل موقف الحركة الأسيرة من أحداث الانقسام الفلسطيني في غزة العام 2007 عندما أصدرت وثيقة الوفاق الوطني التي دعت إلى نبذ مظاهر الفرقة والانقسام وما يقود إلى الفتنة، وتحريم استخدام السلاح مهما كانت المبررات لفض النزاعات الداخلية.[4]

في تلك الأحداث كان الدحدوح يعمل مراسلًا لقناة الجزيرة، وشارك في نقاشات كثيرة في شكل تغطية أخبار طرفيْ الانقسام؛ حركتيْ حماس وفتح. ولعب دورًا في الحفاظ على التوازن في التغطية، ونال بسببها ثقة الناس بكل أطيافهم وأيديولوجيّاتهم في غزة، «وائل مع الأيّام أصبح البوصلة الإنسانية والمهنية التي يلجأ لها الكثير من الصحفيين للتعامل مع القضايا الفلسطينية». كما يقول مدير مكتب المراسلين في القناة تلك الفترة ماجد خضر.

يعرف الأسير حجازي وعي الدحدوح الوحدوي هذا الذي انعكس في شكل تغطية أحداث الانقسام، ليس بين الفلسطينيين وحسب، إنما مع العرب أيضًا، فقد عاينه في فترة أسره عندما كانت عائلة الدحدوح تزور ابنها في سجنه وتلتقي بحجازي -لبناني الجنسيّة- وتهتمّ به كواحدٍ من أفرادها، «كانوا ييجوا يزوروني، الوالد والوالدة ومن ضمنهم وائل، كنت أشوفه في اللقاءات على شباك الزيارة، كان هناك نوع من التبّني [لإلي]. ما كان عنّا فرصة نشوف الأهل، كانت العائلة تيجي تزورني ووالدته تحديدًا، كنت أشعر إنها بمقام والدتي، وعوّضنا ربنا عن النقص في عدم رؤية أهلنا».

وائل الدحدوح مراسلًا حربيًا

مع نهاية العام 2008، دخل الدحدوح الاختبار الأول في تغطية الحروب، عندما شنّ الاحتلال الحرب الأولى على قطاع غزة. حينها، تفاجأ الناس من حجم القصف المكثف، والذي دهمهم في الشوارع دون أي إنذار، وفي مناطق مختلفة من القطاع وفي وقت واحد.

نقل الدحدوح أخبار المجازر إلى العالم، والتي استشهد فيها أكثر من 1400 فلسطيني في قطاع غزة، ومعها عرف الدحدوح معنى الحرب، وعرف كيف يختار من كمِّ الأحداث الكبير التي تحدث في الفترة نفسها، وفي مناطق متفرقة، تلك التي تختصر المشهد، لبثّها بما يخدم سرديّة غزّة أمام العالم، وخلالها حاول أكثر من مرّة أن يُمسك نفسه من أن يبكي على الهواء. وأصرّ أن ينقل قصص الناجين من المجازر.

وفي حرب العام 2012، ركّزت تغطية الدحدوح، بالإضافة إلى نقل أخبار المقاومة وشكل الاستهداف، على تقديم قصص الناس تحت القصف إلى العالم، والسعي لرواية قصص الشهداء، بحيث لا يتحوّلون أرقامًا يجري تناقلها، وكل هذا فعله دونما مبالغة أو تهويل.

كما كان الدحدوح ينقل واقع قطاع غزة المحاصر منذ سنوات إلى العالم، بما فيه قصص ناسه وأثر الحصار عليهم، بلغة سهلة ليس فيها تعقيد. وساعدت معرفة الدحدوح بقطاع غزة في شرح واقع الناس وأماكن سكناهم، وكما يقول زميله في بدايات عمله في الجزيرة زياد العجلوني «لا يوجد منطقة في قطاع غزة من شماله إلى جنوبه إلا وخبرها، وكأنه عاش في كل أزقة وحواري قطاع غزة».

خلال هذه الحروب، كان الدحدوح واحدًا من ناس غزّة؛ يُستشهدُ من عائلته الممتدة تحت القصف مثلما يُستشهد لأيّ عائلةٍ غزيّة، ويُشارك أفراد من عائلته كذلك في مقاومة المحتلّ ضمن راية الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة، منهم شقيقه أمين حمدان وعدد من أبناء عمومته وأبناء عمّاته ومنهم قائد سرايا القدس خالد الدحدوح، بالإضافة إلى استشهاد أطفال ونساء من العائلة. هكذا، ومع حرب العام 2014، كان الدحدوح قد راكم خبرة كبيرة في تغطية الحروب، وراكم كذلك محبّة عند الناس.

تحاشى الدحدوح أن يظهر انكساره أمام الكاميرا حتى حين فقد أفرادًا من أسرته في القصف، موجهًا رسالةً إلى المحتلّ حينما وثقّت هواتف الناس تأثره برحيلهم: «هذه دموع الإنسانيّة مش دموع الخوف والانهيار والجبن، وليخسأ الاحتلال».

ساهم الحضور المميز للدحدوح في تطوير علاقته بأهل غزة، وهو الذي نقل ما يعانونه للعالم، وعرفوا منه كذلك مجريات الحروب المتكررة عليهم، وعرفوا عبره أخبار نهايتها، ولذا عندما انتهت حرب العام 2014 على غزّة كان الدحدوح كعادته بين الناس المتجمهرين احتفاء بانتهائها، يُحاول إسماع صوتهم للعالم، فوجد نفسه مرفوعًا على أكتاف الناس.

يُدرك الدحدوح هذه الحالة بقوله إن التضامن والتعاطف والتأييد يثبت أن الناس متعطشّة إلى الصدق، وأنها تقدّر أي جهة أو جهد يتحدث عنها وعن آلامها بلسانها ولغتها ومفرداتها، «نحن لا نخترع العجلة ولسنا أول صحفيين نغطي الحروب، لكن الله ألهمنا أن نتحدث بلسان الناس». وبالطبع أسهم كون الجزيرة منصة واسعة الانتشار تُركّز على تغطية الحروب على غزّة في تعزيز علاقة الدحدوح بالجمهور.
الأهم بعد هذه الحروب أنه أدرك أهميّة ما يقوم به، والثمن المحتمل الذي يمكن أن يدفعه، إذ يقول إنه قد يتردد البعض ويتشتت للحظة خلال تغطية الحرب لكن في نهاية المطاف عليك أن تستجمع قواك وتكمل: «يا إمّا تروح في البيت وتقعد زيّك زي أي مواطن تنتظر قدرك ومصيرك المحتوم».

بهذا الفهم لمهنته، يكون الدحدوح قد استبعد صورة المثقف باعتباره أحد المهنيين مجهولي الهويّة؛ أيّ مجرد فرد كفؤٍ يمارس عمله وحسب، إلى اعتبار نفسه فردًا داخل المجتمع يحمل رسالة أو وجهة نظر ويعمل على الإفصاح عنها، ويكون مستعدًا لأن يدفع ثمن إيصال الرسالة -إن تطلب الأمر-. وفي اعتبار مبرّر وجوده في الحياة تمثيل الأشخاص والقضايا التي عادة ما يكون مصيرها النسيان أو التجاهل والإخفاء.[5]

وهذا ما تجلّى في الحرب الأخيرة على غزّة إذ مارس الدحدوح القناعة التي استخلصها من الحروب السابقة في أن مهنته ليست مهنة فرد كفؤ يمارس عمله وحسب، إنما مهنة لها تأثيرٌ على الناس في غزّة؛ لذا تحاشى أن يظهر انكساره أمام الكاميرا حتى حين فقد أفرادًا من أسرته في القصف، موجهًا رسالةً إلى المحتلّ حينما وثقّت هواتف الناس تأثره برحيلهم: «هذه دموع الإنسانيّة مش دموع الخوف والانهيار والجبن، وليخسأ الاحتلال».

وكذا فعل في المرتين اللاحقتين عندما اغتال الاحتلال زميله سامر أبو دقة وأصيب هو، وعندما اغتيل ابنه البكر حمزة، إذ أصرّ على مواصلة مهنته مهما كانت التبعات والأثمان وما دام قادرًا على الاستمرار، في شكل من أشكال الوفاء لمن سقط من شهداء.

بخلاف ما يُظهر على الكاميرا، يبكي الدحدوح فراق كل شخص يستشهد من عائلته في اتصالات الأصدقاء به كما يقول خضر. إن الصحفيين في غزّة، ومنهم وائل «يعملوا في حقل ألغام، إنت بدك تجمع بين اللي بيسموها موضوعية وبين وضعك الإنساني والأخلاقي، هذه معضلة والتوفيق فيها ليس سهلًا».

لا يقتصر الدحدوح على الظهور أمام الكاميرا لنقل مجريات الأحداث إنما يمتدّ هذا الدور إلى الصحفيين الشباب مثل زميله إسماعيل الغول (27 عامًا)، فيعمل معهم في الحرب كموجهٍ في شكل التغطية أولًا، ومن ثم كيفية التحرك على الأرض، والحفاظ على حياتهم. يقول الغول إن الدحدوح دائمًا ما يكون حريصًا على ألّا نتعرض للخطر «دائمًا يوصينا ديروا بالكم على حالكم، دعوات أب حنون، وحثّ متواصل على أن نكون في أمان، وائل البوصلة التي تصحح مسارنا».

يمكن القول إن ما شهدته العائلة في هذه الحرب كان يُقصد به الدحدوح نفسه، والدور الذي يقوم به؛ إذ اغتال الاحتلال أفرادًا من عائلته، وأصابه، واغتال زميله المصوّر، ثم عاد وقتل ابنه البكر حمزة بعد أقل من 48 ساعة على تصريح وزير التراث بضرورة إيجاد طرق مؤلمة أكثر من الموت بالنسبة للفلسطينيين، بهدف حسم المعركة وهزيمتهم وكسر معنوياتهم.

مثلما ورث الدحدوح من جيلين في عائلته ممارسة مقارعة المحتل في النكبة والنكسة، وتأثرًا بنشاط محيطه من شباب انتفاضة الحجارة الأولى وما تبعها في مرحلة الأسر، يعيد التاريخ دورته ويحمل الدحدوح وكثير من صحفيي غزّة توجهًا عامًا الآن كما يقول مراسل التلفزيون العربي باسل خلف الذي فقد هو الآخر مثل أغلب صحفيي غزة أفرادًا من عائلاته في هذه الحرب: «هناك قرار -الآن بسبب حجم المجزرة – عند كل الصحفيين الفلسطينيين، أن المسؤولية والواجب فوق كل شيء، هذا لا يعني أننا لسنا بشر، لكن الحدث صعب وكبير».

وهذا ما يدركه الدحدوح على الأرجح، لذا فإنه يمارس مهنته من وعيٍ إنساني وسياسيّ، في محاولةٍ على ما يبدو لإيصال فكرة مفادها: إن كان ثمة موت محتمٌ فليكن للطرف الآخر نصيب منه ولو بكسر صورته أمام العالم، وأنّ البنادق ليست كلها التي يطلق منها الرصاص.

  • الهوامش

    [1] عثمان مصطفى الطباع، إتحاف الأعزة في تاريخ غزّة، تحقيق ودراسة عبد اللطيف زكي أبو هاشم، مكتبة اليازجي، ط 1، 1999، مجلد 3، ص 172.

    [2] حسن عبدالله حسن محمّد، رسالة ماجستير بعنوان:«الصحافة العبريّة في تجربة المعتقلين الفلسطينيين خلال الاعتقال وبعد التحرر»، جامعة القدس، فلسطين، 2004/2005، ص 3.

    [3]  حسن عبدالله حسن محمّد، رسالة ماجستير بعنوان:«الصحافة العبريّة في تجربة المعتقلين الفلسطينيين خلال الاعتقال وبعد التحرر»، جامعة القدس، فلسطين، 2004/2005، ص 15.

    [4] وقد عبّرت عنها وثيقة الأسرى المعروفة بوثيقة الوفاق الوطني/ للاطلاع على الوثيقة من هنا.

    [5] إدوارد سعيد، المثقف والسُلطة، ترجمة محمّد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2006 ص 43

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%88%d8%a7%d8%a6%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%ad%d8%af%d9%88%d8%ad-%d9%85%d8%b1%d8%a7%d8%b3%d9%84-%d8%b4%d9%83%d9%84%d8%aa%d9%87-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%88%d8%a8/feed/ 0
حرب على الأونروا: ما الذي يعنيه وقف تمويل الوكالة؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%8a%d8%b9%d9%86%d9%8a-%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%aa%d9%85%d9%88%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%86%d8%b1%d9%88%d8%a7/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%8a%d8%b9%d9%86%d9%8a-%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%aa%d9%85%d9%88%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%86%d8%b1%d9%88%d8%a7/#respond Thu, 01 Feb 2024 15:19:44 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89181 نهاية الشهر الفائت، بعثت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) برسالة للصحفيين تؤكّد فيها أنها وعلى إثر انتشار «مزاعم» مشاركة 12 موظفًا من العاملين لديها في غزّة في هجوم السابع من أكتوبر، ومن منطلق أن الوكالة تتبنّى «سياسة عدم التسامح المطلق تجاه مثل هذه الأفعال»، فقد أنهت عقود الموظفين المعنيين، ورتبت لإجراء تحقيق بقيادة مكتب الأمم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية (OIOS)، وهي أعلى سلطة تحقيق في منظومة الأمم المتحدة.

ورغم هذه الاستجابة السريعة للوكالة للاتهامات الإسرائيلية، والتي كانت صدرت قبل أيّام فقط من رسالة الأونروا، وعدم خروج نتائج التحقيق بعد، إلّا أن الولايات المتحدة -إحدى أبرز المساهمين في تمويل الوكالة- جمّدت تمويلها لها، ولحقت بها 15 دولة ممولة؛ منها كندا وأستراليا وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وألمانيا وهولندا وفرنسا وسويسرا واليابان والنمسا وإستونيا والسويد.

قبل تجميد التمويل ومنذ بدء الحرب على غزة، يستهدف جيش الاحتلال العاملين في الوكالة ومقرّاتها بالإضافة إلى مدارسها التي تحوّلت إلى مراكز إيواء للنازحين، كما ويستهدف عملها في شمال القطاع بشكل ممنهج ويمنعها من توزيع المساعدات فيه. وحتى نهاية الشهر الفائت، وصل عدد من قتلهم جيش الاحتلال من العاملين في الأونروا 152 عاملًا. كما استشهد العديد من الغزيين الذين لجأوا إلى مقرات الوكالة، وأحدث تلك الاستهدافات، قصف أحد مراكز تدريب الوكالة في جنوب غزة، والذي نجم عنه استشهاد 12 شخصًا وجرح العشرات.

استنكرت حركة حماس قرار فصل الموظفين المتهمين بمزاعم أوردها الاحتلال دون تحقيق، ووصف القيادي في الحركة أسامة حمدان هذا الإجراء بأنه خطوة تفتقر للمهنية. كما اعتبر تجميد تمويل الوكالة خطوة غير مسؤولة تتسق مع السعي الصهيوني لتصفية الأونروا على طريق إنهاء قضية اللاجئين وتصفية القضية الفلسطينية. فيما اعتبرت الفصائل الفلسطينية في غزّة قرار فصل الموظفين رضوخًا من الأونروا لابتزاز صهيوني. وأكّدت جامعة الدول العربية في بيان لها أن وقف تمويل الوكالة أو تخفيضه يعرّض أجيالًا من اللاجئين الفلسطينيين لخسارة الخدمات الصحية والتعليمية والخدماتية، مطالبةً بتجنب تحميل الوكالة تبعات الاتهامات الإسرائيلية الجائرة لبعض موظفيها.

تقدّم الوكالة[1] منذ مباشرة عملها عام 1950 خدمات الإغاثة، وتشغيل لاجئي فلسطين، والتعليم الابتدائي والمهني، والرعاية الصحية الأولية، وشبكة الأمان الاجتماعي والدعم، وتحسين البنية التحتية في المخيمات، والإقراض الصغير للاجئين، والاستجابة الطارئة بما في ذلك في حالات النزاع المسلح. ويحصل على هذه الخدمات قرابة ستة ملايين لاجئ مسجّل على قوائم الوكالة في 58 مخيمًا في غزة والضفة الغربية والقدس والأردن ولبنان وسوريا. ويتركّز العدد الأكبر منهم في الأردن، حيث يوجد 2.2 مليون لاجئ مسجّل، وفي قطاع غزّة حيث يوجد 1.48 مليون لاجئ مسجّل. وتتلقّى الوكالة تمويل عملياتها بشكل كامل تقريبًا من خلال التبرعات الطوعية للدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وبشكل أقل من تبرعات الأفراد والهيئات المدنية.

«إسرائيل» والولايات المتحدة: تاريخ من السعي لوقف الأونروا

خلال السنوات الماضية، كانت الدول الممولة للوكالة -وعلى رأسها الولايات المتحدة- تتخذ قرارات تقليص أو تجميد أو وقف تمويلها للوكالة لاعتبارات سياسيّة تتعلق بقضية اللاجئين وحق العودة، مدفوعةً بضغط من «إسرائيل». قبل أيّام، عبرت المندوبة الأمريكية لدى الأمم المتحدة أن بلادها تريد استئناف تمويلها للوكالة لكن بعد إجراء الوكالة لتغييرات جوهرية. وفي تصريحات صحفية، قال مسؤول إسرائيلي إن الاحتلال يعارض إلغاء الأونروا، تحديدًا خلال الحرب على القطاع «فقد يتسبب ذلك في كارثة إنسانية ستجبر «إسرائيل» على وقف قتالها ضد حماس (..) وهذا لن يكون في مصلحة «إسرائيل» وحلفائها». ومع اعتراف الولايات المتحدة و«إسرائيل» بأنه لا بديل عن الأونروا، يتحدث كلاهما عن ضرورة إجراء تغييرات جوهرية في عملها، بجعلها مرتبطة بالإغاثة وحسب.

بخلاف المنظمات الإغاثية التابعة للأمم المتحدة، كانت فكرة الوكالة ومن ثم ممارسة عمل موظفيها لسنوات طويلة منذ تأسيسها مرتبطة بشأن سياسيّ يتعلّق بقضية اللاجئين وحق العودة، إذ تعرّف الوكالة اللاجئ الفلسطيني -المستحق لخدامتها- بأنّه الشخص الذي كانت فلسطين مكان إقامته الطبيعي خلال الفترة الواقعة بين حزيران 1946 وأيار 1948، والذي فقد منزله ومورد رزقه نتيجة حرب عام 1948، وأن أبناء لاجئي فلسطين الأصليين والمنحدرين من أصلابهم مؤهلون أيضًا للتسجيل لدى الأونروا. هذا التعريف لمن هو اللاجئ مزعج لإسرائيل، وقد عبّر وزير الخارجية الإسرائيلي في تغريدة له مؤخرًا عن سبب رفض دولته للوكالة بالقول إن «إسرائيل» حذّرت منذ سنوات من أن الوكالة تديم قضية اللاجئين، وتعرقل عمليّة السلام، وتعمل ذراعًا مدنيًا لحماس في غزة.

في هذه الحرب قادت الخارجية الإسرائيليّة نشاطًا دبلوماسيًا في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لدعم توجهها بألا تكون الوكالة جزءًا من اليوم التالي للحرب على غزّة.

الشكل الذي يُراد للوكالة أن تكون عليه عبّرعنه جيمس ليندساي، المستشار العام السابق للأونروا والباحث في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في تقرير له منشور عام 2009 حين اتهم الوكالة بالفشل في توطين اللاجئين في البلدان المضيفة على غرار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وأن هذا الفشل يعود إلى قرار سياسيّ لدى الوكالة بضرورة عودة اللاجئين إلى الأراضي التي تسمى الآن «إسرائيل».

ويتجلّى الربط بين تمويل الوكالة وقضيّة اللاجئين، خلال نقاشات إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع دول عربيّة بشأن صفقة القرن التي سعت لحل القضية الفلسطينية ومنها قضية اللاجئين. إذ أوقفت الولايات المتحدة حينها تمويل الوكالة نهائيًا في 2018 «لأنها تزيد إلى ما لا نهاية وبصورة مضخّمة أعداد الفلسطينيين الذين ينطبق عليهم وضع اللاجئ، وبأن توسع مجتمع المستفيدين أضعافًا مضاعفةً وإلى ما لا نهاية لم يعد أمرًا قابلًا للاستمرار»، بحسب المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية وقتها. لكن هذا القرار تم التراجع عنه مع قدوم إدارة بايدن.

في هذه الحرب، ومع النقاشات والحراك الدبلوماسي الذي يبحث مسألة غزة بعد الحرب، وبألا تكون حماس جزءًا من الحكم في غزّة وحل القضية الفلسطينية ومن بينها قضية اللاجئين العالقة، قادت الخارجية الإسرائيليّة نشاطًا دبلوماسيًا في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لدعم توجهها بألا تكون الوكالة جزءًا من اليوم التالي للحرب على غزّة.

قبل أسابيع من قرار اتخاذ قرار تجميد التمويل الأخير، ومن أجل سوق حجج لوقف تمويل الوكالة، ارتكزت منظمة الرقابة على الأمم المتحدة (UN WATCH)، وهي منظمة مؤيّدة لإسرائيل، في تقرير رفعته إلى مفوض الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، وسفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة ليندا غرينفيلد على منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي نشرها مدرسون يعملون في مدارس الوكالة في غزة قالت إنهم أيدوا فيها أحداث السابع من أكتوبر من أجل دعوة الممولين الرئيسيين للوكالة إلى التأكد من أن أيًّا من تبرعاتهم مجتمعة البالغة 1.2 مليار دولار للأونروا لن تستخدم في تمويل المعلمين الذين ينشرون الكراهية، ومحاسبة الوكالة على انتهاكاتها.

وقف تمويل الأونروا وتأثيراته الكارثية

قبل الحرب، اعتمد لاجئو مخيمات قطاع غزّة على خدمات الوكالة في مجالات الغذاء والتعليم والصحّة بشكل أساسي، بفعل الظروف المعيشيّة الصعبة التي تسبب بها الحصار المفروض على القطاع منذ العام 2007، وبسبب آثار الحروب المتتالية. ففي مجال الغذاء، كان قرابة 700 ألف فلسطيني من غزّة يتلقون مساعدات غذائيّة طارئة من الوكالة، ورغم هذا عانى 95% من السكّان من انعدام المياه النظيفة، و63% من السكّان من انعدام الأمن الغذائي. وفي مجال التعليم، كان قرابة نصف الطلبة في قطاع غزة (نحو 300 ألف طالب وطالبة) يتلقون تعليمهم في مدارسها.

وفي مجال الصحّة، شكّلت الخدمات الصحيّة المقدمة من الوكالة لأهل غزة حاجة أساسيّة، إذ قدّمت لهم الرعاية الصحية من خلال 22 مركزًا تابعًا لها، وتنوّعت هذه الخدمات ما بين خدمات العيادات والفحوص المخبرية، والأمومة وتنظيم الأسرة والعناية ما قبل الولادة، والتصوير بالأشعة، وطب الأسنان، بالإضافة إلى تقديم التطعيم ضد عشرة أمراض بنسبة تغطية قريبة من 100%. ولذا يمكن القول إن الوكالة شكّلت عصب حياة أساسي لأهالي القطاع، حتى قبل الحرب. ومع العدوان على القطاع، زادت حاجة الغزيين لخدمات الأونروا، مع إجبار أكثر من 1.7 مليون شخص على النزوح من بيوتهم، وإصابة عشرات الآلاف بالنيران الإسرائيلية.

توقف أعمال الإغاثة التي تقدمها الوكالة في غزة الآن، سيتسبب في كوارث كبرى باعتبارها الجسم الوحيد الذي يقدم هذه الخدمات من خلال ثلاثة آلاف موظف لقرابة 2.3 مليون غزي.

توقف أعمال الإغاثة التي تقدمها الوكالة في غزة الآن، سيتسبب في كوارث كبرى باعتبارها الجسم الوحيد الذي يقدم هذه الخدمات من خلال ثلاثة آلاف موظف لقرابة 2.3 مليون غزي، كما يقول عدنان أبو حسنة المستشار الإعلامي للأونروا في القطاع. وأفاد بيان للوكالة صدر اليوم الخميس أنه من المرجح أن تضطر الوكالة إلى إيقاف عملياتها بحلول نهاية شباط إذا بقي قرار تجميد التمويل، ليس في غزة وحسب، إنما كذلك في جميع مناطق عملها.

وحول حجم تأثير قرار تجميد التمويل على الخدمات المقدمة يؤكّد أبو حسنة أنه وفي حال عدم تراجع هذه الدول عن قرارها فإن كل البرامج ستتأثر، بسبب أن ستة من هذه الدول قدمت في العام 2023 ثلثي حجم الأموال المقدمة للأونروا أي حوالي 847 مليون دولار.

يصف صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني،[2] الدور الذي تقوم به الوكالة بأكسجين الحياة الوحيد الذي يدعم الفلسطينيين الآن في القطاع، خاصةً أولئك الذين يعيشون في مقرات تابعة لها مثل مدارس الإيواء ووقف تمويلها يعني إهلاك اللاجئين بسبب الجوع والعطش وانتشار الأمراض وتحديدًا في شمال القطاع. يقول عبد العاطي إن حملات التحريض على الوكالة ليست جديدة وأن قرار تجميد التمويل جاء كعقاب لها بعد حُكم محكمة العدل الدولية الذي استأنس بتقارير للوكالة في موضوع بحثها بوجود إبادة جماعية في غزة.

في الأردن، حيث يعيش أكبر تجمّع للاجئين الفلسطينيين (2.2 لاجئ مسجّل) داخل 10 مخيمات[3] يقدم 25 مرفقًا صحيًا، تابعًا للوكالة، الخدمات الصحية لقرابة نصف اللاجئين المسجلين (1.1 مليون)، بالإضافة إلى ذلك يعتمد 70 ألف مريض بأمراض مزمنة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم على الفحوصات والأدوية التي تقدمها هذه المرافق. وفي مجال التعليم، يتلقى 121 ألف طالب وطالبة تعليمهم في 169 مدرسة تابعة للوكالة. ومع اندلاع الحرب في سوريا، ولجوء الكثير من فلسطينيي مخيماتها إلى الأردن، زاد الطلب على خدمات الوكالة وتحديدًا على الخدمات الإغاثية.

في المرة الأخيرة التي أوقفت فيها الولايات المتحدة دعمها، اعتمدت الوكالة في الأردن على حلول تقشّفية في تقديم خدماتها إلى اللاجئين مثل الاعتماد على العقود السنوية في التوظيف أو تقليص عدد الموظفين في بعض الأقسام، أو تقليص أعداد الصفوف الدراسيّة وزيادة أعداد الطلبة في كلٍ منها.

يؤكّد وزير الاتصال الحكومي الناطق باسم الحكومة الأردنية مهند مبيضين على موقف الأردن الذي عبر عنه وزير خارجيتها خلال لقائه المفوض العام للأونروا الذي يدعو الدول التي جمّدت تمويلها إلى مراجعة قرارها. يرفض مبيضين التعليق على الآثار المترتبة على استمرار تجميد تمويل الوكالة أو وقفه على الخدمات المقدمة في مخيمات الأردن، لكنه يؤكّد أن الوكالة ومنذ سنوات تمرّ بمرحلة تمويلية صعبة، وإذا ما استمر هذا التجميد فسيؤثر على الخدمات المقدمة في المخيمات وهذا «ما لا يريده الأردن».

يقول مبيضين، إن تمويل مؤسسة كبيرة مهمة مثل الوكالة يعمل فيها آلاف الموظفين لا يجب أن يتأثر بشكوك أو ادعاءات حول 12 موظفًا فيها، داعيًا الدول التي اتخذت قرار تجميد تمويلها للوكالة بأن تراجع موقفها، حتّى لا تمس تبعات هذا القرار بالواجبات التي تقوم بها الوكالة.

يقول أبو حسنة، إنه وفي حال لم يتمّ التراجع عن قرار وقف تمويل الوكالة، فإن انهيارًا سيحصل في الخدمات التي تقدّمها لستة ملايين لاجئ. وحول فيما إذا ما كان دافع هذا القرار سياسيًا يسعى إلى إنهاء الوكالة في المستقبل يجيب أبو حسنة «لا أحد يستطيع أن يحل مكان الأونروا، ومن يريد أن يحلّها فليذهب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ويحصل على تفويض منها».

  • الهوامش

    [1] تأسست بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدّة.

    [2] مؤسسة أهلية حقوقية غير ربحية، تسعى إلى حماية حقوق الإنسان في فلسطين ورصد انتهاكات الاحتلال الاسرئيلي والانتهاكات الداخلية ومتابعتها مع الأجسام الدولية.

    [3] بالإضافة إلى 3 مخيمات غير معترف فيها وهي: مأدبا، حي الأمير حسن، السخنة

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d8%a7%d8%b0%d8%a7-%d9%8a%d8%b9%d9%86%d9%8a-%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%aa%d9%85%d9%88%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%86%d8%b1%d9%88%d8%a7/feed/ 0
الحرب على غزة: هل دخلت الجبهة العراقية مرحلة جديدة؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a8%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82%d9%8a%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a8%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82%d9%8a%d8%a9/#respond Thu, 01 Feb 2024 14:29:09 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89175 أشعلت مجزرة المستشفى المعمداني في 17 تشرين الأول الماضي شرارة استهداف المقاومة الإسلامية في العراق للقواعد العسكرية الأمريكية في المدن العراقية والسورية، عبر الصواريخ والطائرات المسيّرة ردًا على دعم واشنطن لتل أبيب في الحرب على غزة. وصل عدد هذه العمليات خلال مائة يوم من الحرب 180 عملية، كان أبرزها هجوم نُفذ قبل أيام بطائرة مسيرة على قاعدة «البرج 22» الأمريكية على الحدود الأردنية السورية، أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة 40 آخرين. جاء هذا الهجوم كجزء من استهداف طال ثلاثة قواعد أمريكية في سوريا، هي الشدادي والركبان والتنف، وهدفًا إسرائيليا هو منشأة زفولون البحرية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لم تكن هذه المرة الأولى التي تضرب فيها قاعدة التنف، حيث سبق أن تعرضت في الرابع من كانون الثاني لهجوم بمُسيرتين مجهولتي المصدر، تمكنت القوات الأمريكية من إسقاطهما قبل وصولهما للقاعدة. لكن الضربة الأخيرة وصفت بكونها «الأولى من نوعها» و«تصعيدًا كبيرًا للوضع في الشرق الأوسط». حمّل الرئيس الأمريكي جو بايدن في تجمع انتخابي مسؤولية الهجوم «لجماعات مسلحة تنشط في سوريا والعراق مدعومة إيرانيًا»، متوعدًا بمحاسبة المسؤولين عن الهجوم بالوقت والطريقة التي تختارها الولايات المتحدة. وبحسب مسؤولين أمريكيين فإن واشنطن لا تريد حربًا مع طهران، ولذلك فإن الرد على إيران قد يستمر لبعض الوقت ويأخذ مستويات ومراحل متعددة، تشمل ضرب الأساطيل البحرية الإيرانية في الخليج أو استهداف قادة إيرانيين في سوريا أو العراق حيث حصلت اغتيالات واستهدافات أمريكية نوعية مؤخرًا.

في سياق ذلك، أعلن الأمين العام لكتائب حزب الله العراقي، أبو حسين الحميداوي، تعليق العمليات العسكرية والأمنية ضد الولايات المتحدة دفعًا لإحراج الحكومة العراقية. مؤكدًا التزام الحزب بالدفاع عن غزة «بطرق أخرى» والجاهزية للدفاع أو استئناف الهجمات «إن حصل أي عمل أميركي عدائي تجاههم»، في حين علّقت وزارة الدفاع الأميركية على البيان قائلة «إن الأفعال أبلغ من الأقوال».

ماذا يحصل على الجبهة العراقية؟

تفاعل العراق مع أحداث طوفان الأقصى منذ اندلاعها عبر الجهود الدبلوماسية والاحتجاجات الشعبية والمشاركة العسكرية، إلا أن المستويات الرسمية والشعبية والفصائلية شهدت تفاوتًا ملموسًا. منذ البداية، اعتبرت الحكومة العراقية أن عملية طوفان الأقصى «هي نتيجة طبيعية للقمع الممنهج الذي يتعرض له الفلسطينيون منذ عهود مضت على يد سلطة الاحتلال الصهيوني، التي لم تلتزم يومًا بالقرارات الدولية والأممية»، وأدانت المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي والترحيل الذي يتعرض له الفلسطينيون في غزة محذرةّ من «اندلاع صراع إقليمي إذا استؤنفت الحرب». 

في الوقت نفسه، حاولت الحكومة النأي بنفسها عن المشاركة المباشرة؛ وقد وصف رئيس الوزراء العراقي محمد السوداني استهداف السفارة الأمريكية في بغداد أوائل تشرين ثاني الماضي «بالعمل الإرهابي»، قائلًا في مناسبة أخرى إن «الحكومة هي من تقرر موقف العراق من أي حدث أو ظرف إقليمي، وهي المسؤولة عن اتخاذ القرارات الكبيرة، وفقًا للدستور، وانطلاقًا من المصلحة العليا للعراقيين». حاول السوداني احتواء أو وقف التصعيد الذي تشنه الفصائل المسلحة ضد القواعد الأمريكية لما له من «أثر خطير على استقرار حكومته والدعم الأميركي لها»، خصوصًا وأن هذا التصعيد يمكن تفسيره على أنه هجمات من قبل أفراد من القوات المسلحة العراقية أو «الإطار التنسيقي» وهو تجمع برلماني غير رسمي لأحزاب عراقية تشكّل الحكومة، وتنضوي تحته بعض الفصائل المسلحة.

تضم «المقاومة الإسلامية في العراق» بشكل رئيسي كتائب حزب الله العراقي، وكتائب سيد الشهداء، وحركة النجباء، وأنصار الله الأوفياء. تأسست بعض الفصائل المسلحة بعد الغزو الأمريكي للعراق وكان لها دور في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بوصفها جزءًا من قوات الحشد الشعبي التي تأتمر بإمرة القائد العام للقوات المسلحة. يقول الباحث العراقي المتخصص في شؤون الحركات والجماعات الإسلامية، عبدالله الطائي، إن بعض الفصائل العراقية المحسوبة على راية المقاومة الإسلامية لم تنخرط بالهجوم العسكري، مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق اللتين اكتفتا بالدور الإعلامي والجماهيري. مضيفًا أن بعض الفصائل غير المنخرطة في العمليات العسكرية تشكل جزءًا من التحالف الرسمي الحاكم وترغب بالحفاظ على مكتسباتها السياسية التي حققتها من الحكومة الحالية وانتخابات مجالس المحافظات، والمصالح الاقتصادية بعد ارتفاع أسعار النفط وأزمة الدولار وسلسلة العقوبات الأمريكية عليها.

قبل ثلاثة أشهر من اندلاع طوفان الأقصى، نجح السوداني في إبرام هدنة بين الأمريكيين وبعض فصائل المقاومة الإسلامية لوقف أي هجمات بين الطرفين، على أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم اغتيال قيادات الفصائل وتتولى الحكومة العراقية حصرًا البت في مصير القوات الأميركية ومهامها. غير أن المقاومة الإسلامية في العراق استأنفت استهدافها للمصالح الأمريكية بهجوم لطائرتين بدون طيار على «قاعدة عين الأسد الجوية» غرب العراق في 17 تشرين الأول الماضي، تلاهما هجوم مسيّرة على «قاعدة حرير الجوية» في كردستان العراق في اليوم نفسه.

أسفرت هجمات المقاومة الإسلامية على الأهداف الأمريكية والإسرائيلية عن إصابة ما لا يقل عن 110 أمريكيًا، ومقتل أربعة، من خلال عمليات وصل عددها خلال مائة يوم من الحرب 180 عملية.

تلقت عين الأسد وحدها 41 ضربة من أصل 180 ضربة توزعت ما بين القواعد الأمريكية في سوريا والعراق وأهداف إسرائيلية بحرية في الأراضي المحتلة. تعتبر عين الأسد إحدى أكبر القواعد التي تتمركز فيها القوات الأمريكية بعد احتلال العراق عام 2003 رغم تسليمها للجانب العراقي عام 2011. تضم القاعدة عنابر تخزين الطائرات المقاتلة ومدرجين لهبوط وإقلاع الطائرات ومستشفى ومخازن أسلحة وذخيرة وتأوي حاليًا حوالي ألفي جندي. في الثامن من يناير عام 2020، قصفَ الحرس الثوري الإيراني القاعدةَ بصواريخ بالستية أسفرت عن أضرار مادية وإصابات طفيفة، ردّاَ على اغتيال اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس. 

يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، طارق الزبيدي، إن الفصائل العراقية المسلحة لطالما اعتبرت القواعد الأمريكية أهدافًا مشروعة، رغم أن الحضور الأمريكي في العراق يأتي ضمن المهام الاستشارية التي تؤديها كجزء من التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لكن هذه القوات تورطت في أدوار قتالية ضد ثكنات قوات الحشد الشعبي العراقية، الأمر الذي خلق أزمة أخرى بين الحكومة والفصائل والقوات. ورغم أن عمليات المقاومة انطلقت بدافع وقف العدوان على غزة، بدليل التهدئة التي رافقت الهدنة المؤقتة بين حماس و«إسرائيل»، إلا أنها بغض النظر عن الحرب تظل ملتزمة بإزالة الوجود الأمريكي من العراق. 

بالإضافة إلى استهداف المقاومة الإسلامية في العراق قواعد أمريكية في إقليم كردستان وسوريا عشرات المرات، استهدفت كذلك أهدافًا في المدن والموانئ الإسرائيلية؛ حيفا وأسدود وإيلات. نُفذت أول عملية في الأراضي المحتلة بقصف هدف في إيلات (أم الرشراش) مطلع تشرين الثاني الماضي فيما وصف بأنه «مرحلة جديدة لنصرة فلسطين». يقول المحلل السياسي صباح العكيلي إن الأهداف البحرية للمقاومة العراقية وإن كانت لا تملك آثارًا واسعة مثل تلك التي تحققها حركة أنصار الله في البحر الأحمر لما يتيحه موقع اليمن الجغرافي على باب المندب من مساحة ضغط، إلا أنها تأتي كجزء من تحركات متناغمة لمحور المقاومة تساند بعضها البعض وتعبّر عن وحدة الساحات.

إلى جانب الصواريخ الجوالة (الكروز)، استخدمت الفصائل المسلحة في عملياتها العسكرية الطائرات المسيّرة ذات الرؤوس الحربية المتفجرة والأجنحة الثابتة لمهاجمة القواعد أمريكية ومن بينها العملية الأخيرة في قاعدة التنف. يقول المحلل العسكري الأمريكي مايكل نايتس إن إيران قدمت هذه الطائرات حصرًا للوحدات التي تقودها كتائب حزب الله العراقي، وظهرت في عرض عسكري قامت به قوات الحشد الشعبي عام 2021.

في المحصلة، أسفرت هجمات المقاومة الإسلامية على الأهداف الأمريكية والإسرائيلية عن إصابة ما لا يقل عن 110 أمريكيًا، ومقتل أربعة؛ ثلاثة في البرج 22، بالإضافة لمقاول أمريكي مات إثر نوبة قلبية ناجمة عن ضربات جوية في تشرين الأول. يُذكر أن البرج 22 يعمل كمركز لوجستي للوحدات العسكرية الأمريكية في سوريا ويتمركز فيه حوالي 350 جنديًا، ويقع بالقرب من قاعدة التنف التي نفذت مهامًا ضد تنظيم الدولة الإسلامية وأهداف إيرانية شرقي سوريا، وشكلت أيضًا -بحسب وزارة الدفاع الأمريكية- جزءًا من شبكة الدفاع الأردنية. 

الوجود الأمريكي في دائرة الاستهداف

يقول الطائي إن الأمريكيين حرصوا على تجنب التصعيد إلى حرب شاملة في حدود ردّهم على استهداف قواعدهم في المنطقة، وحاولوا في الوقت نفسه تنفيذ عمليات دقيقة لردع الفصائل العراقية المسلحة، وبالتحديد كتائب حزب الله العراقي وحركة النجباء اللتان شاركتا بزخم في الهجمات السابقة. قتل الجيش الأميركي في أواخر تشرين الثاني الماضي ثمانية أشخاص جراء غارات على مواقع لقوات الحشد الشعبي جنوب غربي بغداد، فيما اعتبر أول رد معلن على عمليات المقاومة العسكرية. كما استهدفت غارة أمريكية مطلع كانون الثاني الجاري القائد في حركة النجباء المعروف باسم أبو تقوى السعيدي ومساعده أبو سجاد، بعد ضرب سيارتهم أثناء دخول مقر الدعم اللوجستي للحركة في بغداد. 

فشلت الضربات الأمريكية في ردع الفصائل عن تنفيذ عمليتهم في قاعدة البرج 22، والتي قوبلت بغضب شديد من الأوساط الأمريكية التي دعت «للانتقام العسكري» و«ضرب الأراضي الإيرانية» وهاجمت إدارة بايدن بأنها «تسمح للأعداء بمهاجمة القوات الأمريكية دون عقاب»، رغم أن المسؤولين الأمريكيين اعتادوا وصف هذه الهجمات بالفشل لأنها لا تتسبب بإصابات خطيرة أو أضرار في البنية التحتية. أدانت الحكومة العراقية انتهاك سيادة العراق بالضربات الأمريكية داخل حدودها، وأدانت في الوقت نفسه استهداف التنف، وتكثّفت جهودها لإرساء هدنة جديدة بين الطرفين، وصلت حد تهديد السوداني بالاستقالة إن لم توقف المقاومة عملياتها وتفسح المجال للحكومة في قيادة مفاوضات تفضي إلى انسحاب قوات التحالف الدولي، بما فيها القوات الأمريكية، من العراق. 

حرص الأمريكيون على تجنب التصعيد إلى حرب شاملة في حدود ردّهم على استهداف قواعدهم في المنطقة، وحاولوا في الوقت نفسه تنفيذ عمليات دقيقة لردع الفصائل العراقية المسلحة.

في أعقاب ذلك، أعلنت كتائب حزب الله العراقي تعليق العمليات العسكرية والأمنية ضد القوات الأمريكية «دفعًا لإحراج الحكومة العراقية». يقول العكيلي إن قرار الكتائب مرحلي ومرهون بنتيجة جولات التفاوض حول انسحاب الولايات المتحدة من العراق والتي إن تعرقلت قد تقود لاستئناف الضربات بشكل أقوى، كما أنه لا ينسحب على الأهداف الإسرائيلية، التي قصفت المقاومة الإسلامية إحداها صباح اليوم مستهدفة ميناء حيفا، «العراق اليوم لا يحتاج للقوات الأمريكية بعد أن أصبحت محاربة داعش مشكلة أمنية أكثر من كونها عسكرية، لكن أمريكا تحاول التفاوض بطعم الانتصار وليس الهزيمة عبر السعي لتغيير شكل وجودها من تفكيك التحالف الدولي إلى محاولة تحقيق تحالف ثنائي بدلًا من إجلاء قواتها بالكامل»، بحسب قوله.

أحيت الحرب على غزة وهجمات المقاومة ملف الانسحاب الأمريكي من العراق وأطلقت جولات تفاوض بين الطرفين أدت للاتفاق على صياغة جدول زمني يحدد مدة وجود مستشاري التحالف الدولي في العراق ولإنهاء المهمة العسكرية للتحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية، لكن الزبيدي لا يرى أن مشهد خروج القوات الأمريكية من أفغانستان سيتكرر في العراق نظرًا للحرص الأمريكي على التواجد بالعراق ولو كان ضمن إطار محدود دعمًا لمصالحها الأمنية المرتبطة باستقرار «إسرائيل» ومحاربة محور المقاومة. مضيفًا أن للولايات المتحدة عدة أوراق ضغط في الساحة العراقية أبرزها الملف الإقتصادي؛ إذ تفرض واشنطن قيودًا على حركة الاقتصاد العراقي من خلال ربطه بها وإبعاده عن التأثير الإيراني عبر تقييد البنك المركزي العراقي من الوصول إلى احتياطاته من العملات الأجنبية، خصوصا الدولار، المحتفظ بها لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ غزو العراق عام 2003. ولذلك، يعتقد الزبيدي أن الحكومة العراقية تحاول الوصول لصيغة تفاهمية دبلوماسية مع الولايات المتحدة لأن إخراجها بالقوة أو إلغاء حضورها بالكامل قد يمكّن واشنطن من ممارسة الضغط الاقتصادي أو بث تهديدات أمنية تتمثل في مساندة التنظيمات الإرهابية أو دعم بعض المكونات السياسية لشق الصف الوطني».

يأتي قرار إدارة بايدن في الرد على استهداف التنف في توقيت مفصلي يخوض فيه حملة انتخابية للفوز بولاية رئاسية جديدة، حيث تشير التقديرات الأمريكية أنه سيضرب المصالح الإيرانية في المنطقة، وإن كانت ضغوطات الحزب الجمهوري تطالب بضرب إيران داخل أراضيها. يقول العكيلي إن الولايات المتحدة إن أرادت فعلًا وقف التصعيد حيال ضربات المقاومة الإسلامية في العراق، عليها الضغط على «إسرائيل» لوقف إطلاق النار أو التوصل لهدنة مؤقتة على الأقل، لأن تطورات الحرب في غزة هي التي تحكم أي تصعيد قادم مرتبط بتوسع الجبهات، ولأن نفوذ محور المقاومة أثبت أنه يمتد إلى ما هو أبعد من الأراضي الفلسطينية ليشمل إيران، والعراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، حيث تمتلك كل ساحة استقلالية قرارها لكنها تشترك جميعًا بالعداء للاحتلالين الأمريكي والإسرائيلي.


ساهم الزميل فقار فاضل في إعداد هذا التقرير.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ac%d8%a8%d9%87%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a7%d9%82%d9%8a%d8%a9/feed/ 0
تركيا و«إسرائيل»: توتر السياسة لا يعكر صفو الاقتصاد https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/#respond Tue, 30 Jan 2024 06:12:19 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89164 تميز الموقف التركي من العدوان الإسرائيلي على غزة بأنه موقف متدحرج، إذ بدأ بمقاربة دبلوماسية حذرة، ليتطور في ظل فظائع الجرائم الإسرائيلية وما أنتجته من ضغط داخلي متزايد إلى حالة صدامية حذرة صارت أكثر اندفاعًا مع مرور الوقت. فعلى الصعيد الدبلوماسي قررت تركيا استدعاء السفير التركي في تل أبيب للتشاور، وإلغاء زيارات رسمية وخطط تعاون مع «إسرائيل».

ترافق هذا الموقف الدبلوماسي مع صدامية خطابية انطوت على محورين بارزين، الأول هو الدفاع المتكرر عن حركة المقاومة الإسلامية «حماس» بوصفها حركة تحرر وطني، والثاني هو الهجوم على «إسرائيل» ووصفها بأنها دولة إرهابية. وقد وصل الأمر إلى هجوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، واصفًا إياه وأفعاله في غزة بأنها أفظع من أفعال الزعيم النازي أدولف هتلر. لكن، ورغم هذه الصدامية على المستوى الخطابي والدبلوماسي، ظل سؤال غياب الاقتصاد عن معادلة السياسة في العلاقات بين الطرفين يتردد بقوة.

تركيا «وإسرائيل»: علاقات اقتصادية متينة

خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، تحسّنت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا و«إسرائيل»، ليصبح الاقتصاد أحد أهم بوابات العلاقات بينهما. فحافظ التبادل التجاري بين الطرفين على وتيرة متصاعدة دون تراجعٍ جوهري يُذكر، إذ ارتفع من 1.4 مليار دولار عام 2002 إلى ما يقرب من تسعة مليارات دولار في 2022. كما تمتعت العلاقات التجارية بحصانة لافتة فصلتها عن العلاقات السياسية التي مرت بالعديد من الأزمات. على سبيل المثال، شكلت أزمة مجزرة سفينة مافي مرمرة عام 2010 صدمة تاريخية أثرت لسنوات على جوانب عدة في العلاقات الثنائية، إلا أن العلاقات الاقتصادية التجارية حافظت على استثنائيّتها واستمرت بالنمو اللافت رغم الأزمة الكبيرة، ذلك أن حجم التبادل التجاري بين الطرفين ارتفع من 2.5 مليار دولار عام 2009 إلى 3.5 مليار في 2010، وواصل تصاعده في 2011 ليصل إلى 4.5 مليار دولار.

يمكن اعتبار العام 2022 نموذجًا بارزًا للعلاقات التجارية بين البلدين، حيث احتلت تركيا المرتبة الرابعة بين أكثر المصدرين إلى «إسرائيل» بواقع 6.7 مليار دولار، وهو ما يمثّل رقمًا قياسيًا جديدًا بينهما، وقد توزعت قطاعات هذه الصادرات الرئيسة بين الحديد والصلب بقيمة 1.2 مليار دولار، والمواد الكيميائية بقيمة 670 مليون دولار، والسيارات بقيمة 545 مليون دولار، وغيرها. ومن اللافت أن الصلب التركي على وجه التحديد يشكل المنتج الأكثر تصديرًا إلى السوق الإسرائيلي بما يغطي 65%[1] من احتياجات «إسرائيل» للصلب، الذي يدخل في شتى الصناعات بما فيها العسكرية. وفي العام نفسه وقعت 17 شركة تركية متخصصة في إنتاج وتصدير الحديد والصلب اتفاقيات تعاون مشترك مع قرابة 400 شركة إسرائيلية لزيادة التصدير، خاصةً في ظل الفرصة التي وفرتها الحرب الروسية الأوكرانية. ومن جانبها احتلت «إسرائيل» عام 2022 المرتبة الـ29 في قائمة أكثر الدول المصدرة إلى تركيا، بواقع 2.5 مليار دولار، تركزت على مدخلات القطاع الزراعي مثل البذور والأسمدة والبيوت البلاستيكية الزراعية، إضافةً إلى أنظمة الري الذكية، وغيرها.

خلال سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، تحسّنت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا و«إسرائيل»، ليصبح الاقتصاد أحد أهم بوابات العلاقات بينهما. فحافظ التبادل التجاري بين الطرفين على وتيرة متصاعدة دون تراجعٍ جوهري يُذكر، حتى في ظل العديد من الأزمات السياسية بينهما.

بالإضافة إلى التبادل التجاري، ثمة رابط اقتصادي استراتيجي غير مباشر بين أنقرة وتل أبيب يتمثل بأن تركيا، بفضل موقعها الجغرافي وإمكانياتها البنيوية، تعتبر ممر طاقة رئيسٍ في المنطقة، فيما تعتمد «إسرائيل» في أكثر من 60% من إمدادات النفط على النفط الأذربيجاني والكازاخستاني الذي يمر عبر الأراضي والمياه التركية، بحسب صحيفة ذي ماركر الاقتصادية الإسرائيلية، التي اعتبرت أن هذه الميزة تجعل أردوغان قادرًا على توجيه ضربة للاقتصاد الإسرائيلي. يمكن ربط هذه الزاوية من العلاقات التركية الإسرائيلية أيضًا بطموحات تركيا لمد أنابيب نقل الغاز من «إسرائيل» إلى أوروبا عبر تركيا، إضافة إلى التعاون في التنقيب في شرق المتوسط في إطار مناوراتها المتعددة التي تخدم أطروحتها للحدود البحرية فيه. كانت هذه الملفات حاضرة بين الطرفين حتى ما قبل السابع من تشرين الأول الماضي، حيث أعلنت تركيا ردًا على العدوان الإسرائيلي على غزة «تعليق» هذه المحادثات وإلغاء زيارة مقررة لوزير الطاقة والموارد الطبيعية إلى «إسرائيل».

فضلًا عما سبق، هناك لاعبون أتراك كبار لهم دور رئيس في صناعة وتشكيل العلاقات الاقتصادية والتجارية مع «إسرائيل»، وربما مَنْحها حصانتها الحالية ضد الأزمات السياسية بفضل علاقاتهم القوية في الداخل التركي. وهنا تبرز مجموعة زورلو القابضة (Zorlu) التي تعد صاحبة رأس المال الأكبر من بين الشركات الاستثمارية التركية المتواجدة في «إسرائيل» باستثمارٍ يُقدر بمليار دولار. تعمل هذه الشركة بشكل خاص في مجال الطاقة الكهربائية، حيث تمتلك ثلاث محطات مختلفة لتوليد الكهرباء في «إسرائيل» (بنسبة ملكية 51%)، وهي مستمرة في إنشاء مشاريع جديدة لتوليد الكهرباء -لا سيما من طاقة الرياح- بحيث ستصبح عند انتهاء هذه المشاريع المنتج الرئيس لما يقارب 10% من الكهرباء الإسرائيلية.[2] ومن اللافت هنا أن هذه المجموعة معروفة أيضًا بقربها من حزب العدالة والتنمية وحكوماته، بل ويراها البعض الحامل المباشر لرؤية التعاون في مجال الطاقة بين أنقرة وتل أبيب التي يتبناها الحزب منذ سنوات. إضافة إلى ذلك، لطالما تلقى رئيس المجموعة تكريمات مختلفة من الرئيس أردوغان مباشرة بسبب جهوده في تنمية الصادرات التركية.

لاعبٌ آخر هو شركة إتش داش (İÇDAŞ)، أهم مصدري الحديد والصلب بمنتجاته المختلفة إلى «إسرائيل»، ومديرها، عدنان أصلان، هو نفسه رئيس الهيئة الإدارية لاتحاد مصدري الصلب التي تلعب دورًا مهمًا في تشجيع التجارة بين الطرفين في هذا القطاع. وقد حظي أصلان نفسه بتكريم رسمي من الرئيس أردوغان بسبب إسهاماته في التجارة الخارجية، إضافة إلى تكريم على أعلى المستويات من رئاسة الشؤون الدينية التركية لتمويله بناء مسجد.

كما لا يمكن إغفال دور شركة يلمازلار في العلاقات الاقتصادية بين تركيا و«إسرائيل»، خاصة وأنها تعتبر شركة رائدة منذ 23 عامًا في قطاع الإنشاءات الإسرائيلي، إذ أنشأت 80% من ناطحات السحاب في تل أبيب، بل وتولت بناء العديد من المباني المهمة ذات الطابع الحكومي مثل مركز شرطة أسدود، ومدرسة الشرطة في بيت سميش، ومبنى البحرية في حيفا، ومحطة كهرباء أوروت رابين، ومبنى محكمة تل أبيب، وبرج مراقبة مطار بن غوريون، وغيرها.

وبالعودة إلى التبادل التجاري، تحديدًا في عام العدوان، فقد شهد تراجعًا ملحوظًا بالمقارنة مع العام 2022 حتى قبل العدوان على غزة. ففي الأشهر العشرة الأولى من العام 2023 سجلت الصادرات التركية إلى «إسرائيل» حوالي 4.7 مليار دولار بانخفاض نسبته قرابة 20% عن الفترة نفسها من العام 2022. أما واردات تركيا من «إسرائيل» فسجلت حوالي 1.3 مليار دولار منخفضةً بنسبة 32% تقريبا مقارنة مع الفترة نفسها من العام السابق. وقد ترافق العدوان على غزة والتوتر الذي أفرزته في العلاقات الثنائية مع حملات مقاطعة شعبية متبادلة أدت إلى انخفاض التبادل التجاري بينهما في الفترة بين 7 تشرين الأول و31 كانون الأول إلى حوالي 1.3 مليار دولار في تراجع بنسبة 45% مقارنة مع العام 2022.

ظلت المقاطعة دون المستوى الرسمي في ظل استمرار العدالة والتنمية حتى وقت كتابة هذه السطور في تبني مقاربته التقليدية التي تفصل ببراغماتيّةٍ بين الاقتصاد والسياسة، ما أثار جدلًا لدى أطراف مختلفة داخل وخارج تركيا. من ذلك مثلًا ما أثاره الصحافي التركي المعارض، متين جيهان، من جدل واسع بعد نشره تغريدات تتضمن بيانات عن سفن شحن، تابعة لجهات مقربة من العدالة والتنمية، متوجهة إلى «إسرائيل» خلال الحرب، من بينها شركة إسمنت شغل مالكها سابقًا منصب رئيس شعبة الحزب في ولاية هاتاي وكان مرشح البلدية عن الحزب. وكذلك ما نشره عن ملكية سفن شحن تنقل البضائع بين تركيا «وإسرائيل» لأحد المقربين من العدالة والتنمية، بل والمقربين من عائلة الرئيس أردوغان وشريك نجله أحمد بوراك في شركة أخرى، مدعيًا أن الشركتين تنضويان تحت مظلة واحدة، قائلًا إنه وبينما كان الرئيس أردوغان يهاجم «إسرائيل» في خطاباته الشعبوية كان ابنه يشارك في التجارة معها.[3]

وفي ظل تحول ملف سفن الشحن التجاري إلى ملف جدلي كبير في تركيا أعلن وزير المواصلات والبنية التحتية أن قرابة 700 سفينة انطلقت من الموانئ التركية إلى «إسرائيل» في الفترة بين 7 تشرين الأول و31 كانون الأول،[4] مضيفًا أن هذا العدد يمثل نقل 1.9 مليون طن من البضائع في تراجع بنسبة 30% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وكذلك نفت وزارة التجارة التركية أخبارًا تحدثت عن زيادة الصادرات التركية إلى «إسرائيل» عبر أطروحة مركبة وغريبة، إذ أكدت انخفاض الصادرات مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، مشيرةً إلى أن هذه التجارة لا تتم من قبل الشركات الحكومية، بل من قبل شركات خاصة، العديد منها شركات دولية. ومن جهة أخرى ادعت أن «التجارة مع إسرائيل ليست متوجهة إلى المنطقة اليهودية»، بل متوجهة إلى 2.2 مليون فلسطيني من مواطني «إسرائيل»، وكذلك الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة والقدس وغزة مع الإشارة إلى أن جميع البضائع المتجهة إلى المنطقة الفلسطينية يجب أن تمر عبر الجمارك والموانئ الإسرائيلية تحت اسم «إسرائيل». وقد أثار هذا الطرح جدلا آخر خصوصًا أنه يتنافى مع طبيعة العلاقات الاقتصادية والتجارية المعروفة بعمقها وتصاعدها التاريخي بين الطرفين.

التجارة مع «إسرائيل»: جبهة صدامٍ داخلية

صارت قضية التجارة مع «إسرائيل» واحدة من أكثر القضايا جدلًا في الداخل التركي في الأشهر الأخيرة حتى تحولت إلى يمكن وصفه بجبهة صدام جديدة بين الخصوم التقليديين على المستويات الشعبية والحزبية. وبمعزلٍ عن دوافع الجدل، سواء كانت من أجل نصرة فلسطين فعلًا أو لمجرد المزايدة على الخصوم الداخليين، تصاعدت بعض المطالب الشعبية والحزبية الداعية لاتخاذ خطوات عملية تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، فيما يرى كثيرون أن ملف التجارة مع «إسرائيل» هو اختبار عملي لمصداقية حزب العدالة والتنمية تجاه القضية الفلسطينية. إذ تعتبر شريحة ملحوظة أن هناك تناقضًا كبيرًا بين الخطابيّة الرنانة التي يتبناها أردوغان في الملف الفلسطيني واستمرار التجارة مع «إسرائيل»، ما عزز الاتهامات الموجهة إليه بالتضارب بين القول والفعل الرسمي.

وفي هذا السياق، صار هذا الملف مادة أساسية للعديد من الأحزاب في البرلمان للهجوم على العدالة والتنمية ومقاربته. مثالُ ذلك النائب عن حزب السعادة، حسن بيتمز، الذي توفي على منصة البرلمان بينما كان يهاجم «إسرائيل» والعلاقات معها متهمًا حزب العدالة والتنمية بالشراكة في الجريمة بسبب استمرار التجارة. وقد تقدم حزب السعادة أيضًا بمقترح برلماني لإخضاع البضائع التركية المصدرة إلى «إسرائيل» إلى آلية تقييم دقيق للبحث في كمية ونوع هذه البضائع ودخولها المباشر من عدمه في الصناعات العسكرية التي لها علاقة بالحرب على غزة. لكن تحالف السلطة المكون من نواب حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية أسقط هذا المقترح، ما عمّق حالة الهجوم على العدالة والتنمية في ملف التجارة مع «إسرائيل» بشكل خاص، وموقفه من فلسطين بشكل عام.

تعتبر شريحة ملحوظة من الشارع التركي أن هناك تناقضًا كبيرًا بين الخطابيّة الرنانة التي يتبناها أردوغان في الملف الفلسطيني واستمرار التجارة مع «إسرائيل»، ما عزز الاتهامات الموجهة إليه بالتضارب بين القول والفعل الرسمي.

حرص العدالة والتنمية على دعم حملة المقاطعة الشعبية ضد «إسرائيل» إلى درجة مشاركة بلدياته ومؤسسات أخرى مقربة منه فيها، لكن هذه المقاطعة لم تمتد إلى المستوى الحكومي الرسمي ما خلق حالة تناقض لافتة. وفي هذا السياق، وبينما كان يحشد العدالة والتنمية حلفاءه وقواعده لمظاهرات كبيرة تحت عنوان دعم فلسطين، ركزت المعارضة على استغلال ملف السفن واستمرار التجارة للطعن في مصداقية الرئيس أردوغان وحكومته. مثلًا اعتبر زعيم أكبر أحزاب المعارضة، حزب الشعب الجمهوري، أن المظاهرات الداعمة لفلسطين أمر صحيح لكن قيام السلطة بها «أمر مضحك»، مطالبًا الحزب الحاكم باتخاذ إجراءات عملية، قائلًا إنه بينما يدين العدالة والتنمية «إسرائيل» في مظاهراته تستمر سفن التجارة معها بالإبحار.

وقد صارت حملات قواعد العدالة والتنمية ضد علامات تجارية داعمة لـ«إسرائيل» محلّ تندرٍ من المعارضة على المستوى الشعبي والحزبي على اعتبار أن «القهوة أو الكولا لا تقتل الأطفال، بل الأسلحة المصنوعة من الصلب المصدر من تركيا هي من قتلت آلاف الأطفال» كما صرح بذلك أحد النواب عن حزب الشعب الجمهوري. وقد انتقد الحزب الجيد على لسان العديد من قادته هتافاتٍ أطلقت في مظاهرات المحافظين الداعمة لفلسطين تدعو الجيش التركي إلى التدخل في غزة، من ذلك ما أشار له نائب رئيس المجموعة البرلمانية للحزب الجيد من أن ناقلات النفط تنطلق من مدينة أضنة التركية إلى «إسرائيل» لتزويدها باحتياجاتها من الطاقة، معتبرًا أن المطالبين بذهاب الجيش التركي إلى غزة يجب عليهم أولًا إيقاف تدفق النفط إلى «إسرائيل» إن كانوا صادقين.

يمكن القول بسهولة -وبمعزلٍ عن النوايا- إن المعارضة التركية بمختلف توجهاتها وجدت في ملف التجارة مع «إسرائيل» مخرجًا سياسيًا ضد توظيف العدالة والتنمية للملف الفلسطيني في الداخل التركي. إذ تسعى المعارضة إلى استخدام هذا الملف بشكل فعال لسلب أردوغان ورقة دعم غزة التي يوظفها بكثرة للحشد والتعبئة خاصة عبر هجومه المزدوج على «إسرائيل» وجرائمها وعلى بعض أحزاب المعارضة التركية التي تهاجم حماس وتتّهمها بالإرهاب مثل حزبي الشعب الجمهوري والجيد. من المهم الإشارة في هذا السياق إلى أن أردوغان وحلفاءه تجاهلوا هجمات المعارضة باستخدام ملف التجارة، مع اكتفاء الوزارات المعنية بتصريحات عن انخفاض وتيرتها. وبذلك أصبح ملف التجارة مع «إسرائيل» -والعدوان على غزة نفسه- ملف مزايدات شعبوية على طاولة السياسة الداخلية خاصة مع اقتراب الانتخابات المحلية في 31 آذار المقبل.

أسباب الفصل بين السياسة والاقتصاد

إن فصل الاقتصاد عن السياسة هي استراتيجية براغماتية طبقتها تركيا العدالة والتنمية في مجمل علاقاتها المتوترة خلال أكثر من عقدين، كما هو الحال مثلًا في الصدام الكبير مع مصر عقب سيطرة الجيش على السلطة عام 2013، والإمارات التي اتهمها أردوغان نفسه بتمويل المحاولة الانقلابية ضده عام 2016. إذ استمرت العلاقات الاقتصادية والتجارية مع هذه الدول بالنمو بمعزل عن التوترات السياسية الكبيرة، في سياسة يطبقها العدالة والتنمية في علاقته مع «إسرائيل» أيضًا. لكن اليوم، وفي ظل خطاب العدالة والتنمية الصدامي جدًا تجاه «إسرائيل»، يتردد سؤال مشروع في تركيا وخارجها حول سبب استمرار الفصل بين الاقتصاد والسياسة ومواصلة التجارة مع دولة يعتبرها أردوغان نفسه «دولة إرهابية» ويرى بأن زعيمها «أسوأ من هتلر».

إن دوافع العلاقات التركية الاقتصادية والتجارية مع «إسرائيل» متشعبة ومتداخلة بشكل كبير. يرى البعض أنها تنطلق من اعتبارات اقتصادية خالصة، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها تركيا في السنوات الأخيرة. فإضافة إلى الخسارة المادية المباشرة من قطع العلاقات، ركز الفريق الاقتصادي الجديد في إطار محاولاته للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية على السعي لإعادة بناء الثقة بالاقتصاد التركي والمقاربة الحاكمة فيه، ما يدفعه إلى تجنب الخطوات التصعيدية على الجبهة الاقتصادية، وبالتالي فإن توجه تركيا نحو الصدامية الاقتصادية مع «إسرائيل» قد يؤثر على رهان الفريق الاقتصادي على تدفق الاستثمارات الخارجية، لا سيما الغربية، ما يعوق جهود الخروج من الأزمة. بالتوازي مع ذلك، لطالما تفاخر أردوغان بأن بلاده ممر طاقة آمن بين مناطق العالم المختلفة، بل يناور في هذا الملف ليجعل تركيا نقطة نقل موارد الطاقة من وسط آسيا إلى أوروبا، ولذلك فإن تحركه ضد نقل دول أخرى (أذربيجان وكازاخستان) للنفط إلى «إسرائيل»، بعد موافقته على ذلك لسنوات، خطوة ستؤثر سلبًا على أطروحة «ممر الطاقة الآمن» التي يتبناها. إضافة إلى ذلك، تُعتبر العلاقة الاقتصادية بين الطرفين علاقة راسخة واستراتيجية على مستوى القطاع الخاص بحيث يمكن القول إن هناك شبكة مصالح متشابكة، مكونة من مستثمرين وشركات من الجانبين، تمتلك علاقات سياسية قوية وتحيط العلاقات التجارية بحصانة ملحوظة تمنع تأثرها بشكل جوهري بالمستجدات السياسية المختلفة.

قد تعاني العلاقات التجارية والاقتصادية بين تركيا و«إسرائيل» تراجعًا على هامش حملات المقاطعة الشعبية المستمرة، إلا أن ذلك لن يؤثر على جوهر هذه العلاقات وثقلها في ظل استمرار السياسة الرسمية المتبادلة بالفصل بين الاقتصاد والسياسة.

رغم كل ذلك، فإن المعروف عن أردوغان أنه شخصية مليئة بالمفاجآت بما قد يتجاوز الحسابات الاقتصادية الصماء، ما يعني أن العوامل الاقتصادية ليست سببًا وحيدًا لاستمرار التجارة مع «إسرائيل»، إذ أن هناك عوامل سياسية مختلفة لا تزال تدفع نحو استمرار الفصل بين الاقتصاد والسياسة. فعلى صعيد السياسة الخارجية من المهم الإشارة إلى أن أردوغان ما زال يراهن على دور تركي في إطار المبادرات الإقليمية والدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية ما يدفعه إلى عدم قطع العلاقات بشكل كامل للحفاظ على موطئ قدم لدى الطرفين. يظهر ذلك جليًا في حديثه المستمر عن أطروحة الدول الضامنة كأرضية للحل، وكذلك تعبيره عن استعداده للمشاركة في الترتيبات التي تلي الحرب. وهنا يبدو لافتًا الهجوم الشخصي على نتنياهو وفق مقاربة عبر عنها أردوغان بوضوح تقوم على فكرة أن نتنياهو «راحل لا محالة» (سيسقط) فيما يعتقد البعض أنه رهان على مرحلة ما بعد سقوطه. وبذلك يمكن القول إن أردوغان يسعى للحفاظ على شعرة العلاقات الاقتصادية والتجارية وعدم إحراق الجسور كلها مع «إسرائيل». وللمفارقة، لطالما شكلت العلاقات الاقتصادية والتجارية إحدى أهم أرضيات التطبيع من جديد بين تركيا و«إسرائيل» بعد كل أزمة سياسية.

إضافة إلى ذلك، وبعيدًا عن السياسة الخارجية التركية والموقف من القضية الفلسطينية نفسها، يرى البعض أن أردوغان يعتبر أن الخطابية الصدامية والتحركات الدبلوماسية خطوات كافية لإقناع الشريحة العريضة من قواعده بجهوده في الملف الفلسطيني وحشدهم وتعبئتهم خاصة مع اقتراب انتخابات آذار المقبل. وبالفعل، فرغم التململ الملحوظ من البعض تجاه ملف التجارة مع «إسرائيل»، كاحتجاجات بعض الجمعيات الإسلامية والتيارات اليسارية، إلا أنه لا يوجد حتى الآن تحرك شعبي مؤثر، خاصة داخل قواعد معسكر السلطة المحافظة والقومية، للضغط باتجاه قطع العلاقات التجارية مع «إسرائيل»، أو فرض أي شكل أو درجة من العقوبات عليها. إذ لا يزال العدالة والتنمية يمسك بزمام المبادرة في توجيه قواعده في ملف دعم فلسطين نحو احتجاجات تضامن وإدانة في ميادين عامة في الغالب، كما يمتلك القدرة على الاستمرار في حصر الصدامية مع «إسرائيل» في إطار خطابي دبلوماسي يمكن توظيفه ضد خصومه داخليًا دون شعوره بالحاجة إلى اتخاذ خطوات أكثر عملية.

في ظل المعطيات الحالية، لا توجد مؤشرات ملموسة على أن تركيا قد تذهب نحو التصعيد الاقتصادي الرسمي والمباشر ضد «إسرائيل» على المدى المنظور رغم استمرار العدوان على غزة ومظاهر التوتر بين الطرفين. قد تعاني العلاقات التجارية والاقتصادية تراجعًا على هامش حملات المقاطعة الشعبية المستمرة، إلا أن ذلك لن يؤثر على جوهر هذه العلاقات وثقلها في ظل استمرار السياسة الرسمية المتبادلة بالفصل بين الاقتصاد والسياسة. وعليه يمكن القول إن تركيا وإن كانت تتيح للقضية الفلسطينية مساحة واضحة في علاقاتها السياسية والدبلوماسية مع «إسرائيل»، إلا أن هذه المساحة شبه معدومة -إن لم تكن معدومة تمامًا- لصالح اعتبارات أخرى على جبهة العلاقات الاقتصادية والتجارية.

  • الهوامش

    [1] بحسب اتحاد مصدري الصلب التركي.

    [2] مجموعة زورلو القابضة من أبرز الشركات التركية التي وضعتها حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) على قائمة المقاطعة نظرًا لعلاقاتها القوية مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ومؤخرًا برزت حالة سخط عابرة للانتماءات السياسية ضد الشركة وبدأت تتطور لاحتجاج إلكتروني أولًا ثم واقعي.

    [3] أمام هذه الادعاءات تقدمت عائلة الرئيس أردوغان بشكوى قضائية ضد جيهان بتهمة «الإهانة والافتراء» لتفتح النيابة العامة تحقيقًا فيما وصفه أنصار العدالة والتنمية بالتشهير الممنهج ضد عائلة الرئيس في ظل دفاع الصحفي عن نفسه بأن ادعاءاته مستقاة من مصادر مفتوحة ومعروفة للجميع.

    [4] 489 منها كانت نقطة انطلاقها تركيا و221 سفينة كانت تركيا نقطة عبور لها.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%b1%d9%83%d9%8a%d8%a7-%d9%88%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/feed/ 0
كتيبة المخيم: طولكرم في طوفان الأقصى https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%83%d8%aa%d9%8a%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ae%d9%8a%d9%85-%d8%b7%d9%88%d9%84%d9%83%d8%b1%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%82%d8%b5%d9%89/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%83%d8%aa%d9%8a%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ae%d9%8a%d9%85-%d8%b7%d9%88%d9%84%d9%83%d8%b1%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%82%d8%b5%d9%89/#respond Sun, 28 Jan 2024 07:47:21 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89136 في اليوم الثاني من هذا العام، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيليّ مخيم نور شمس في محافظة طولكرم بالضفّة الغربيّة منطقة عسكرية مغلقة، وحشّد قوّة عسكريّة يزيد تعدادها عن ألف جندي ترافقهم عشرات الآليات وعربات النمر وجرافات الـ(D9) المُصفّحة، ودخلوا بها المخيم بهدف الوصول إلى مجموعة مقاومة تنشط فيه.

في طريق دخولها دمّرت آليات الاحتلال بيوتًا في المخيّم وجرّفت شوارعه واعتقلت المئات، وحاصرت مستشفيات المحافظة ومنعت التغطية الصحفيّة. واستمرت العملية 44 ساعةً في أوسع وأعنف اقتحام للمخيم منذ عملية السور الواقي إبان انتفاضة الأقصى قبل نحو عشرين عامًا.

خلال هذه الساعات، سُمِع صوت إطلاق الرصاص، وانفجارات متقطعة، ولم يَعرف أحد ما الذي يجري إلّا بعد انسحاب الجيش من المخيم. حينها خرج أفراد المجموعة لتفقد خط سير القوة المقتحمة وكان بينهم قائدها، شاب نحيل عشرينيّ يُدعى «أبو شجاع»، أعلن حينها إفشال أهداف القوة المقتحمة في الوصول إلى أفراد مجموعته بعد أن واجهوها بالكمائن.

بعد ساعات، بثّت المجموعة مشاهد مصوّرة لجزء من هذه الكمائن؛ فيها تفجير عبوات ناسفة بالآليّات العسكريّة وعرض لبقاياها المدمّرة. وتحدّث «أبو شجاع»، بكلمات بسيطة، لكنها تعرف السياق العام لفعل المقاومة في المخيم قائلًا: «صعب يكسروه، اغتالوا سيف أبو لبدة بعده زادت المقاومة وشدّت، لما يغتالوا أبو شجاع رح تشد أزيد». وأبو لبدة هذا من مؤسسي الكتيبة وقائدها السابق.

تُعرف هذه المجموعة في المخيم باسم «الكتيبة»، وهي واحدة من عدة مجموعات تنتشر في الضفة بشكل عام، ومنها محافظات جنين ونابلس وطولكرم وامتدادها من مخيمات وأرياف، وقد صعّدت من عملياتها ضد جيش الاحتلال بعد السابع من تشرين الأول. فما الذي نعرفه عن هذه الكتيبة وغيرها من الكتائب المقاومة في الضفة الغربية، والتي تقلق الاحتلال منذ ما بعد سيف القدس، وزادت عملياتها بشكل ملحوظ في الفترة ما بعد طوفان الأقصى؟

المقاومة المسلّحة بعد «سيف القدس»: ولادة جديدة

إبّان معركة «سيف القدس» في أيّار العام 2021، التي أطلقتها فصائل المقاومة من غزّة، أعلنت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، عن أولى مجموعاتها المقاومة المنظمة في مخيم جنين. وستعرف تلك المجموعة باسم «كتيبة جنين»، وقادها وقتها شاب سيستشهد لاحقًا اسمه جميل العمّوري.

تلت تلك المجموعة مجموعات أخرى تضمّ مقاومين من فصائل مختلفة، وبينها عرين الأسود وكتيبة بلاطة في نابلس، ومجموعة الرد السريع وتنشط في مخيم طولكرم، ومجموعة نور شمس، وتنشط في المخيم الذي تحمل اسمه.

كان تأسيس هذه الكتائب العملَ المسلّح الأكثر تنظيمًا في الضفة الغربية في مرحلة ما بعد انتفاضة الأقصى، وهي الفترة التي تعرّضت فيها فصائل المقاومة المسلحة لحملات مستمرّة من القمع والتفكيك، من قبل جيش الاحتلال والسلطة الفلسطينية، ولذا لم تتمكن من البناء على تجربة الانتفاضة، وانتقل شكل التنظيم فيها إلى خلايا بسيطة العدد، مثل ما حصل مع تجربة الشهيد أحمد جرار والأسير عاصم البرغوثي العام 2018.

حاول جيش الاحتلال تفكيك هذه الكتائب عبر الاعتقالات، مستعينًا بالسلطة أحيانًا، كما حاول كذلك تفكيكها من خلال الاغتيالات المتكررة لأفرادها وقياداتها. لكن هذا لم يتمّ له، وقد تفرّعت عن هذه الكتائب كتائب أخرى.

ومع أن المبادرة في تنظيم الحالة الجديدة قد جاءت بالمقام الأول من سرايا القدس، إلّا أن تكوين القيادات والأفراد في هذه الكتائب يأتي تنظيميًا من عدة فصائل مقاومة؛ تتوزّع ما بين سرايا القدس، وكتائب القسام، وكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى التابعة للجبهة الشعبية. بهذا يعمل أفراد «الكتيبة» من الفصائل المختلفة معًا، تحت قيادة واحدة، وهو شكل من العمل العسكري المشترك انتشر خلال معارك الانتفاضة الثانية، وبالتحديد في معركة مخيم جنين أثناء التصدي لجيش الاحتلال الإسرائيلي العام 2002؛ حين أسس قادة من سرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى غرفة عمليات مشتركة ضمت معهم مقاومين من تنظيمات أخرى.

ثمة إرث مكانيّ كذلك في المناطق الثلاثة التي تأسست فيها هذه الكتائب الثلاث الأولى والرئيسيّة في جنين ونابلس وطولكرم؛ فهي المناطق التي اصطلح عليها في الانتفاضة الثانية بـ«مثلث رعب الشمال» بسبب زخم العمليات الفدائية وعمليات الثأر للشهداء التي خرجت منها تجاه الأراضي المحتلة العام 1948 والتي بسببها بشكل رئيس شيّد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون العام 2002 الجدار العازل الذي يفصل الضفة الغربية عن الأراضي المحتلة عام 1948.

تركّزت عمليات كتيبة مخيم جنين في البداية في المدينة ثم توسّعت إلى القرى الشرقيّة وصولًا إلى طوباس ومنطقة غور الأردن، فيما وسّعت كتيبتا طولكرم نشاطهما في القرى المحاذية للجدار العازل، وامتدت إلى بعض قرى قلقيلية. وسّع هذا التمدّد ساحة الاشتباك مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، وفتح جبهات صغيرة الحجم لكن كثيرة العدد أشغلت الجيش بسبب كثرة الاقتحامات التي يلجأ لها من أجل ملاحقة المقاومين في قرى ومخيمات شمال الضفة. مما اضطرّه في حزيران 2023 إلى نقل أربع كتائب إلى الضفة، منها وحدات تتبع للكوماندوز وأخرى للواء غولاني. وبلغت عمليات المقاومة في محافظات جنين ونابلس وطولكرم في 2023، 2108 عملية في أعلى وتيرة لها منذ سنوات، وتمثلت العمليات في: إطلاق النار والاشتباك مع قوات الاحتلال وتفجير العبوات الناسفة بآلياته.

حاول جيش الاحتلال تفكيك هذه الكتائب عبر الاعتقالات، مستعينًا بالسلطة أحيانًا، كما حاول كذلك تفكيكها من خلال الاغتيالات المتكررة لأفرادها وقياداتها. لكن هذا لم يتمّ له، وقد تفرّعت عن هذه الكتائب كتائب أخرى، مثل ما حصل مع كتيبة طولكرم التي تفرّعت عنها كتيبة أخرى لمخيم نور شمس، والذي يقع على بعد شوارع فقط من مخيم طولكرم الذي تنشط فيه أساسًا كتيبة طولكرم.

يبلغ تعداد الكتيبة الواحدة عشرات المقاومين؛ وهي تنسّق فيما بينها، فمثلًا حين اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي مؤسس كتيبة نور شمس، سيف أبو لبدة، كان في جنين رفقة مقاومين من كتيبة جنين. لكن التنسيق الأكبر، سيكون بين مقاومي كتيبة نور شمس ومقاومي كتيبة مخيم طولكرم حيث يدخل مقاومو الكتيبتين في المعركة معًا، ويجري تبادل الأدوار على الأرض بسبب العامل الجغرافي.

طولكرم بعد طوفان الأقصى

تنشط مجموعات المقاومة في طولكرم في استهداف حواجز الاحتلال والمستوطنات المحيطة بالمدينة، مثلما حصل عندما استهدفت مستوطنة عنّاب يوم التاسع من تشرين الأول الماضي، التي قتل فيها مستوطن وأصيب آخرون قبل أن تتوصل المجموعة المقتحمة لمكان صفّارات إنذار المستوطنة وتشغلها لبث الرعب، والتغطية على انسحاب المجموعة المقتحمة. وقد بلغت عمليات المقاومة في المدينة خلال عام 2023 حوالي 340 عملية، توزعت ما بين اشتباك مع جنود الاحتلال، وإطلاق للنار على المستوطنات، وتفجير العبوات ناسفة في آلياته.

في حالات الدفاع التي يقتحم فيها الجيش مخيمي نور شمس وطولكرم، والتي بلغت خلال العام الفائت حوالي 18 اقتحامًا، تعمل مجموعات متطوعة من الشباب الصغار من أبناء المخيم تسمي نفسها مجموعات حرّاس الليل والرصد والتتبع والإرباك في إبلاغ المقاومين بتحركات الجيش أولًا بأول، وإشغاله بالأكواع المتفجرة والزجاجات الحارقة.

وعند دخوله المخيم تكون العبوات الناسفة مثل «عبوة شمس» محليّة الصنع قد زرعت في أطراف الشوارع التي سيدخل منها الجيش. وقد أوقعت هذه العبوّات إصابات في جيش الاحتلال، وقلّلت من حركة جنوده على الأرض. لجأت المقاومة إلى هذا التكتيك بسبب محاولات الاحتلال تجفيف مصادر السلاح الذي كان يصل لها، ولذا وجدت في العبوات الناسفة محلية الصنع حلًّا.

على مستوى أفراد الكتيبة، يبدو أن جهدًا توعوعيًا قد بذل في تدريبهم، فهم لا ينجرّون إلى اشتباكات مباشرة مع الجيش في المناطق المكشوفة مثلًا أو تلك التي سبق انتشار القناصة فيها، وباتوا بدلًا من تركيز كل قوتهم على صد الاقتحامات، يتركون المنطقة المقتحمة مزروعة بالعبوات الناسفة وينسحبون إلى أطراف المخيم والضواحي وريف المحافظة في محاولة للمناورة والاشتباك بشكل متقطع، سيما عندما يكون الاقتحام كبيرًا وبعدد آليات كبيرة معززة بالمسيرات والقناصة؛  لذلك كثيرًا ما يخرج جيش الاحتلال دون الوصول لأي من المقاتلين، مثلما حدث في الرابع من كانون الثاني حين ظلّ الجيش يناور لمدة 44 ساعة للوصول إلى مقاومين من الكتيبة دون جدوى.

«إسرائيل»، ومحاولة تدفيع الأهالي الثمن

عند اقتحامه المدينة، يسعى جيش الاحتلال للانتقام من أهلها، ولتحريض الحاضنة الشعبية على المقاومة، فيجرّف الشوارع، ويفجّر المنازل، ويعتدي على البيوت وسكّانها. وفي مشهد تكرّر في أكثر من اقتحام لأكثر من مدينة في الضفة المحتلة، قام جنود الاحتلال بتعصيب أعين المعتقلين وتصويرهم في وضعيات يسعى من خلالها لإهانتهم وكسرهم. كما اعتدى جنود الاحتلال على المؤسسات العامة في المدينة والمخيمات، بل وحتى على رياض الأطفال. وارتقى في مدينة طولكرم وحدها، منذ بداية طوفان الأقصى سبعون شهيدًا.

عند اقتحامه المدينة، يسعى جيش الاحتلال للانتقام من أهلها، ولتحريض الحاضنة الشعبية على المقاومة، فيجرّف الشوارع، ويفجّر المنازل، ويعتدي على البيوت وسكّانها.

ينحدر سكّان المخيم من لاجئين من حيفا وقضائها، لجؤوا أول الأمر بعد نكبة العام 1948 إلى منطقة  «سهل جنزور» بالقرب من جنين، وانتقل جزء منهم إثر عاصفة ثلجية ضربت المنطقة عام 1950 إلى مخيم نور شمس الذي تأسس عام 1951 وسمي بهذا الاسم نسبة إلى معتقل نور شمس الذي استخدمه الإنجليز إبان احتلالهم فلسطين لحبس الثوار المحكوم عليهم بالإعدام أو المؤبدات. منذ ذلك الحين يعيش أهل المخيمين ظروفًا اقتصادية واجتماعية متشابهة، وتربطهم علاقة قرابة ونسب. 

بعد انتهاء ذلك الاقتحام الأطول على المخيم الذي تبلغ مساحته قرابة 250 دونمًا، وبتعداد سكّانه الذين يبلغون عشرة آلاف نسمة، خرج «أبو شجاع» وقال: «رسالتنا أهم إشي إلى الحاضنة الشعبية أبناء المخيم، يظلوا صابرين».

يعرف «أبو شجاع» ويعرف مقاتلو الكتيبة أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستهدف حاضنتهم الشعبية بعد الفشل في الوصول إليهم، من أجل رفع كلفة العمل المقاوم في المخيم، وهذا ما فعله الجيش بالفعل من تجريف البنية التحتية، وتكسير محتويات البيوت التي داهمها، واعتقال المئات من شبابه. أدى هذا الخراب إلى نزوح بعض عائلات المخيم إلى الضواحي القريبة من المخيم أو إلى مدينة طولكرم، بحسب فراس يوسف عضو لجنة الطوارئ في المخيم «مش الكلّ بتحمل، وقد ما بده يكون البني آدم جبار رح يتعب». وتعمل لجنة الطوارئ على إصلاح ما يخلفه الاحتلال من دمار في البنى التحتية في المخيم من إصلاح شبكات المياه والكهرباء، وإعادة تعبيد الشوارع بتبرعات من أهالي المخيم والمدينة، لكن جيش الاحتلال يعاود الكرة: «ما بنلحق نصلح برجعوا بيخربوا» يقول يوسف.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%83%d8%aa%d9%8a%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ae%d9%8a%d9%85-%d8%b7%d9%88%d9%84%d9%83%d8%b1%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%82%d8%b5%d9%89/feed/ 0
هل تسهم المقاطعة في خلق انحياز مستدام للمنتج المحلي؟ https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b7%d8%b9%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%84-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%86%d8%aa%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%84%d9%8a/ https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b7%d8%b9%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%84-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%86%d8%aa%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%84%d9%8a/#respond Thu, 25 Jan 2024 12:22:10 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=society&p=89149 لا جدال حول أن حملة مقاطعة منتجات الشركات الأوروبية والأمريكية المتهمة بدعم «إسرائيل»، والتي تلت بدء العدوان على غزة، حققت هذه المرة نجاحًا غير مسبوق في الأسواق الأردنية، من حيث شموليتها واستمرارها طيلة فترة العدوان المتواصل حتى الآن.

بالتوازي مع حملات المقاطعة، انتشرت حملات تدعو إلى اعتماد بدائل لتلك السلع، وفي هذا السياق انتشرت على وجه التحديد دعوات لاعتماد البديل من «صنع محلي» إذا توفر.

من حيث الشكل، لوحظ في الأسواق عمومًا إضافة وسيلة ترويج فرعية وجديدة للبيع عنوانها: «هذا منتج محلي الصنع»، وهو ما يُعد ظاهرة تسويقية جديدة، ذلك أنه كان من الدارج الإشارة إلى كون السلعة «مستوردة» وخاصة إذا كانت أوروبية أو أمريكية، كعنصر ترغيب للزبائن. لكن مع انتشار المقاطعة بادرت أسواق ومتاجر كبيرة إلى وضع إشارات مكتوبة ومتكررة بشكل بارز قرب أرفف السلع المحلية، كما أعادت ترتيب أولويات خزائن العرض بحيث أعطت موقعًا متقدمًا نسبيًا لبعض السلع المحلية، وشمل هذا السلع من منتجات الدول التي اعتبرت صديقة أو على الأقل غير داعمة للعدو.

أكد كل من سألناه من العاملين في المتاجر على ملاحظة حصول تغيير في سلوك المشترين، إذ أصبح تفقُّد بلد الصنع ضروريًا، ويعمد كثير من الزبائن إلى الاستعانة بهواتفهم النقالة للتأكد إن كانت سلعة ما موجودة ضمن قوائم السلع المقاطعة، وذلك بعد أن بادر نشطاء إلى تعميم تلك القوائم على وسائل التواصل، وشمل السلوك الجديد هذا بشكل خاص جيل الشباب بل والأطفال أيضًا، الذين صاروا ينبهون آباءهم أو أمهاتهم إلى ضرورة التأكد قبل الشراء. وفي السياق أعلنت غرفة الصناعة عن تطبيق خاص بالترويج للصناعة المحلية.

من مظاهر حملات المقاطعة في الأسواق الأردنية. تصوير مؤمن ملكاوي.

يرى مشهور عمش، مدير التسويق في إحدى الشركات العاملة في مجال صناعة المنظفات، أن هناك تبدل فعلي إيجابي في موقف المواطن تجاه المنتج المحلي، وهو شامل لمختلف المناطق؛ في العاصمة وخارجها، ووفق تجربته فقد انعكس ذلك بشكل ملحوظ على المبيعات. مع إشارة خاصة إلى أسواق عمان، حيث كان ارتفاع الإقبال ملحوظًا أكثر في مناطق غرب عمان، في المواقع التي كان الجمهور معتادًا فيها على السلع الأجنبية، بحكم توفر المقدرة المالية، بينما في شرق عمان فإن شراء السلع المنتجة محليًا في مجال مواد التنظيف كان منتشرًا نسبيًا قبل المقاطعة.

غير أن مشهور عمش حرص على الإشارة إلى حالة الركود في الأسواق السابقة على العدوان، والتي ازدادت بعده، وعلى ذلك فإن زيادة البيع المشار إليها لا تعني إقبالًا عاليًا بقدر ما تعني نسبة مقارنة فقط. وفي حين يؤكد أن ظاهرة الإقبال على المنتج المحلي بهذا الحجم جديدة وغير مسبوقة، لكنه يتوقع أنها مؤقتة، وأن ديمومتها قد تكون صعبة، لأن المنتج الأجنبي أقوى تسويقيًا ويستطيع أن يكون مرنًا في وسائله، وتساعده إمكاناته المالية العالية على تمويل حملاته الدعائية.

يؤكد أمجد الزبن، وهو صاحب محل كبير نسبيًا متخصص في المنظفات والمستلزمات المنزلية، فاعلية المقاطعة وزيادة الإقبال على المنتج المحلي، ولكنه أيضًا يرجح أن الأمر مؤقت، إلا إذا غيرت المصانع خططها، من حيث تحسين جودة المنتج وشمول البدائل وتطوير سياسات التسويق، لأن البائع كحلقة وصل بين الصانع والمستهلك، له متطلبات لا يوفرها صاحب المصنع المحلي الذي قد لا يتحمل تكاليف تحسين التسويق.

غير أن أمجد لاحظ مبادرة إيجابية فيها قدر من الجرأة، حيث سارع أحد المصانع المحلية لسد فراغ في منتج لم يكن يصنع محليًا، بمعنى أنه لم يكن له بديل، وهو «أقراص» الجلايات الكهربائية، وسارع المصنع إلى تقديم منتجه الجديد بالفعل بعد المقاطعة. وفي المجال ذاته أشار مشهور عميش أن مصنعهم أنجز الاستعداد اللازم لصناعة المادة نفسها. كما لاحظنا أن بعض الأصناف الغذائية التي كانت تقتصر على منتجات شهيرة أجنبية، وقد أصبحت ضمن السلع المقاطعة، سارعت مصانع محلية إلى توفير بديل لعلها تستفيد من الموقف الجديد.

يؤكد سهيل النبهان، المقيم في محافظة إربد، والذي عمل في مجال تسويق المنتجات الغذائية لأكثر من 25 عامًا ولا يزال متابعًا لحالة الأسواق، أن ما يجري ظاهرة جدية وجديدة ومؤثرة وتلفت انتباه التجار، غير أنه يلاحظ غياب مرونة مزودي المنتجات الذين لا يبدون اهتمامًا طويل الأمد، وبعضهم يرى في الأمر مجرد فرصة للبيع الواسع، وتحقيق مكاسب في اللحظة الحالية.

الصناعة المحلية والترويج الصعب

لفهم مستجدات الظاهرة، قد يكون مفيدًا الإشارة إلى أن حملات الترويج للمنتجات محلية الصنع مرت بتجارب سابقة، من خلال حملات مصممة مسبقًا وذات أهداف وطموحات واعية، بمعنى أنها تختلف جوهريًا عن الحملة الحالية التي جاءت بمبادرة «من الأسفل» إن صح التعبير، أي من الأوساط الشعبية والنشطاء المهتمين والزبائن أنفسهم.

لعل أبرز تلك الحملات تمثلت في حملة «صنع في الأردن» والتي انطلقت في حزيران 2013 واستمرت فعالة لنحو سبع سنوات ولا تزال عمليًا قائمة وإن بوتيرة أقل، من خلال موقع إلكتروني خاص بالحملة.

يقول موسى الساكت، مؤسس تلك الحملة، إن نشاطها غطى كافة قطاعات الصناعة المحلية، وإن جهات عديدة داخل وخارج قطاع الصناعة اشتركت في الحملة، مثل وزارة التربية والتعليم وهيئة الإذاعة والتلفزيون ونقابة الصحفيين وأمانة عمان الكبرى وغيرها، كما انتقلت أنشطة الحملة بين المحافظات. واستخدمت الحملة شتى أشكال ووسائل العمل الدعائي والإعلامي. وحققت بحسب الساكت بعض النتائج الترويجية، فهي بالمحصلة حملة إعلامية أسهمت في التعريف بالمنتج الوطني، غير أنه من الصعوبة التعرف على نتائج تتصل بما حققته فعليًا في الأسواق.

الساكت أشار إلى أن مسألة المنتج الوطني مسؤولية ثلاثة أطراف هي المُنتج، والمواطن، والحكومة. وهذه الأطراف ذات أدوار تكاملية. ولفت إلى أن البعد التنموي يتطلب أن تتحقق زيادة في نسبة مدخلات الإنتاج المحلية، فهي بالإجمال لا تزيد عن 30% وهذا خلل ينبغي حله، ولكن هذا يحتاج لتفكير أشمل واستراتيجيات كلية أخرى، لأن الانتقال إلى الصناعات الأولية التي توفر مدخلات إنتاجية هو نشاط اقتصادي من طبيعة أخرى ويحتاج لتدخلات وإجراءات رسمية.  

وبحسب دراسة صدرت عام 2020، أي بعد سبع سنوات على انطلاق الحملة، فإن مكانة المنتج المحلي لا تزال متدنية مقارنة بالمنتجات الأوروبية والأمريكية.[1] 

من مظاهر حملات المقاطعة في الأسواق الأردنية. تصوير مؤمن ملكاوي.

هل يمكن البناء على هذا التغيير؟

وفق مبادئ العلوم الاقتصادية، هناك محددات للقرار الاقتصادي الرشيد عند الفرد، سواء كان مستهلكا أو مستثمرًا أو مدخرًا، من بينها ما يعرف بحسابات المنفعة والتكلفة، وهي حسابات يجريها الفرد على مدار الوقت، وعلى ذلك بني مفهوم «الخيار العقلاني» الذي يركز على حجم العائد أو المنفعة المتوقعة على المستوى الشخصي.

غير أن اتجاهًا جديدًا نسبيًا بات يتحدث بقوة عن دور العوامل النفسية والاجتماعية وأثر ذلك على القرار، بما قد يكون له أولوية على عناصر رشدية القرار بالطريقة الموصوفة أعلاه. صحيح أن دور العوامل النفسية والاجتماعية معروف مسبقًا ورافق تطور العلوم الاقتصادية، إلا أن الأمر نمى وتطور إلى درجة قيام فرع خاص اسمه «الاقتصاد السلوكي»، أخذ يتنامى منذ العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، ويسعى إلى دمج مداخل علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا مع علم الاقتصاد بهدف فهم أعمق للظواهر الاقتصادية.

في كتابه «المجتمع والاقتصاد: إطار ومبادئ» يشرح مارك غرانوفيتز كيف أن الفعل أو القرار الاقتصادي عند الفرد أو الجماعة، قد يخضع لمنظومة المعايير الاجتماعية السائدة، فقد يكون للناس تصور ما عن طبيعة هذا الفعل أو كيف يجب أن يكون، وهو تصور قد يلغي أو يتجاوز أو يعدل الفعل الاقتصادي ويباعد بينه وبين مقتضيات فكرة القرار الرشيد.[2]

يؤكد غرانوفيتز أن المعايير الاجتماعية تكون ملزمة بشكل أساسي من خلال تأثيرها في العواطف، فتكون معززة بمشاعر الإحراج والتوتر والشعور بالذنب والعار التي يعاني الشخص احتمال انتهاكها، وقد تشحن أيضًا الشخص الملتزم بمعيار ما بالعواطف الإيجابية. إن المعايير الاجتماعية «تبسط قبضتها على العقل بسبب العواطف القوية التي تستطيع إثارتها».

في عام 2015 أصدر البنك الدولي تقرير التنمية لذلك العام بعنوان «العقل والمجتمع والسلوك» وضع فيه بعض المبادئ السلوكية للفرد والجماعة في الميدان الاقتصادي، وقد بنى أفكاره من خلال بعض التجارب الفعلية في بعض الدول وخاصة في العالم الثالث.

في ظل المقاطعة الشعبية للمنتجات الداعمة للاحتلال، نحن أمام تغيير يسمح بطرح مسألة البناء عليه واستثماره وجعله ممتدًا، فهو سابق لقرار المنتجين والصناعيين، ويمكن أن يكون ضاغطًا باتجاه قرار مناسب ومفيد ومجد اقتصاديًا.

لهذا، صحيح أن الحدث الرئيسي عنوانه «العدوان على غزة»، أو المقاومة في غزة، وهو حدث سياسي كبير عالمي، وصحيح أننا في الأصل أمام ظاهرة التضامن مع غزة والاحتجاج ضد العدو، وأن المقاطعة أحد أدوات هذا الموقف العام، وأن الانحياز للمنتجات «الصديقة» وبصورة رئيسية، للمنتجات المحلية، كان واحدًا من النتائج او الظواهر المرافقة، إلا أن كل هذا مرتبط بشكل كبير بعناصر ذات بعد ثقافي، نفسي واجتماعي على مستوى الفرد والجماعة.

لذلك، أبدى مؤسس حملة «صنع في الأردن» موسى الساكت اعتراضه على تجاوز العوامل السياسية عند أصحاب القرار الاقتصادي في البلد. وأكد أن العامل السياسي ينبغي أن يكون حاضرًا حتى عند النظر إلى المخاطر التي قد تؤثر على النشاط الاقتصادي ونتائجه، وقد أشار مثلًا إلى مسألة التركيز الدارج رسميًا على قطاع السياحة، بينما نحن في منطقة تشهد التوترات بما يقود إلى هشاشة المشاريع والخطط.

من المعروف أن إحداث تغييرات في العوامل النفسية والثقافية العميقة يعد من الأهداف المعقدة، فهي ليست مجرد جهد ترويجي أو إعلامي أو ثقافي أو «توعوي» وفق المفردة الدارجة في البلد. إن المواطن المتسوق، يدخل ببساطة إلى المتجر، ويرى أمامه طيفًا من المنتجات متفاوتة الجودة والسعر والبريق والسمعة، ويعرف قدراته المالية، ويجري حساباته الخاصة، فإذا كانت نتيجة هذه الحسابات «العقلانية» توصله إلى شراء سلعة أجنبية، فما الذي يمكن أن يدفعه إلى شراء سلعة محلية؟ ينسحب هذا المنحى من التفكير إلى طرفي المعادلة الاقتصادية الآخرَين: المستثمر والمدخر، إضافة إلى المستهلك.

لست معنيًا هنا في التوسع في تفسير عوامل أو أسباب الوضعية المتدنية للسلع المحلية. هذا فضلًا عن أن نقاش الصناعة المحلية يتطلب استحضار عناصر أخرى تتعلق بالسياسات الكلية والتمويل وتطوير الخبرات وتحمل تبعات تحسين الجودة، بقدر التوقف عند موقف المستهلك وإمكانية تشكيل انحياز «إيجابي» عنده تجاه المنتج المحلي، حيث يحضر فورًا إلى النقاش العنصر النفسي الفردي والجماعي، المتشكل والمتطور تاريخيًا.

في حالتنا الراهنة، نحن أمام ظاهرة حصول تغير نفسي ثقافي جاء بضغط من أسفل ولم يخطط له أصحاب القرار المستفيدون، بشكل مسبق وقصدي. إن هذا التغير بطريقته التي تحقق بها، يسمح بطرح مسألة البناء عليه واستثماره وجعله ممتدًا، فهو سابق لقرار المنتجين والصناعيين، ويمكن أن يكون ضاغطًا باتجاه قرار مناسب ومفيد ومجد اقتصاديًا. إن الصناعة المحلية أمام إنجاز لم يكلفها أي جهد أو مال أو تفكير. والتغيير تحول إلى ما يشبه المطلب الشعبي الكامن، ولكنه حتى الآن ذاتي غير قادر على الاستمرار وقابل للتوقف أو التراجع، وعلى باقي الأطراف ملاقاته في منتصف الطريق.

كل الأطراف ذات الصلة ينبغي أن تتكامل معًا؛ الحكومة كصاحبة قرار كلي فيما يخص الرسوم والضرائب، والصناعيون أنفسهم، والمشتغلون بالأهداف الوطنية الكبرى السياسية والاقتصادية والثقافية، والمستهلكون. كما ينبغي التوصل إلى معادلة بين مصالح الضدين: التاجر المستورد من جهة والمُصنّع من جهة ثانية. ويبدو أن استحقاقات وتداعيات التضامن مع غزة وضعتنا أمام سؤال تنموي مُلِح.

  • الهوامش

    [1] كتاب «صنع في الأردن.. رؤية وطن» بحث وإعداد موسى عوني الساكت. 2020، عمان.

    [2] انظر/ي «المجتمع والاقتصاد: إطار ومبادئ» تأليف مارك غرانوفيتز. ترجمة ابتهال الخطيب. الكويت، 2021.

]]>
https://www.7iber.com/society/%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b7%d8%b9%d8%a9-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%ad%d9%88%d9%84-%d9%84%d9%84%d9%85%d9%86%d8%aa%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%84%d9%8a/feed/ 0
كيف دمّرت «إسرائيل» قطاع التعليم في غزة؟ https://www.7iber.com/society/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%af%d9%85%d8%b1%d8%aa-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%82%d8%b7%d8%a7%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/ https://www.7iber.com/society/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%af%d9%85%d8%b1%d8%aa-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%82%d8%b7%d8%a7%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/#respond Tue, 23 Jan 2024 08:09:59 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=society&p=89091 «حان الوقت لتعلّم شيء ما عن «إسرائيل». نحن هنا لنبقى. لن نذهب إلى أي مكان. لن نتحمل إرهابكم، وهم سيبدؤون بتعلّم اللغة العبرية في هذه المدرسة قريبًا». هذه الكلمات رددها أحد «المتطوعين» الأجانب في جيش الاحتلال الإسرائيلي، من داخل إحدى مدارس غزة، في تماهٍ مع الخطاب الإسرائيلي الذي يصف المؤسسات التعليمية في غزة بأنها «بؤر لتعليم وإنتاج الإرهاب». وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد أعلن منذ شهر تقريبًا أن أحد شروط الاحتلال لإنهاء العدوان على غزة هو منح السلطة عليها لجهة «لا تعلّم الإرهاب». ليس هذا الخطاب جديدًا على الاحتلال، فقد كرره في الحروب التي شنّها على قطاع غزة منذ بدء الحصار، مستهدفًا المؤسسات التعليمية فيها جميعها.

وفي الحرب الدائرة اليوم، ينتهج الاحتلال الإسرائيلي سياسة التدمير، فلم يستثنِ الجامعات والمدارس من استهدافاته المباشرة، وألحق الأضرار بـ90% من كل هذه المدارس، إذ تضررت قرابة 300 مدرسة وجامعة بشكل جزئي، وتوقفت 95 أخرى عن الخدمة تمامًا، بحسب بيانات المكتب الإعلامي الحكومي حتى اللحظة. وبحسب وزارة التربية والتعليم الفلسطينية فقد تحولت 133 مدرسة حكومية لمركز إيواء. وفي الأيام الأولى للحرب لجأ أكثر من 130 ألف غزيّ إلى 83 مدرسة تابعة للأونروا وحدها، والتي لم تسلم مدارسها من القصف الاسرائيلي المستمر، وكانت الحكومة الإسرائيلية هاجمتها سابقًا لكونها «تمجّد الإرهاب والتحريض على «إسرائيل»» عبر مساقاتها.

حوّلت القوات البرية للاحتلال بعض المدارس، التي لم تُدمّر بشكل كامل، إلى مناطق عسكرية يتموضع فيها الجنود، أو نقاط اشتباك، أو مسرحًا لتصوير مشاهد إطلاق الرصاص على الجدران، بعد أن كانت مساحات آمنة يتعلم ويلعب فيها آلاف الأطفال. ارتكب طيران الاحتلال المجازر بحق عدد من تلك المدارس التي تؤوي آلاف النازحين، إضافة إلى جرائم استخدام المدارس والجامعات لأغراض عسكرية، بما في ذلك ما لا يقل عن 18 حادثة استخدام عسكري لمنشآت الأونروا؛ واستغلالها كمراكز احتجاز واستجواب. كما ارتكب جيش الاحتلال مجازر إعدام أعداد من المدنيين النازحين على مرأى أهاليهم داخل هذه المدارس، وعُثر على جثامين 15 شهيدًا متحللة وقد أعدمتهم قوات الاحتلال في إحدى المدارس في مخيم جباليا. كما تحولت بعض الباحات المدرسية إلى مقابر. كل هذه مشاهد حوّلت مدارس غزة إلى بيوت رعب في ذاكرة الأطفال والطلبة النازحين.

حصار وحروب متعاقبة على قطاع التعليم

كان يُفترض بأكثر من 600 ألف طالب مدرسي أن يلتحق بالعام الدراسي الحالي في غزة، منهم حوالي 60 ألفًا من طلبة المرحلة الثانوية، إضافة إلى 87 ألف طالب جامعة وكلية تقريبًا، كلهم حرموا من العام الدراسي، إذ إنهم بعد أكثر من 100 يوم من الحرب، فقدوا فصلهم الدراسي الأول وما تزال الحرب مستمرة مخلّفة دمارًا لم يسبق لأهل غزة أن شهدوه يومًا. ويقول مدير العلاقات العامة في المكتب الإعلامي الحكومي غزة، محمود الفرا، إن العام الدراسي الحالي قد توقف، رغم عدم صدور بيانٍ رسمي عن الجهات المختصة، إلا أن قراءة الواقع وحجم الضرر الذي لحق بالقطاع يشيران إلى هذه النتيجة، وهذه تعدّ ضربة عنيفة توجّه إلى تعليم مستنزف بالأساس.

أنقاض مدرسة دمرها الاحتلال في مدينة غزة، في الثامن من تشرين الأول 2023. تصوير بشار طالب. أ ب أ.

يشير منسق قطاع التعليم في شبكة المنظمات الأهلية في غزة، أحمد عاشور، إلى أن التعليم في غزة قبل الحرب لم يكن بأفضل حالاته نتيجة الحصار الذي فرضه الاحتلال على غزة، إضافة إلى عدد من الحروب التي واجهت القطاع والتي أثرت على التعليم بالمحصلة، مرورًا بجائحة كورونا التي بقيت آثارها على القطاع مدّة ثلاث سنوات، نتج عنها فاقد تعليمي كبير جدًا لدى الأطفال كما يقول. وتوضّح مسؤولة الإعلام في اليونيسيف، ميرا ناصر، أن مشكلة التعليم في غزة هي مشكلة قديمة متجددة، فقد واجه الجيل الحالي من الطلبة عدّة تصعيدات على قطاع غزة وعانى بالأساس من تحديات كانت تواجه التعليم قبل الحرب الحالية كأعداد المدارس التي لم تكن تكفي لعدد الطلبة في سن التعليم، ما كان يجبر المدارس لأن تعمل بنظام الشفتات الصباحية والمسائية لاستيعاب هذا الكم الهائل من الطلبة. إضافة إلى ذلك توضح أن الجائحة حرمت أعدادًا كبيرة من الطلبة من استمرارية تعليمهم بسبب نظام التعليم عن بعد، وذلك لأن عددًا لا بأس به من العائلات تعاني من عدم وجود أجهزة ذكية أو شبكة إنترنت جيدة، ما سبب ضعفًا لدى كثير من الطلبة.

أمّا التعليم الجامعي فليس بأفضل حالًا، إذ وبسبب الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 17 عامًا تواجه الجامعات في غزة مشاكل أخرى مثل تقادم الأجهزة أو غيابها التام. وتواجه أيضًا مشاكل تشغيلية ترتبط بشكل رئيسي بانقطاع التيار الكهربائي الذي يستمر ما بين أربع إلى ثماني ساعات يوميًا. ويؤدي ذلك إلى إلغاء الدورات التدريبية والعمل المخبري، فضلًا عن العروض التوضيحية التي يتم التحكم فيها بواسطة الكمبيوتر. تقول سارة، وهي طالبة جامعية في السنة الرابعة لتخصص طب الأسنان في جامعة الأزهر، إنها في سنتها الجامعية الأولى تجاوزت فترة التعليم الإلكتروني أثناء الجائحة بصعوبة، إذ إنه وبسبب انقطاع الكهرباء، واعتمادهم على طاقة الخلايا الشمسية التي لم تكن تفي بالغرض دومًا، فقد فوتت عددًا من امتحاناتها الجامعية، ما جعلها تعتقد أنهم في غزة ليسوا مستعدّين للتعليم عن بعد وأنه كان سببًا في تراجع الطلبة، بالإمكانيات المتواضعة للقطاع وبشبكة الإنترنت من الجيل الثاني، حيث تمنع «إسرائيل» إدخال الأجهزة اللازمة لبناء شبكات الجيل الثالث في غزة، ما خلق فجوة رقمية كبيرة في التعليم قبل الحرب.

المشكلة الأكبر التي تواجه جامعات غزة هي استهدافها في حروب «إسرائيل» المتكررة ضد غزة، فخلال حرب 2008-2009، هدم سلاح الجو الإسرائيلي ستة مبان جامعية، منها مبنيان تابعان للجامعة الإسلامية. بین عامي 2009 و2012 تم توثيق مئات الھجمات على التعليم، بما في ذلك قتل وإصابة الطلاب والمعلمین، وتدمیر المدارس خلال الحرب. أما في 2014، وفي حربها الأطول على غزة من بين كل الحروب السابقة، فقد أدى القصف لمدّة 51 يومًا على القطاع إلى تضرر 244 مدرسة، منها 70 مدرسة تابعة لوكالة الأونروا، و174 مدرسة حكومية، وتسببت الصواريخ الإسرائيلية بتدمير 26 مدرسة منها بشكل شبه كلي. كما ألحقت أضرارًا جسيمة بـ12 مؤسسة للتعليم العالي، كان أبرزها استهداف مبنى إدارة الجامعة الإسلامية الذي زعم الاحتلال أنها كانت مركزًا عملياتيًا عسكريًا لحركة حماس. وتأثر قطاع التعليم وحده في تلك الحرب بقيمة بلغت أكثر من 33 مليون دولار.

فلسطينيون يتفقدون الأنقاض بالقرب من مدرسة تابعة للأونروا في رفح حيث يحتمي النازحون بعد قصف الاحتلال منزلًا مجاورًا، في كانون الأول 2023. تصوير محمد عابد. أ ف ب

وفي حرب 2018، قصفت الطائرات الإسرائيلية مباني جامعة الأزهر، وألحقت أضرارًا بكلية طب الأسنان بما فيها من عيادات ومختبرات، وكليتي التربية والآداب والعلوم الإنسانية، وكلية الاقتصاد والعلوم الإدارية بتصعيد معتاد من قبل الاحتلال. وبعد تأثر القطاع بالفعل بعد جائحة كورونا، شنت «إسرائيل» عام 2021 عدوانها الرابع على القطاع خلال 13 عامًا بعد الحصار، وقد استمرت المعركة 11 يومًا ما تسبب بتعطيل سير العملية التعليمية، بعد أن استهدف الاحتلال ما لا يقل عن 54 منشأة تعليمية وروضة أطفال. وقتل 66 طفلًا وأصاب مئات منهم بجروح. 

خلال الحرب الحالية، وثّق المرصد الأورومتوسطي، استشهاد 94 أستاذًا جامعيًا، توزعوا ما بين 17 شخصية يحملون درجة البروفيسور، و59 يحملون درجة الدكتوراه، و18 يحملون درجة الماجستير.

يقول الفرا إن الحرب على غزة في 2014 كانت من أكثر الحروب قسوة وتأثيرًا على التعليم من بين كل الحروب التي سبقتها، إلا أنه لم يسبق للحرب الحالية مثيل في تاريخ غزة، موضحًا أن قطاع التعليم يتأثر بالقطاعات الأخرى بالضرورة، وكل القطاعات المتداخلة مُدمرة بحسب قوله، فلا يوجد كهرباء ولا ماء ولا قطاع صحي ولا مسكن آمن لكل هؤلاء الطلبة، كما يقول إن حجم الدمار الذي حلّ بالبنية التحتية غير معهود. 

إضافةً لانهيار البنية التحتية، فقدْ استشهد 130 من المعلمين والإداريين في المدارس في غزة، فيما بلغ عدد الجرحى منهم 403 جريحًا وجريحة، واستشهد ما يقارب أربعة آلاف طالب وطالبة، بحسب صادق خضور المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، الذي يوضح أن كل هذه الخسائر التي تعرّض لها الطلبة، إضافة إلى خسارتهم منازلهم وأفرادًا من عائلاتهم، تسبب لهم صدمات نفسية عنيفة يصعب تجاهلها عند الحديث عن عودتهم مستقبلًا للتعليم. ورغم أن القطاع واجه لحظات مؤلمة في السابق إلا أن حجم الاستهداف الحالي يعدّ الأفظع، كما يشير إلى أن واحدة من المسائل التي ستواجه الطلبة بعد انتهاء الحرب هي أن أعدادًا هائلة منهم أصبحت لديهم إعاقات جسدية، وكانت اليونيسيف أفادت أن ألف طفل في غزة فقدوا إحدى ساقيهم أو كليهما منذ بداية الهجمات الإسرائيلية حتى اللحظة، ما سيشكل عائقًا كبيرًا عند عودتهم للتعليم. 

مخاوف طلبة الجامعات

قبل الحرب بيوم واحد، كانت سارة في الفصل الدراسي الأول من السنة الرابعة في عيادات الأسنان التابعة لجامعة الأزهر، وكانت اجتمعت وزملاءها بمدرسهم للاتفاق على تمديد مدّة الفترة الدراسية إن استطاعوا. بعد الحرب، توقفت الدراسة وبدأ الاحتلال بقصف مباني الجامعات، مستهلًا عملياته بالجامعة الإسلامية، ثم استهدف جامعة تلو الأخرى، ليصل إلى مباني جامعة الأزهر. كانت سارة نزحت وأهلها إلى إحدى مدن محافظة الوسطى، وسمعت عن تدمير العيادات الجديدة اللي وفرتها الجامعة لطلبة طب الأسنان، كما دمّر المبنى الأساسي للجامعة، حيث أوراق الطلبة وسجلاتهم. هنا تيقنت سارة أن إكمال عامها الدراسي الأخير قد توقف. «من ناحية بقول إنه الجامعات بدها سنتين لترجع إذا مش أكثر، ومن جانب ثاني بقول هيني زيي زي باقي الطلاب نستنى الحلول اللي رح يطرحوها بعد الحرب (..) ومن ناحية بحكي لسا بدي أفكر بحياتي وهل رح أظل عايشة لتخلص الحرب؟».

تستيقظ سارة أحيانًا على أصوات القصف في المكان الذي نزحوا إليه، وتفكر أن عليهم النزوح إلى مكان آخر. ورغم أنها تحاول ما أمكن تجنب التفكير بمستقبلها التعليمي إلا أن بالها يظل مشغولًا بالتفكير إن كانت ستجد وثائق تثبت أنها أكملت ثلاثة أعوام دراسية، أم ستضطر لإعادة الدراسة كلها، خصوصًا أنها حتى الآن لم تسمع أخبارًا عن الجامعة وما سيحل بطلبتها، كما أن المواقع الإلكترونية للجامعات في غزة متعطلة وهو ما يزيد مخاوفها.

يقول الفرا إن أغلب المباني الجامعية في غزة دمرت بشكل مباشر ومتعمّد، بهدف تدمير العملية التعليمية. ويقول إن طلاب الجامعات يعانون من المجهول، حتى إن انتهت الحرب، سيكون انهيار البنية التحتية للجامعات عائقًا حقيقيًا أمام عودتهم للمقاعد الدراسية في مختلف تخصصاتهم، وذلك لأن كل تخصص جامعي له خصوصيته عن المدارس، فهناك الشق التطبيقي الذي يجب أن يجتازه الطلبة خصوصًا في سنواتهم الأخيرة، سواء كانوا في تخصصات طبية أو هندسية أو غيرها، وهناك محددات لوجستية ينبغي توافرها لبعض التخصصات كالمختبرات مثلًا التي لا يمكن حلّها بالتعليم عن بعد إن كان ممكنًا أصلًا.

مبنى الجامعة الإسلامية المدمر في مدينة غزة، في 26 تشرين الثاني 2023. تصوير عمر القطّا. أ ف ب.

في جامعة الأزهر أيضًا، كان صبحي طالبًا في سنته الثالثة من تخصص هندسة الميكاترونيكس، وكان يخطط لإنهاء تخصصه بأربعة أعوام بدلًا من خمسة، ثم البحث عن منح لإكمال الماجستير في الخارج، وينوي العودة بعدها إلى غزة لافتتاح مشروع لمهندسي الميكاترونيكس يبحث في المشاكل الهندسية بالقطاع الإنتاجي والكهربائي في غزة ويقدم حلولًا وابتكارات هندسية جديدة تتلاءم مع واقعهم وإمكانياتهم.

لم يصدّق صبحي خبر استهداف جامعته إلا عندما شاهد أحد الفيديوهات المنتشرة على الإنترنت «كان زي حجر كبير ووقع ع راسي، يعني حلمي ومجهودي ومخططاتي كلها راحت هيك برمشة عين». وشاءت الأقدار أن يعود إلى جامعته مجددًا، لكن نازحًا هذه المرة. يقول إن الاحتلال استهدف الجامعة بالمدافع وحطّم مرافقها ومختبراتها وقاعاتها الدراسية واستخدم ساحة الجامعة المركزية مكانًا لتجمع الدبابات. ثم طلب منهم التوجه إلى الجامعات غرب غزة لاستخدامها مأوى: «لما وصلنا لهناك وجدنا دمار وخراب كتير بكافة المرافق والبنى التحتية، فاضطرينا نبني خيم فوق ركام الجامعات ونعيش فيهم وأنا حاليًا عايش بخيمة داخل جامعتي».

بعد أن رأى صبحي الدمار الذي أصاب جامعته، يعتقد أنه لا يوجد ما يمكن أن يرمم مرافقها بل تحتاج إعادة بناء، ويبدو له أنها تحتاج وقتًا طويلًا أيضًا. سمع صبحي من بعض المسؤولين في جامعته أنه إن تمت إعادة الإعمار، فسوف تستغرق عودتهم للتعليم حوالي ثلاث إلى أربع سنوات لعودة البنى التحتية للتعليم. يعتقد أنه إن استطاع السفر للخارج لإكمال تعليمه فليست هناك طريقة يستطيع من خلالها أن يثبت أنه قطع عددًا كبيرًا من الساعات في غزة.

أزمة التعليم بين الحرب والحصار

يقول الفرا، إن العدوان على القطاع استهدف كافة المرافق الأساسية في غزة وتوقفت كل الخدمات الإنسانية والأساسية. مشيرًا إلى أن استمرار الحرب وحجم التدمير الكبير على المرافق التعليمية يشلّ التفكير بعودة التعليم مع عدم وجود آليات محددة لانتظام العملية حتى بعد انتهاء الحرب. وبحسب خضور، المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم في غزة، فقد أصبحت المدارس المتبقية دون أضرار كبيرة، مساكن بديلة للنازحين الذين فقد معظمهم منزله تحت القصف، وليس لديهم بديل عن هذا المأوى حتى بعد انتهاء الحرب، ما يجعل الحديث عن سيناريوهات عودة التعليم صعبًا للغاية بحسب تعبيره.

بالنسبة لوزارة التربية والتعليم الفلسطينية، ورغم أنها تقف على إحصائيات يومية للأضرار التي لحقت بقطاع التعليم، إلا أن خضور يؤكد أن أي خطّة لعودة التعليم تتطلب مرحلة استكشاف لحجم الأضرار الحقيقية في ظل صعوبة الوصول لبعض المناطق ووجود من هم تحت الركام وعدم انتهاء الحرب، لذلك فإنه يرى أن الأولوية القصوى لوقف إطلاق النار، ويقول إن الوزارة تتباحث مع عدد من شركائها بهدف إسناد الموجودين في مراكز الإيواء من الطلبة أو ذويهم لأن أولويتهم مرتبطة بالإغاثة أكثر من التعليم.

تقول ميرا ناصر إن هنالك خطّة تتكون من إجراءات استجابة أوّلية، تنظمها اليونيسف وشركاؤها، تسعى عبرها للبحث عن أماكن آمنة في القطاع يمكنهم من خلالها ضمان استمرارية التعليم، بإنشاء أماكن علمية مؤقتة كالخيام، أو أجزاء من المدارس المستخدمة كمراكز إيواء. أمّا الجزء التالي من الخطة فيقوم على إعادة بناء المنشآت التعليمية وإعادة تأهيل وترميم ما يمكن تأهيله، لكن، رغم ذلك، تقول ناصر إن التحدي الأكبر الذي سيواجهونه هو أنه وحتى قبل الحرب فإن عدد المدارس لم يكن كافيًا.

نازحون في مدرسة تابعة للأونروا في مدينة غزة، في تشرين الأول الماضي. تصوير مجدي فتحي. أ ب أ.

كما توضّح ناصر أن إعادة الإعمار تحتاج إلى تمويلٍ كافٍ للاحتياجات التي خلقتها الحرب، وأن مشكلة تمويل قطاع التعليم متعلقة بشكل مباشر بتمويل القطاعات الأخرى؛ أي أنه لا يمكن أن تحدث إعادة إعمار للتعليم وحده بمعزل عن إعمار كامل للقطاع، وبمعزل عن وقف إطلاق النار العاجل والمستمر قبل أي شيء آخر. وتوضح أن مسألة عودة التعليم عن بعد تشكل تحديًا آخرًا بسبب مشاكل الاتصال التي يعاني منها القطاع حاليًا.

من جهة أخرى، وضح خضور أن مسألة عودة التعليم ليست مرتبطة فقط بترميم وإعادة إعمار البنية التحتية، «الموضوع مش بس إعطاء الطالب كتاب بمجرد انتهاء العدوان»، ويشير إلى أن حجم الضرر النفسي الذي لحق بالطلبة ينبغي أن يكون واحدًا من أهم الجوانب التي ستغطيها أي خطة سيتم تشكليها بعد انتهاء الحرب.

أما الفرا فيختلف مع أي توجه يتعلق ببناء مدارس مؤقتة، حيث يرى أن الأولوية هي لتوفير مساكن مؤقتة للنازحين الذين فقدوا منازلهم ويسكنون اليوم في المدارس بشكل مكتظ، تحديدًا مع عدم موافقة الاحتلال بعد على عودة النازحين لمنازلهم، فلا يمكن إيجاد حلول مؤقتة لتعليم أطفال بلا مساكن بحسب قوله. ويقول عاشور، منسق قطاع التعليم في شبكة المنظمات الأهلية، إن الحديث عن عودة الحياة التعليمية بعد انتهاء الحرب، دون وجود حل سياسي، يضمن فك الحصار وفتح المعابر، وإزالة القيود على الموارد التي تصب في إعادة الإعمار سيكون شبه مستحيل. ويوضح أن انتهاء الحرب دون فك الحصار سيبقي على أزمة التعليم لسنوات طويلة دون حل.

]]>
https://www.7iber.com/society/%d9%83%d9%8a%d9%81-%d8%af%d9%85%d8%b1%d8%aa-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%82%d8%b7%d8%a7%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%85-%d9%81%d9%8a-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/feed/ 0
«السياسة في صلب الاقتصاد»: كيف فاقمت الصين أزمة الشحن في «إسرائيل»؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82%d9%85-%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%ad%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82%d9%85-%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%ad%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/#respond Mon, 22 Jan 2024 11:40:23 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89129 قبل تسعة أعوام، فازت مجموعة شنغهاي الدولية للموانئ (SIPG)، والتي تشغّل أكبر ميناء حاويات في العالم، بعقد تشغيل وإدارة محطة جديدة في خليج حيفا فيما وصف بأنه «حدث تاريخي لإسرائيل سيخلق آلاف فرص العمل وسيؤدي إلى تقليل تكاليف المعيشة». اعتبرت هذه الخطوة «تعبيرًا عن ثقة الصين كقوة عظمى في استثمار المليارات التي ستحوّل إسرائيل لمركز شحن لكلّ العالم»، بحسب يسرائيل كاتس، وزير النقل الإسرائيلي آنذاك. مطلع هذا العام، قررت شركة كوسكو الصينية للشحن البحري (COSCO)، والتابعة لمجموعة شنغهاي، تعليق رحلاتها إلى الموانئ الإسرائيلية على خلفية هجمات جماعة أنصار الله على السفن المتوجهة لـ«إسرائيل» من البحر الأحمر.

خلق تخلي كوسكو عن إدارة حركة الشحن من ميناء حيفا وإليه، في السابع من كانون الثاني الجاري، حالة من الذعر في الأوساط الإسرائيلية الرسمية والإعلامية. أعلنت وزارة النقل الإسرائيلية أنها تتابع مع الجهات المعنية استيضاح الأسباب وذكرت شركة الشحن الإسرائيلية زيم (ZIM) التي تدير مع كوسكو خطوطًا ملاحية مشتركة أن القرار جاء «مُفاجئًا». كما أحيا الخبر موجة من المخاوف الإسرائيلية والأمريكية التي حذرت من «التغلغل» الصيني في الاقتصاد الإسرائيلي في محطات مختلفة، أشهرها قول رئيس الشاباك الإسرائيلي عام 2019 إن الاستثمارات الصّينيّة في «إسرائيل» تُهدّد أمن «الدولة» وتستلزم سنّ تشريعات رقابية مشددة.

من أصل خمسة موانئ، تعتمد «إسرائيل» اليوم بشكل مكثّف على ميناء حيفا الساحلي فقط، بعد أن أصبح ميناءا أسدود وعسقلان القريبان من غزة في نطاق استهداف صواريخ المقاومة الفلسطينية، بينما تسببت هجمات أنصار الله بتوقف شبه كامل لميناء إيلات الذي يشكل المنفذ الوحيد للبحر الأحمر. في الوقت نفسه، لا يمكن لميناء الخضيرة الصغير أن يسد الحاجة في حال تأثر الميناء الرئيسي في حيفا أو في حال ظلت الموانئ الثلاثة الباقية قيد التهديد والإغلاق.

يضغط هذا الحصار البحري الذي فاقمه انسحاب كوسكو من الموانئ الإسرائيلية على حركة السفن والملاحة، فمتى بدأت الاستثمارات الصينية في «إسرائيل»؟ وكيف توسعت في قطاع إدارة الموانئ الإسرائيلية رغم الضغوطات الأمريكية؟ وكيف استقبلت «إسرائيل» قرار كوسكو الأخير وأثره على الاقتصاد الإسرائيلي؟

مسار دبلوماسي طويل وحذر

أقيمت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين «إسرائيل» والصين، بعد محطات كانت العلاقة تتأرجح فيها ما بين الإقدام والتراجع. اعترفت «إسرائيل» عام 1950 بدولة الصين، لكن الأخيرة لم تبادلها الاعتراف بسبب الموقف الإسرائيلي المنسجم مع سياسة الولايات المتحدة من الحرب الكورية، ونظر قادة الصين الشعبية للنضال ضد الصهيونية باعتباره نضالًا ضد الإمبريالية. قال الرئيس الصيني ماوتسي تونغ عام 1965 في أول زيارة لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية، أحمد الشقيري، للصين: «إن إسرائيل وفور موزا [تايوان] هما قاعدتان للإمبريالية في آسيا، أنتم [العرب] البوابة الأمامية للقارة العظيمة ونحن بوابتها الخلفية، وهدفهم تجاهنا واحد».[1]

ساندت الصين مصر ضد العدوان الثلاثي عام 1956، واعترفت بمنظمة التحرير كممثل شرعي للفلسطينيين عبر افتتاح مكتب دبلوماسي لها في العاصمة بكين، كما وقفت إلى جانب الدول العربية لاستعادة الأراضي المحتلة بعد حرب 1967.[2] لم يكن عقد الستينيات الأسوأ في العلاقات الصينية الإسرائيلية بسبب التقارب الصيني العربي فحسب، بل لأن «إسرائيل» أقامت علاقات وثيقة مع تايوان ودعمت الهند ومدتها بكافة أنواع الأسلحة في حربها ضد الصين.[3] أصبحت العلاقة بين البلدين أقل حدة مع تصويت «إسرائيل» لصالح قبول الصين في الأمم المتحدة عام 1971، وزيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للصين عام 1972. كما أدى التغير في قيادة الحزب الشيوعي الصيني مع تزعم دينغ شياو بينغ عام 1978، إلى تبني سياسة أكثر مرونة وانفتاحًا للتعاون مع القوى الغربية خصوصًا مع تفاقم الخلاف بين الاتحاد السوفييتي السابق والصين الشعبية.

تعتمد «إسرائيل» اليوم بشكل مكثّف على ميناء حيفا الساحلي فقط، بعد أن أصبح ميناءا أسدود وعسقلان القريبان من غزة في نطاق استهداف صواريخ المقاومة الفلسطينية، بينما تسببت هجمات أنصار الله بتوقف شبه كامل لميناء إيلات.

شهدت أواخر السبعينيات أول اتصال رسمي بين «إسرائيل» والصين، حصل بين مندوب الصين في الأمم المتحدة مع وكيل وزارة الخارجية الإسرائيلية. ودفعت الجهود الدبلوماسية في هونغ كونغ إلى مزيد من التطبيع لإنشاء مكتب لأكاديمية إسرائيلية في بكين ومكتب سياحي صيني في تل أبيب، ثم أجري أول اتصال رسمي بين وزير الخارجية الإسرائيلي ونظيره الصيني، وصولًا لإقامة العلاقات الدبلوماسية عام 1992 وتبادل افتتاح السفارات، بعد توجه الدول العربية للسلام في مؤتمر مدريد عام 1991.[4] قام الرئيس الصيني جيانغ زيمين بزيارة تاريخية لتل أبيب في عام 2000 كجزء من جولة في الشرق الأوسط وفي محاولة لإتمام صفقة عسكرية، في حين توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بزيارة إلى بكين عام 2013 لمناقشة العلاقات التجارية. وضمن هذين العنوانين العريضين، تمحورت العلاقات بين البلدين بعد الاعتراف الرسمي.[5]

في السنوات التي تلت انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، صعدت الصين كقوة اقتصادية وبدأت في الاستثمار بكثافة في «إسرائيل» في مجالات الزراعة والتكنولوجيا وتحلية المياه والرعاية الطبية والطاقة النظيفة والأمن السيبراني.[6] أعلن البلدان في آذار 2017 عن شراكة مبتكرة شاملة تعتمد على التعاون التكنولوجي ضمن زيارة نتنياهو الثانية لبكين في سياق مبادرة الحزام والطريق التي انطلقت عام 2013. عقب ذلك، شاركت الصين في تحديث الموانئ وإنشاء البنية التحتية، وبلغ إجمالي حجم التبادل التجاري الإسرائيلي الصيني نحو 24.45 مليار دولار عام 2022، بزيادة قدرها 11.6% عن العام السابق، لتصبح الصين ثاني أكبر شريك تجاري لـ«إسرائيل» بعد الولايات المتحدة.

من تشغيل ميناء حيفا إلى تعليق الإبحار إليه

لقيت الشراكة الاستراتيجية بين البلدين وفوز مجموعة شنغهاي بمناقصة تشغيل الميناء بعض الاعتراضات، مثل قيام رابطة المقاولين الإسرائيليين بنشر لوحات إعلانيّة ضخمة تدعو إلى منع اختراق الشّركات الصينية السوق الإسرائيلية. لكن وزارة النقل تابعت تنفيذ الصفقة دون استشارة الكابينيت أو مجلس الأمن القوميّ الإسرائيلي، مثلما تقتضي العملية الرسمية التي تمر بها العطاءات. زارت أول سفن الحاويات العملاقة التابعة لشركة كوسكو الصينية الشواطئ الإسرائيلية في حفل الافتتاح الرسمي الذي عقد في آب 2021 بعد أن استغرق إنشاء ميناء الحاويات ست سنوات. بلغت تكلفة الميناء 1.7 مليار دولار تم استثمارها في البنية التحتية ومعدات التشغيل لبنائه، وعلى مساحة تقدر بحوالي 840 دونمًا.

فور وصولها، قامت هذه السفينة بتفريغ الحاويات إلى سفن أصغر ومن هناك تفريغها إلى موانئ أخرى في الخارج، كما نقلت الحاويات الفارغة التي كانت مكدسة خلال فترة كورونا. قفز نطاق نشاط الميناء في وقت قصير ومع نهاية عام 2023، استحوذ على 88% من سوق الشحن في «إسرائيل» وتوسعت كوسكو في خطوط ملاحية أخرى مثل شراكتها مع شركة زيم الإسرائيلية في ميناء إيلات لنقل السيارات الصينية للسوق الإسرائيلي.

رغم الدور الحيوي الفاعل الذي لعبته كوسكو في تشغيل الميناء وإدارة الشحن عبره، إلا أن مراكز الدراسات الأمريكية أشارت بشكل مستمر لخطورة الدور الصيني في إغراق السّوق الإسرائيلية بالصناعات عالية التّقنية وبناء نفق للسكك الحديديّة ومترو أنفاق فائق السرعة، وصولًا إلى تشغيل ميناء حيفا، نتيجة قربه من الأساطيل الأمريكية واحتمالية التجسس عليها وتسريب معلومات حساسة لأيدي الصينيين خارج إطار الأنشطة التجارية الظاهرة، عدا عن أن الاعتماد على الشركة الصينية سيجعل الشركات والاقتصاد الإسرائيلي على «درجة غير صحيّة من الاتكالية تفقدها القدرة على التحكم في ممتلكاتها القيمة».[7] 

قطعت كوسكو، وهي أكبر شركة شحن في آسيا ورابع أكبر خط ملاحي للحاويات في العالم وتساهم بحوالي 11% من التجارة العالمية، علاقاتها التجارية مع الموانئ في «إسرائيل» بعد عمليات أنصار الله في البحر الأحمر.

لطالما تسببت الولايات المتحدة في توترات في الصفقات الإسرائيلية الصينية؛ فدفع الضغط الأمريكي «إسرائيل» لإلغاء صفقتي بيع نظام «فالكون» العسكري عام 2000 وتحديث شركة صناعة الطائرات الإسرائيلية مع الصين طائرات من دون طيار من طراز «هاربي» عام 2005. بالنسبة للصين، فإن التواجد في السوق الإسرائيلية، وإن كانت ضئيلة مقارنة بحجم اقتصادها، إلا أنه حضور استراتيجي يعزز دورها في الشرق الأوسط. يمكن النظر أيضًا لإدارة الصين ميناء حيفا كجزء من نشاط صيني تجاري متوسع في مجال الموانئ؛ شغلت الصّين ميناء للحاويات في بيرايوس في اليونان، وحصلت على حصصٍ كبيرٍة من موانئ روتردام في هولندا وأنتويرب في بلجيكا وهامبورغ في ألمانيا.

يمتد العقد الأوليّ لتشغيل الميناء لمدة 25 عامًا منذ افتتاحه، لكن اندلاع طوفان الأقصى ومستجدات الحرب على غزة عرقلت الاتفاق قبل أن تتم كوسكو ثلاثة أعوام من تشغيل الميناء. منذ 19 تشرين الثاني الماضي، استهدفت حركة أنصار الله السفن الإسرائيلية واحتجزت سفينة «غالاكسي ليدر» التي تعود ملكيتها لرجل أعمال إسرائيلي. نفذ الحوثيون في البحر الأحمر حوالي 38 عملية كان معظمها قرب مضيق باب المندب، حيث يمر نحو 12% من حركة الشحن العالمية عبر قناة السويس، وهي أقصر طريق ملاحي بين أوروبا وآسيا في البحر الأحمر قبالة اليمن. أدت الهجمات الحوثية على السفن الامريكية والبريطانية التي تورطت دولها في قصف اليمن ضمن تحالف «حارس الازدهار» إلى توسيع نطاق الاستهداف، وشل الحركة الملاحية لشركات الشحن.

بالنسبة لكوسكو، انخفضت كمية الحاويات المحملة في مرفأ حيفا من متوسط ​​13 ألفًا شهريًا إلى حوالي  2800 حاوية في في تشرين الثاني. ولذلك، أعلنت شركة OOCL الصينية التابعة لكوسكو في كانون الأول الماضي تعليق رحلاتها من وإلى الموانئ الإسرائيلية حتى إشعار آخر لأسباب تشغيلية. كما رفعت سفن الشحن الدولية التي تمر بالبحر الأحمر رسوم الشحن، مثل شركة «CMA CGM» الفرنسية التي قررت زيادة رسومها بمقدار الضعف لعمليات الشحن بين آسيا والبحر المتوسط، ورفع تسعيرة نقل حاوية يبلغ طولها 40 قدمًا من ثلاثة آلاف إلى ستة آلاف دولار، والحاوية التي يبلغ طولها 20 قدمًا، من ألفَين إلى 3500 دولار.

أمّا السفن المهددة بالاستهداف، فاضطرت لتغيير مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، ما يعني رحلة أطول وتكاليف نقل وتأمين إضافية؛ وبالتالي رفعت شركة «MSC» الإيطالية السويسرية وشركة زيم الإسرائيلية وشركة «Maersk» الدنماركية رسومها لتغطية نفقات إطالة رحلات سفنها. سلكت كوسكو في البداية المسار نفسه، إلا أنها أصبحت تضع حمولتها في الميناء اليوناني الذي تشغّله، حيث تتحمل شركات الشحن الإسرائيلية مسؤولية نقلها من هناك لميناء حيفا، قبل أن تقرر التوقف بشكل كامل عن الشحن للموانئ الإسرائيلية، بحسب نائب غرف التجارة الاسرائيلية التي تنضوي تحتها خمسة آلاف شركة إسرائيلية، في كانون الثاني مطلع هذا العام.

أضرار محتملة واتهامات سياسية

كوسكو، وهي أكبر شركة شحن في آسيا ورابع أكبر خط ملاحي للحاويات في العالم، وتساهم بحوالي 11% من التجارة العالمية، هي الشركة الأولى والوحيدة التي تقطع علاقاتها التجارية مع الموانئ في «إسرائيل» نظرًا لأزمة البحر الأحمر القائمة والتكلفة التي تتحملها نتيجة ذلك. بعد رحيل كوسكو، تعمل في ميناء حيفا اليوم ثلاث شركات شحن رئيسية، هي MSC الإيطالية السويسرية وزيم الإسرائيلية وشركة ميرسك الدنماركية، والتي اضطرت جميعها لتغيير مسار رحلاتها للدوران عبر القارة الإفريقية وتحمل أعباء مادية وإدارية ضخمة. قالت شركة زيم إن قرار تعليق الشحن هو ضربة لتعاونها مع الشركة الصينية التي كانت تشغل أيضًا خطًا ملاحيًا مشتركًا «TCLS» يربط موانئ «إسرائيل» بأوروبا. تحاول هذه الشركات البحث عن سفن شحن بديلة تغطي الدور الذي لعبته كوسكو واحتياج الاستيراد المتصاعد منذ اندلاع طوفان الأقصى، في محاولة لمنع انعكاس ذلك على أسعار المنتجات على المستهلك الإسرائيلي.

تستحوذ التجارة البحرية على 70% من واردات «إسرائيل»، 98% منها يمر عبر البحرين الأحمر والمتوسط. وقد ارتفعت حاجة «إسرائيل» لاستيراد مزيد من البضائع، بعد السابع من أكتوبر، جراء نقص العمالة وانخفاض الإنتاج وهروب المستثمرين والمموّلين، وهو ما تحاول «إسرائيل» تحقيقه عبر تطبيع علاقاتها مع الدول العربية المحيطة بها. 

تستحوذ التجارة البحرية على 70% من واردات «إسرائيل»، 98% منها يمر عبر البحرين الأحمر والمتوسط. ارتفعت حاجة «إسرائيل» لاستيراد مزيد من البضائع جراء نقص العمالة وانخفاض الإنتاج وهروب المستثمرين والمموّلين.

سبق وأن قررت شركات شحن دولية عدم زيارة الموانئ البحرية في روسيا وأوكرانيا بسبب تضاعف الأجور، لكن الجهات الإسرائيلية لا ترى أن القفزة في أجور الشحن البحري بين آسيا وأوروبا والأمريكيتين إلى نسبة زادت عن 173% منذ تشرين الثاني الماضي مبرر كافٍ لتخلي كوسكو عن الموانئ الإسرائيلية، لأن الشركة الصينية ليست «مهددة كثيرًا في البحر الأحمر لمجرد أنها صينية، في ظل العلاقات النفطية بين الصين وإيران، راعية الحوثيين في اليمن». رجح دبلوماسي أمريكي سابق أن هذا القرار مردّه موقف الخارجية الصينية الذي يعارض العدوان على غزة.

التزمت الصين الصمت في أول يومين بعد عملية طوفان الأقصى قبل أن تصدر موقفًا دبلوماسيًا يدين الأعمال العدوانية والعنف من الطرفين، فسر المعلقون الإسرائيليون هذا التصريح على أنه معادٍ إذ لم تدن «حماس أو حتى تعترف بحجم الفظائع التي وقعت في السابع من تشرين الأول». بعد أسبوع من الهجمات الإسرائيلية على القطاع، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن تصرفات «إسرائيل» «تتجاوز نطاق الدفاع عن النفس»، وطالبها بالتوقف عن فرض «عقاب جماعي» على الفلسطينيين، كما أفشل فيتو روسي- صيني مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن الدولي يرفض ويدين هجمات السابع من أكتوبر. وقال الممثل الدائم للصين لدى الأمم المتحدة، شانغ جون، إن بلاده صوتت ضد مشروع القرار لأنه يشمل عناصر كثيرة «تفرّق ولا تجمع، وتتجاوز البعد الإنساني».

سبق وأن ذكر موقع يديعوت أحرنوت أن مصانع الإلكترونيات والتكنولوجيا الفائقة في «إسرائيل» تواجه صعوبات في استيراد المكونات الإلكترونية الضرورية للأغراض المدنية والعسكرية من الصين، زاعمًا أن الصين تقوم بزيادة العقبات البيروقراطية أمام الشحنات إلى «إسرائيل» «كطريقة لمعاقبتها على حربها على غزة». لكن بغض النظر عن وجود نية صينية لتغيير سياساتها التجارية وممارسة ضغط اقتصادي على «إسرائيل»، إلا أن قرارها الأخير بوقف رحلات الشحن للموانئ الاسرائيلية له تداعيات ملموسة على حركة الملاحة الإسرائيلية وآلية عمل شركات الشحن التي قد تتخذ قرارًا بتقديم خدمة أقل جودة لـ«إسرائيل» عبر تفريغ البضائع المتجهة إلى «إسرائيل» في الموانئ البحرية الأوروبية، أو تحميلها تكاليف ومدد إبحار مضاعفة، في توقيت حساس ينكمش فيه اقتصادها بنسبة 2% على الأقل.

في أعقاب طوفان الأقصى، قال عضو سابق في الشاباك لرئيس لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست إن استثمارات الصين الواسعة، على رأسها ميناء حيفا، لديها القدرة على شل عمليات البنية التحتية الحيوية في «إسرائيل» عندما يحين الوقت المناسب. بعد أسابيع قليلة من رسالته التحذيرية، تحققت نبوءته وتضاعفت مخاطر أن «تصبح إسرائيل سوقًا فوضويًا وغير جذاب للتجارة البحرية العالمية»، بحسب رئيس جمعية المصنعين الإسرائيليين رون تومر.

  • الهوامش

    [1] دراسة تطور العلاقات الصينية الإسرائيلية، سامي مسلم، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، 2012، صفحة 41.

    [2] دراسة الصين والقضية الفلسطينية 1976ـ1981، سامي مسلم، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1982.

    [3] دراسة «علاقة رباعية: «إسرائيل» والصين وتايوان والولايات المتحدة»، المجلة الأمريكية للدراسات الصينية، جونثان جولدشتاين، 2005.

    [4] المرجع الأول

    [5] دراسة العلاقات الإسرائيلية الصينية: البدايات والشراكات والمعيقات، أيمن يوسف، الجامعة العربية الأمريكية في جنين، 2014، صفحة 3.

    [6] كتاب «الاستثمارات الصينية في التكنولوجيا والبنية التحتية الإسرائيلية: التداعيات الأمنية على «إسرائيل» والولايات المتحدة»، مجموعة مؤلفون، مؤسسة راند الامريكية البحثية، 2020.

    [7] بحسب الورقة البحثية «إسرائيل والصين والولايات المتحدة ومشروع ميناء حيفا»، روي يلينك، معهد الشرق الأوسط، 2018.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%8a%d9%86-%d8%aa%d9%81%d8%a7%d9%82%d9%85-%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%ad%d9%86-%d9%81%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84/feed/ 0
مائة عام على رحيله: «لينين» ومسألة التحرر الوطني https://www.7iber.com/politics-economics/100-%d8%b9%d8%a7%d9%85-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b1%d8%ad%d9%8a%d9%84-%d9%84%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%86/ https://www.7iber.com/politics-economics/100-%d8%b9%d8%a7%d9%85-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b1%d8%ad%d9%8a%d9%84-%d9%84%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%86/#respond Sun, 21 Jan 2024 11:20:14 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89121 لم تكن الثورة مصير لينين فحسب، بل كانت مهنته. الرجل الذي جعل من أفكار ماركس ممارسة متحققةً في الواقع، لم يكن ماركسيًا بالقدر المهول الذي توحي به خطوط التاريخ العريضة، أو حالة القداسة التي تلبّس بها بعد وفاته، وكانت إحدى الأدوات الأساسية في يد البيروقراطية السوفييتية في عهد سلفه ستالين. ماركسية لينين لم تكن بيضاء، بل سعى رغم ثقافته الأوروبية الغربية العميقة أن يجعلها روسيةً، شكلًا ومضمونًا وروحًا. وهذا أحد أوجه عبقريته، التي اقتبسها منه ماو في الصين. وهي في الوقت نفسه، كعب أخيل ماركسيات عديدة حول العالم منها في الوطن العربي، حين لم تقم بدورها التاريخي في توطين هذه النظرية الثورية، فأخذتها جاهزةً في قوالبها البيضاء ومضامينها الغربية، فأنتجت مسخًا أيديولوجيًا، منحول النظرية ومختل الممارسة. وليس أدل على ذلك من سقوطها عندما سقطت النسخة الأصلية في موطنها.

بنيته الجسدية الآسيوية الموروثة عن جدته المنغولية، ونظرته الثاقبة للغاية، ربما كانت ما ميز لينين ظاهريًا بين أقرانه. لكن جوهر شخصيته الكاريزمية كان فكره أو طريقة تفكيره، التي لم تنجح فقط في القيام بالثورة، ولكنها أسست لتقليد جديد في الماركسية، نقلها من نظرية غربية كان مجال تفكيرها وعملها المجتمع الغربي، إلى نظرية كونية تهم شعوب بقية العالم. باكرًا، كان هناك وعي لينيني بأن ماركس لم يخترع قوانين المادية التاريخية ولا الصراع الطبقي، بل أعاد صياغتها في نظرية متماسكة.

لذلك لم يكن هناك ذلك الحاجز النفسي في تجاوز ماركس، أو على نحو أدق، في عدم نسخه ولصقه في روسيا. هذا الوعي بدا أكثر وضوحًا لدى ماو تسي تونغ، نظريًا وخاصة في الممارسة الثورية. فقد شكلت اللينينية مساهمة ناجحة في تلوين الماركسية وإخراجها من قوقعتها الغربية نحو آفاق أوسع. وهنا لعب القدر الجغرافي دورًا أساسيًا في نجاح هذه المساهمة، فلو لم يكن لينين روسيًا لما نجح في ذلك. إن روسيا، ذلك الامتداد الجغرافي الواسع بين عالميْ الشرق والغرب، الموزعة بين ثقافتين غربية وشرقية، المترامية نحو شعوب وثقافات وأعراق متعددة، متصلة ومنفصلة، هي التي شكلت الفضاء المناسب لظهور هذه العبقرية الثورية.

تجاوز الماركسية «الأورومركزية»

قبل وفاته بشهور، متأثرًا بمرض السلّ الرئوي، مكث كارل ماركس ما يقرب من ثلاثة أشهر في الجزائر العاصمة، بين 20 شباط والثاني من أيار 1882. وخلال هذه الإقامة العلاجية، لم يتوقف عن كتابة الرسائل لابنتيه جيني ولورا ورفيقه فريدريك أنجلز. رغم المسحة الغربية لهذه الرسائل المتأثرة بالمرض الشديد، كانت نظرة ماركس للمستعمرة الفرنسية سجينة «الصراع الطبقي». لم ير المنظر الثوري الاشتراكي الاستعمار إلا بوصفه حالة سيطرة قوى متقدمة على شعب متخلف. فيما لم يخف نظرته الأوروبية الاستعلائية على السكان الأصليين، في ملابسهم وسمتهم وعاداتهم وحتى معتقدهم الديني.[1] 

كان ماركس مفكرًا غربيًا منهجًا وموضوعًا وروحًا. ولعل ما يثبته هو بنفسه من كونه امتدادًا لهيغل، مع نزوع ثوري، يؤكد ذلك، حيث لم يستطع التخلص من معتقده الهيغلي حول أوروبا، بوصفها تشكل الخلاصة النهائية للتاريخ البشري. سيشكل هذا المعتقد الأسطوري، الأساسي النظري لأطروحة فوكوياما حول «نهاية التاريخ» على نحو آخر. كان هيغل يعتقد أن «التاريخ الإنساني بدأ في الشرق، لكنه سيبلغ أوجه ومنتهاه في أوروبا الغربية». في هذا الإطار حافظ ماركس على روابطه مع ماضيه الهيغلي. فقد جاءت خارطة الطريق التي وضعها لتطور الرأسمالية والحلّ الاشتراكي لهزيمتها متناسبًا مع ضرورة أن تدور هذه المعركة التغييرية للعالم على الساحة الأوروبية، مهد الرأسمالية وتطورها ومهد الطبقة العاملة الواعية بذاتها.

«كانت طريقة تفكير لينين هي جوهر شخصيته الكاريزمية، التي لم تنجح فقط في القيام بالثورة، ولكنها أسست لتقليد جديد في الماركسية نقلها من نظرية غربية كان مجال تفكيرها وعملها المجتمع الغربي، إلى نظرية كونية تهم شعوب بقية العالم».

بدا هذا المنزع «الأورومركزي» في تفكير ماركس أكثر وضوحًا في مقالاته التي كتبها عن الهند، أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر لصحيفة «نيويورك ديلي تريبيون». في دراستها حول «المركزية الأوروبية عند ماركس»، تشير كولغا ليندنر، إلى أن إحدى السمات المميزة لهذه المقالات هي تصور ماركس للبنية الاجتماعية في الهند باعتبارها ثابتة. ووفقًا لتحليله، فإن الظروف المناخية في الهند استلزمت إنشاء نظام ري صناعي، والذي نتيجة لانخفاض مستوى التنمية الاجتماعية وحجم البلاد الهائل لا يمكن إنشاؤه وصيانته إلا من خلال سلطة الدولة المركزية. وقد تميزت بالوحدة بين الزراعة والمصنوعات اليدوية التي حدت من تطور الإنتاجية، ومثل هذا النظام لم يشجع على ظهور المراكز الحضرية.

يعتبر ماركس بنية المجتمعات القروية في الهند وعزلتها بمثابة «الأساس المتين للاستبداد الشرقي» و«الحياة الراكدة» في البلاد. ويستند نقد ماركس للاستعمار البريطاني على هذا المفهوم لبنية المجتمع الهندي. ضمن حالة متناقضة: يقول ماركس إن إنجلترا «يجب أن تؤدي مهمة مزدوجة في الهند: الأولى تدميرية، وهي تفكيك المجتمع الآسيوي القديم، والثانية بنائية وهي إرساء الأسس المادية للمجتمع الغربي في آسيا». ومنطلقًا من فرضية مفادها أن الاستعمار قد عزز تنمية الهند، يشير ماركس إلى أن توحيد نظام السكك الحديدية الهندي، على سبيل المثال، يمكن أن يسهل تطوير نظام الري المثقل بالضرائب.[2] وهو افتراض، لم يتوقف يومًا عن إغراء قطاع واسع من الماركسيين حول العالم، وحتى في الوطن العربي، من كون الاستعمار يمكن أن يشكل لحظة لإعادة بناء المجتمعات على أسس سياسية وطبقية جديدة. وهي فكرة أعاد مثقفون يساريون عرب إنتاجها خلال غزو العراق وعُرفت بـ«عقيدة الصفر الاستعماري»، وتعتبر أن وقوع الدول التي تحكمها نظم استبدادية تحت الاحتلال، يمكن أن يرفعها من تحت الصفر إلى مرحلة الصفر، ومن ثمة يمكن البناء على ذلك نحو تشكيل نظم تعددية ديمقراطية.

في المقابل كان لينين، الماركسي المتحمس، واعيًا بأن الحتمية الماركسية حول ضرورة قيام الثورة الاشتراكية ضمن إطار رأسمالي متطور يفترض تمايزًا واضحًا ومتقدمًا لطبقتين أساسيتين هما البرجوازية والبروليتاريا، ليست قدرًا. مع إدراكه الواضح لطليعية العمال، إلا أنه لم يكن قادرًا على تجاهل طبيعة المجتمع الروسي الإقطاعية ووجود قطاع عريض من الفلاحين المستغلين. شكّلَ التشابه النسبي بين الهند وروسيا أول معضلة لينينية لنظرية نمط الإنتاج الآسيوي الماركسية. منذ وصوله إلى سان بطرسبرغ عام 1894 وحتى عام 1914، كان العمل الأساسي في حياة لينين هو ترجمة الماركسية إلى اللغة الروسية، أو بالأحرى، إعادة كتابة الماركسية روسيًا.

كانت معركة لينين اليومية في ذلك الوقت المبكر، بحسب الباحث ماثيو رينو، تهدف إلى جعل الماركسية روسية، وتأميمها من خلال ترسيخها في تاريخ الحركة الثورية المحلية. هذه الأصالة الثورية الروسية، ستظهر بوضوح أكبر في كتاب لينين «ما العمل» عام 1902. عندما سلط الضوء على «الأصالة القصوى» للوضع الروسي، واضعا البروليتاريا أمام تحدٍ غير مسبوق: «إن إنجاز هذه المهمة، أي تدمير أقوى حصن، ليس فقط للرجعية الأوروبية، بل أيضًا للرجعية الآسيوية، من شأنه أن يجعل البروليتاريا الروسية طليعة البروليتاريا الثورية العالمية». ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى صياغة سياسة تستجيب لكلٍّ من «المهام العامة للاشتراكية والظروف الروسية الراهنة»: فالمهام العالمية، من ناحية، تتطلب «استيعاب تجارب البلدان الأخرى» دون «الحد من أنفسنا» ولكن مع «إجراء تحليل نقدي لهذه التجربة»، وبالتالي الامتناع عن أي «تقليد أعمى» للغرب. ومن ناحية أخرى، فإن المهام الوطنية «لم يسبق لها مثيل في أي حزب اشتراكي في العالم»، لأنها مسألة «تحرير شعب بأكمله من نير الاستبداد».[3]

أما المسألة الثانية، في مسار القطيعة «اللينينية» مع المركزية الأوروبية الماركسية، وهي وعي لينين منذ اللحظات الأولى لنجاح الثورة البلشفية أنها أصبحت وسط بحر من الأخطار الإقليمية، وأن الحلّ يكمن في الهجوم بتصديرها بدلًا من البقاء داخل روسيا والدفاع عنها. كان لينين واعيًا بأن تصدير الثورة الروسية إلى الشرق شرق روسيا القيصرية- لا يمكن اختزاله في مجرد نقل مطابق لها. ولذا كان العمل الصبور لتكييف «النظرية العامة للشيوعية وممارستها» مع ظروف محددة غير موجودة في أوروبا أمرًا ضروريًا، وإن هذه المهمة الحتمية المتمثلة في إعادة توطين الشيوعية، والتعبير عن العالمية والخصوصية بدلًا من معارضتهما، لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الشيوعيين في الشرق أنفسهم، باعتبارهم القادرين على تحرير أنفسهم، وهنا ستظهر بقوة طروحات لينين حول المسألة الوطنية.

التحرّر الوطني: المساهمة «اللينينية»

قدمت «اللينينية» مساهمتين أساسيتين في المسألة الوطنية، أو التحرر الوطني: الأولى وهي «حق تقرير المصير» والثانية هي طرح لينين حول «الإمبريالية».

في المنفى كتب لينين كراسًا بعنوان حق الأمم في تقرير مصيرها يقول: «إننا نقاوم امتيازات الأمة المتسلطة الظالمة وأعمالها العنيفة من جهة، ولا نتسامح مطلقًا مع سعي الأمة المضطهَدة وراء الامتيازات (..) كل نزعة قومية برجوازية في أمة مظلومة تتضمن مضمونًا ديموقراطيًا عامًا ينتصب ضد الاضطهاد. وهذا المضمون هو الذي نؤيده تأييدًا تامًا، مميزين في الوقت نفسه، بدقة بالغة، كل ميل إلى الاستئثار القومي (..) فهل يستطيع شعب أن يكون حرًا إذا كان يضطهد شعوبًا أخرى؟ كلًا».

كما كان يعتقد أن الدول المستعمرة ليست مجرد ضحايا، بل هي جهات فاعلة مركزية في الصراع الطبقي على نطاق عالمي.[4] وبعيدًا عن كونها جبهة ثانوية يجب أن تنتظر بصبر الثورة في البلدان الرأسمالية المتقدمة، فإن حركة التحرر في المستعمرات «تهدد رأس المال في مجالات استغلاله الأكثر قيمة». هنا يلتفت لينين إلى مفهوم «بقية العالم» مذكرًا بأن «70% من سكان العالم ينتمون إلى شعوب مضطهدة تجد نفسها إمّا تحت نظام التبعية الاستعمارية المباشرة، أو تشكل دولًا شبه مستعمرة».[5] ويعتقد أن هذا هو المكان الذي سيكون فيه الصراع الحاسم. علاوة على ذلك، يزيد من التأكيد على أن المستعمرات وأشباه المستعمرات ليست محكوم عليها مسبقًا بالمرور عبر مرحلة الرأسمالية، لأنها تستطيع تحت زخم الجماهير البروليتارية والريفية بناء قوة اشتراكية. ستتشكل رؤية لينين لحق تقرير المصير على نحو عملي بعد انتصار الثورة في التقرير الذي كتبه للمؤتمر الثاني للمنظمات الشيوعية الإسلامية لشعوب المشرق، والذي ضم ما يزيد قليلًا عن ثمانين مندوبًا أتوا من تتارستان، وباشكيريا، وتركستان، وبخارى، وقيرغيزستان، وأذربيجان وشمال القوقاز وغيرها. وهنا ظهر الشعار اللينيني «يا عمّال العالم وشعوبه المضطهَدة، اتّحدوا»، الذي صاغه غريغوري زينوفييف، ووافق عليه لينين، والذي يعبر عن تجاوز للشعار الماركسي وامتدادًا له في الوقت نفسه.

المساهمة الثانية، والتي شكلت تطورًا نوعيًا في تحليل الرأسمالية وعلاقتها بالاستعمار هي «الإمبريالية». في منفاه السويسري، كتب لينين عام 1916 كتابه «الإمبريالية، أعلى مراحل الرأسمالية». والذي كان موجهًا بشكل نقدي للأممية الثانية وموقفها من الحرب العالمية الأولى. في مآزق لينين[6] يذهب الكاتب اليساري طارق عليّ إلى أن أول مأزق واجهه لينين كان الحرب العالمية الأولى، عندما وجد نفسه في المعسكر المقابل لمرشده الإيديولوجي الألماني كارل كاوتسكي. لقد كان استسلام كاوتسكي للحرب حدثًا فارقًا في حياة لينين، ليذهب بعيدًا في نقده معتبرًا الحزب الاشتراكي الألماني من خلال حماسته للحرب الإمبريالية مجرد «جثة عفنة». في كتابه الذي ظهر سنواتٍ قليلةٍ بعد اندلاع الحرب يبرهن لينين على أنها حرب إمبريالية، أي حرب غزو ونهب من أجل تقاسم العالم، ومن أجل اقتسام وإعادة اقتسام المستعمرات و«مناطق نفوذ» رأس المال. تقدم هذه المساهمة اللينينية أداةً غير مسبوقة لتحليل النزوع الاستعماري الأوروبي بعيدًا عن التحليلات المثالية ومقولات نقل الحضارة وهو تحليل مادي يقوم على دراسة تطوّر الرأسمالية المحلية الأوروبية وطبيعتها التوسعية في بحث عن أسواق جديدة ومصادر مواد أولية ومواقع نفوذ وقوى عمل مطيعة. ولعل هذا الإدراك العميق للجذور الاقتصادية للظاهرة الاستعمارية قد وسع من المهام العملية التي تواجه الحركة الشيوعية، فلم يعد دورها مقتصرًا على إنجاز المهام الديمقراطية والاشتراكية بل أصبحت المهمة الوطنية في التحرر شرط أساسيًا لإنجاز بقية المهام.

نحو «ماركسية شرقية»

في مكان ما يشير هيغل في حدسه حول الرجال العظماء، إلى أنهم بمجرد إنجاز دورهم المنوط لهم من العناية الإلهية، «يسقطون مثل فوارغ خراطيش الرصاص». تبدو هذه الصورة الهيغيلة مطابقة لمصير إرث لينين بعد رحيله. حوّلت الستالينية لينين إلى مجرد رموز: جثة محنطة وتماثيل وشوارع. لكن أفكاره، لاسيما المتعلقة بالمسألة الوطنية وبعالمية الماركسية دون حصرها في بعدها الغربي، لم تكن محلّ احتفاء. تفكك كل ما شيده الرجل في شرق روسيا لفائدة الشعوب غير الروسية، فيما وضعت المركزية الروسية الستالينية يدها على كامل الاتحاد السوفياتي، بدواعي أمنية وعسكرية. كما قطعت السلطة الجديدة مع نهج الثورة الدائمة وتصدير الاشتراكية، وحصرته في بناء شبكة واسعة من الأحزاب الشيوعية الموالية حول العالم، تعتمد على نسخ ولصق التجربة السوفياتية دون الاستفادة من تجربة لينين في توطين الماركسية. لكن فوارغ الرصاص حين سقطت، كان الرصاص قد دوى صوته بعيدًا. في الصين ستجد أفكار لينين حيزها المناسب لتتطور ضمن تجربة ماوية استفادت من دروس توطين الماركسية وإعادة صياغتها وفقًا للسياق التاريخي والواقعي المحلي.

«كان لينين، الماركسي المتحمس، واعيًا بأن الحتمية الماركسية حول ضرورة قيام الثورة الاشتراكية ضمن إطار رأسمالي متطور يفترض تمايزًا واضحًا ومتقدمًا لطبقتين أساسيتين هما البرجوازية والبروليتاريا ليست قدرًا».

في كتابه «الماركسية الغربية: كيف ولدت، وكيف ماتت، وكيف يمكن أن تولد من جديد» يعيد الفيلسوف الإيطالي، دومينيكو لوسوردو، التفكير في الماركسية من خلال التفكير التاريخي والنقدي في تراثها في الثقافة الفلسفية الغربية. بالنسبة للوسوردو، يبدو أن تاريخ الماركسية يتقاطع مع انقسام كبير، أو كما يمكن القول من خلال التناقض بين نموذجين نظريين أديا إلى ولادة ثقافتين اقتصاديتين وسياسيتين متعارضتين وشكلين من الممارسة التحررية بعيدتين بشكل متساو عن بعضهما. إن النسخة الماركسية التي يعتبرها لوسوردو الأكثر فعالية، لا سيما فيما يتعلق بالتأثيرات التاريخية الدائمة، هي تلك التي يعرّفها بـ«الشرقية». 

كان لينين أول من أدرك أن الماركسية يجب أن تصبح السلاح الأيديولوجي للثورة العالمية المناهضة للاستعمار، وذلك لدفع الشعوب الخاضعة للإمبريالية الغربية إلى النضال من أجل تحررها وبناء الاشتراكية في بلدانها. كل الثورات التي تلت ثورة أكتوبر من الصين (ماو تسي تونغ) إلى فيتنام (هو تشي منه)، ومن كوبا (فيدل كاسترو) إلى الثورات العربية مثل ثورات عبد الناصر في مصر والحركات المناهضة للاستعمار في العالم الثالث- تشير إلى الأهمية الأساسية للمسألة الاستعمارية في التاريخ السياسي والثقافي للقرن العشرين. إن الماركسية الشرقية، بالنسبة للوسوردو، مستوحاة بعمق من الواقعية السياسية التي تجد جذورها، حتى قبل الديالكتيك المادي لماركس، وبالتالي فإن الأمر يتعلق بعدم إغفال التناقضات والصراعات الخاصة بالزمن التاريخي، في حين يتم محوها بشكل منهجي بواسطة «الأنظمة الفلسفية» السائدة للحضارة الغربية، والتي تحجب الطابع المركزي للمشكلة الاستعمارية.[7]

يبدو هذا التقسيم للماركسية بين شرقية وغربية، شديد الراهنية اليوم، فيما يجري في فلسطين. حيث يتفرق الماركسيون، واليسار على نطاق أوسع، في العالم بين معسكرين. معسكر يعي جيدًا المسألة الاستعمارية الصهيونية، وتاليًا نضالات الشعب الفلسطيني، بكل الأشكال، ويتضامن معها. ومعسكر ذو مواقف هشة، تتسم دائمًا بالتردد على نعم ولكن، ويتجاهل المسألة الاستعمارية بالقفز نحو تحليلات طبقية أو نسوية أو ثقافوية. لذلك اشتغلت الماركسية الغربية على مدى عقود على طمس لينين ذي الوجه الشرقي.

  • الهوامش

    [1] Marxisme et Algérie. Textes de Marx/ Engels. Paris, Union générale d’éditions, 1976 et Karl Marx, Lettres d’Alger et de la Côte d’Azur. (Traduites et présentées par Gilbert Badia).Le Temps des cerises, 1997.

    [2] Kolja Lindner, «Marx’s Eurocentrism: Postcolonial studies and Marx scholarship», Radical Philosophy 161, May/Jun 2010.

    [3] Matthieu Renault -Traduire le marxisme dans le monde non-occidental. Lénine contre les populistes – Période 13 avril 2017.

    [4] Vladimir I. Lénine, « Rapport sur la situation internationale et les tâches fondamentales de l’Internationale communiste », Œuvres complètes, tome 33 avril-décembre 1920.

    [5] Vladimir I. Lénine، «Rapport de la commission nationale et coloniale au deuxième congrès de l’IC»، Œuvres choisies، tome 3, Moscou, Éditions du progrès, 1968, p. 467.

    [6] Tariq Ali – The Dilemmas of Lenin: Terrorism, War, Empire, Love, Revolution Verso Books 2017.

    [7] Francesco Fistetti -Marxisme، question coloniale et postcolonialisme. Dialogue avec Domenico Losurdo -Revue du MAUSS permanente/ publié le 29 décembre 2019.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/100-%d8%b9%d8%a7%d9%85-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%b1%d8%ad%d9%8a%d9%84-%d9%84%d9%8a%d9%86%d9%8a%d9%86/feed/ 0
مقاضاة «إسرائيل» دوليًا: البحث عن العدالة عبر منظومة منحازة https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b6%d8%a7%d8%a9-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%83%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b6%d8%a7%d8%a9-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%83%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9/#respond Thu, 18 Jan 2024 08:35:11 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89110 منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، فشل مجلس الأمن الدولي في إصدار قرار وقف إطلاق النار؛ إذ استخدمت الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) أو لم تحصل مشاريع القرارات على العدد المطلوب من الأصوات لاعتمادها. عرقلت الولايات المتحدة وقف إطلاق النار مرتيْن؛[1] بحجة أن مشاريع القرارات لا تقّر صراحة «حق «إسرائيل» في الدفاع عن نفسها» أو أنها «لن تعود بالنفع سوى على حماس». وعبر تاريخ مجلس الأمن استخدمت الولايات المتحدة حق النقض 89 مرة منذ عام 1945، كانت 45 مرة منها ضد القرارات التي تنتقد «إسرائيل».

يتألف مجلس الأمن الدولي، بوصفه الذراع التنفيذي للأمم المتحدة، من 15 عضوًا، خمسة منهم أعضاء دائمون وهم: الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية. تملك هذه الدول العظمى التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية حق النقض ضد أي قرار يناقشه المجلس، وإذ فشلت جميعها في وقف العدوان الإسرائيلي على غزة بعد مرور أكثر من مائة يوم من الحرب واستشهاد أكثر من 23 ألف فلسطيني، لجأت جنوب إفريقيا في 28 كانون الأول الماضي إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، متهمة «إسرائيل» بارتكاب جرائم حرب في غزة ترقى للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، طالبة اتخاذ تدابير مؤقتة [بمعنى عاجلة] تشمل وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة «قبل وقوع خسارة وشيكة لا يمكن تعويضها».[2] 

حول هذه الدعوى القضائية ومسارها وإمكانية عرقلتها، نحاور شهد الحموري، الأستاذة الجامعية في القانون الدولي في جامعة كينت البريطانية. أنهت الحموري دراستها العليا في تخصص القانون من معهد الدراسات السياسية بباريس، وعملت محاضِرةً حول حقوق الإنسان في جامعة مانشستر وباحثة في القانون الدولي في المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان ومنظمة الشفافية الدولية. انضمت الحموري كمستشار أكاديمي لمنظمة الحق في فلسطين بعد أن قدمت استشارات قانونية في قضية رأي استشاري جارية حول قانونية الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أمام محكمة العدل الدولية، ولها أبحاث عدّة حول سياسات الاحتلال الإسرائيلي وتقاطعاتها مع القانون الدولي.

حبر: في البداية، ما الذي يجعل دولة مثل جنوب إفريقيا تتقدم بقضية ضد «إسرائيل» أمام محكمة العدل الدولية؟ وكيف يجعلها تاريخها مع الفصل العنصري تتبنى مواقف أكثر تقدمية من الدول الإفريقية في محيطها حيال القضية الفلسطينية قبل ومنذ طوفان الأقصى؟

شهد الحموري: عاشت جنوب إفريقيا تجربة نظام الفصل العنصري أو الأبارتايد لمدة 46 عامًا،[3] منذ عام 1948 حتى عام 1994، حيث حكم المستعمرون البريطانيون والأفريكانيون المنحدرون من أصول هولندية الغالبية السوداء. وضعت هذه الحكومة قوانين تمييزية تقسّم الأفراد إلى مجموعات عرقية تحرم غير البيض من الاقتراع وتجبرهم على العيش في بلدات منفصلة وتقدم لهم خدمات تعليم ورعاية صحية منخفضة الجودة، بهدف الحفاظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية. بعد حملات طويلة خاضتها حركة الحقوق المدنية ضد المجازر التي ارتكبها النظام، أخذت الاعتراضات الدولية على الأبارتايد بالازدياد وعقدت أول انتخابات ديمقراطية (أو غير عنصرية) عام 1994، فاز بها نيلسون مانديلا رئيسًا للجمهورية، بعد أن مكث في السجن 27 عامًا على خلفية نشاطه الثوري.

من هذا المنطلق، تدرك جنوب إفريقيا معنى العيش تحت الاستعمار -مع حفظ الفروقات بين السياقيْن- خصوصًا وأن الاحتلال الإسرائيلي تورط في دعم حكومة الأبارتايد، ولذلك فهي بالمجمل تتضامن أخلاقيًا مع نضال الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره. كان للمؤتمر الوطني الإفريقي، الحزب السياسي الحاكم في جنوب إفريقيا منذ إلغاء الفصل العنصري، علاقات وثيقة مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأقامت جنوب إفريقيا علاقات دبلوماسية مع دولة فلسطين عام 1995، وأدانت العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين في جميع الحروب السابقة على غزة.

منذ السابع من تشرين الأول الماضي، أكدت جنوب إفريقيا أن «التصعيد الجديد [في إشارة لعملية طوفان الأقصى] ناتج عن الاحتلال غير الشرعي المستمر للأراضي الفلسطينية، واستمرار التوسع في المستوطنات، واقتحام المسجد الأقصى والأماكن المقدسة المسيحية، واستمرار قمع الشعب الفلسطيني»، ثم علّقت مطلع تشرين الثاني الماضي العلاقات الدبلوماسية مع «إسرائيل» وأغلقت سفارة تل أبيب في العاصمة بريتوريا، وحذرت مواطنيها من الملاحقة القانونية في حال تورطوا بالقتال مع الجيش الإسرائيلي، وصولًا إلى القضية التي ترفعها في محكمة العدل الدولية اليوم. يعتبر موقف جنوب إفريقيا تقدميًا إذا أردنا مقارنته بمواقف محيطها الإفريقي من دول الكاميرون، والكونغو الديمقراطية، وكينيا، وغانا التي أعلنت دعمها الصريح لـ«إسرائيل»«في مواجهة الإرهاب».

كان من المناسب جدًا أن تتقدم بالدعوى جنوب إفريقيا، إذ لهذا البلد خبرة قانونية واسعة على الصعيد الدولي، وتعرف بحكم تاريخها كيف يمكن للهيمنة أن تكون متغلغلة في الأنظمة القانونية. كان لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي أن استفاد من القانون الدولي من خلال الدفع نحو إدانة نظام الفصل العنصري بعد ارتكابه مذبحة شاربفيل، وكذلك كانت الحال فيما يتعلق بقرار محكمة العدل الدولية عام 1971 ضد احتلال حكومة جنوب إفريقيا، زمن الفصل العنصري، لأراضي ناميبيا. للأسف لا تتمتع الدول العربية، بخبرة كافية في هذا المجال.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

ما هي الاتفاقية التي استندت إليها جنوب إفريقيا لتقديم دعواها ضد «إسرائيل»؟ ولماذا لجأت لمحكمة العدل الدولية حصرًا بدلًا من المحكمة الجنائية؟

أولًا أعتقد أن الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا متماسكة للغاية، وفقًا للمعايير الأساسية في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948.[4] تعرّف الاتفاقية الإبادة الجماعية في المادة الثانية على أنها أي فعل يرتكب بقصد التدمير، كليًا أو جزئيًا، لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية معينة. وتشمل تلك الأفعال قتل أفراد الجماعة، وإلحاق الأذى الجسدي أو العقلي الجسيم بهم، وتدمير ظروفهم المعيشية بهدف اجتثاثهم، ومنعهم من الإنجاب، ونقل أطفالهم قسرًا إلى مجموعات أخرى. صادقت 153 دولة على هذه الاتفاقية بما فيها «إسرائيل»، ويحق لأي من الأطراف الموقعة على الاتفاقية، حتى لو لم يقع بها النزاع، التوجه لمحكمة العدل الدولية للفصل في ارتكاب الإبادة، بحسب المادة التاسعة من الاتفاقية. 

انطلاقًا من هذه المسؤولية، تقدمت جنوب إفريقيا بمذكرة من 84 صفحة تدلل فيها على مؤشرات الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين عبر استهداف المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء واستخدام الأسلحة المحرمة دوليًا وتهجير الناس عدة مرات. لكن الصعوبة في القضية هو اشتراط إثبات النية، وهو ما فعلته جنوب إفريقيا عبر توثيق تصريحات الوزراء والمسؤولين الإسرائيليين التي وصفت الفلسطينيين بأنهم حيوانات بشرية ودعت لحصارهم واستهدافهم بأشد الطرق. ولأن التدليل على نية الإبادة واتهام الاحتلال بها قد يستغرق سنوات طويلة، فقد طالبت جنوب إفريقيا المحكمة بإصدار تدابير مؤقتة عاجلة تمنع تفاقم الوضع أثناء البت في القضية حتى لا نتفاوض أو نحصل على قرار بعد أن أصبحت غزة عبارة عن بركة دم. ولذلك، لا تحتاج جنوب إفريقيا لإثبات الإبادة الجماعية في غزة اليوم، لكنها تحتاج لإثبات خطرها عبر تتبع نوايا الاحتلال وقادته، وانعكاسات هذه النوايا في جرائم وإجراءات ميدانية.

تملك محكمة العدل الدولية اختصاص إبداء الرأي الاستشاري، مثل قرارها غير الملزم عام 2004 بأن جدار الفصل العنصري الإسرائيلي في فلسطين ينتهك القانون الدولي وعلى «إسرائيل» وقف بنائه. وتختص المحكمة أيضًا في الفصل في النزاعات بين الدول حيث تكون قرارات المحكمة ملزمة ومستعجلة نسبيًا مثل القضية التي تقدمت بها جنوب إفريقيا، بعكس المحكمة الجنائية التي تختص بالادّعاء على شخصيات يشتبه في تورّطها بارتكاب جرائم حرب، بما في ذلك الإبادة الجماعية، والجرائم ضدّ الإنسانية. وبما أن «إسرائيل» ليست من الموقّعين على اتفاقية الجنائية الدولية المعروفة بنظام روما الأساسي،[5] عدا عن أن التجربة الفلسطينية في القضايا الاستشارية أو المحكمة الجنائية لم تؤد حتى الآن لمحاسبة أي من المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في حروب غزة خلال حرب 2014 ومسيرة العودة الكبرى في 2019 والحرب الأخيرة في 2021، فإن اللجوء للعدل الدولية كان الخيار الأنسب من ناحية الحساسية الزمنية والاختصاص القانوني المعني بالفصل بين الدول.

ما المسار القانوني الذي تتخذه الدعوى القضائية التي رفعتها جمهورية جنوب إفريقيا ضد «إسرائيل» في محكمة العدل الدولية، وما الحجج التي يستند لها الطرفين؟

رفعت جنوب إفريقيا هذه القضية في 28 كانون الأول الماضي، وبعد أسبوعين جدولت مواعيد المرافعات الشفهية حيث يستعرض كلا الطرفين الحجج أمام قضاة المحكمة لمدة ثلاث ساعات لكل منهما. في الجلسة الأولى بتاريخ 11 من كانون الثاني الجاري، استعرضت جنوب إفريقيا معلوماتها حول القتل الجماعي للفلسطينيين في غزة، وتدمير منازلهم، وطردهم وتهجيرهم، فضلًا عن الحصار المفروض على الغذاء والماء والمساعدات الطبية. استندت جنوب إفريقيا للأرقام والتقارير الصادرة عن خبراء الأمم المتحدة، ما يعني أن محكمة العدل الدولية لن تستطيع مخالفتها أو التشكيك في مصداقيتها، مؤكدةً أن التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الإسرائيليون، مثل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، هي دليل على نيّة الإبادة الجماعية.

مثّل جنوب إفريقيا في هذه القضية فريق قانوني من تسعة محامين بارزين متخصصين في القانون الدولي؛ أشهرهم جون دوغارد الذي عمل قاضيًا سابقًا في محكمة العدل الدولية وكان مقررًا خاصًا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان وهيئة القانون الدولي. تابع دوغارد بشكل مكثف الظروف الإنسانية في فلسطين وسبق أن وصف ممارسات «إسرائيل» العنصرية تجاه الفلسطينيين بأنها أسوأ بكثير مما كان عليه الأبارتايد في جنوب إفريقيا. لمعت أيضًا في هذه المرافعة المحامية عديلة هاشم التي نشطت في الدفاع عن قضايا المهمشين وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، واهتمت بالبحث في النشاط الاستيطاني الإسرائيلي لفلسطين.

في المقابل، مثلت «إسرائيل» أمام المحكمة في اليوم التالي وطعن فريقها القانوني في اختصاص المحكمة قائلين إن اتفاقية منع الإبادة الجماعية لا تخوّلها إصدار أمر بوقف عملياتها العسكرية في غزة، وهو دفاع تقني يهدف لإطالة مدة مراجعة القضية. كما طلبت «إسرائيل» من القضاة إسقاط التهمة بدعوى أن العمليّات العسكريّة الإسرائيليّة في غزة هي عمل من أعمال الدفاع عن النفس ضد حماس وأن الجيش الإسرائيلي أخذ معيار التناسبية في الحرب بعين الاعتبار وأدخل المساعدات للنازحين، وأن جنوب إفريقيا قدّمت «تصريحات مجتزأة ومشوَّهة بشكل صارخ».

ضم الفريق الإسرائيلي المحامي البريطاني مالكولم شو الذي عمل مستشارًا قانونيًا لـ«إسرائيل» في السابق، ومثلها في قضية جدار الفصل العنصري (2004) وقضية الأسلحة النووية (1996) وقضية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس (2018). ورافقه أيضًا أهارون باراك، وهو رئيس سابق للمحكمة العليا الإسرائيلية الذي عرف بوصفه عرّاب شرعنة تعذيب الفلسطينيين، وقتلهم في حال كانوا دروعًا بشرية. رغم الخبرة الواسعة لكليهما في التلاعب في القانون والتماس الثغرات، إلا أن دفاع «إسرائيل» وصف بين جمهور القانونيين بأنه هش وركيك، إذ استند إلى لعب دور الضحية مقابل الحقائق التي قدمتها جنوب إفريقيا لإقناع القضاة. اعتبر أستاذ القانون الدولي، فرانسيس بويل، وهو أول محام أقنع محكمة العدل الدولية بإصدار أمر ملزم قانونيًا بوقف القتال في قضية بين البوسنة وصربيا عام 1993 بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، أن الحجج التي قدمتها جنوب إفريقيا كافية لتفوز في القضية ضد «إسرائيل».

من المرجح أن تستغرق المحكمة أسابيع قليلة لإصدار قرار فيما يتعلق بالتدابير المؤقتة، لكن قضية اتهام الاحتلال بالإبادة ستستمر حتى لو قررت المحكمة عدم اتخاذ إجراء مؤقت بوقف الحرب في غزة. إذا قررت العدل الدولية تأييد التدابير المؤقتة، فإنه سيعتبر انتصارًا قانونيًا تاريخيًا، وسيصبح ملزمًا لجميع أطراف الصراع نظريًا فور صدوره. إذا لم تلتزم الجهات المعنية بالقرار، يُحال القرار لتصويت مجلس الأمن حيث من المحتمل جدًا أن تقوم الولايات المتحدة بعرقلته مجددًا، لكن الفكرة هذه المرة هي أن إبطال قرار قضائي يقضي بوقف النار بسبب مصالح سياسية تقودها أمريكا لدعم «إسرائيل» سيكون بمثابة قطع الشعرة الوحيدة المتبقية من ثقة الشعوب ودول العالم الثالث بكل منظومة الأمم المتحدة وعدالة القانون الدولي.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by 7iber | حبر (@7iber)

ما هي الضغوط السياسية التي يمكن لإسرائيل والولايات المتحدة ممارستها للتأثير على قرار المحكمة؟ وهل هناك أي التزامات قانونية ستترتب على الدول التي أعلنت عن دعمها لقضية جنوب إفريقيا؟

من المهم أن ننظر كيف استقبلت «إسرائيل» القضية باستنفار واسع؛ وصفت وزارة الخارجية الإسرائيلية طلب جنوب إفريقيا بأنه «فرية الدم» وهو وصف يستخدم لترويج افتراءات تاريخية ضد المجتمعات اليهودية، وذكرت أن الادعاء «يفتقر إلى أساس واقعي وقانوني ويشكل استغلالًا مشينًا ومهينًا للمحكمة» واتهمت بريتوريا بالتعاون مع «منظمة إرهابية تدعو إلى تدمير إسرائيل»، في إشارة إلى حركة حماس. رغم ذلك، حرصت «إسرائيل» على المثول أمام المحكمة[6] حتى لا يصدر بحقها قرار غيابي ولأنها معنية بشرعنة احتلالها والظهور في قالب «احترام» أعراف المجتمع الدولي والحيلولة دون انحدار شعبيتها أكثر مما هي منحدرة خصوصًا في الأوساط الغربية التي يشكل المشروع الصهيوني امتدادًا لها.

أصدرت الخارجية الإسرائيلية تعليمات لدبلوماسييها بالضغط على المسؤولين لإصدار بيانات ضد القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا. وقال وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إن قضية محكمة العدل الدولية لن تأت بفائدة، وعلّق المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية ماثيو ميلر إن واشنطن «لم تشهد حتى هذه المرحلة أفعالا تشكل إبادة جماعية» وإن قضية محكمة العدل الدولية «ليست خطوة مثمرة في هذا الوقت». وبادرت بعض المؤسّسات الإفريقية لإسناد الاحتلال؛ مثل «مؤسسة حلفاء إسرائيل» في كينيا التي اتهمت الأمم المتحدة «بالولع بمعاداة السامية» وقال رئيسها إن الأونروا تدير نظامًا تعليميًا يغذّي المبادئ الجهادية بهدف «تفريخ إرهابيّين صغار».

بدت هذه الأصوات منبوذة للغاية وسط الدعم الدولي الذي تمكنت جنوب إفريقيا من حشده، وبدا مثيرًا للضحك كيف أدانت دولة غواتيمالا «مزاعم الإبادة الجماعية» أمام العدل الدولية. يظهر هذا الموقف مدى اليأس الذي تمر به السياسة الأمريكية ووصايتها على بعض الدول من أجل ضمان انحيازها لـ«إسرائيل»، لأن إدانة «إسرائيل» في هذه القضية هي إدانة للولايات المتحدة أيضًا، وبالتحديد إدارة بايدن التي ستجرّم بالتواطؤ بموجب المادة الثالثة الفقرة «هـ» من الاتفاقية الدولية لمناهضة الإبادة الجماعية.

أيدت الأردن وباكستان وبنغلاديش وبوليفيا وبلجيكا وتركيا وفلسطين وفنزويلا وماليزيا وناميبيا ونيكاراغوا قضية جنوب إفريقيا. وأصدرت «منظمة التعاون الإسلامي» التي تضم 57 دولة أيضًا بيانًا يدعم القضية. لم يتجاوز هذا السقف الدعم الرمزي المعنوي إذ لا يعتبر إسناد الدولة المتقدمة بالشكوى، مثل قيام تركيا بتزويد ملفات مرئية للمحكمة وإعلان الأردن نيته لتقديم مرافعة قانونية، انضمامًا رسميًا، خصوصًا وأن جنوب إفريقيا قررت خوض هذه المعركة القانونية -المتعلقة بإصدار قرار حول التدابير المؤقتة- منفردة لضيق الوقت.

وفي إطار ذلك، يمكن لمصر أن تزود المحكمة بمذكرة مكتوبة حيال زعم فريق الدفاع الإسرائيلي في جلسته الشفهية أن مصر هي المسؤولة عن منع دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى قطاع غزة، وهو ما نفاه رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، ضياء رشوان. بعد صدور قرار المحكمة المبدئي، يمكن لهذه الدول الانضمام للقضية رسميًا عبر ترشيح قضاة ممثلين والمشاركة في مرافعات منفصلة ستكون جزءًا من محاولة إثبات إدانة الاحتلال بالإبادة أو حتى العكس، وهو ما أعلنت ألمانيا نيتها القيام به عبر التدخل كطرف ثالث إلى جانب «إسرائيل» بموجب المادة 63 من نظام المحكمة الأساسي حيث يسمح للدول طلب توضيحات حيال الاتفاقيات متعددة الأطراف.

كيف تقيّمين موضوعية تشكيلة القضاة المخولة بالبت في هذه القضية؟

تضم محكمة العدل الدولية 15 قاضيًا يتم انتخابهم من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن لفترة ولاية مدتها تسع سنوات، سيتم تعزيزهم بقاض إضافي من كل طرف في القضية. لا يمكن أن يكون هناك أكثر من قاض واحد من نفس البلد، وذلك بهدف أن يمثل القضاة أنظمة وثقافات قانونية مختلفة حول العالم، وأن يتمتع القضاة باستقلالية ومهنية عالية، لأن وجودهم في المحكمة لا يعني أنهم يعملون كممثلين لبلادهم. القضاة المنتخبون الحاليون هم من أستراليا، والبرازيل، والصين، وفرنسا، وألمانيا، والهند، وجامايكا، واليابان، ولبنان، والمغرب، وروسيا، وسلوفاكيا، والصومال، وأوغندا والولايات المتحدة.

يمكنني النظر في تشكلية القضاة الحالية على أنها محافظة، لا أعتقد أنها مثالية لأن إمكانية استجابتهم للضغوط السياسية واردة.

رجّح الخبير اللبناني المتخصص في العدالة الجنائية عمر نشابة تعرض قضاة المحكمة لضغوطات سياسية من حكومات بلدانهم أو من اللوبي الصهيوني، وبالتحديد رئيسة المحكمة القاضية الأميركية جوان دوناهيو والقاضي الفرنسي في المحكمة روني ابراهام والقاضي الألماني غيورغ نولتي والقاضية الأسترالية هيلاري تشارزورث والقاضي الياباني يوجي ايواساوا، أو أن يتأثروا بمواقف المسؤولين الرسميين في دولهم والتي بررت استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة. وعلى العكس من ذلك، هناك بعض التطلعات الإيجابية من تصويتات القضاة العرب وهم المغربي محمد بنونة والصومالي عبد القوي أحمد يوسف واللبناني نواف سلام.

وصلت دوناهيو لمحكمة العدل الدولية بترشيح من وزارة الخارجية الأمريكية حيث عملت نائبة لمستشارها القانوني. دوناهيو التي ستتقاعد نهاية شباط القادم بعد 14 عامًا متواصلة من العمل في المحكمة أمام اختبار حقيقي لمهنيتها ومصداقيتها بعد أن سبق اتهامها بالانحياز فى قضية تهجير سكان «أرخبيل تشاغوس» حيث كانت الصوت الوحيد بين القضاة ورفضت اتهامات التهجير لصالح بريطانيا. بنسبة 90% يؤيد قضاة المحكمة قرارات في مصلحة دولهم وأطرافهم؛ صوّت نائب رئيس المحكمة، القاضي الروسي كيريل جيفورجيان مع القاضية الصينية العام الماضي ضد قرار المحكمة المؤقت، الذى يطالب روسيا بوقف أي نشاط عسكري في أوكرانيا.

يحق للقضاة أن يقدموا حكمًا مشتركًا فيما بينهم أو حكمًا مستقلًا لكل منهم، إلا أن القرارات يتم اتخاذها وفق نظام الأغلبية، حيث تكفي ثمانية أصوات لدعم الطلب الجنوب إفريقي. لكن في حال تساوت الأصوات، يعتبر صوت رئيس المحكمة مرجحًا. تشير آراء الأوساط القانونية أن أي قرار للمحكمة لا يؤيد التدابير المؤقتة هو قرار مسيّس ويشكك بشرعية المحكمة ككل، والتي حكمت لصالح وقف إطلاق النار في أوكرانيا ودعت روسيا إلى وقف الأعمال العدائية في آذار 2022. 

ماذا لو فشلت الأمم المتحدة مجددًا في وقف إطلاق النار في غزة؟ ما الآثار المحتملة لذلك على شرعية محكمة العدل الدولية والقانون الدولي؟

قرار العدل الدولية نهائي وغير قابل للاستئناف. إذا فشلت المحكمة في دعم التدابير المؤقتة ووقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في القطاع عبر الادعاء بأن «إسرائيل» «لم تنفّذ عمليات من شأنها أن تقود إلى إبادة جماعية» حتى لو دعمت المحكمة بقية المطالب مثل إدخال المساعدات، فهذا يعني فشل المنظومة الدولية بالكامل عن ممارسة دورها في إنصاف حقوق الإنسان، الإنسان العربي قبل الغربي، عدا عن خضوعها للتسييس الذي يفقدها الشرعية في أن تكون ذراعًا قضائيًا دوليًا. الحقائق في ملف جنوب إفريقيا كافية جدًا لدعم وقف إطلاق النار بشكل دائم في غزة وإدخال المساعدات لأهلها. وقد سبق للمحكمة اتهام صربيا بالفشل في وقف الإبادة الجماعية، بعد أن اعتبرت التهجير القسري والضرر المضاعف على الأطفال دليلًا على الإبادة الجماعية. إذا كانت هذه الاعتبارات، والتي تنطبق على غزة اليوم، غير كافية لوقف الحرب أقترح جديًا إغلاق قاعات المحكمة وتنحيتها عن هذا الدور.

أما إذا صدر القرار وفشلت المحكمة في تنفيذه، أي أن «إسرائيل» لم تلتزم به وهو سيناريو متوقع جدًا أو أن الولايات المتحدة أبطلته في مجلس الأمن بالفيتو، فهذا يكرس فكرة أن القانون الدولي ولد عقيمًا وهو مصمم لدعم الأقوى أو ما نسميه بـ«تحقيق عدالة الفائز». أقرّت محكمة العدل الدولية بالإجماع تدابير مؤقتة ضد ميانمار على خلفية خطر ارتكاب إبادة جماعية ضد سكان الروهينجا في قضية رفعتها غامبيا عام 2019، اضطر الجيش في ميانمار للالتزام بالقرار وأمرت المحكمة الحكومة بتقديم تقرير عن امتثالها للتدابير كل ستة أشهر رغم أن اتهام الإبادة الجماعية لم يثبت بعد. لا يوجد ما يمنع محاسبة «إسرائيل» وإلزامها بالاستجابة لتنفيذ قرار مشابه إلا الغطاء العسكري والسياسي والدبلوماسي الأمريكي. سيكرّس الفشل في وقف إطلاق النار بقرار دولي الفجوة بين مجلس الأمن الدولي وقرارات الجمعية العامة التي تؤيد القضية الفلسطينية في معظمها. تمثل هذه القرارات غير الملزمة وجهة نظر الجنوب العالمي الذي دعم وقف إطلاق النار وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة وحتى اعتبار الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية.

على أية حال، إن صدور قرار إيجابي للمحكمة حتى لو لم ينفذ سيفتح هوامش من العمل المدني، حيث يمكن للمؤسسات الضغط على بلدانها لإصدار قرارات محلية بالاستناد إلى القرار الدولي، أو قيادة دول الجمعية العامة لقرارات دولية تعزل «إسرائيل» اقتصاديًا وسياسيًا. شخصيًا أميل للتفاؤل وتوقع خسارة «إسرائيل» هذه القضية والدخول في حقبة تنعدم فيها شرعيتها الدولية بين المجتمعات الغربية. على الاتفاقية التي أقرتها الأمم المتحدة بسبب جرائم النازية أن تعود لإدانة النازيين الجدد على ارتكابهم الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وللمفارقة التاريخية أن تثبت ذلك جنوب إفريقيا، أي أن تقاضي ضحية الأمس أبارتايد اليوم، لكن بخلاف ذلك، أعتقد أننا سنكون مضطرين للعودة لنقاشات جذرية حول جدوى الأمم المتحدة.

  • الهوامش

    [1] الأول هو مشروع القرار البرازيلي في 18 تشرين الأول الماضي، أيده 12 عضوًا وامتنعت روسيا وبريطانيا عن التصويت، والثاني هو مشروع القرار الإماراتي في الثامن من كانون الأول الماضي، أيده 13 عضوًا وامتنعت بريطانيا عن التصويت.

    [2] بحسب الترجمة الأولية التي قدمها ملحق القوس الصادر عن جريدة الأخبار اللبنانية لنص المذكرة القانونية التي قدمتها جمهورية جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية.

    [3] تعتبر ممارسات الفصل العنصري في جنوب إفريقيا جزءًا من مخلفات الاستعمار البريطاني للبلاد قبل عام 1948، لكن حكم الفصل العنصري كنظام وقوانين بدأ في 1948 مع تولي حكومة المستوطنين حكم البلاد.

    [4] انتهكت «إسرائيل» منذ السابع من تشرين الأول الماضي اتفاقيات أخرى ذات صلة بالقانون الدولي الإنساني وهي اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الملحقة بها وميثاق الأمم المتحدة وإعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة، وقانون الاحتلال الحربي واتفاقية لاهاي لعام 1907 الهادفة لوضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة، وبروتوكول جنيف بشأن حظر استخدام الغازات السامة في عام 1925 واتفاقية منع استخدام الأسلحة الكيماوية، واتفاقية أوسلو.

    [5] رغم أن المحكمة الجنائية أقرّت عام 2021 أن اختصاصها القضائي يشمل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

    [6] سبق وأن قاطعت «إسرائيل» محكمة العدل الدولية على خلفية قرارها بشأن جدار الفصل العنصري عام 2004 بذريعة عدم الاعتراف بسلطة تلك المحكمة واتهامها بعدم العدالة.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b6%d8%a7%d8%a9-%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%ad%d9%83%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9/feed/ 0
مائة يوم من الحرب: غزة والمستقبل https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d8%a7%d8%a6%d8%a9-%d9%8a%d9%88%d9%85-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d8%a7%d8%a6%d8%a9-%d9%8a%d9%88%d9%85-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/#respond Sun, 14 Jan 2024 10:45:29 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89036 بعد مرور مائة يوم على عملية «طوفان الأقصى» واندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية-الأمريكية على قطاع غزة، التي حصدت حتى الآن أرواح قرابة الثلاثين ألف فلسطيني، ثلثهم من الأطفال، ما يزال السابع من أكتوبر يتفاعل كلحظة تحول كبرى على مستوى فلسطين والمنطقة والعالم، وينتج يوميًا تداعيات تعيد ترتيب الإقليم على جبهات متعددة. 

من غزة، إلى لبنان واليمن، إلى الوضع الداخلي الإسرائيلي، نتناول في هذا الملف المشهد على عدة جبهات مؤثرة ومتأثرة بمسار الحرب، عبر سلسلة من الحوارات التي نسعى فيها لتحليل راهن المعركة وآفاق الصراع واحتمالات تفجره على مستوى المنطقة.

حول المقاومة في غزة، نحاور الكاتب والباحث الفلسطيني، ساري عرابي، لتقدير وضعها الحالي، وإدارتها للمعركة، وفهم رؤيتها لمستقبل غزة ومسار المعركة التي تخوضها وسط الحصار الخانق وتحت مطر القذائف. 

ومن الداخل الفلسطيني، نحاور الباحث المتخصص في الشأن الإسرائيلي، أليف صبّاغ، حول المشهد الداخلي في «إسرائيل» بين الإجماع على الحرب والصراعات السياسية، وتداعيات فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه المعلنة على مستقبل الكيان والسياسة فيه، إضافة للمقاربة الأمريكية للحرب وتغيراتها. 

ومن لبنان، ننقل حوارًا مترجمًا مع الباحثة في السياسة والعلاقات الدولية، أمل سعد، حول طبيعة وخلفيات انخراط حزب الله، وإمكانية ذهاب «إسرائيل» لتصعيد الهجوم عليه، بما من شأنه نقل القتال إلى حرب إقليمية واسعة تشعل المزيد من الجبهات.

ومن اليمن، نحاور الصحفي والباحث الاقتصادي اليمني رشيد الحدّاد، لفهم موقف حركة أنصار الله من الحرب، وقرار دخولها في معركة طوفان الأقصى، وتداعياته عليها وعلى الشعب اليمني، في ظل تصاعد العدوان الأمريكي على اليمن وفي البحر الأحمر. 

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%85%d8%a7%d8%a6%d8%a9-%d9%8a%d9%88%d9%85-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/feed/ 0
ثورة السابع من أكتوبر: غزة وآفاق المعركة  https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%b9-%d8%a3%d9%83%d8%aa%d9%88%d8%a8%d8%b1-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%a2%d9%81%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%b9-%d8%a3%d9%83%d8%aa%d9%88%d8%a8%d8%b1-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%a2%d9%81%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9/#respond Sun, 14 Jan 2024 10:38:04 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89063 هذه المقابلة جزء من ملف «مائة يوم من الحرب: غزة والمستقبل».

في السابع من أكتوبر الفائت، فاجأت حركة المقاومة الإسلامية حماس، «إسرائيل» والعالم بتنفيذها عملية طوفان الأقصى، والتي اجتاحت عبرها قوات المقاومة مستوطنات غلاف غزة، وقضت على الفرقة الجنوبية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأسرت أكثر من مائتي إسرائيلي. لتعيد مع هذه العملية القضية الفلسطينية إلى واجهة النقاش، لا عربيًا فقط وإنما على المستوى العالمي. وتشنّ «إسرائيل» منذ ذلك اليوم حرب إبادة جماعية على الشعب الفلسطيني في غزة، قاتلة أكثر من ثلاثين ألف شخص، وتقصف جنوب لبنان وسوريا، وتقتحم الضفة الغربية بشكل يومي، وتعتقل الآلاف من الفلسطينيين. ويتطور المشهد على المستوى الإقليمي بشكل غير مسبوق.

ضمن تغطيتنا لمائة يوم على الحرب، أجرينا حوارًا مع الكاتب الفلسطيني ساري عرابي، وفيه يجيب على مجموعة من الأسئلة بينها؛ كيف كان الوضع العام في فلسطين قبل السابع من أكتوبر، وما الذي تقوله لنا قدرة حماس على شنّ هذه العملية غير المسبوقة من حيث الحجم والتأثير والتداعيات، في ظل ما كان يقال حول أن حركة حماس قد هجرت المقاومة وأنها حركة مردوعة، كما نسأله عمّا تبع ذلك اليوم الذي حاولت قوات الاحتلال عبر المجازر المروّعة طمسه من وعي الفلسطينيين، وعن نظرة حماس لليوم التالي. 

حبر: قبل الحديث عن السابع من أكتوبر، من المفيد أن نلتفت لما كان عليه الوضع في الفترة السابقة على الطوفان؛ فهل يمكن لك أن تقدم لنا عرضًا لما كان عليه الوضع قبل الطوفان؟ 

ساري عرابي: نستطيع القول إن القضية الفلسطينية، قبل السابع من أكتوبر، كانت تعيش حالة من الانسداد التاريخيّ لم تكن موجودة من قبل. وهو انسداد ناجم عن مجموعة من العوامل؛ بينها ما نتج عن مشروع التسوية الذي أصبح أمرًا واقعًا والفلسطينيون غير قادرين على تجاوزه، وفي الوقت نفسه، كان سببًا في انقسام الفلسطينيين، وفي مصادرة الأدوات والإمكانيات النضالية منهم. وكانت إمكانيات تجاوز ذلك صعبة، إذ هنالك موقف رسمي داخل الضفة الغربية مناوئ للمقاومة وفكرة المواجهة، ويفضل مشروع التسوية، وفي غزة حالة مقاومة يسعى الاحتلال إلى تحويلها إلى عبء على الجماهير داخل القطاع، بفعل حصار مُطبِق منذ العام 2007، لم تفلح مختلف الجهود في كسره. 

بالنسبة للسلطة الفلسطينية فقد تحوّل مشروعها، مشروع التسوية، إلى جسر إسرائيلي تتمدد من خلاله نحو العالم، وهذا بدأ طبعًا منذ التسعينيات، إذ بدأ الاحتلال بتكوين علاقات مع دول كانت تاريخيًا مؤيدة للحقوق الفلسطينية مثل الهند واليونان. وظلّ هذا الأمر يتمدد ويتطور إلى أن استطاعت «إسرائيل» اقتحام العالم العربي، فمدّت جسورًا معه، وصولًا إلى اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية غير المسبوقة، لأنها اتفاقيات تحالفية، وبالتالي صار هنالك اصطفاف عربي حقيقي في الخندق الإسرائيلي، ليس على مستوى الممارسة فقط، وإنما على مستوى الخطاب وعلى مستوى الدعاية كذلك. ولأول مرّة في تاريخنا نرى هيئات عربية تتبنّى السردية الإسرائيلية؛ يعني أنت في تلك الدول لا تستطيع أن تدعم المقاومة إذ تسجن أو تطرد، وتستطيع في الوقت عينه أن تقول إن المسجد الأقصى ليس مكانًا مقدسًا، أو أنه للإسرائيليين، منغمسًا في الدعاية والرواية الصهيونية.

ومع مشروع ترامب، يمكن القول إن مشروع التسوية قد وصل إلى أقصى ما يمكن له أن يصل إليه؛ أن يبقى الوضع القائم قبل السابع من أكتوبر قائمًا، تبقى السلطة الفلسطينية بحدودها اليوم على ما هي عليه ولكن تُسمّى دولة، وتبقى المستوطنات، وتبقى الحواجز، ويحق لقوات الاحتلال أن تدخل أراضي السلطة وقتما تريد، وتعتقل كما تريد، ويبقى الأسرى في السجون. ومنذ ذلك الوقت بدأ نتنياهو بالحديث عن ضم مناطق في الضفة الغربية للكيان الإسرائيلي. 

في الضفة الغربية، سعت السلطة وداعموها لإنجاز هندسة اجتماعية، سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. فتم تصوير الصراع مع حماس، بعد العام 2007، على أنه أولوية على الصراع مع الاحتلال، وفي أقل الأحوال سوءًا محاولة المساواة بين السلطة وحماس للقول إنّه لا توجد مقاومة صادقة. واقتصاديًا، جرى ربط المجتمع الفلسطيني بصورة شبه كاملة ومطبقة بالمؤسسة الاقتصادية الإقراضية، وخلقت فقاعة نيوليبرالية من حيث نمط الحياة، فتحولت مدينة مثل رام الله إلى كوفي شوب كبير، بنمط حياة «جذاب»، وسُعيَ إلى محاولة استنساخه في مدن أخرى. هذا النموذج المعتمد على الإقراض المفرط، وعلى هذا النمط من الحياة، يتعارض تمامًا مع النضال ضد الاحتلال، إذ يصير أيّ مكتسب على هذا الصعيد قيدًا ثوريًا أمام الناس. وثقافيًا، وإضافة إلى تغيير المناهج المدرسية، حاولت السلطة خلق رموز للشعب الفلسطيني غير رموزه المعتادة من المناضلين والشهداء. وقد صاحبَ كل هذه التغييرات طبعًا، بطشٌ أمني، ركز أساسًا على حركة حماس، لكنه كذلك شمل الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وكوادر في حركة فتح. وكل هذا في مسعى لخلق ما سمّاه الجنرال كيث دايتون الفلسطيني الجديد. 

أمّا في قطاع غزة، فكان الوضع كالتالي، حصار مطبق منذ العام 2007، وأحد أشكال خطورة هذا الحصار هو أنه يخلق ظروفًا متباينة بين التجمعات الفلسطينية المختلفة. بعد أن نجحنا كفلسطينيين، في بلورة هوية وطنية جامعة بعد النكبة، جاءت اتفاقية أوسلو، وبعدها سياسات الاحتلال، وعملت على خلق شعوب فلسطينية، بظروف سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية متباينة. فمع أوسلو، أخرج أهلنا في الأراضي المحتلة العام 48 وأخرج اللاجئون من الصورة، ومع الحصار سعى الاحتلال إلى خلق شعب فلسطيني في الضفة الغربية مختلف عن الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة، وتحويل الضفة إلى نموذج يغرى الفلسطينيون في غزة به، بمعنى أن من لا يقاوم يحظى بحياة اقتصادية أفضل. وأراد الاحتلال من وراء هذا أن يقول للفلسطينيين في غزة أن مأساتكم سببها السلاح، وانكم إن أردتم ان تعيشوا أفضل فعليكم تسليم سلاحكم. 

بكلمات أخرى، سعى الاحتلال، ومن ورائه النظام الإقليمي العربي، إلى ابتزاز الفلسطيني في لقمة عيشه، وفي كرامته، وقد حاولت قيادة حماس أن تحلّ هذا الأمر من خلال المصالحة مع السلطة، ومع اتفاق الشاطئ، واتفاق القاهرة (2017) حلّت اللجنةَ الإداريةَ المكلفة بإدارة شؤون القطاع، وقالت للسلطة نحن مستعدون لإعطائكم كلّ شيء، باستثناء سلاح المقاومة وبنيته التحتية. وهو ما رفضته السلطة، وهو رفض من الواضح أنه مرتبط باشتراطات إسرائيلية وأمريكية، وكأنه كان يراد أن يبقى قطاع غزة محاصرًا، وأن يبقى الإنسان في قطاع غزة مبتزًا بكرامته ولقمة عيشه، وأعتقد أن هذا كان من أكثر الأمور التي كانت تضغط على عصب المقاومة داخل قطاع غزة فرأت أنّ ابتزاز الفلسطيني في لقمة عيشه لا ينبغي أن يستمر.

في الخلاصة نحن أمام المشهدية التالية؛ تكبيل القدرات النضالية في الضفة الغربية تمامًا، مع تحوّلها إلى ساحة مستباحة تمامًا للمستوطنين، مع ممارسة للهندسة الاجتماعية على الفلسطينيين على أساس ما يسمّى بالانقسام الفلسطيني بمعنى تحويل الصراع مع حماس إلى أولوية مقدمة على الصراع مع الاحتلال، وهذا بات ممارسة عملية دائمة للسلطة، ومحاولة هندسة المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا كذلك، من أجل صرف المجتمع عن القيام بواجبه التاريخي عن مواجهة الاحتلال، واستفحال إسرائيلي واستفحال يميني والتعامل مع القضية الفلسطينية وكأنها غير موجودة. 

وإزاء هذا الانسداد التاريخي على المستوى الداخلي وعلى مستوى الصراع مع الاحتلال، والذي أوضحت أبرز ملامحه، كان لا بد للانفجار أن يحصل. وهنا أعتقد أن السابع من أكتوبر كان بمثابة ثورة، وثورة برأيي هو التوصيف الأنسب لما حصل؛ ثورة وقف خلفها تنظيم مسلّح، تنظيم كانت توجه له منذ فترة أسئلة عمّا يفعله، أسئلة من قبيل «أينكم عما يحصل للضفة، للأسرى، للقدس؟ً». 

أمّا ما أعنيه بكون السابع من أكتوبر ثورة، فهو أنه وعلى امتداد الثورة الفلسطينية المعاصرة، منذ الستينيات، كانت هنالك دومًا قواعد وسقوف حرصت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على عدم تجاوزها بحجة عدم منح «إسرائيل» ذرائع للهجوم على الفلسطينيين، وأن تبقى دائمًا نوافذ للحوار مع الأمريكيين ومع النظام العربي الرسمي. ما حصل في السابع من أكتوبر كان كسرًا لكل هذه القواعد وتجاوزًا لكل المخاوف من الذرائع وتجاوزًا لكل الحرص على أي علاقات مع النظام الدولي أو مع النظام الإقليمي العربي لأن كل تلك القواعد سواء أكانت قواعد النقاش السياسي أو قواعد الفعل النضالي لم تفض إلا إلى تكبيل الفلسطينيين والوصول بنا إلى حالة الانسداد التاريخي. كما كان السابع من أكتوبر فعلًا استثنائيًا غير مسبوق تاريخيًا في النضال الفلسطيني على مستوى الحجم والنوع والطبيعة والتداعيات، وبالتالي نحن نستطيع أن نسميه ثورة بهذا الاعتبار. 

مائة يوم مرّت على طوفان الأقصى، وعلى الحرب الإبادية التي تشنّها «إسرائيل» على القطاع منذ ذلك اليوم. هل يمكن لك أن تحدثنا عمّا يعنيه قيام مقاومة محاصرة في قطاع جغرافي صغير للغاية بتنفيذ عملية مثل هذه، وعمّا يعنيه كذلك استمرارها في تنفيذ العمليات ومواجهة الاحتلال رغم مائة يوم من العدوان، وأخيرًا ما يتطلبه ذلك من تجهيزٍ سابقٍ على العملية، من تحضير مادي ومعنوي؟

من الممكن لنا أن نتحدث عن مرحلتين من الحرب، المرحلة الاولى كانت يوم السابع من أكتوبر، وهو يوم يسعى الإسرائيلي إلى محوه من وعي الفلسطينيين تمامًا. وبفعل المجازر والفجيعة والدمار الهائل الذي ارتكبه الاحتلال يمكن للبعض أن ينسى حجم الإنجاز الذي حققته المقاومة في ذلك اليوم.

مجرّد حدث السابع من أكتوبر يدل على أن المقاومة الفلسطينية في غزة جادة جدًا، وأنها بالتعبير العامّي «قاعدة لإسرائيل» ومواجهتها، وأنها تقوم باستثمار كلّ الموارد المتاحة من أجل المواجهة. 

ليس مردّ نجاح المقاومة في ذلك اليوم غفلة إسرائيلية كما يتم تصويره أحيانًا، وإنما مرده هو دراسة المقاومة لـ«إسرائيل»، وهنا نتحدث عن دراسة ممتازة للمجتمع الإسرائيلي وللجيش والمخابرات، وعن دراسة لتقنيات الرقابة والضبط والسيطرة الإسرائيلية، وبعد دراستها وضعت لها كل الحلول الممكنة. 

مجرّد حصول السابع من أكتوبر يدل على مقاومة كرّست نفسها لمواجهة إسرائيل، وليس أمامها إلّا تحقيق إنجاز ينتقل بالقضية الفلسطينية في سياق تحرير فلسطين. وقناعتي، أن كتائب القسام تتبنّى رؤية تحرير فلسطين، وكل ما يمكن أن يجري من خطاب سياسي إنما هو مناورات ضمن هذه الرؤية العامة. 

بعد مائة يوم على المعركة يمكن القول إن إسرائيل لم تفهم حركة حماس، وبالتالي هنالك إشكالية في إدارتها للمعركة وفي الأهداف التي وضعتها، وفي المقابل، كانت حماس، عند قيامها بطوفان الأقصى، مستعدة بصورة حقيقة لكل الاحتمالات.

سمة أخرى تتميّز بها المقاومة وهي حسن استثمار الموارد. ربما تكون حركة حماس من أفقر حركات المقاومة في المنطقة من حيث الموارد، إذ نتحدث عن مقاومة ليس لها دولة ظهير يمكن أن تساعدها بشكل مباشر، وخطوط إمداد الحركة بالموارد طويلة جدًا، وربما يضيع قدر كبير من هذه الموارد على الطريق. كما نتحدث عن شريط ساحلي صغير جدًا، وعدد سكانه بسيط للغاية، ويفتقر للتضاريس التي عادة ما تستغلها حركات المقاومة من جبال وغابات وغيرها، وبالتالي فإننا نتحدث عن ظروف شبه مستحيلة في ظلّها تمكنت المقاومة من تحقيق إنجاز السابع من أكتوبر. 

وأن تتمكّن المقاومة بعد ذلك اليوم، من الصمود في مواجهة هذه الحرب الطويلة، التي هي ربما أطول حروب إسرائيل، ما بعد النكبة، حتى أن قادة جيش الاحتلال يعترفون بإنهاك جيشهم وجنودهم، كل هذا يدل على جدية المقاومة.

كما يمكن الحديث عن الاستثمار العظيم للموارد، وهنا نتحدث عن مسألتين، استثمار الموارد البشرية، واستثمار الموارد المادية. 

على مدى سنوات استثمرت المقاومة في عقول أبنائها، واجتذبت أفضل العناصر في المجتمع، من مهندسين وعلماء وكفاءات، وتواصلت مع علماء من فلسطين ومن خارجها لخدمة أغراض المقاومة ومشروعها. ومن الجدير بالملاحظة هنا هو أن الإسرائيليين لطالما استخفوا بالعلاقة بين الإسلاميين والعلوم التطبيقية من منطلقات عنصرية مفادها عدم قدرة العربي والمسلم على التعامل مع العلوم، وهناك جهات في مجتمعاتنا تسرّبت لها هذه النظرة، لكن ما نتعلمه من تجربة المقاومة الممتدة هو أنها تتعامل مع العلوم بمنتهى الجدية، وهنا من الجدير أن نتذكر أن معظم كوادر الإسلاميين إنما يأتون من كليات الهندسة وكليات العلوم. 

وبالإضافة لهذا، من اللافت مقدار استفادة المقاومة من التجارب السابقة، ومقدار التطوّر الذي يحصل عليها مع كلّ مواجهة جديدة مع الاحتلال، فكتائب القسام وحماس في العام 2008، ليست ذاتها في حرب العام 2012، ولا هي ذاتها في حرب 2014، ولا هي ذاتها في سيف القدس، وهنا نتحدث عن نقلات نوعية في مديات زمنية قصيرة للغاية. وبالتالي يمكن لنا أن نتأكد أن القسام ستستفيد من المعركة الجارية اليوم على مستوى البنية، وعلى مستوى إدارة المواجهة مع الاحتلال في المواجهات المستقبلية.

يتحدث الاحتلال عن تفكيك قدرات حركة المقاومة في شمال قطاع غزة، هذا في الوقت الذي قصفت فيه صواريخها تل أبيب قبل أيّام فقط. كيف تقرأ هذه التصريحات، وما الذي يعنيه كون المقاومة لا زالت فاعلة وحاضرة في شمال قطاع غزة، رغم مرور هذه المدة على بدء العدوان؟ وكيف تغيرت تكتيكات المقاومة مع انسحاب الاحتلال من أجزاء واسعة من شمال القطاع؟

على ذكر الاستفادة من التجارب السابقة، من الواضح أن الاحتلال لم يستفد منها. بعد حرب تموز 2006، كان من ضمن الانتقادات التي وجهها تقرير فينوغراد لحكومة الاحتلال هو أنها دخلت الحرب بأهداف كبيرة، ثبت أنها عاجزة عن تحقيقها، وذلك لأن مفهوم النصر والهزيمة في إطار الحروب غير المتناظرة مفهوم مختلف عن الحروب العادية. 

في الحروب غير المتناظرة يكون السؤال: هل استطاعت القوة الأكبر تحقيق أهدافها من الحرب أم لم تستطع؟ أمّا بالنسبة للمقاومة فهذه المعركة، هي معركة أخرى ضمن صراع طويل، وبالتالي لا يكون السؤال المطروح عليها كم أوقعنا فيهم من خسائر وكم أوقعوا فينا. 

رفع الاحتلال مع بداية الحرب أهداف عديدة، بينها القضاء على حركة حماس، وأحيانًا كان يخفف لهجته بالقول إن الهدف هو القضاء على مقدرات الحركة. وبالتالي، الإسرائيلي ورّط نفسه عبر الإعلان عن أهداف، إن لم يستطع تحقيقها، سيكون في وعي الناس مهزومًا. لأن القضاء على حماس يتطلّب احتلالًا للقطاع، وامتلاكَ الكيان الإسرائيلي وجيشه الإرادة والقدرة والجرأة والشجاعة للدخول بين تجمعات الفلسطينيين ولو دفع من الأثمان ما دفع، وواضح تمامًا أنه لا يستطيع ذلك. وبالتالي هو اعتمد في سعيه للقضاء على حماس على الكثافة النيرانية الهائلة والقصف السجادي. لكن من الواضح أن هذا غير كافٍ، وأن المقاومة قد أعدّت بنية تحتية قادرة على المواجهة، تقوم على أكثر من عامل، بينها بالطبع الأنفاق، وهنا استفادت المقاومة من تربة قطاع غزة الرملية، فسعت لإنجاز أنفاق قادرة على مقاومة القنابل الخارقة للتحصينات التي زودت بها الولايات المتحدة «إسرائيل»، لكن الأنفاق لم تكن سلاحها الوحيد.

إذ استفادت من الدمار الهائل الذي خلفه قصف الاحتلال، والذي سعى من خلاله لخلق حالة من الترويع والصدمة والرعب ولتهجير السكان وإثارتهم على المقاومة وفرض الهزيمة والاستسلام عليها. استفادت المقاومة من هذا الدمار عبر استخدامه للتمترس والتنقل عبره. بل وربما يحمي هذا الركام البنية التحتية الأصلية؛ الأنفاق.

وفي مقابل دراسة المقاومة لـ«إسرائيل»، لم تدرس هذه الأخيرة حركة حماس بشكل جيد. وهذه إشكالية عند الإسرائيلي، وهو قد اعترف بها، اعترف أنه لم يدرس حماس كما يجب، واعتقد أنها كانت حركة مردوعة كل همّها إدارة السكان والبحث عن حلول اقتصادية لهم. لكن في طوفان الأقصى اتضح أنه ليس فقط هذه الحركة غير مردوعة، بل أنها الحركة الأكثر ثورية وجذرية في تاريخ النضال الفلسطيني، وأن لديها استعدادًا للذهاب إلى أماكن غير مسبوقة. وهنا ربما أشير إلى طرفة وهي أنه ومن بين الفصائل الفلسطينية، ربما كانت الحماس الفصيل الذي تعرّض لأكبر قدر من الاتهامات من قبيل أنه فصيل محافظ على مستوى الصراع، كما شُكِّك مرارًا في مقاومته وفي استعداديته للاستمرار. 

وكما فهمت «إسرائيل» حماس خطأً قبل السابع من أكتوبر، فإنها فهمتها خطأ كذلك بعدها، وافترضت أنه من خلال القتل والترويع والمجازر يمكن لها أن تفرض عليها الاستسلام، ولم تفهم أن من قام بهذا العمل الثوري سيكون مستعدًا لمواجهة مختلفة داخل القطاع، وهو مستعدّ لكل الاحتمالات، رغم إدراك الحركة بالطبع أن الإسرائيلي قادر على تحقيق إنجازات تكتيكية، مثل اغتيال قادة ومقاومين، واكتشاف أنفاق ومخازن سلاح، وهذا ليس شيئًا استثنائيًا أو معجزًا ووارد بالطبع أن يحصل.

في الخلاصة، أعتقد أن هنالك إشكالية في إدارة «إسرائيل» للمعركة، وفي الأهداف التي وضعتها، وفي فهمها للحركة، وفي اتباعها للغريزة الانتقامية. لكن الأهم هو أن هذه المقاومة كانت مستعدة بصورة حقيقية لكل الاحتمالات على ساحة قطاع غزة، ربما في التقدير السياسي لم يكونوا يتوقعون هذا المقدار من التوغل، لكن على المستوى العسكري كانوا مستعدين له. 

يتحدث الإعلام الإسرائيلي والأمريكي عن «المرحلة الثالثة» من الحرب، وهي مرحلة يفترض أن ينتقل فيها القتال إلى شكل مختلف، بحيث تنسحب قوات الاحتلال من بعض المواضع فيما يتم التركيز أكثر على القيام بعمليات خاصة، من قبيل الاغتيالات والضربات الجوية المركزة والعمليات الموضعية. ما الذي يعنيه هذا الانتقال العملياتي بالنسبة للمقاومة، وكيف يؤثّر على مستقبل الحرب؟ 

علينا أن نتذكر أن الاحتلال منذ بداية الحرب يتحدث عن مراحل، ولم يكن واضحًا ما الذي يعنيه بالمرحلتين الثانية والثالثة، وهذا كان ينم عن شكل من الارتباك. لكن الآن اتضح ما الذي يعنيه، وهو تخليص الجيش من انغماسه بين السكان، وأن ينتقل هو من حالة استنزاف يعيشها إلى أن يستنزف هو المقاومة، عن طريق بقاء الحصار والقصف الجوي المركز وبقاء عمليات أرضية مركزة. لكن هل سينجح؟ هذا يطرح علينا مجموعة من الأسئلة السياسية والاستراتيجية، ويقودنا إلى نقاش أكبر. 

وجود قوات الاحتلال داخل مناطق عازلة في القطاع لن يحميها من الصواريخ قصيرة المدى، وقد لاحظنا أن هذا هو أهم تكتيكات المقاومة في مواجهة الاحتلال في هذه المناطق، وهذا أصلًا كان سبب خروج الاحتلال من القطاع عام 2005. في الانتفاضة الثانية، كان الفلسطينيون داخل قطاع غزة يعتمدون على الصواريخ قصيرة المدى وعلى قذائف الهاون، وأحيانًا على اقتحام المستوطنات، وهو ما دفع قوات الاحتلال للخروج. وبالتالي لو أعاد الإسرائيلي احتلال القطاع فحتمًا ستلجأ المقاومة لذات الأساليب التي أخرجته أوّل مرة.

ما يحصل اليوم بمثابة استعصاء غير مسبوق في تاريخ الكيان الإسرائيلي. فهو لا يستطيع اليوم فرض خياراته، ولا التكيف مع مقاومة أثبتت أنها جادة، وأنها يمكن أن تذهب أبعد مما يتصور، وأنها يمكن أن توجّه ضربات استراتيجية.

كما تملك المقاومة ورقة هامة للغاية، وهي الأسرى الإسرائيليون. صحيح أن أحد أهداف طوفان الأقصى كان تحرير الأسرى الفلسطينيين، لكن هذه الورقة ستستخدم كذلك للتأثير على مجريات الحرب، والتأثير على القرار السياسي والعسكري وعلى المجتمع الإسرائيلي. وبذا، حتى لو بقي الاحتلال داخل مناطق في القطاع هو مضطر في النهاية إلى عمل تسوية ما مع المقاومة. 

بقاء الاحتلال في القطاع لا يوفر للمقاومة أدوات جديدة لاستهدافه فقط، وإنما كذلك يمنح المزيد من الشرعية للمقاومة. إذ بالنسبة للفلسطيني في غزة، يعدّ تواجد الإسرائيلي في المكان غير معتاد أبدًا، على خلاف الوضع القائم حاليًا في الضفة حيث تنتشر الحواجز والمستوطنات. هذا التواجد الإسرائيلي سيخلق المزيد من الشرعية لمقاومة الاحتلال، ويخلق إجماعًا حولها، وسيزداد الالتفاف حول حركة حماس من أجل إخراج الاحتلال من القطاع. وبالتالي لن يستطيع الاحتلال البقاء في غزة لوقت طويل، على خلاف ما يعلن ويتوعد.

ما يحصل اليوم بمثابة استعصاء غير مسبوق في تاريخ الكيان الإسرائيلي، على مدى سنوات احتلاله. كان الإسرائيلي مقتنعًا دومًا بإمكانية فرضه لخياراته على العرب، سواء بالقوة العسكرية أو بجرّ لعرب لمفاوضات أو لسلام إسرائيلي. لكنه لا يستطيع اليوم فرض خياراته، ولا التكيف مع مقاومة أثبتت أنها جادة، وأنها يمكن أن تذهب أبعد مما يتصور، وأنها يمكن أن توجّه ضربات استراتيجية. ناهيك عما يحصل في جنوب لبنان، واضطرار عشرات آلاف المستوطنين للنزوح، وعجز الحكومة الإسرائيلية عن إعادتهم لبيوتهم. 

وبالتالي، هنالك أسئلة جوهرية أمام الإسرائيلي. في الماضي، كان يمكن لـ«إسرائيل» عند مواجهة دولة عربية أن تحيّدها بأساليب مختلفة، لكن اليوم، يتعامل الإسرائيلي مع قوى غير دولتية، في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، قوى جادة وقادرة على مراكمة قدراتها وأدواتها، وتمتلك الخيال، وعندها استعداد للذهاب بعيدًا، وهو ما يمثّل مشكلة غير مسبوقة للإسرائيلي. 

وأمام هذا الواقع فإن الخيارات الإسرائيلية محدودة؛ هو لا يستطيع تفكيك حماس، لأنه كما قلت إن أراد تفكيكها يجب أن يحتل القطاع طويلًا، وهو ما يفكر به ويريده نتنياهو، لكن الجيش الإسرائيلي على ما يبدو لا يقبل بهذا الطرح، لأن في هذا استنزافًا له. أما حلفاء نتنياهو في اليمين الصهيوني فهم يريدون أكثر من هذا، إذ يطالبون بإعادة الاستيطان في غزة، وهذا بالطبع حماقة على المستوى الاستراتيجي. 

الاستراتيجيون في الكيان يتحدثون عن كون كلّ هذه الحلول إشكالية، وتعيد الصراع إلى نقطة الصفر، وتغمس الكيان وسط الفلسطينيين، وهذا يعني مشاركة مزيد من فئات الشعب الفلسطيني في المقاومة بحيث لا تعود المقاومة قائمة على فصائل نخبوية مسلحة، كما أن هذا سيعني إيقاف الجسور التي مدّتها «إسرائيل» نحو مناطق مختلفة في المنطقة. أمّا العودة من القطاع دونما إنجاز حقيقي، فهذا يعني بدء حالة من التفكك في المجتمع الإسرائيلي، إذ أن تماسكه مرتبط بالشعور بالأمن والثقة بالجيش والمخابرات، وهذه المسألة من أبرز ما يفكر به جنرالات الجيش، ناهيك عن المشكلة الشخصية عندهم، وهم الذين شعروا بالمهانة مما حصل يوم السابع من أكتوبر.

وبالتالي، وفي ظلّ كل هذه السيناريوهات الصعبة، التي يناقشها الإسرائيليون، قد يكون السيناريو الأكثر ترجيحًا هو الخفض المتدرج لوتيرة الحرب من أجل الخروج منها.

في مواجهة مسعى «القضاء على حماس»، الذي وضعه قادة الاحتلال هدفًا لحربهم على القطاع، تصدرت مقولة «حماس فكرة»، في محاولة للقول إنه من غير الممكن القضاء على فكرة مقاومة الاحتلال. لكن هذه العبارة لا تلتفت إلى أن حماس حركة اجتماعية، متجذّرة في المجتمع الفلسطيني، وتحديدًا في غزة. هل يمكن لك أن تعرض لنا ما الذي يعنيه كوْن حماس حركة اجتماعية؟

هنا الإجابة من شقين؛ بلا شك أن حركة حماس ليست كتائب القسام فقط، وإن كان القسام هو أهم ما لدى حركة حماس، إذ يعطيها الزخم والمشروعية والشعبية الأكبر، وفي الوقت نفسه حماس ليست هي إدارة القطاع، وقد ثبت في أكثر من حادثة أن حماس مستعدة للتخلي عن هذا الدور. 

هنالك مشكلة في عدم قدرة العديد من المتابعين للمشهد على التعاطي مع حركة حماس، وباقي الأطر النضالية ذات المرجعية الإسلامية في الجامعات والنقابات وغيرها، على أنها انبثاق من مجتمعاتها، وهي ليست تنظيم القاعدة ولا هي داعش، جاءت للمجتمع من مكان آخر، كما حاول الغرب تصويرها بعيد السابع من أكتوبر. 

وأكبر دليل على هذا هو أن حركة حماس عندما انطلقت عام 1987، فإنها بدأت حركة قوية، ولذا استطاعت الانتشار بشكل واسع في عموم فلسطين، ففرضت أيام فعالياتها وأيام إضرابها الخاصة بها، في موازاة فعاليات القيادة الوطنية الموحدة لمنظمة التحرير، والتي كانت تضمّ جميع فصائل المنظمة.

السؤال هنا، كيف يمكن لحركة ناشئة أن تحجز لنفسها مكانًا في مقابل قوى متجذرة موجودة بصيغتها النضالية منذ الخمسينيات لو كانت غريبة فعلًا عن مجتمعها ولم تكن لها جذور فيه؟ وهنا نحن لا نتحدث عن جماعة لها شكل مختلف من التدين، لا في المظهر، ولا في الممارسة، وخطابهم لا يركز على قضايا طائفية، وهم منذ البداية غير منسلخين عن قضايا المجتمع.

لن أعود هنا إلى تاريخ حركة الإخوان المسلمين داخل فلسطين، وهو تاريخ يعود لعام 1945، وإنما سأعود إلى سبعينيات القرن الفائت، حيث شكل عدد من المعتقلين ما سمي وقتها الجماعة الإسلامية داخل السجون، وهي إطار جمع عددًا من الأسرى الإسلاميين من مشارب مختلفة، كانوا متدينين، وبعضهم جاء من فصائل منظمة التحرير، وأخذوا قرارًا بالتدين وتبني الخط الإسلامي. ومنذ ذلك الوقت وضعت الحركة الإسلامية كلّ ثقلها خلف الكتل الإسلامية في الجامعات. وهنا من الجدير بالملاحظة أنه عند الحديث عن جامعة النجاح، على سبيل المثال، وهي بمثابة قلعة لمنظمة التحرير ولحركة فتح، ومع ذلك فازت بانتخاباتها الطلابية الكتلة الإسلامية مرتين متتاليتين أواخر السبعينيات. وكذلك كان الحال في جامعة بيرزيت، التي يمكن وصفها بأنها جامعة ليبرالية، كانت في جذورها تابعة للجامعة الأمريكية في بيروت، وفي أوّل انتخابات تخوضها الكتلة الإسلامية، في مواجهة كتل فصائل منظمة التحرير، فإنها حصلت على نسبة 45% من الأصوات، وبالتالي أنت تتحدث عن مجموعة تفوز بالانتخابات الطلابية مع بداياتهم ومع تأسيسهم، وهذا يعني أن لهم جذورًا اجتماعية سابقة على هذا التأسيس. وكذلك كان الحال في غزة، والتي شهدت عملًا كبيرًا على العمل المؤسساتي، مثل الجمعية الإسلامية والجامعة الإسلامية وغيرها.  

وهذا لم يتغير بعد عودة منظمة التحرير، واتفاقية أوسلو وتأسيس السلطة، إذ ظلت الكتلة الإسلامية تفوز بالانتخابات الطلابية في جامعة بيرزيت، والتي يمكن القول إنها الجامعة الأكثر قدرة على تمثيل المزاج العام للفلسطينيين في الضفة، لأنها جامعة كبيرة في وسط الضفة، وتستقطب طلاب من كافة مناطق الضفة، ولا كلية شريعة فيها، ومع ذلك كانت الكتلة الإسلامية تفوز في معظم انتخاباتها منذ أوسلو وحتى ما يسمى بالانقسام 2007. 

وهنا يمكن أن نتحدث بثقة عن كون الإسلاميين في فلسطين حالة طبيعية داخل المجتمع، لها تجليات أهلية واجتماعية وطلابية، وبالطبع تجليات دعوية. كانت موجودة ومتجذرة في المجتمع حتى قبل كتائب القسام وقبل حماس.

وبالتالي حماس حركة منبثقة عن المجتمع، متجذّرة فيه، وفكرة القضاء عليها عبر القضاء على كتائب القسام أو عبر القضاء على حكمها في غزة، فكرة غبية لا معنى لها. لا بل على العكس، هذا الكلام عن السعي للقضاء عليها يعطيها مشروعية أكبر، فمثلًا، في آخر استطلاع أجراه مركز البحوث المسحية، كانت نسبة الأصوات التي ستحصل عليها حماس في أي انتخابات، في الضفة أعلى منها في غزة، وبالتالي نحن نتحدث عن حالة تعاطف شعبي هائل مع الحركة بغض النظر عن نتيجة الحرب. 

بالتالي حماس لا يمكن القضاء عليها، ليس فقط بوصفها فكرة، وإنما بوصفها حركة اجتماعية متجذرة في المجتمع الفلسطيني. لكن لو سلمنا بإمكان القضاء عليها، فإنه لا يمكن منع نشوء تجليات إسلامية جديدة في المجتمع الفلسطيني، وكذلك لا يمكن القضاء على استمرارية المقاومة داخل المجتمع الفلسطيني. صحيح أن المقاومة يمكن أن تفتر لسنوات مثلًا، لكنها تعود وتتجدد باستمرار، وهذه هي تجربتنا منذ الستينيات وحتى هذه اللحظة

قبل أيّام، قال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إنه يأمل أن يكون وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن قد «استخلص العبر من الأشهر الثلاثة الماضية وأدرك أخطاء واشنطن في دعمها للاحتلال»، وبعد هذا التصريح بأيّام، صرّح من جديد قائلًا إن هذا العدوان أمريكي إسرائيلي. ما أود سؤالك عنه هو، ومن خلال قراءتك لتجربة حركة حماس الطويلة، كيف تنظر الحركة للولايات المتحدة ودورها في الصراع في المنطقة وعلى فلسطين، وهل من تغيرات تجدر الإشارة إليها في هذه النظرة؟

أعتقد أن نظرة حماس إلى الولايات المتحدة، تشبه إلى حد كبير، نظرة باقي الفاعلين الفلسطينيين إليها، إذ ترى أن السبب في قوة «إسرائيل» ووجودها واستمرارها هي الولايات المتحدة، وهذا بالحد الأدنى يجعل منها عدوًا للشعب الفلسطيني.

وما كشفت عنه الحرب الأخيرة هو أن الولايات المتحدة منخرطة مباشرة في الحرب، ليس فقط عبر التمويل والدعم وتوفير الغطاء القانوني والسياسي، بل ومن خلال المشاركة الفعلية، عبر قيادات حضرت في مجلس الحرب، وعبر تقديم النصائح والاستراتيجيات، وهي من تطيل أمد الحرب عبر إفشال قرارات إيقافها في مجلس الأمن. 

حماس تدرك هذا بكل تأكيد، لكن سياسة حماس وهي السياسة القابلة للنقاش، هي أنه وباستثناء «إسرائيل»، والعداء الصارخ معها والموقف الجذري منها، فإن حماس معنية بالسعي لتحييد أكبر قدر ممكن من الخصوم، وبفتح ما أمكن من مساحات للحوار والنقاش. وبذا لو طلب الأمريكان الجلوس مع حماس في مرحلة ما فإن الحركة غالبًا لن ترفض، وهو ما تقوله الحركة دومًا أنه وباستثناء «إسرائيل» لا مشكلة لديها في الحديث مع أي طرف في العالم. 

لفهم هذا الموقف لا بد من النظر إلى البيئة الإقليمية، والتي لا تساعد حماس على أخذ موقف أكثر ثورية تجاه الولايات المتحدة. فكما نعلم جميعًا، وكما أوضحت منذ قليل، نحن نتحدث عن حركة محاصرة، بحاجة لأصدقاء وداعمين، لكن الحركة لا تحظى بظهير عربي يتبنى موقفًا استراتيجيًا قادرٍ على تحمل أعباء دعم حركة حماس. ويبدو أن الدعم الإيراني غير كاف، ولا هو كفيل بحيث يدفع الحركة كي لا تلقي بالًا للأمريكان. 

البيئة الإقليمية غير داعمة للنضال الفلسطيني، وقد كانت هذه مشكلة للمقاومة الفلسطينية على الأقل منذ تأسيس السلطة الفلسطينية، وهو ما يفسر عدم قدرة المقاومة في الحروب السابقة على تحقيق إنجازات سياسية، إذ هذا غير ممكن في وسط بيئة، إن لم نقل إنها معادية للمقاومة، فإنها غير متعاطفة معها على الأقل، وليس لديها استعداد لدفع أثمان. وهذا ما كشفت عنه الحرب الحالية كذلك، إذ لا نجد أي موقف متقدم أو جذري من الدول العربية تجاه الحرب. 

وبالتالي ما تراه حماس هو ضرورة السعي لتحييد الأعداء أو لفتح مساحات نقاش، من دون أن تبني آمال عريضة أو أوهام، وحتى لو كان ذلك بالعلاقة مع الولايات المتحدة، على خلاف قيادة منظمة التحرير التي كانت لديها منذ العام 1974 على الأقل رؤية للتسوية، والتي كانت تنظر إلى الجلوس مع أي طرف أمريكي على أنه إنجاز كبير. 

بعد السابع من أكتوبر، تمت محاولة دعشنة الحركة، وعزلها ونزع الشرعية عنها، وهنا كان من المفيد أن يصرّح قادة حول العالم أن حماس ليست داعش، وأنها حركة تحرر. ولذا كان مفيدًا الموقف التركي من هذه المسألة، رغم كل النقد المستحق الذي تطرحه الأطراف المختلفة تجاه تركيا ومواقفها. 

تدرك حماس أن الولايات المتحدة تتعامل معنا بعدوانية، لكن نظرة الحركة قائمة على حصر المواجهة، لا على مستوى الممارسة الفعلية فقط وإنما على مستوى الخطاب كذلك، مع «إسرائيل». وترى فيه الخيار الأفضل ضمن الجغرافيا السياسية القائمة اليوم.

وفي الوقت نفسه ترى الحركة أنه ليس من مصلحتها أن تكون محاصرة في كلّ مكان، وألّا يجد أنصارها في الغرب أنفسهم متهمين بالإرهاب، أو غير قادرين على الحركة، وهذا مفيد لأغراض عملية، وهو مفيد لغايات محاولة عزل «إسرائيل»، وهو مهم على المستوى التراكمي، إذ يعترف الناس بحق الفلسطينيين، ومشروعية المقاومة الفلسطينية.

أعادت معركة طوفان الأقصى، الحديث حول حلول نهائية للقضية الفلسطينية، فاستعادت الإدارة الأمريكية حلّ الدولتين بعد سنوات من الإهمال. هل لحركة حماس رؤية واضحة معلنة حول الحلّ النهائي للقضية الفلسطينية، وأي تأثيرات يحملها طوفان الأقصى على الوثيقة السياسية للحركة التي صدرت في العام 2017، وكان فيها شكل من أشكال القبول بدولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران؟ 

حتى هذه اللحظة لا يبدو أن طوفان الأقصى قد ألغى الوثيقة السياسية للحركة، أو دفع نحو إعادة التفكير بها. الوثيقة السياسية لحماس صدرت بعد حوالي أربع سنوات من النقاش، وحتى الآن هنالك أوساط في الحركة لديها نقد للوثيقة، على اعتبار أن حلّ الدولتين لا يمكن أن يتحقق، وإن كان حل الدولتين كما تطرحه الوثيقة يقوم على تفكيك الكيان الإسرائيلي عبر مطالبته بعودة اللاجئين إلى الداخل المحتل، وهو ما يعني بالضرورة تفكيك الكيان، وبالتالي نحن نتحدث عن شكل من أشكال تحرير فلسطين. 

ما أعتقده هو أن حماس بحاجة اليوم إلى إعادة النظر في وثيقتها السياسية، وبحاجة إلى إعادة النظر إلى النقاش السياسي، وإلى إعادة النظر في أدبياتها منذ دخولها السلطة عام 2006. 

لكن فلنعد للخلف قليلًا، إلى لحظة تأسيس السلطة، والتي تأسست على الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، ومنذ تلك اللحظة بات السؤال المطروح على القوى المعارضة لأوسلو هو أمامكم خياران إمّا الموافقة على مشروع السلطة، أو أن تصبحوا أعداء «للمشروع الوطني» وبالتالي تملك السلطة مشروعية استهدافكم. وبالفعل هذا ما حصل منذ العام 1994، إذ أخذت السلطة باعتقال أعضاء حماس، واستمرّ هذا حتى العام 2000 مع انطلاقة انتفاضة الأقصى، والتي رُفِع فيها شعار: شركاء في الدم، شركاء في القرار. ومن خلال ما صاحب الانتفاضة من إعادة لتشكيل المشهد الفلسطيني، تمكّنت حماس في غزة على الأقل من إعادة تشكيل نفسها، بعد سنوات من تعرّضها للتفكيك، وسعت إلى ألّا يعود الزمن للوراء، إلى ذلك الزمن الذي كانت فيه حركة مستضعفة، يجري اعتقال كوادرها وقياداتها. وبالتالي، يمكن القول إن اللحظة الفارقة في تاريخ كتائب القسام إنما هي انتفاضة الأقصى التي مكنتها من إعادة بناء نفسها. صحيح أنها استفادت من أحداث أخرى مثل الانسحاب الإسرائيلي من القطاع عام 2005، ومن الحروب التي خاضتها، لكن النقطة الأبرز هي الانتفاضة، لتدخل بعدها إلى انتخابات العام 2006، والتي دخلت حماس عبرها السلطة بشكل ما. 

وهنا لا بد من التفكير في ممكنات السلطة. هل يمكن بناء مشروع تحرري من داخل السلطة؟ أم أن هذا سيخلق لك من التعقيدات الشيء الكثير، بمعنى لن يكون ممكنًا أن تطالب «إسرائيل» بأموال المقاصة، وفي الوقت ذاته ترمي صواريخ باتجاهها؟ وبالتالي أنت بحاجة إلى مشروع تحرري أكثر جذرية من الواقع القائم حاليًا، لأنك لن تكون قادرًا على إنتاج حركة تحرر وطني من داخل السلطة، بالشروط التي وضعت لأجلها السلطة، حتى لو حكمت السلطة أفضل نخبة وطنية ممكنة، إذ أن طول أمد مشروع السلطة، والارتباط العضوي بينها وبين الاحتلال يجعل من ذلك مستحيلًا. وبناء على هذه الرؤية أعتقد أن على حماس الخروج من الكلاشيهات المتعلقة بالتسوية وحل الدولتين والمصالحة الوطنية، وطرح رؤية جديدة مبنية على السابع من أكتوبر. وبما أن السابع من أكتوبر كان ثورة في الفعل النضالي يجب أن تكون هنالك ثورة في الأفق السياسي وفي المخيال السياسي للفلسطينيين عمومًا، ولقيادة حركة حماس على وجه التحديد. 

لكن الأمر الملح اليوم على قيادة الحركة، وهو مفهوم تمامًا، هو وقف العدوان ورفع الحصار، وهو أوجب الواجبات. وهذا الأمر من الممكن أن يفضي بصورة أو بأخرى إلى أن تضطر الحركة إلى تقديم خطاب سياسي مقبول للوسطاء وللقوى الدولية، بحيث يدفع الاحتلال إلى الخروج من قطاع غزة وإلى وقف العدوان. 

ما أحاول قوله هو أن التدمير الذي قامت به «إسرائيل» في حربها على القطاع، عامل أساسي يمنع خلق ثورة سياسية موازية للفعل النضالي العسكري، هذا بالإضافة إلى العوامل التي كنت ذكرتها من حشر السلطة وأوسلو للفلسطينيين في الزاوية، والبيئة الإقليمية غير المساندة. 

كيف تنظر المقاومة الفلسطينية لمسألة اليوم التالي على الحرب؟ قبل أيّام، صرح القيادي في الحركة أسامة حمدان أن تصور الحركة هو حكومة انتقالية تحكم غزة والضفة لعام، لها مهمّتان رئيستان: إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، والبدء بعملية الإغاثة وإعادة الإعمار. يأتي هذا الطرح في مقابل طروحات أمريكية عن عودة السلطة لحكم القطاع، وطروحات صهيونية عن تواجد أمني صهيوني طويل الأمد في القطاع، وحكم مدني ما، تتباين هوية القائمين عليه. هل يمكن لك أن تضعنا في صورة نقاش «اليوم التاليً»، ومدى ارتباطه بتحرير بعض القيادات الفلسطينية من سجون الاحتلال، مثل مروان البرغوثي؟

يمكن القول إن النتائج العسكرية للحرب هي ما سيحدد الإجابة على سؤال اليوم التالي. لدى الأمريكان والإسرائيليين، وحلفائهم من العرب، رؤية مشتركة تقريبًا، تنص على أنه ما لم ينجز في الحرب سينجز في السياسة. وهنا نتحدث عن إضعاف حركة حماس سياسيًا، والقضاء على حكمها في القطاع، أو على الأقل توفير مخرج للإسرائيلي من خلال عدم استمرار حماس في إدارة شؤون القطاع بعد الحرب، ضمن تسويات سياسية معينة، وهو ما سيمثل فرصة للقيادة الإسرائيلية لتقول إن إنجازًا ما قد تحقق من الحرب.

أعتقد أن حماس تدرك، وبعد هذه الحرب الطاحنة، أنها لا تستطيع أن تحكم قطاع غزة وحدها، إلّا إن حصل انتصار مدو وانكفأ معه الإسرائيلي، ووقتها يمكن للحركة أن تفرض شروطها كما تشاء. 

التحدي الأساسي لمرحلة ما بعد الحرب هو ملف إعادة الإعمار، هؤلاء الناس الذين دمرت بيوتهم ونزحوا لا يمكن أن يبقى حالهم على ما هو عليه اليوم، وإذا كان هذا الملف مرهونًا بتسوية سياسية ما فأعتقد أن حماس مضطرة للتعامل معها، وربما يكون الحل الأفضل للحركة هو حكومة تكنوقراط، (غير سياسية)، تكون بمثابة وسيط لإعادة الإعمار وبعدها تجري الانتخابات العامة. 

 وهذا يعيدنا إلى السؤال السابق، حول النقاش السياسي الذي يجب أن يكون متسقًا مع عظمة ما حصل في السابع من أكتوبر. لكن هذا النقاش غير حاصل اليوم، وربما يكون تعويل حماس على تغيير ما جوهري يحصل في نخبة السلطة الفلسطينية، بحيث تحصل إمكانية تقارب معها، مثل أن يخرج مروان البرغوثي من الأسر، وهو ما سيتيح إمكانية للاتفاق على برنامج وطني ونضالي أفضل مما هو عليه الوضع اليوم. لكن كما قلت منذ قليل، كلّ هذه السيناريوهات منوطة بنتائج الحرب.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ab%d9%88%d8%b1%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d8%a7%d8%a8%d8%b9-%d8%a3%d9%83%d8%aa%d9%88%d8%a8%d8%b1-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%a2%d9%81%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9/feed/ 0
«إسرائيل» من الداخل: خلافات لا توقف الحرب https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d8%ae%d9%84%d8%a7%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d8%ae%d9%84%d8%a7%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/#respond Sun, 14 Jan 2024 10:37:08 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89041 هذه المقابلة جزء من ملف «مائة يوم من الحرب: غزة والمستقبل».

منذ انطلاق معركة طوفان الأقصى توالت التغيّرات في «إسرائيل» على عدة مستويات؛ حكوميًا انضمّ طيف معارض لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ومقرّب من الولايات المتحدة الأمريكية، إلى التشكيلة الحكومية الموسعة ومجلس الحرب فيها. وإن ساهم هذا التوسع في تقوية الحكومة، إلا أن خلافات شابتها حول أهداف الحرب وأولوياتها. جماهيريًا، تبدّل الرأي العام الإسرائيلي تجاه التيارات السياسية المختلفة مع الحفاظ على موقف عامٍ يؤيد الحرب حتى لو طالت. أما الولايات المتحدة التي هرعت منذ اليوم الأول لنجدة «إسرائيل»، وأيدت بشكل مطلق أهدافها المعلنة من الحرب على قطاع غزة، كما قدمت لها كل عونٍ عسكري وسياسي وإعلامي ممكن، بدا أنها بعد 100 يوم على الحرب تدفع باتجاه مرحلة عسكرية أقل حدةً مع البحث عن مسارات سياسية تلبي مصالح «إسرائيل».

نحاور في هذه المقابلة الباحث السياسي المتخصص في الشأن الإسرائيلي، أليف صبّاغ، حول المشهد السياسي الداخلي والرأي العام الإسرائيلي، وما يعنيه فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه المعلنة في «القضاء على حماس» واستعادة الأسرى أحياء، بالإضافة إلى تغيّر المقاربة الأمريكية تجاه الحرب وتأثير ذلك في مسار الحرب.

حبر: بعد 100 يوم على الحرب، كيف يبدو المشهد السياسي الداخلي في «إسرائيل» اليوم؟ وكيف تتعمق التصدعات في الإجماع الإسرائيلي على أهداف الحرب وخيارات وقف إطلاق النار؟

أليف صبّاغ: يمكن الحديث عن الخلافات في المشهد السياسي الداخلي على مستوييْن، الأول هو المستوى الحكومي، بمعنى الحكومة المصغّرة والحكومة الموسعة التي تشكلت بعد الحرب بانضمام أعضاء تحالف أحزاب بيني غانتس وجدعون ساعر، ما جعل الحكومة الجديدة أثبت وأقوى، لكنها تتضمن خلافات كانت موجودة في الأساس قبل الحرب، تحديدًا حول مسألة التعديلات القضائية، وهو ما ينعكس على الحكومة الموسعة. ولكن تبقى الحكومة الضيقة هي الطرف الأقوى والأقدر على الاستمرار بغض النظر عن بقاء غانتس فيها أو تركها.

بالإضافة إلى ذلك، قبل الهدنة كان هناك خلاف في الحكومة الموسعة على أولويات أهداف الحرب. فكان غانتس، وهو يمثل صوت أهالي الأسرى، ينادي بعقد صفقة تبادل وتحرير الأسرى الإسرائيليين ثم الاستمرار في الحرب، بينما كان نتنياهو يرى أن استمرار الحرب و«القضاء على حماس» يأتي أولًا، وأن تحرير الأسرى سيكون تحصيلًا لهذا الانتصار الذي يدّعيه. واليوم يعود هذا الخلاف، بمعنى أيهما يسبق الآخر، إنهاء الحرب أم عقد صفقة تبادل الأسرى؟ ما يزال نتنياهو مصرًّا على استمرار الحرب، ويؤيده في ذلك أهالي الأسرى ممن قُتلوا في غزة؛ ثأرًا لأبنائهم وإن كانوا قُتلوا بغارات إسرائيلية. أما غانتس ومعه أهالي الأسرى الأحياء فيريدون عقد صفقة لتبادل الأسرى.

طالما أن الحرب قائمة فستبقى الرواية المسيطرة داخل «إسرائيل» هي التهديد الوجودي، وعليهم أن يتحدوا بغضّ النظر إن كان أي منهم يمينيًا أو يساريًا أو وسطيًا أو متدينًا أو علمانيًا.

أما المستوى الثاني، فيتمثل في خلافاتٍ بين الحكومة والجيش، خصوصًا مع تشكيل رئيس الأركان في الجيش لجنة تحقيقٍ لبحث أسباب الإخفاق في السابع من تشرين الأول. وهو ما أثار الشكوك لدى نتنياهو ووزراء حكومته المصغرة بأن رئيس الأركان يقيم هذه اللجنة استعدادًا للتحقيق الرسمي الذي سيقام بعد انتهاء الحرب، وإنني على قناعة تامة بأن شكوكهم في محلها. يقول رئيس الأركان إنه يريد أخذ العبر مما حصل في السابع من تشرين الأول تفاديًا لتكراره، ويردّون عليه بأن الجيش طالما استخلص العبر بعد انتهاء الحدث مباشرة، وأن ما يريده هو الاستعداد لما بعد الحرب قبل انتهائها. في الحقيقة، كل منهم يفكر في الانتخابات القادمة وما بعد الحرب: أي لجنة تحقيق ستتشكل؟ من ستتّهم؟ أي روايةٍ ستقبل وأيها سترفض؟ من سيكون مذنبًا؟ ومن سيدفع الثمن؟

هذه خلفية الصراعات الحالية، وقد تنتج كل يوم نقاط خلاف جديدة، لكن في فترة الحرب -وهو من مصلحة نتنياهو- يغلب الصمت، ويجري التغلب على بعض هذه الصراعات أو تأجيلها لما بعد الحرب، حيث قد تعود حينها أوسع مما هي عليه اليوم. لذا، فإن هذه التصدعات ليست حاليًا ذات تأثير كبير على مسار الحرب، خصوصًا أن نتنياهو منذ اليوم الأول قدّم الحرب على أنها حرب وجودية، رابطًا بين هجوم السابع من تشرين الأول والنازية وداعش، وكذبَ إلى مستويات لا تصدق عندما تحدث عن تقطيع الرؤوس وحرق الناس والاغتصاب، محاولًا تجنيد الرأي العام الإسرائيلي، وكذلك الغربي الرسمي، لمصلحة روايته الكاذبة في سبيل الدفاع عن «إسرائيل». لكن المجتمع الإسرائيلي اليوم، إلى جانب الأمريكيين والأوروبيين، لا يرون أن «إسرائيل» في خطر وجودي. إن الحركة الصهيونية باتت مفضوحة اليوم، خصوصًا مع تراجع مصداقيتها لدى الرأي العام الأوروبي وفقدان الرواية الإسرائيلية لشرعيّتها، وهذا هام جدًا. لكن طالما أن الحرب قائمة فستبقى الرواية الرسمية المسيطرة داخل «إسرائيل» هي التهديد الوجودي، وعليهم أن يتحدوا بغضّ النظر إن كان أي منهم يمينيًا أو يساريًا أو وسطيًا أو متدينًا أو علمانيًا.

كان هناك الكثير من التعويل على الجبهة الداخلية الإسرائيلية لوقف الحرب على غزة لأسباب مرتبطة بالوضع الاقتصادي أو قضية الأسرى، ولطالما افترضنا أن المجتمع الإسرائيلي لا يحتمل حربًا طويلة. بعد مرور 100 يوم، ما زالت الغالبية العظمى من المجتمع مؤيدة للحرب. كيف تفسر هذا؟

بصراحة، إن الكثير من التحليلات حول قدرة «إسرائيل» على الاستمرار لفترة طويلة في الحرب مبنيّ على تصورات قديمة لم تنظر إلى ما هو جديد في هذه الحرب، ومن ذلك حالة العجز العربي، والدعم الأوروبي والأمريكي الرسمي المطلق، بالإضافة إلى قدرة نتنياهو على تجنيد المجتمع الإسرائيلي باعتبار هذه الحرب حربًا وجودية كما أسلفنا، وهو ما لم يُطرح في أية حروب سابقة على قطاع غزة، ولا في حرب تموز 2006 على لبنان. في الماضي كنتَ تجد معارضةً إسرائيلية للحرب، أما الآن فلا توجد أية معارضة لها، وكل من يخرج ضد الحرب ولو كان شخصًا واحدًا يحمل لافتة فإنه يُعتقل، حتى أن مديرة مدرسة في تل أبيب، حيث يسيطر التيار الليبرالي، لا الصهيوني الديني كما في القدس مثلًا، نشرت على فيسبوك مقالًا من صحيفة هآرتس يقول إن «إسرائيل» فشلت في تحقيق أهداف الحرب، ضُربت بعدها من الطلبة والأهالي، واستدعيت إلى البلدية وأقيلت من وظيفتها. لهذه الدرجة الشمولية يتجنّد المجتمع الإسرائيلي مع الحرب. وقد كان العرب الفلسطينيون في الداخل يخرجون في مظاهرات في الأيام الأولى من أي حرب، أما في هذه الحرب فهناك اوامر عسكرية لمنعهم من ذلك، حتى أن المحكمة العليا أصدرت قرارًا يؤيد منع الشرطة للمظاهرات.

أما بخصوص الاقتصاد الإسرائيلي فهو كبير وقوي جدًا، وطالما أنها لم تخسر الاستثمارات الأجنبية الكبيرة المقدرة بعشرات المليارات؛ الأمريكية والأوروبية -وتلك العربية عن طريق الصناديق الأمريكية- فإن «إسرائيل» ترى أنها بحالة اقتصادية جيدة، ويمكنها استعادة الخسائر في الاقتصاد دون مشاكل. حتى إعادة الإعمار في غزة إن حصل فإن أمواله ستدخل إلى البنك المركزي الإسرائيلي. وبشكل واضح وصريح أقول إن الإسرائيليين يعتقدون بإمكانية تحويل العرب إلى مصدر لدفع تكاليف الحرب، قبل أيام نُشر خبر مفاده أن نتنياهو طلب من الإمارات دفع رواتب البطالة لفلسطينيي الضفة الغربية الممنوعين من دخول «إسرائيل»، وهو طلب فاجأ رئيس الإمارات محمد بن زايد. تريد «إسرائيل» أن يدفع العرب ثمن ما سببته هي من خسائر في قطاع غزة.

وفي ما يتعلق بقضية الأسرى، فقد استطاع نتنياهو شقّ صفوف أهالي الأسرى إلى قسمٍ يطالب بعقد صفقة سريعة مهما كلّف الثمن، وقسم آخر يشجع استمرار الحرب، أي أهالي الأسرى القتلى بفعل الغارات الإسرائيلية، وهؤلاء هم من يلتقي بهم نتنياهو ويعتمد عليهم.

عمومًا، ما هي اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي اليوم؟ وما البدائل المطروحة أو التيارات السياسية الصاعدة لحكم «إسرائيل» بعد الحرب؟ وهل ستغير الحرب على غزة شكل السياسة داخل «إسرائيل» في اليوم التالي من توقفها؟

دعني أقول إن استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي لحظيّة؛ تتغير بتغير الأحداث، لذا لا يمكن الاعتماد عليها بشكل دائم، أي أنها قد تكون بعد الحرب مختلفة عما هي عليه خلالها. عمومًا، وخلال الحرب، يمكننا أن نرى تراجعًا واضحًا في شعبية نتنياهو، وتقدمًا لشعبيّة غانتس. لقد ترك غانتس موقع المعارضة وانضمّ بعد الحرب للائتلاف الحكومي انطلاقًا من المسؤولية الصهيونية، أو المسؤولية القومية، وبصفته عسكريًا غير مسؤول عن الفشل في السابع من تشرين الأول، لذا انجذبت إليه شريحة من الجمهور.

تشير مجمل استطلاعات الرأي في الأيام الأخيرة إلى أن حصول انتخابات جديدة سيفرز تقدّمًا في تحالف غانتس-ساعر من 12 مقعدًا في الكنيست إلى ما معدله 33 مقعدًا، فيما سيتراجع الليكود بزعامة نتنياهو من 32 إلى 20 مقعدًا. وتشير الاستطلاعات كذلك إلى تراجع حزب العمل، وحزب «هناك مستقبل» بزعامة يائير لابيد، وتقدّم لحزب «إسرائيل بيتنا» بزعامة أفيغادور ليبرمان، فيما تحافظ الصهيونية الدينية على المقاعد نفسها.

لكن السؤال المثير للاهتمام هو ماذا لو تشكّلت أحزاب جديدة بعد انتهاء الحرب؟ ثمة توقعات بإنشاء أحزاب جديدة، أحدها قد يتشكل برئاسة يوسي كوهين رئيس الموساد السابق، في هذه الحالة سيحصل على مقاعد من حصة الليكود وغانتس ولابيد. رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت دعم حكومة نتنياهو وذهب شخصيًا بسلاحه إلى الحرب ما زاد من شعبيته، ولو أنه شكّل حزبًا -مبتعدًا عن لابيد- فإنه سيحصل على مقاعد في الكنيست على حساب الليكود ولابيد وسموتريتش وبن غفير. إن أي حزب جديد سيحصد مقاعده على حساب الأحزاب الكبيرة.

باختصار، ليس لدي شكّ أن حصول انتخابات جديدة بعد الحرب سيشهد حضور أحزاب جديدة، وفي كل الأحزاب -القديمة والجديدة- ستحضر القيادات العسكرية، ليست تلك التي فشلت في السابع من تشرين الأول، وإنما التي أثبتت أنها تطوعت وقاتلت، سينضم هؤلاء إلى أحزاب سياسية لأن الاستنتاج في «إسرائيل» اليوم هو أن الكنيست بحاجة إلى قيادات عسكرية، وأن وضع الثقة فيها أهم من وضعها في القيادات السياسية. سيشهد الكنيست تقدمًا للقيادات العسكرية حتى يستعيد الجيش، بلباسٍ مدني، قوته وهيبته وقراره في أي حكومة قادمة. ومع التوقعات بغياب كل من نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، فمن المرجح أن يكون هناك حكومة صهيونية ليبرالية، ليست أقل تطرفًا ودموية من الحكومة الحالية، لكن بدون دوافع دينية بقدر ما لديها من دوافع سياسية؛ صهيونية وأمريكية.

بالحديث عن سعي الجيش الإسرائيلي لاستعادة هيبته وترميم صورته التي اهتزت يوم السابع من تشرين أول الماضي. اليوم، مع صعوبة تحقيق أهداف الحرب المتمثلة في القضاء على حماس واستعادة الأسرى أحياء، ما الذي يعنيه هذا الفشل؟ وهل ما يزال المجتمع الإسرائيلي يثق بجيشه؟

لنرجع إلى ما قبل الحرب بقليل، حينها اختلفت مع بعض الأصدقاء حول ما يحدث للجيش الإسرائيلي، كان طرح بعضهم أن الجيش الإسرائيلي منهار، وأن سلاح الطيران منقسم على ذاته. وكنت أقول إنه إذا ما نشبت حرب، وهو ما كان يريده نتنياهو، فسيعود الطيارون من خارج البلاد، وسيعتلون طائراتهم ويحاربون ويقتُلون دون حساب، فهذه هي الصهيونية الليبرالية المعارضة الموجودة خارج البلاد، وهو ما حصل بالفعل، بعد الحرب عاد آلاف الجنود، ومن بينهم طيارون كانوا أول من ارتكب المجازر في غزة.

لقد فقد الجيش الإسرائيلي هيبته أمام الجمهور الإسرائيلي، والعالم كله، وكان لابد من استعادتها من خلال المجازر لإثبات أن الطيران الإسرائيلي لم يتراجع، إنما ما يزال يحافظ على قدرته في تدمير مدنٍ بأكملها، وأنه ما يزال يحافظ على قدراته العسكرية والتكنولوجية، وعلى دعم الولايات المتحدة الأمريكية مهما بلغ الخلاف بين نتنياهو وبايدن.

في نظر الإسرائيليين، أي على المستوى الشعبي، أثبت لهم الجيش والطيران أنه ما يزال محافظًا على قوة الردع الإسرائيلية. فشل الجيش في المعركة الميدانية في غزة، لكنه لم يفشل في عملية التدمير من الجو، وهو ما يلبّي طموحات الحكومة والجيش الإسرائيلي، كما يلبّي مشاعر الجمهور الإسرائيلي، هذا ما يريده الإٍسرائيلي، فلا يشفي غليله إلا هذا الدمار. تصوّر أن صحافيًا إسرائيليًا قال إنه لا يستطيع النوم إلا بعد رؤية الدمار في غزة، وآخر قال إنه كان يريد أن يرى مقتل 100 ألف فلسطيني في اليوم الأول من الحرب. هذا جنون، وهكذا هو الجمهور الإسرائيلي، إنهم يعبّرون عما يدور في ذهن كل مواطن صهيوني.

فشل الجيش في المعركة الميدانية في غزة، لكنه لم يفشل في عملية التدمير من الجو، وهو ما يلبّي طموحات الحكومة والجيش الإسرائيلي، كما يلبّي مشاعر الجمهور الإسرائيلي.

أحد الأهداف الإسرائيلية المعلنة للحرب هو أن لا تشكّل غزة خطرًا على «إسرائيل»، هذا هدف غامض وتضليليّ، ما الذي يعنيه هذا الهدف؟ إما أن تغرق غزة في البحر، أو أن يُهجّر سكانها، أو أن يُقضى على المقاومة والشعب الذي ينتج هذه المقاومة. إن القتل والتدمير أهداف غير معلنة، وقد حققها الإسرائيليون بشكل غير مسبوق. أما أهدافهم المعلنة في القضاء على حماس وتحرير الأسرى أحياء فهذا لم يحصل ولن يحصل.

رغم ذلك، ما يزال الجمهور الإسرائيلي يثق في جيشه، يثق تحديدًا في سلاح الطيران وقدرته التدميرية. مثلًا، تظهر بعض استطلاعات الرأي العام أن أغلبية المجتمع تؤيد اليوم توجيه سلاح الطيران ضربة استباقية إلى حزب الله في لبنان، حتى لو كان تكلفتها ردّ من الحزب، إنهم يريدون إظهار قدرتهم التدميرية ليصيب لبنان ما أصاب غزة، في رسالة للجميع مفادها أن سلاح الطيران قادر على الوصول إلى أي مكان وتنفيذ كل عملية ممكنة. يضاف إلى ذلك أن ما فعله الجيش الإسرائيلي في لبنان خلال ثلاثة أشهر؛ حيث وصل عدد شهداء المقاومة اللبنانية إلى 160، من بينهم قيادات في الحزب، بالإضافة إلى اغتيال صالح العاروري، هي إنجازات تُقدم للجمهور الإسرائيلي وتزيد من ثقته في جيشه.

مع بداية الحرب، هرعت الولايات المتحدة لدعم «إسرائيل» وأيدت بشكل مطلق خيارات الاحتلال تجاه الحرب في غزة.  لكن مع عجز «إسرائيل» حتى الآن عن تحقيق أهدافها المعلنة، بدا أن الولايات المتحدة تضغط على الكيان من أجل الدخول في ما يسمى «المرحلة الثالثة» من العملية البرية؛ أي مستويات قتالية أقل حدة. مع اعتبار أطراف في الإدارة الأمريكية أنه «لم يعد في الإمكان مواصلة القتال بوتيرته الحالية»، وأنه يتوجب «إعادة النظر في الهدف الكبير صعب التحقق».

كيف تغيرت المقاربة الأمريكية تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة خلال 100 يوم من الحرب؟ وهل لهذا التغيّر أن يؤثر في مسار الحرب؟

منذ اليوم الأول فزعت أمريكا من أجل إنقاذ «إسرائيل» من أعدائها، وكانت تخشى وقوع هجومٍ من لبنان في اليوم التالي لطوفان الأقصى، لهذا أرسلت بوارجها إلى شرق المتوسط حتى تهدد لبنان وتمنع حزب الله من القيام بأية أعمال عسكرية مشابهة لطوفان الأقصى. لكن، مع مرور الأيام الأولى من الحرب، ظهر خلاف بين الولايات المتحدة و«إسرائيل»، تحديدًا عندما طلب بايدن من نتنياهو تصورًا لما بعد الحرب. صحيح أن أمريكا و«إسرائيل» متفقتان على أهداف الحرب وأبعادها الإقليمية والدولية، ولكن هناك اختلاف على دوافعها، حيث لدى «إسرائيل»، إلى جانب أهدافها الإقليمية والدولية، دوافع دينية، وقد وصفها نتنياهو بأنها حرب «يشوع بن نون»، التي جاء في التوراة عنها: «وَحَرَّمُوا (أي قتلوا) كُلَّ مَا فِي الْمَدِينَةِ مِنْ رَجُل وَامْرَأَةٍ، مِنْ طِفْل وَشَيْخٍ، حَتَّى الْبَقَرَ وَالْغَنَمَ وَالْحَمِيرَ بِحَدِّ السَّيْفِ»، أي أنها حرب إبادة بكل معنى الكلمة، لذا يستخدم نتنياهو وصف «إبادة حماس»، دون التفريق بين حماس وأي فلسطيني في قطاع غزة.

بالمقابل، دوافع أمريكا سياسية لهذه الحرب سياسية، أي أنها تستخدم العسكر من أجل الحصول على أهداف سياسية على المستوى المحلي والفلسطيني والإقليمي والدولي. لهذا، عندما تختلف الدوافع تختلف الرؤية؛ رؤية ما بعد الحرب وما يجري خلالها، لذا فإن أمريكا تتساءل عن المستقبل: ماذا يريد الإسرائيليون بعد القضاء على حماس؟ ومن سيحكم غزة وكيف سيحكمها بعد كل هذا الدمار؟ لكن نتنياهو لا يفصح عن اليوم التالي للحرب، إنما يمارس الدمار الشامل والقتل المكثف، وهو ما يروق له لأنه بذلك يوحّد حكومته ويسير بها مع بن غفير وسموتريتش إلى حرب إبادة استعدوا وأعدّوا الرأي العام لها، لكن هذا لا يروق للأمريكيين في ما يتعلق بنظرتهم السياسية لماهية الحرب من أجل الوصول إلى أهداف سياسية. وهنا نذكر ما قاله وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن للإسرائيليين بعد مضيّ شهر على الحرب بأنكم ربما تحقّقون إنجازات عسكرية تكتيكية هامة جدًا، لكنكم إن واصلتم هذا المشروع فسوف تخسرون خسارة استراتيجية، وسنخسرُ معكم. إن ما تعنيه الخسارة الاستراتيجية هنا هو الخسارة السياسية.

مع غياب الأهداف السياسية الصهيونية لما بعد الحرب، تحوّلت أمريكا من إنقاذ «إسرائيل» من أعدائها إلى إنقاذها من نفسها، من جنون العظمة الذي أصاب الإسرائيليين جمهورًا وعسكرًا وحكومة، فقالت أمريكا: لا، نريد أن نفهم إلى أين أنتم ذاهبون. وبدأت تبحث في الخيارات السياسية، مجندةً حلفاءها العرب للسير في مسارها السياسي؛ أي إنهاء حماس، ومنح «إسرائيل» سيطرة أمنية على قطاع غزة، مع إدارة مدنية فلسطينية وعربية، ومراقبة دولية، وهو ما يصبّ في مصلحة «إسرائيل».

بالإضافة إلى غياب الأهداف السياسية إسرائيليًا، كان الميدان العسكري مؤثرًا في المقاربة الأمريكية وتوجهها نحو مراحل قتالية أقل حدّة، حيث أن صمود المقاومة الفلسطينية لم تتوقعه أمريكا و«إسرائيل»، ولا أيّ من الدول العربية، هذا صمود أسطوري. ولكن الصمود الأسطوريّ الأكبر هو الصمود الشعبي، أراد نتنياهو تهجير الأهالي خارج قطاع غزة، ويتحدث الإسرائيليون مؤخرًا عن السيطرة على محور فيلادلفيا (الشريط الحدودي بين غزة ومصر) لدفع الفلسطينيين إلى ما يسمى الهجرة الطوعية، التي توافق عليها أمريكا ضمنيًا، لكن هذا التهجير لم يحصل حتى الآن، ليس لأن «إسرائيل» وأمريكا لا تريدانه، إنما بسبب صمود الشعب الفلسطيني الذي يصر على ألا يهجر بلاده مرة أخرى.

ومن العوامل التي ساهمت في تغيير المقاربة الأمريكية هو التحوّل لدى الشعوب الغربية، بما فيها اليهود الأمريكيين، ضدّ الأنظمة الموالية لـ«إسرائيل» والداعمة لها. بايدن يخسر في استطلاعات الرأي  العام بسبب دعمه لـ«إسرائيل» والمجازر التي ترتكبها، لذا يصرّح بمعارضته للمجازر، ويريد أن تدخل «إسرائيل» مرحلة تاليةً من الحرب تكون أقل حدة، لكن استمرار الدعم الأمريكي، العسكري والسياسي والإعلامي، لـ«إسرائيل» يضع على تصريحات بايدن كلها علامة استفهام. وينسحب الوضع نفسه على أوروبا.

لكن، هذا التغير في المقاربة الأمريكية للحرب لن يؤدي إلى وقف إطلاق النار ما لم يتغيّر الموقف العربي، فإذا شعرت أمريكا أنها ستخسر مصر مثلًا فسوف ينقلب موقفها آنذاك. تستطيع الدول العربية أن ترفض التوجه الأمريكي، وأن ترفض مساعداتها المالية والعسكرية، وتمنع طيرانها من نقل الذخيرة من مخازنها الموجودة في بلادنا إلى «إسرائيل»، يكفي هذا الموقف، وهو لا يكلّفهم شيئًا. لا يريد الشعب الفلسطيني مساعدة الجيوش العربية، إنما يريد مواقف وإرادةً عربية، وهو ما لا تملكه الدول العربية.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d8%b3%d8%b1%d8%a7%d8%a6%d9%8a%d9%84-%d8%ae%d9%84%d8%a7%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d9%88%d9%82%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/feed/ 0
جبهة جنوب لبنان: هل تعلن «إسرائيل» الحرب الشاملة؟ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%88%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%85%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d9%85%d9%84%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%88%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%85%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d9%85%d9%84%d8%a9/#respond Sun, 14 Jan 2024 10:36:12 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89043 هذه المقابلة جزء من ملف «مائة يوم من الحرب: غزة والمستقبل».

بعد مائة يوم من الحرب على غزة، وأكثر من 700 عملية نفذها حزب الله عبر الحدود في جنوب لبنان، ما يزال السؤال حول احتمالية تطور القتال إلى حرب إقليمية واسعة حاضرًا، خاصة فيما يتعلق بحجم ومدى انخراط حزب الله، وإمكانية ذهاب «إسرائيل» لتصعيد الهجوم عليه. 

في هذه المقابلة المترجمة التي أجرتها مجلة جدلية، تتحدث الباحثة اللبنانية أمل سعد، المحاضرة السياسة والعلاقات الدولية في جامعة كارديف في ويلز. نشرت سعد عدة كتب وأوراق حول حزب الله ومحور المقاومة، منها كتاب «حزب الله: الدين والسياسة» الصادر عام 2001، و«الرابط الإيراني: نحو فهم تحالف سوريا وحزب الله وحماس»، الصادر عام 2011، فيما سيصدر خلال العام الحالي أحدث كتبها بعنوان «حزب الله ومحور المقاومة: من المقاومة الوطنية إلى القوة الإقليمية». ويحاورها معين رباني، وهو كاتب وباحث في الشؤون الفلسطينية ومحرر مشارك في جدلية.

معين رباني: لعل من الجيد البدء بإلقاء نظرة عامة أو ملخص للتطورات على الحدود اللبنانية منذ الثامن من أكتوبر. ما هي دوافع وأهداف حزب الله لهذا التصعيد؟ المصطلح الذي يستخدم غالبًا لوصف هذه التطورات هو التصعيد المضبوط، هل هذا توصيف دقيق من وجهة نظرك؟

أمل سعد: أعتقد أنه دقيق إذا نظرنا إلى الأمر من جانب حزب الله. أستطيع أن أقول بشيء من اليقين إن حزب الله منخرط في تصعيد مضبوط. لا أستطيع التحدث عن «إسرائيل» لأنه من الصعب للغاية التأكد من نواياها. لكن في الوقت الحالي، أعتقد أنه تصعيد يمكن التحكم فيه إلى حد ما، ويدار من قبل الجانبين. لا أعرف إلى متى ستتم السيطرة عليه من جانب «إسرائيل» على الأقل. من الواضح أن حزب الله يسيطر عليها من جانبه. لكن مرة أخرى، لست متأكدة إلى أين تتجه «إسرائيل». لذا، فإن فكرة كون الصراع تحت السيطرة تفترض أنه سيبقى محصورًا في حرب متوسطة الشدة، وهذا شيء لا أعتقد أن أي أحد يمكنه الجزم به في هذه المرحلة. 

لكن في الجوهر، استراتيجية حزب الله حتى الآن هي الانخراط [بهذا الشكل] لأول مرة في تاريخه، وأعتقد أن هذا شيء لا يذكر بشكل كافٍ. لقد قال نصر الله بنفسه موخرًا أن هذا أمر غير مسبوق بالنسبة لحزب الله، وهو أمر مثير للاهتمام، وحتى هو لم يذكره من قبل. أتذكر أنه عام 2009 حين غزت «إسرائيل» غزة، كان هناك الكثير من الناس يطرحون نفس السؤال الذي طرح في بداية هذا الغزو، وهو لماذا لا يتدخل حزب الله؟ وكان هذا السؤال يطرح في كل حروب غزة السابقة. لذا، فهذه هي المرة الأولى التي يتدخل فيها حزب الله بطريقة كبيرة إلى حد ما، وأود أن أقول إنه ليس تدخلًا منخفض الشدة، من النوع الذي عادة ما يكون مصحوبًا بتكتيكات وأسلحة على غرار حرب العصابات، مثل العبوات الناسفة وأشياء من هذا القبيل، ولا ترى فيه استخدام الصواريخ وخاصة الصواريخ الموجهة المتطورة والمضادة للدبابات، والمسيرات المتطورة التي نراها الآن، ولا عدد الهجمات والعمليات الذي تجاوز الـ700 خلال الأشهر الثلاث الأولى من الحرب. لذلك، نحن ننظر إلى حرب متوسطة الشدة، إن جاز التعبير، فهي لا تزال دون مستوى الحرب التقليدية عالية الشدة، وهذا ما أعتقد أننا جميعًا نخشاه، وهذا ما يحدث عمليًا في غزة.

هل تعتقدين أن حزب الله يبقي أنشطته ضمن حدود معينة من أجل إبقاء الأضواء مسلطة على غزة، أم لاعتبارات لبنانية داخلية، أم بسبب طبيعة تنسيقها مع أعضاء المقاومة الآخرين؟ كيف تفسرين ذلك؟ ولو بدأنا الإجابة بسؤال آخر، إذا كنت أتذكر بشكل صحيح، فالهجوم الذي شنه الحزب عام 2006 والذي أدى إلى اندلاع الحرب، ألم يكن ذلك أيضًا لدعم الفلسطينيين الذين تعرضوا للقصف لأسابيع متواصلة عام 2006 في غزة؟

بالضبط. أشكرك على تذكيرنا جميعًا لأن هذا شيء ينساه الكثير من الناس. كان ذلك هجومًا تضامنيًا، إن جاز التعبير. كما كان يتعلق بالأسرى والوعد بعودتهم، والعدد الأكبر منهم كان من الأسرى الفلسطينيين، لا اللبنانيين. لذا، يمكن وصف كل أفعال وهجمات الحزب، بشكل أو بآخر، كحملات تضامن عسكرية حتى لو كانت محصورة بلبنان. لكن من الواضح أن التدخل الحالي كان مختلفًا على المستوى النوعي. 

من الواضح أن حزب الله لا يريد الحرب، لكن هذا لا يعني أنه خائف منها أو أنه غير مستعد لها، وهنا يكمن التمييز المهم للغاية الذي قد لا يدركه الكثير من الناس، حتى الإسرائيليون، وهنا تكمن الخطورة.

أما بالنسبة لسؤالك حول لماذا اختار الحزب إبقاء الأمور عند هذا المستوى المتوسط [من القتال]، أعتقد أنه من الواضح أن حزب الله لا يريد الحرب، لكن هذا لا يعني أنه خائف منها أو أنه غير مستعد لها، وهنا يكمن التمييز المهم للغاية الذي قد لا يدركه الكثير من الناس، حتى الإسرائيليون. وهنا تكمن الخطورة، فهم يعتقدون أنه لمجرد أن الحزب حذر أو عازف عن الحرب، فهذا يعني أنه سيتجنب الحرب بأي ثمن. الأمر ليس كذلك على الإطلاق؛ لن يتجنب الحرب بأي ثمن، لكن من الواضح أنه لا يريد الحرب ولا يسعى إليها. هذه هي الاستراتيجية الحالية للحزب. 

أما بالنسبة إلى ما إذا كان ذلك يعود إلى اعتبارات داخلية أم لا، هناك بعض الاعتبارات الداخلية، لكنني شخصيًا لا أعتقد أن حزب الله مقيد بالانقسامات الداخلية أو حتى بالاقتصاد بالدرجة التي يفترضها العديد من المراقبين. أولًا، لم يكن في لبنان كبلد في يوم من الأيام إجماع على المقاومة. كان هناك دائمًا جزء كبير من الجمهور اللبناني -ولا أستطيع أن أعطي نسبة محددة- لا يريد أن يذهب حزب الله إلى الحرب. لكن، عندما تندلع حرب، كما حدث في عام 2006، تحتشد أغلبية ساحقة من اللبنانيين خلف المقاومة الإسلامية. لذا، فإن ذلك سيتغير بسهولة على أي حال، ولا أعتقد أن الحزب يخشى أن يخلق ذلك أعداءً جددًا. هناك عدد قليل من الجماعات المسيحية اليمينية، مثل القوات اللبنانية وغيرها، ممن قد يعترضون على ذلك، لكن هذا لن يشكل عائقًا.

بالتالي، التفسير الذي نسمعه في كثير من الأحيان بأن حزب الله يرغب في الذهاب إلى أبعد من ذلك لكنه مقيد بعوامل داخلية ليس تفسيرًا تتفقين معه.

بالطبع لا. نصر الله قال في مناسبات عديدة ما مفاده «لسنا بحاجة إلى إجماع حول السلاح». وبصراحة، حزب الله يتمتع بالشرعية القانونية والسياسية داخل لبنان؛ يتمتع بالشرعية القانونية لأن كل بيان وزاري يحمي مقاومة حزب الله، وهو محمي بموجب اتفاق الطائف من حيث الاحتفاظ بسلاحه. كما أنه يتمتع بعلاقات جيدة للغاية مع الجيش اللبناني الذي قاتل في الواقع إلى جانب حزب الله ضد الجماعات الجهادية من سوريا. والجيش اللبناني في الواقع مستهدف من قبل «إسرائيل» الآن، ومنذ بضعة أيام استشهد أحد جنوده. لذا، حزب الله يتمتع بالفعل بتلك الشرعية. إذا كانت هناك بعض الانقسامات في لبنان، فلن تكون هذه عقبة. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هؤلاء أيضًا سيغيرون موقفهم، والكثير من الناس سيدعمون حزب الله. 

في الواقع، لدينا تركيبة داخلية اليوم تختلف تمامًا عما كانت عليه في عام 2006. في عام 2006، كان لبنان مستقطبًا بشدة بين ما يسمى بقوى 14 آذار و8 آذار التي كان حزب الله جزء منها. وقوى 14 آذار كان يقودها حينها حزب الحريري السياسي [المستقبل] وكان فؤاد السنيورة رئيسًا للوزراء، وكان مناهضًا بشدة للمقاومة وحزب الله. وكما أظهرت وثائق ويكيليكس لاحقًا، فقد تآمر مع آخرين في 14 آذار ضد حزب الله، داعيًا الأميركيين إلى حث الإسرائيليين على مواصلة قصف جنوب لبنان. هذا ليس الحال الآن. هذا ليس موقف رئيس الوزراء نجيب ميقاتي اليوم، الذي أصدر إدانة في الأمم المتحدة [للقصف الإسرائيلي] وكانت تصريحاته داعمة للغاية لموقف حزب الله، أو متعاطفة معه على الأقل. لذا، الواقع اليوم مختلف. كما أننا لا نواجه نفس الدرجة من الاستقطاب الطائفي الذي كان موجودًا في ذلك الوقت، مثل التوترات السنية-الشيعية. في الواقع، جرى الكثير من نزع الطائفية على مر السنوات الأخيرة، والمجتمع السني اليوم يقف تمامًا مع الفلسطينيين في غزة، كما هو الحال مع الشيعة في لبنان، وكما هو الحال مع الكثير من المسيحيين. لذلك، أعتقد أن هناك دعمًا شعبيًا للفلسطينيين أكثر مما كان في السابق، وسيحظى حزب الله لو ذهب للحرب اليوم بدعم أكبر مما حظي به في الماضي. لذا، أعتقد أنه يتعين علينا أن نتخلى عن هذا التفسير. لن يكون هناك عائق.

القضية الأخرى هي الاقتصاد. وبالتأكيد، نعاني في لبنان من أزمة اقتصادية حادة. لقد انهار الاقتصاد وكان في حالة سقوط حر منذ عام 2019، لكنني بصراحة أنظر إلى هذه المسائل من الناحية النسبية لا المطلقة. ما يمكن أن تخسره «إسرائيل» أكثر بكثير مما يمكن أن يخسره لبنان اقتصاديًا. وقد خسرت «إسرائيل» الكثير بالفعل. أنا لست خبيرة اقتصادية، لكن مما رأيته فقد تعرضت «إسرائيل» لخسائر اقتصادية، وبالتأكيد ستتعرض لما هو أكثر بكثير إن خاضت حربًا مع حزب الله. [أما في لبنان]، فعن أي بنية تحتية نتحدث؟ الناس ليس لديهم كهرباء، ولم يحصلوا عليها منذ سنوات. الوضع أصلًا فظيع ومحزن للغاية، لذلك لا أعتقد أنه يمكن استخدام الوضع الاقتصادي كورقة ضد حزب الله، للقول بأنه إن ذهب للحرب فإن اقتصادك سيتضرر. عن أي اقتصاد نتحدث؟ هذا فيما يتعلق بالأمور الداخلية.

أما فيما يتعلق بحماس، أنا متأكدة من أن هنالك تنسيق، وقد تحدث مسؤولو حزب الله عن أنهم تشاوروا مع مسؤولي حماس، وسألوا عن مقدار الدعم الذي يريدونه، وكان هذا هو المستوى المتفق عليه المطلوب من الحزب في هذه المرحلة. من المهم التنبه إلى أن الحزب كان دائمًا حريصًا جدًا على إبقاء الفلسطينيين في المركز. فعلى الرغم من أن فلسطين هي قضية إسلامية وعربية، فهي أولًا وقبل كل شيء قضية وطنية فلسطينية. وأعتقد أن حزب الله كان دائمًا حريصًا على ألا يبدو وكأنه يحل محل الفلسطينيين أو يتخذ قرارات نيابة عنهم. لذلك فكل أشكال الدعم الذي يقدمه -وقد قدم الدعم السياسي لحماس على مدى عقود حتى قبل الدعم العسكري- لن يترجم إلى أن يتصرف بالنيابة عن الفلسطينيين، أو أن يصبح رأس الحربة. هذا لن يحدث، الفلسطينيون هم رأس الحربة، وقد قال حزب الله ذلك في مناسبات عديدة.

لكن بالنظر إلى هذا التنسيق، أود أن أسألك عن حادثة محددة وهي اغتيال «إسرائيل» لصالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، في الثاني من كانون الثاني. لماذا اعتبرت تلك حادثة ذات أهمية خاصة بالنسبة لحزب الله؟ فالعاروري كان عضوًا في حماس لا الحزب، لكن الرد -على الأقل في لبنان- جاء من قبل الحزب، وليس من قبل حماس أو مجموعات أخرى. كيف تقيمين رد حزب الله على هذا الأمر ولماذا أولى أهمية خاصة بهذا الاغتيال؟

كان على الحزب أن يرد، وقد أعلن نصر الله إنه سيرد، ليس فقط لأن المستهدف كان مسؤولًا في حماس بل أيضًا لأن الاستهداف حدث في بيروت. 

..وهو خط أحمر رسمه الأمين العام للحزب منذ سنوات.

وقد أكد عليه مرة أخرى مؤخرًا، في آب الماضي. وكان ذلك حين هددت «إسرائيل» باغتيال العاروري. لذلك، تحديدًا بسبب التهديدات باغتيال العاروري، قال نصر الله إننا لن نتسامح مع أي اغتيالات على الأراضي اللبنانية. وكون الاغتيال حدث في بيروت، في الضاحية الجنوبية، لم يكن فقط خرقًا للخطوط الحمراء ولقواعد الاشتباك وأعمق هجوم [داخل لبنان]، بل من الواضح كذلك أنه كان مقصودًا أن يكون تصعيدًا كبيرًا. لذلك كان استفزازًا متعمدًا، وكان حزب الله يعلم أن عليه أن يرد. فالخوف كان أنه إذا لم يرد، فإن «إسرائيل» ستستمر. 

الآن، الجميع يتحدث عما يسمى المرحلة الثالثة من الحرب، وبصراحة لم أر فرقًا كبيرًا بين المرحلة الثانية والثالثة حتى الآن، لكن يفترض أننا في مرحلة انتقالية بين المرحلتين الثانية والثالثة، مع انسحاب بعض القوات الإسرائيلية أو نصفها من شمال غزة، وبدء ما يسمى «ضربات دقيقة» في جنوب غزة. عمليًا، هذه المرحلة الثالثة هي المزيد من الشيء نفسه، لكن هناك جانبًا إضافيًا الآن، وهو سلسلة من الاغتيالات. رأينا ذلك بوضوح باغتيال رضي الموسوي، مستشار الحرس الثوري الإيراني في سوريا، ثم العاروري، ثم القيادي في الحشد الشعبي في العراق، واغتيال أحد قيادي حماس في سوريا. بالتالي، تزايدت عمليات الاغتيال بشكل يومي، وبالأمس [8 كانون الثاني] كان اغتيال القيادي في حزب الله وسام الطويل. لذلك خشي حزب الله -على نحو محق- أن «إسرائيل» ستستمر في هذه الاغتيالات المستهدفة كجزء من استراتيجية جديدة من هذا النوع من الضربات الدقيقة، إذا لم يرد الحزب. صحيح أنها مستمرة على جميع الأحوال، لكنها ربما كانت ستزيد أكثر، وتتصاعد إلى ما هو أبعد من ذلك. لذلك، كان هناك خوف حقيقي من أن يكون ميزان الردع قد اختل أو حتى انقلب. ولهذا السبب، كان الرد ضروريًا جدًا.

إذن، من وجهة نظر حزب الله، لم يكن الأمر مسألة عقاب جراء خرق «إسرائيل» للخطوط الحمراء فحسب، بل كان أيضًا مسألة حفاظ على الردع في هذا الصدد. ما الذي يمكنك أن تخبرينا به بخصوص رد حزب الله؟

الرد الأول كان يوم السبت [6 كانون الثاني] على قاعدة ميرون، وهي قاعدة استخبارية جوية، ضربها حزب الله بـ62 صاروخًا على ما أعتقد، واستخدم جزءًا منها لإعماء القبة الحديدية، وقد اعتُبرت ضربة ناجحة. لم تنقل «إسرائيل» الخبر ليومين على ما أعتقد، وحتى الإعلام الغربي كان صامتًا تمامًا. واجهت صعوبة في إيجاد أية معلومات حول الموضوع، رغم أن حزب الله أصدر بيانًا مفصلًا للغاية، مرفقًا بفيديوهات. بدا وكأنه إن لم تنقل «إسرائيل» الخبر، فهو لم يحدث. على أي حال، خرجت المعلومات، وكذلك بيانات من الجيش الإسرائيلي أظهرت أن 103 إسرائيليين أصيبوا خلال 24 ساعة، عزا الجيش 19 فقط منهم لغزة. ما يعني أن 84 أصيبوا إما في الضفة الغربية أو على جبهة لبنان، وبالتأكيد كانت الغالبية العظمى منهم على الجبهة اللبنانية على يد حزب الله. لذا، ما زلنا لا نعلم التفاصيل، فـ«إسرائيل» لا تنشر بدقة معلومات عن إصاباتها. لا نعلم بالضبط عدد المصابين والجرحى، لكنني أفترض أن العدد أعلى بكثير مما نشر. 

«إسرائيل» تراهن على الدعم الأمريكي باعتباره فرصة ذهبية لجر الولايات المتحدة. لذا، من الممكن جدًا أن تحاول استفزاز حزب الله لتصعيد ضخم لا يترك لها مجالًا إلا مهاجمة لبنان.

بالتالي، يمكنني القول إن الهجوم تسبب بدمار كبير وأن عدد المصابين لا يستهان به. وبحسب ما قاله رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله، السيد هاشم صفي الدين، في بيان له، يبدو أن «إسرائيل» لم تكن تعلم بمعرفة حزب الله بهذه القاعدة. لست متأكدة من ذلك، لكن وفقًا له، فإن حزب الله يعرف بوجود قواعد كثيرة تظن «إسرائيل» أنها سرية. لذا، يمكنني القول إن هذا هو بالضبط نوع الهجوم الذي يمكن توقّعه من حزب الله. فقد كان محسوبًا بدقة، وشكّل تصعيدًا لكنه لم يجتز عتبة الحرب الشاملة، أي لم يحرج «إسرائيل» لدرجة استفزازها لفتح حرب شاملة. وكان هجومًا مختلفًا نوعيًا، بعمق ثمانية كيلومترات. واليوم [9 كانون الثاني]، كان هناك هجوم آخر بعمق 12 كيلومترًا على قاعدة قرب صفد. ما زلنا لا نعرف الكثير حول هذا الهجوم، أتابع وسائل الإعلام الإسرائيلية لمحاولة معرفة حجمه، وأعتقد أن إحدى هذه الوسائل استخدمت أوصاف من نوع «هجوم دراماتيكي». لكن على الأقل، على المستوى الرمزي، هي قاعدة عسكرية وأبعد عن الحدود، بالتالي هو هجوم أعمق، وهي مركز سيطرة وتحكم بجزء كبير من الشمال، وتشرف على قيادة فرقتين عسكريتين مسؤولتين عن كثير مما يحدث في جنوب لبنان. 

بالمناسبة، أعتقد أنه من المهم الإشارة إلى أن حزب الله حين استهدف قاعدة ميرون، ربط ذلك الهجوم بأن القاعدة كانت سببًا في استهداف العاروري، أي أن ميرون كانت مسؤولة إلى حد كبير عن ذلك الاستهداف. والمثير للاهتمام هو أنه حين ردت «إسرائيل» منذ ذلك الحين، باغتيال وسام الطويل ثم علي برجي اليوم، فقد حاولت كذلك ربط هذين المقاتلين بالهجمات على قاعدتي ميرون وصفد. ففي حالة الطويل، قالت «إسرائيل» إنه كان مسؤولًا عن التخطيط للهجوم على ميرون، واليوم زعمت أيضًا أن علي برجي كان قائدًا في القوة الجوية لحزب الله. لا أحد يعلم ما كان موقعه بالضبط، لكن حزب الله لم يسمه بالقيادي في بيان نعيه. وحزب الله لم يخف في تاريخه قط أي خسائر. من المستحيل أن يستطيع فعل ذلك حتى لو أراد. [عندنا] الجميع ينعى موتاه بشكل علني وفي مراسم عامة، وحتى إن لم يكن شخصًا معروفًا ولا مقاتلًا سيحضر جنازته العشرات والعشرات. بالتالي، حزب الله لا يخفي شهداءه بل يسمي كل واحد منهم. وأعتقد أنه بمعزل عن موقفك من حزب الله، بغض النظر من أنت وفي أي مكان في العالم، عليك أن تستند إلى بيانات النعي هذه كمؤشر على خسائر حزب الله. لذا، بالنظر إلى أنه لم يصف هذا المقاتل الأخير بالقيادي، فأنا أشك أنه كان كذلك.

لكن على كل الأحوال، لقد وصفت اغتيال العاروري بأنه ليس فقط هجومًا على حماس، وإنما هو أيضًا استفزاز متعمد لحزب الله. والآن وصلنا إلى نقطة باتت «إسرائيل» تستهدف فيها قيادي حزب الله ومقاتليه بشكل مباشر. وفي هذا السياق، هناك وجهتا نظر حول نوايا «إسرائيل» تجاه لبنان. الأولى تصر على أن «إسرائيل» تدرك أنه ليس بمقدورها التفوق على حزب الله عسكريًا، وأن حربًا مع لبنان ستكون كارثة ليس فقط على لبنان وإنما على «إسرائيل» كذلك، بالتالي علينا أن ننظر إلى التصريحات الإسرائيلية حول تكرار ما فعلته بغزة في لبنان بوصفها جعجعة لأنها لن تقدم على ذلك. وهناك وجهة نظر أخرى تشير إلى أن الدول والقادة غير العقلانيين يمكن أن يتصرفوا بشكل غير عقلاني وأحمق، وأنه في هذه الحالة «إسرائيل» تعتقد أن بوسعها جر الولايات المتحدة للصراع مع لبنان، وربما مع أعداء «إسرائيل» الآخرين في المنطقة. ما هو تقييمك للأجندة الإسرائيلية؟

أعتقد أن وجهتي النظر يمكن أن تكونا صحيحتين. أتفق مع أنه حين تطلق «إسرائيل» هذه التصريحات التي نسمعها منذ أسابيع والتهديدات بأنه إن لم ينسحب حزب الله إلى شمال نهر الليطاني ويوقف هجماته عبر الحدود، والرسائل التي أرسلها غالانت وآخرون عبر وسطاء غربيين بأنه إن لم يفعل حزب الله ذلك، فسوف يهاجمون لبنان، كل هذا أرى أنه جعجعة بالفعل. لأنني لا أعتقد على الإطلاق بأن «إسرائيل»، أو أي دولة أخرى في الحقيقة، يمكنها أن تخوض حربًا على جبهتين، وثانيًا بالتحديد لأن «إسرائيل» لا يمكنها مواجهة حزب الله وحدها، وهي لم تتمكن من فعل ذلك عام 2006. 

وتلك كانت حربًا على جبهة واحدة.

صحيح، وكانت في مواجهة النسخة الأولى من حزب الله، إن جاز التعبير. وهذا يقودني إلى السيناريو الثاني الذي تحدثتَ عنه. أعتقد أن «إسرائيل» تراهن بالفعل على الولايات المتحدة. فهي تنظر إلى الدعم العسكري غير المسبوق المقدم لها، ونحن لا نتحدث فقط عن التمويل والتسليح المستمرين منذ بداية الحرب واللذين شهدا زيادة بالغة، ولا فقط عن مجلس الأمن والغطاء السياسي وما إلى ذلك، بل نتحدث أيضًا عن جنود أمريكيين وقوات مارينز تم توظيفها وحاملات طائرات وغواصات نووية. إنها شريك حقيقي في الحرب وهي جاهزة للتحرك، وهذا ما تراهن عليه «إسرائيل» باعتبارها فرصة ذهبية لجر الولايات المتحدة. لذا، من الممكن جدًا أن تحاول «إسرائيل» استفزاز حزب الله لتصعيد ضخم لا يترك لها مجالًا إلا مهاجمة لبنان وبالتالي جر الولايات المتحدة.

لكن على الرغم من ذلك، ما زلت أعتقد أن هذه التهديدات فارغة، لأن «إسرائيل» لن تنفذها بدون الولايات المتحدة. وحتى الآن، لا تبدو إدارة بايدن متحمسة لاحتمال الحرب مع حزب الله، فضلًا عن حرب إقليمية أوسع بكثير. فالحرب مع حزب الله وفتح الجبهة الشمالية سيفتح عدة جبهات. لن يكون هناك حرب على جبهتين، بل ستصبح حربًا متعددة الجبهات، والمجموعات المنخرطة الآن في هذه الحرب، أنصار الله في اليمن والمقاومة الإسلامية في العراق ومجموعات في سوريا، كل هذه المجموعات ستنخرط بشكل أوسع وأعمق بكثير، وهذا دون الحديث عن إيران. 

بالتالي، هذا سيطال الوجود الأميركي في سوريا والعراق.

بالضبط. وهذا ما يمثل عقب أخيل. في الحقيقة، هم أهداف مكشوفة. بالتالي، الوجود الأمريكي في المنطقة يجعل من التدخل الأمريكي أصعب بكثير. وقد تعهد العراقيون بالفعل بإخراج القوات الأمريكية، حتى رئيس الوزراء قال إنهم يريدون ذلك، وهم يعدون استراتيجية بغرض ذلك. وقد أرسل حزب الله ممثله الشيخ محمد كوثراني، المسؤول عن ملف العراق، إلى العراق مجددًا للتنسيق بين القوى المختلفة التي تشكل الحشد الشعبي في هجماتها ضد الولايات المتحدة، وأنا متأكدة من أنهم يفعلون الشيء نفسه في سوريا. نصر الله نفسه قال إن القوات الأمريكية لا يمكن أن تخرج من العراق فحسب، وإنما يجب أن تخرج من شرق الفرات كذلك. بالتالي، نحن لا نتحدث عن هجمات ضد «إسرائيل» وحدها بل ضد القوات الأمريكية في المنطقة، لذلك فالتردد الأمريكي إزاء الانخراط في الصراع مفهوم.

حول هذه النقطة، سمعنا تقارير عن أن الأمريكيين نقلوا لـ«إسرائيل» رسالة بأنهم سيحاربون إلى جانبها في حال تعرضها لهجوم من حزب الله دون استفزاز سابق، لكن إن بادرت «إسرائيل» للحرب على لبنان، فستكون وحدها. من الصعب تصديق أن الإدارة الأمريكية لن تفي بوعدها بالوقوف إلى جانب «إسرائيل» في السراء والضراء بغض النظر عن كيفية اندلاع هذا الصراع، لكن على كل الأحوال يبدو أن الحكومات الغربية ومن بينها الولايات المتحدة تعطي الأولوية لمنع الصراع الإقليمي وحصره في الإبادة الجارية في قطاع غزة. وبدلًا من الدفع باتجاه إيقاف الحرب الإسرائيلية في غزة، يبدو أنها تبنت الأجندة الإسرائيلية في إخراج حزب الله من جنوب الليطاني. هل هذه برأيك سياسة جدية أم أنه مسعى عقيم؟

لا أستطيع أن آخذ هذه السياسة على محمل الجد وأجدها صعبة التصديق. لقد أرسلوا مبعوث السياسة الخارجية الأوروبي [جوزيب بوريل] لهذا الغرض، الذي التقى رئيس الكتلة النيابية لحزب الله محمد رعد، والذي قال له لا تتحدثوا إلينا قبل أن يكون هناك وقف لإطلاق النار. إنه أمر مدهش حقًا أن هناك إبادة غير مسبوقة تحصل في غزة، وهم يتوقعون من حزب الله أن يجلس بصمت، بل يريدون منه تخفيض التصعيد والانسحاب بالشروط التي يضعونها، فيما «إسرائيل» في أكثر حالاتها عدوانية في تاريخها، وترتكب جرائم حرب. لطالما فعلت ذلك طبعًا، لكن ما يجري الآن هو إبادة جماعية وتطهير عرقي بكل معنى الكلمة، وهذا لا يرتبط باليوم فقط، بل بمستقبل فلسطين. إنه تهديد وجودي. وفلسطين هي حجر الزاوية في محور المقاومة. كلمة مقاومة موجودة في اسمه، أي أن سبب وجوده هو مقاومة «إسرائيل»؛ إن كف عن مقاومتها فهو يشكك بهويته. إن كف حزب الله عن كونه حزب الله فقط عندها سينسحب. لذا، نعم، أعتقد أنه مسعى عقيم.

بالعودة لمحور المقاومة، كثيرًا ما تشير وسائل الإعلام الغربية إلى هذا التحالف بوصفه سفينة تقودها إيران، فيما تعمل بقية التنظيمات التي ذكرتِها كأدوات إقليمية لإيران، تخضع لسيطرة وأجندة طهران. لكن بالنظر لهجوم حماس في السابع من أكتوبر والطريقة التي استجاب بها حزب الله وأعضاء آخرون في هذا التحالف للحرب على قطاع غزة، ما الذي تخبرنا به هذه التطورات حول طبيعة هذا التحالف والعلاقات بين أعضائه الأساسيين؟

بداية، مصطلح محور المقاومة ليس قديمًا. في الحقيقة، يمكن تتبعه إلى عام 2008، لكنه بات مستخدمًا أكثر في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الحرب في سوريا. لكنه كان دومًا ما يساء فهمه باعتقادي فيما يتعلق بالعلاقات بين الفاعلين المختلفين فيه. لدينا القوة الكبرى الإقليمية وهي إيران، وهي التي تقود المحور لأنها الأقوى بين أعضائه. ولدينا سوريا لكنها لا تقود بطبيعة الحال، فهي دولة لكنها ليست قوية بأي حال، فهي فاعل إقليمي وليست قوة إقليمية. والبقية هم ليسوا دولًا. بالطبع، أنصار الله باتوا دولة أمر واقع، لذا بات من الأسهل قول اليمن الآن، لكن من حيث المبدأ لدينا فاعون غير دولتيين. حزب الله ليس دولة، لكنني أعتقد بناء على دراستي أن حزب الله بات بذاته ما أصفه بقوة إقليمية فرعية. وهناك أسباب متعددة لذلك. أولها أن نصر الله نفسه أصبح قائدًا آخر لمحور المقاومة، لكنه أقرب للأرض، وينسق بين الفاعلين المختلفين. وثانيًا لأن إيران فارسية وليست عربية، لذا من المنطقي أكثر أن يكون لحزب الله علاقات أقرب مع بقية الأعضاء. ولأنه كذلك ليس دولة مثله مثل البقية. وهذا هو الحال منذ عدد من السنوات. 

لا يمكن فهم العلاقة بين هذه الأطراف باستخدام قالب غربي، حيث أحد الأعضاء هو دولة راعية والبقية هم أذرع أو أدوات. الأمور لا تسير على هذا النحو. علينا أن ننظر إلى الأمر بعدسة مختلفة. فهؤلاء مجموعات وفاعلون مصطفون أيديولوجيًا، وهذا أمر لا نجده دومًا في تحالفات أخرى. هم مصطفون استراتيجيًا فيما يتعلق بـ«إسرائيل»، وليس من الضروري حتى أن يكونوا مصطفين على أساس الأيديولوجيا الدينية، فبعضهم سنة وبعضهم شيعة، لكنهم مصطفون من حيث الأيديولوجيا السياسية، وهذا ما يجعلهم تحالفًا أكثر عضوية.

ولديهم أجندة مشتركة في معارضة الهيمنة الإسرائيلية الأمريكية على المنطقة.

صحيح. ولديهم تاريخ مشترك، وعلاقات ثقافية مشتركة لا توجد في تحالفات أخرى. لذلك فهو نموذج مختلف جدًا من التحالفات. وأعتقد أن محور المقاومة يجب أن يدفع نحو المزيد من البحث في حقل العلاقات الدولية، لأننا حتى الآن ما زلنا نستخدم نفس النموذج الغربي، وهذا هو السبب الذي يجعل الكثيرين يفشلون في فهمه. لذلك، حين جاء السابع من أكتوبر، كان التعليق الأول لكثير من المحليين وحتى السياسيين هو الإشارة لإيران. 

وصدرت الكثير من التقارير المفصلة في النيويورك تايمز والغارديان على ما أعتقد لتشرح كيف جرى كل ذلك بالتحكم عن بعد.

وهذا مهين للغاية، لأنه يعني أن هؤلاء الأطراف المختلفين في دول مختلفة ليسوا فاعلين أحرارًا، وليست لهم مظالم محقة، وليست لديهم الفاعلية أو الأهلية. هم لديهم الأهلية لكن بالطبع هناك تنسيق. إن أردت أن أتوخى الموضوعية، أعتقد أنه من الصعب تخيل سيناريو حيث لم يكن لدى إيران أو حزب الله أي علم بوجود استراتيجية دفاع هجومي من هذا النوع. أعتقد أن هذا الاستراتيجية هي استراتيجية تبناها كل أعضاء المحور. فحماس هي من بادرت للهجوم، وكذلك حزب الله، وهذا أمر جديدًا نسبيًا. في حالة حماس كان هجومًا شجاعًا ومذهلًا، وهم من بادروا إليه. لذا، لا بد أنه كان جزءًا من استراتيجية إقليمية أوسع، ولا بد أنه كان هناك نقاش ما حوله في السنوات الماضية. لكن ذلك لا يعني أنهم علموا بالأمر في الأيام أو الأسابيع أو حتى الأشهر التي سبقت. وإنما أن هناك اتفاقًا عامًا على استراتيجية دفاع هجومي. وأنا متأكدة أن قلة قليلة في كتائب القسام عرفت بالأمر، وأن معظم مسؤولي حماس لم يعلموا. بصراحة لا أعتقد أن إسماعيل هنية علم بالأمر. ولن أتفاجأ إن كان الأمر شبيهًا في حالة حزب الله، حيث معظم المسؤولين لا يعلمون أي شيء عن الهجمات والاستراتيجيات العسكرية. لذا، من المستبعد جدًا أن يكونوا قد علموا بالهجوم ذاته، لكنهم يعلمون على مستوى الاستراتيجية.

«إسرائيل» تحضر منذ سنوات لتفادي هجوم من هذا النوع، لكن من قبل حزب الله. كانوا يخشون أن يحدث عبور من الحدود الشمالية، أي أن الاستراتيجية كانت موجودة، ولا بد أن حزب الله ساهم بالإعداد لها. 

بالنظر لكل هذه التطورات والتفسيرات المختلفة للأحداث، ما هو تقييمك للوجهة التي نتجه نحوها، بالأخص فيما يتعلق بما يبدو أنه احتمال متزايد للتصعيد الإقليمي الشامل؟

من الصعب الجزم. أنا أغير رأيي باستمرار بشأن الاتجاه الذي نسير فيه، خاصة لأنه في الأيام الأخيرة هناك اغتيال جديد كل يوم، لذا فالأمر مقلق للغاية. وأعتقد أن رأيي تغير إلى حد ما في الأسابيع الماضية. أعتقد أن كثيرين مثلي كانوا يعتقدون أن «إسرائيل» لن تجرؤ [على مهاجمة لبنان]، والآن بتنا نعتقد أنها تريد فعلًا أن تجر الولايات المتحدة. هذا ما تبدو عليه الأمور بشكل متزايد. 

أعتقد أن الأمر يعتمد على ما إذا كانت إدارة بايدن راغبة في خوض حرب إقليمية، لأنهم سيخوضونها إن كانوا مستعدين لها. في الوقت نفسه، أرى أنه من الصعب جدًا أن يتجنبوها لأن «إسرائيل» لم تحقق شيئًا، وهذا مخيف للغاية. إنهم لا يستطيعون تقديم حتى نصر رمزي. حاولوا تقديم اغتيال العاروري على أنه إنجاز كبير، لكنه بصراحة كان هدفًا سهلًا، فقد كان يتنقل بالسيارات وكان موجودًا في أحد مكاتب حماس في بيروت، ولم يكن الأمر إنجازًا على المستوى الاستخباري. أنا أعرف المنطقة وقد قابلت مسؤولين من حماس فيها في السابق، وهم في مبان معروفة محاطة بالجيران والدكاكين. ليس من الصعب استهداف هؤلاء المسؤولين. لذا الأمر مخيف لأن «إسرائيل» لم تحقق شيئًا، وستستمر في محاولة تقديم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بوصفه إنجازًا لجمهورها المتعطش للحرب. وكذلك لأن نتنياهو وغيره يحتاجون لذريعة يختبئون خلفها لتجنب المحاسبة. هناك العديد من العوامل المؤثرة في هذه المسألة، وأنا لا أرى أن «إسرائيل» تتجه إلى أي نصر. ومن هذا المنطلق، سيبدو التهديد وجوديًا بالنسبة للولايات المتحدة وهي تنظر إلى أقرب حلفائها في المنطقة بينما يقول كثيرون أن أيامه باتت معدودة. هذا ليس شعارًا، فالكثيرون يشككون اليوم ببقاء «إسرائيل» كدولة تفوق عرقي، وهذه فعلًا مسألة وجودية. وحين يتحدث البعض عن حل الدولتين، لا أحد يأخذ ذلك على محمل الجد اليوم.

لذا، فنحن نرى انقلابًا مفاهيميًا حقيقيًا بعد السابع من أكتوبر، وليس فقط بالنسبة لـ«إسرائيل» وإنما للولايات المتحدة أيضًا، فيما يتعلق بالرأي العام وأشياء أخرى كثيرة. لم نر من قبل تحالفًا من الفاعلين غير الدولتيين يخوضون حربًا كهذه. ومن المثير للاهتمام أنهم خلقوا نموذجًا خاصًا بهم من التزام مسؤولية الحماية

وكشفوا هشاشة «إسرائيل». لكن لعل الطرف الآخر لهذه المعادلة هو أن الولايات المتحدة تحتاج انتصارًا إسرائيليًا بقدر ما تحتاجه «إسرائيل». 

بالطبع، وهذا تهديد وجودي. طبعًا ليس تهديدًا لوجود الولايات المتحدة بذاتها، بل لوجودها في المنطقة. فقوتها الإقليمية تقلصت بشكل كبير عبر السنوات، لكن ذلك تعمق الآن. لم يعد لديها أي قوة ناعمة على الإطلاق، وأنا أشك أنه كان لديها قوة ناعمة في المنطقة في السابق، لكنها انتهت على أي حال. وكذلك قوتها الصلبة تتراجع، و«إسرائيل» جزء من هذه القوة الصلبة، وقد تبين أنها حليف ضعيف. هذا ما يجعل الأمر انقلابًا مفاهيميًا. للدقة، عام 2006 تمكن حزب الله من تحطيم أسطورة «إسرائيل» التي لا تقهر، لكن منعة «إسرائيل» كدولة صهيونية تتحطم الآن كذلك. ما فعله حزب الله هو تحطيم أسطورة الجيش، لكن باعتقادي ما نجحت فيه حماس والجهاد الإسلامي، وتدعمه الآن كل هذه الأطراف الأخرى، هو تحدي فكرة إمكانية بقاء «إسرائيل» في صورتها الحالية، لأن هذا النظام الصهيوني توسعي من حيث الجوهر، وطالما بقيت هذه الهوية والعقيدة السياسية قائمة، سواء كانت الحكومة يمينية أو يسارية لا فرق، فهل ستتمكن من البقاء على المدى البعيد؟

لذلك، فالمسألة وجودية بالنسبة لـ«إسرائيل»، وهي تحتاج صورة نصر، وهي غير قادرة على تحقيق شيء باستثناء قتل آلاف الفلسطينيين وتطهيرهم عرقيًا. هل هناك نهاية في الأفق؟ في البداية أذكر أنني وكثيرين غيري كنا نقول أن الأمر سيمتد لبضعة أسابيع، لكننا بلغنا نقطة يبدو فيها أن الأمر سيستمر لشهور طويلة.  

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d9%84%d8%a8%d9%86%d8%a7%d9%86-%d9%88%d8%a7%d8%ad%d8%aa%d9%85%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%b4%d8%a7%d9%85%d9%84%d8%a9/feed/ 0
الحرب على غزة وتصاعد العدوان على اليمن https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d9%88%d8%a7%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%85%d9%86/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d9%88%d8%a7%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%85%d9%86/#respond Sun, 14 Jan 2024 10:35:15 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89039 هذه المقابلة جزء من ملف «مائة يوم من الحرب: غزة والمستقبل».

في العاشر من تشرين الأول 2023، أي بعد ثلاثة أيام على بدء عملية طوفان الأقصى، أعلن قائد حركة أنصار الله اليمنية السيد عبد الملك الحوثي أن القوات اليمنية المسلحة جاهزة للتدخل المباشر في المعركة ضد «إسرائيل»، نصرة الفلسطينيين وغزة ودعمًا للمقاومة الفلسطينية.

وضع الحوثي عدة خطوط حمر في خطابه المتلفز في ذلك اليوم، أحدها كان تصعيد الحرب على غزة، والتدخل الأمريكي العسكري في فلسطين، وقال إن هناك تنسيقًا مع محور المقاومة حول الرد والتدخل المناسبين.

مع نهاية ذلك الشهر، كانت حركة أنصار الله قد نفذّت ثلاث عمليات ضد أهداف مختلفة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، عبر دفعات من الصواريخ الباليستية والمجنحة وعدد من الطائرات المسيرة. وفي 15 من تشرين الثاني، أعلنت الحركة أن السفن الإسرائيلية أو التي تشغلها شركات إسرائيلية ممنوعة من المرور في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. نتيجة لذلك، صادرت القوات العسكرية سفينة «جالاكسي ليدر» المملوكة إسرائيليًا، بعد رفضها الامتثال لأوامر القوات المسلحة بعدم المرور، ولا تزال السفينة ترسو في ميناء الحديدة إلى الآن. لاحقًا، استهدفت عدة سفن أخرى نتيجة رفضها كذلك للاستجابة لطلبات البحرية اليمنية.

مع تصاعد الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة ومنع إدخال المساعدات الإغاثية، أعلنت أنصار الله في 9 كانون الأول الماضي عن تصعيد جديد، وهو منع مرور أي سفينة تتجه لـ«إسرائيل» من أي جنسية كانت. 

لقي هذا التصعيد تحشيدًا دوليًا غربيًا ضد أنصار الله، حيث ادعت مجموعة من الدول على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا أن أفعال الحركة تشكّل تهديدًا على سلامة الملاحة الدولية، وهو ما ترافق مع امتناع شركات شحن كبرى تسيير سفنها وناقلاتها عبر المضيق.

شكّلت الولايات المتحدة تحالفًا دوليًا «متعددَ الجنسيات»، يضم عدة دول غربية ومملكة البحرين، قالت إنه يأتي لمواجهة التحديات التي تشكلها جماعة أنصار الله ولترسيخ المبدأ الأساسي لحماية الملاحة. وطوال الشهر الماضي، لوّح التحالف بتهديدات بضرب أهداف عسكرية يمنية في حال استمرّ منع مرور السفن المتجهة إلى «إسرائيل»، قبل أن يستهدف زوارق يمنية كانت في مياه البحر الأحمر نهاية الشهر الماضي، ما أدى لاستشهاد 10 مقاتلين من أنصار الله.

ويومي الجمعة والسبت، نفّذت الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات جوية على العاصمة صنعاء، ومحافظات الحديدة وتعز وحجة وصعدة، استهدفت قواعد عسكرية يمنية وأجهزة رصد ورادارات، وأدت إلى استشهاد خمسة أشخاص.

لفهم موقف حركة أنصار الله، وقرار دخولها في معركة طوفان الأقصى وتداعياته عليها وعلى الشعب اليمني، تحدثنا إلى الصحفي والباحث الاقتصادي اليمني رشيد الحدّاد في صنعاء.

حبر: لنبدأ من الضربة الأمريكية البريطانية فجر الجمعة. ماذا حققت؟ وما هي تداعياتها؟

رشيد الحداد: الاعتداء وقع على مواقع في أربع محافظات يمنية، وأدى لاستشهاد خمسة يمنيين وست إصابات، إلى جانب إيقاع الضرر في بعض المناطق خاصة في محافظة الحُديدة، إذ تم استهداف مناطق ليس لها علاقة بالجوانب العسكرية. 

لم تكن العملية العسكرية الأخيرة مفاجئة للشعب اليمني ولا للقيادة العسكرية في صنعاء، خاصة أن القيادة السياسية تلقت الكثير من الرسائل والتحذيرات إن كان عبر وسطاء عرب أو بواسطة وسائل الإعلام الغربية والأمريكية. وحاولت بريطانيا أن تفتح مشاورات مع صنعاء ومحادثات مباشرة غير معلنة لإقناعها بالتراجع عن قرارها بمنع سفن الكيان الصهيوني من المرور. كذلك، كانت هناك تهديدات أمريكية تصل صنعاء بأنها ستلجأ للسلاح. لذا يُعتبر هذا الاعتداء آخر أوراق تحالف الدول الغربية المسمى «تحالف حارس الازدهار». 

لكن على الجانب الآخر، فإن تداعيات الضربة ستكون وخيمة. إذ قامت القوات اليمنية بردٍ أوليّ استهدف بوارج أمريكية، ما يرسل رسالة أن الهدف لم يتحقق من تلك العملية العسكرية، وأن الاستهداف عدميٌ بامتياز، لكنه يفتح بابًا لن تتمكن الدول الغربية من إغلاقه، خاصة أن صنعاء حذرت سابقًا بأن أي دولة سوف تعتدي على اليمن، سيكون هناك قرار بمنع مرور السفن التجارية والنفطية التابعة لها. وأذكّر أنه في الأسبوع الماضي -قبل الضربة- قامت أنصار الله بعملية عسكرية كبيرة في البحر الأحمر استهدفت بوارج وسفن بريطانية تابعة للولايات المتحدة بالصواريخ والمسيرات، وكانت عملية موجعة، لأنهما لم تألفا أن تتجرأ أي دولة على استهداف سفن بريطانية وأمريكية منذ عقود.

قبل العملية العسكرية الأخيرة، وجهت الولايات المتحدة ضربة مباشرة لقوات أنصار الله في البحر الأحمر موقعة 10 شهداء، كيف تؤثر هذه الضربات على مسار المواجهة في البحر وكيف يمكن أن يرد اليمن؟

فيما يتعلق باستهداف الزوارق اليمنية، فالقوات البحرية الأمريكية ارتكبت خطأ كبيرًا وجريمة بعد اعتدائها على ثلاث دوريات تابعة للبحرية اليمنية. هذه القوارب كانت تقوم بعملية تأمين للسفن بموجب القانون البحري اليمني الذي يخوّل القوات البحرية بأن تقوم بتأمين الممر الملاحي والمياه الإقليمية بشكل كامل، ويمنحها حق احتجاز وتفتيش أي سفن مشتبه بها. وكما يقول [الأمريكيون] إنهم ينفذون القانون الأمريكي، نحن لدينا قانون وننفذه. وتعمل هذه الدوريات منذ سنوات، لكن تم تكثيفها في البحر بعد إعلان اليمن دخول الحرب مع «إسرائيل».

العداء في عقيدة حركة أنصار الله لـ«إسرائيل» وأمريكا أمر أساسي. والحركة ترى أن الحرب التي التي شنت عليها خلال السنوات الماضية كانت بإيعاز ودعم الولايات المتحدة، بالتالي هذا أيضًا من دوافع القرار بدخول الحرب.

تقف السفن الأمريكية في مناطق قريبة من المياه اليمنية، لكنها على الطرف الآخر الذي يعود للسيادة الإفريقية، ولا يوجد هناك احتكاك. في الفترة السابقة، حاولت الولايات المتحدة تسيير حاملة طائرات وسفن، وكانت الدوريات في وضع أمني وليس لها علاقة بالقتال، لكن تم استهدافها واستشهد 10 من أفرادها.

بعد العزاء بالشهداء، كان هناك تأكيدات من مختلف المناصب [في صنعاء] أن  العملية لا يمكن أن تمر دون عقاب للولايات المتحدة. ولاحقًا، فعّلت أمريكا الأوراق الدبلوماسية والوسطاء الإقليميين لاحتواء الوضع، وردت صنعاء بوضوح بأن خفض التوتر في البحر الأحمر يمكن أن يحدث، لكن بعد الرد على الاعتداء الأمريكي، وهذا في حال إدخال المساعدات لغزة. 

انصار الله لم تستخدم 2% من قدراتها البحرية بعد، فهي تملك صواريخ بحرية وألغام بحرية قوية جدًا، وتستطيع أن تطلقها بواسطة زوارق أو قوارب مسيّرة، وبإمكانها أن تستهدف سفن وتدمر بوارج.

بالعودة لقرار حركة أنصار الله بفتح جبهة ثالثة في الحرب، إلى جانب نصرة غزة والتضامن مع فلسطين، كيف يمكن أن نفهم هذا القرار وما هي الرؤية الاستراتيجية التي جعلت منه مصلحة يمنية؟

هذا القرار يعدّ أحد أهم وأخطر القرارات التي اتخذتها القيادة هنا في صنعاء، لما لها من تداعيات وأثمان كبيرة جدًا. 

بدأ هذا القرار بعمليات مساندة تمثلت باستهداف مدينة أم الرشراش ومواقع استراتيجية بصواريخ باليستية كبّدت الإسرائيليين مخاسر. وعندما باشرت القوات اليمنية عملية مساندة الشعب الفلسطيني استهدفت قاعدة «دهلك الاسرائيلية» في إرتيريا، لتعمية أجهزة الرصد الإسرائيلية للمسيرات وحركة السفن، من أجل ضمان وصول  المسيّرات بأمان لجنوب البحر الأحمر. لكن تبيّن أنه لا بد من فتح جبهة أخرى، نتيجة لبعض الضغوط والإشكاليات، منها اعتراض السعودية للعديد من الصواريخ، ووجود انزعاج من الجانب المصري والأردني فيما يتعلق بمرور الصواريخ والطائرات المسيرة، لذا استخدمت ورقة البحر الأحمر.

أؤكد أن هذا القرار لا يمثل مصلحة يمنية [ضيقة]، فالمصلحة اليمنية كانت تتمثل باستخدام ورقة البحر الأحمر خلال السنوات الثماني الماضية، التي عانينا فيها من الحصار الاقتصادي الكبير والخانق بكل معنى الكلمة، ولا زلنا نعاني حتى اليوم. والآن، يتم استخدام ورقة تشديد الحصار على صنعاء وتجويع الأسر لثني الحركة عن قرارها، بالإضافة لمحاولات تقويض مسار العملية السلمية في اليمن والتلويح بإجهاض اتفاق السلام، الذي تحاول جهات أمريكية ربطه بوقف العمليات العسكرية لأنصار الله، لكن هناك مصلحة عربية وقومية ودوافع دينية تحتّم اتخاذ هذا القرار.

الانتقال للمرحلة الثانية من التصعيد، وهي منع مرور السفن المتجهة لـ«إسرائيل»، جاء بعد فشل القمة العربية والإسلامية في إدخال المساعدات لغزة. هناك 15 ألف شاحنة تحمل المساعدات والإغاثات تقف على معبر رفح. والقرار اليمني ربطَ خفض التوتر في البحر الأحمر بإدخال هذه المساعدات، لأنه من المؤلم جدًا أن يستشهد الكثير من اخواننا الفلسطينين وهم جياع. الشعب اليمني لا يستطيع احتمال مشاهدة مثل هذه الأشياء، فالقضية الفلسطينية بالنسبة للشعب اليمني قضية محورية ومركزية وتشكل إجماعًا وطنيًا، حتى في المحافظات التي لا تقع ضمن سيطرة حكومة صنعاء. تقع 13 محافظة تحت سيطرة حركة أنصار الله، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 21 مليون نسمة، أي ما يقرب 70% من إجمالي سكان الجمهورية اليمنية، لكن جميعهم لديهم مشاعر وطنية وقومية وخرجوا لمساندة طوفان الأقصى والتضامن مع فلسطين.

من جانب آخر، فإن العداء في عقيدة حركة أنصار الله لـ«إسرائيل» وأمريكا أمر أساسي ورئيسي، وهذا واضح في خطابات قائد الحركة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، إذ لا يخلو أي من الخطاب من المناداة بمعاداة «إسرائيل» وأمريكا. والحركة ترى أن الحرب التي التي شنت عليها خلال السنوات الماضية كانت بإيعاز ودعم الولايات المتحدة، وبالتالي هذا أيضًا من دوافع القرار.

مجددًا، اللجوء لهذه الورقة من أخطر القرارات وأكثرها جرأة التي اتخذتها حكومة صنعاء، لما لها من تداعيات ولما تتطلبه من دقة كبيرة. إذ أن هناك تدفقًا للسفن والناقلات فيما يتعلق بخطوط الملاحة الدولية، وعمليات رصد السفن الإسرائيلية ليست بالأمر السهل، تحديدًا بعد أن قامت السفن الإسرائيلية برفع أعلام دول أخرى، ما يتطلب عملًا استخباراتيًا كبيرًا لتجنب أي سفن غير متجهة للموانئ في فلسطين المحتلة، لذا هي عملية معقدة استوجبت تعاون مع دول أخرى.

هناك تعاون وتواصل مع الجانب المصري، فاليمن حريصة على أن لا تتسبب بالضرر لقناة السويس، والإحصائيات الواردة من القناة تشير إلى وجود تدفق كبير يصل إلى 80 سفينة وناقلة نفط بشكل يومي، وأنه لا توجد أضرار كبيرة وفادحة على حركة الملاحة. 

وعلى مستوى الدول المشاطئة للبحر الأحمر، نلاحظ عدم دخول أي دولة مشاطئة في تحالف «حارس الازدهار»، وهذا يدلّ على وجود رضا ضمني وإن كان غير معلن تجاه هذه العمليات. 

كذلك، هناك تعاون مع عدد من الدول الإفريقية، ومن أبرزها ما صدر عن وزير خارجية جيبوتي الذي بارك هذه العمليات. ةهذا ينبع من السخط العربي والإسلامي الكبير على الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني. 

كل هذا أدى لأن تكون عمليات أنصار الله دقيقة، إذ لم تعلن أي دولة عن وجود أضرار أو أن القوات اليمنية قامت باستهداف سفن غير مرتبطة بـ«إسرائيل».

لماذا ذهبت الولايات المتحدة باتجاه تدويل قضية البحر الأحمر عبر تأسيس تحالف «حارس الازدهار»؟ كيف تنظر أنصار الله إلى هذا المسعى الأمريكي وإلى أي حد يمكن أن ينجح؟

هذا التحالف يأتي في إطار محاولة توظيف ما يحدث من منع للملاحة الإسرائيلية من أجل عسكرة البحر الأحمر، رغم أنه قبل هذه العمليات كانت هناك بوارج أمريكية في أعالي البحار وكانت تتواجد في المناطق المشاطئة في دول القرن الأفريقي، وتحرك طيرانها المسيرّ كان يتم بشكل يومي في المياه الدولية في البحر الأحمر، وصولًا لخليج عدن وباب المندب، وكانت هناك زوارق وقوارب بحرية أمريكية وإسبانية وبريطانية تمرّ بشكل روتيني دون اعتراض.

لكن هذا التحالف والتحشيد الأمريكي جاء لحماية «إسرائيل» وبتوجيه إسرائيلي، وحتى يتم إبعاد «إسرائيل» عن الشبهة تقول الولايات المتحدة أن هدف التحالف هو حماية الملاحة الدولية. 

حاول الجانب الأمريكي تهديد صنعاء بإعادة تصنيف حركة أنصار الله على قائمة وزارة الخارجية الأمريكية للمنظمات الإرهابية، وما يتبعها من تشديد للحصار ومنع المساعدات، ولوّح باستهداف وضرب صنعاء، وحاول الضغط على الجانب السعودي والإماراتي، لكن لم يصل لنتيجة ولم يحقق ما يريد. لذا، هو يحاول أن يكسب شرعية دولية للبقاء في البحر الأحمر. 

حركة أنصار الله حذرت من عسكرة البحر الأحمر، واعتبرت هذا التحشيد بمثابة استدعاء للعالم لاستعدائها، وأكدت أن عملياتها واضحة ولا تستهدف الملاحة الدولية، بل هي قامت بحماية حركة الملاحة طوال السنوات الماضية.

هناك حالة تفكك واضحة فينا تعلق بما يسمى تحالف «حارس الازدهار»، سواء عبر اعتذار عدد من الدول عن الانضمام، أو بالتمثيل الرمزي لدول أخرى، كأن يتم ارسال ضابط ارتباط أو زورق بحري أو تعاون لوجستي.

لكن الدول الكبرى والمؤثرة التي كان يمكن لها أن تشكّل إحراجًا هي الدول المشاطئة للبحر الأحمر، إذ أن انضمامها للتحالف كان سيخلط الأوراق، لأن لها الحق في حماية البحر. ونلاحظ اليوم أنه لا وجود لهذه الدول. إنه تحالف غربي أمريكي بامتياز، تنظر له صنعاء على أنه وجد من أجل خدمة «إسرائيل»، وقد عزز موقف اليمن ولم يقلل منه.

هناك مخاوف أمريكية من أضرار اقتصادية، فصنعاء لم تستخدم الكثير من الأوراق بعد. هي تستطيع أن تنقل الحصار من غزة إلى شوارع مدن أوروبية وأمريكية، فهي لغاية الآن لم تمسّ إمدادات النفط العالمي، حيث يمرّ من باب المندب نحو ستة ملايين برميل نفط خام بشكل يومي، بالإضافة للبتروكيماويات وإمدادات الغاز بما يساوي 10% من إجمالي الإنتاج العالمي. هذه الأوراق قادرة على رفع أسعار النفط عالميًا، لكن صنعاء تثبت للعالم أنها حريصة على حماية الملاحة الدولية.

وبقدر ما تم التحشيد لهذا التحالف، لكنه أكد على تداعيات عملية طوفان الأقصى على المستوى العالمي، بأن القضية الفلسطينية عادت للواجهة، وهناك تفهم عالمي لعمليات صنعاء. 

كيف تنظر أنصار الله الآن إلى استخدام المسيرات والصواريخ ضد «إسرائيل»؟ هل لا تزال تفكر باستخدامها مجددًا وما هي مدى فعاليتها؟

القوات العسكرية اليمنية نفذت 12 عملية عسكرية على أم الرشراش، كان لها تأثير على قطاع السياحة نظرًا لأنها وجهة سياحية للكيان الصهيوني، وتضررت بشكل كبير. عمليات استهداف جنوب الكيان لا تزال في قائمة الحركة، ولم تتراجع، لكن هناك تحضيرات لعملية كبرى قد تكون استهداف ما بعد إيلات، واستهداف قواعد أمريكية في المنطقة.

القيادات اليمنية التي تتواطئ إلى جانب الإسرائيلي والأمريكي في طوفان الأقصى وضد الشعب الفلسطيني تجد نفسها وحيدة. وأي اعتداء على اليمن سيضاعف مستوى الإجماع الوطني ضد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

أنصار الله تملك قدرات صاروخية كبيرة، واستطاعت خلال السنوات الماضية أن تطور هذه الصواريخ. لا نقول أنها قامت بتصنيعها 100%، لكن تم تطويرها. البعض يعود لخمسينيات وستينيات القرن الماضي وتم تزويده برؤوس حربية وتشغيلها بالوقود الصلب.

أما المسيرات، ففي عملية واحدة من عمليات استهداف أم الرشراش، كانت تستخدم من خمس إلى ثماني طائرات مسيرة بعيدة المدى. هذه الطائرات أصبحت تصنع بشكل يومي، فهناك صناعة للطائرات المسيرة تصل في اليوم الواحد من 5 إلى 10 طائرات، وتتراوح كلفتها من ألف إلى ألفي دولار. وهناك اهتمام كبير بهذا الجانب، خاصة أنه أقل كلفة من الصواريخ الباليستية والمجنحة. وهناك تضامن شعبي كبير وصادق، يصل إلى أن يتبرع الناس وتبيع النساء مصاغهن من أجل التبرع للقوة الصاروخية، من أجل صناعة الطائرات المسيرة كي تصل إلى «إسرائيل».

أعتقد أن العمليات لا يمكن أن تتوقف إلا بوقف الحرب على غزة وإدخال كافة المساعدات لسكان شمال القطاع قبل جنوبه.

بالنظر للإجماع اليمني بشأن الموقف من فلسطين، ذهبت بعض التحليلات إلى أن انخراط أنصار الله في الحرب قد يفتح أبوابًا لمصالحة داخلية أو يدفع معارضيها لإعادة النظر في موقفهم. لكن في الأسابيع الأخيرة بات خصوم أنصار الله أكثر صراحة في التعبير عن معارضتهم للخطوات في البحر الأحمر. كيف تنعكس القضية على الشأن الداخلي اليمني وهل تتجه الولايات المتحدة لتوظيف هذا الخلاف؟

تم بالفعل توظيف الأطراف الأخرى المعادية لحركة أنصار الله منذ اللحظة الأولى في 10 تشرين الأول، حيث استدعت القيادة الأمريكية في البحرين رئيس الأركان العامة في قوات الطرف الآخر، وتم عقد لقاءات والحديث بأنه في حال قامت أنصار الله باستهداف «إسرائيل» فعليكم تصعيد الجبهات الداخلية الموجودة ضد أنصار الله. وتم توحيد بعض الفصائل التابعة للإمارات والسعودية، ولوّحت أنصار الله إنها مستعدة لاستهداف آبار النفط في هذه الدول إذا لعبت دورًا في هذا الجانب. لكن مع ذلك، فإنه في داخل المحافظات التابعة لتلك القوات هناك معارضة لها، واستقبلت صنعاء المئات من الضباط والجنود في تلك القوات الذين أعلنوا تمردهم على تلك القيادة العسكرية بسبب موقفها من «إسرائيل»، وباعتبارها لا تمثل الشعب اليمني، وأولئك دعوا زملاءهم في مختلف التشكيلات العسكرية لعدم الانجرار للدعوات التي تريد منهم أن يكون حراسًا لـ«إسرائيل».

أي قضية بشأن حماية «إسرائيل» في اليمن تثير جدلًا كبيرًا في الشارع، والقيادات التي تتواطئ إلى جانب الإسرائيلي والأمريكي في طوفان الأقصى وضد الشعب الفلسطيني تجد نفسها وحيدة. حتى الآن الضغوط الدولية مستمرة والتهديدات مستمرة، والقرار اليمني سينفذ، حتى ونحن نتوقع عمليات عسكرية. وأي اعتداء على اليمن سيضاعف مستوى الإجماع الوطني ضد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%88%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%b9%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%af%d9%88%d8%a7%d9%86-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%8a%d9%85%d9%86/feed/ 0
«أين الضفة؟» سؤال أزمنة الحروب الغزية https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b6%d9%81%d8%a9%d8%9f-%d8%b3%d8%a4%d8%a7%d9%84-%d8%a3%d8%b2%d9%85%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%88%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b2%d9%8a%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b6%d9%81%d8%a9%d8%9f-%d8%b3%d8%a4%d8%a7%d9%84-%d8%a3%d8%b2%d9%85%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%88%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b2%d9%8a%d8%a9/#respond Thu, 11 Jan 2024 11:07:11 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=89027 مساء الأربعاء، الثاني من كانون الثاني 2024، تقصف طائرة إسرائيلية هدفًا في الضاحية الجنوبية من بيروت؛ تبيّن سريعًا أنّه الشيخ صالح العاروري، نائب رئيس حركة حماس ورئيس إقليم الضفة الغربية بالحركة، وبرفقته قيادات وكوادر من كتائب القسام في لبنان.

جاءت عملية الاغتيال الإسرائيلية، التي تتسم بقدر عالٍ من المخاطرة، بالنظر إلى الشخصية المُستهدفة ومكان الاستهداف، قبل أن ينتهي الشهر الثالث من الحرب على غزّة. لكنها وبقدر ما جاءت في سياق هذه الحرب، وتنفيذًا لتهديدات إسرائيلية باغتيال قيادات حماس في كلّ مكان، فإنّ الموقع الأهمّ للهدف هو مسؤوليته عن إقليم الضفة الغربية في حركة حماس، وهو ما يعني أن العملية تندرج، بالإضافة للحرب الجارية، في سياق تصفية الحساب مع المقاومة في الضفة الغربية وملاحقة القيادات والكوادر المسؤولة عن تطويرها.

كان عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية، منذ السابع من أكتوبر 2023، وحتى نهاية الأسبوع الأوّل من عام 2024، قد بلغ 350 شهيدًا، (هذا دون الإشارة إلى المعتقلين الجدد الذين تفيد الإحصائيات باقترابهم من الستة آلاف في هذه الفترة الوجيزة، وشلّ حركة الفلسطينيين وعزل المناطق عن بعضها بتفعيل الحواجز والبوابات الحديدية وإنشاء بوابات جديدة؛ في صورة من صور «كيّ الوعي» التي اجترحها الاحتلال في الانتفاضة الثانية).

بالمقارنة مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي مثّلت الحالة الشعبية الأكثر سعة وكثافة من حيث قدرتها على استثمار أعداد الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة في مشهدية كفاحية واحدة؛ فإن أعلى عدد للشهداء فيها بلغ 389 شهيدًا في كامل العام 1988، ثمّ تلاه العام 1989، بـ285 شهيدًا، وذلك في كلّ من الضفّة الغربية وقطاع غزّة والداخل المحتلّ عام 1948، وهو ما يعني أنّ عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفّة الغربية وحدها في أقلّ من ثلاثة شهور؛ يقترب من عدد الشهداء في أكثر سنوات الانتفاضة الأولى ملحمية وأشدّها بأسًا، ويزيد على عددهم في أيّ من سنة أخرى، فقد كان العام 1993 الأعلى بعد ذلك في عدد شهداء الانتفاضة الأولى، إذ بلغ عدد الشهداء فيه 154 شهيدًا في الضفّة الغربية وقطاع غزّة والداخل المحتلّ.

عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفّة الغربية وحدها في أقلّ من ثلاثة شهور على بدء طوفان الأقصى؛ يقترب من عدد الشهداء في أكثر سنوات الانتفاضة الأولى ملحمية وبأسًا، ويزيد على عددهم في أيّ من سنواتها الأخرى.

لا يعني ذلك، بمؤشّر أعداد الشهداء، أن المشهدية في الضفة الغربية اليوم تزيد في كثافتها وسعتها عمّا كانت عليه في الانتفاضة الأولى، فحتى الانتفاضة الثانية من حيث الانخراط الشعبيّ العام كانت أقلّ سعة وكثافة، رغم كونها أكثر عنفًا وقوّة، وذلك لأنّها تحوّلت سريعًا إلى انتفاضة مسلحة، مما يعني قيامها على أكتاف أعداد من منتسبي الفصائل، إذ لا يمكن استيعاب عامّة الجماهير في القتال المسلّح، ولكن امتياز عمليات الانتفاضة الثانية، وعددها المرتفع، ثمّ إجراءات الاحتلال التي مسّت عموم السكّان بإغلاق المناطق واجتياح المدن، وفّر لتلك الانتفاضة السمات التي عُدّت بها انتفاضة ثانية.

إلا أنّ أيّ قراءة للحالة الكفاحية بالضفّة الغربية لا ينبغي لها أن تقفز عن هذا العدد المرتفع من الشهداء فيها، الذي سوف تُلاحَظ دلالته بالضرورة، لو كان في سياق غير الحرب العدوانية على غزّة، التي حتمًا ستتلاشى في جنبها أيّة أحداث بالضفة. فبعض الأحداث السابقة في الضفة الغربية والقدس، وصفها كثيرون بكونها انتفاضة، كـ«هبّة القدس» أو «انتفاضة السكاكين» (تشرين الأول 2015- تشرين الأول 2016)، وذلك في حين أنّ عدد الشهداء فيها في العام المذكور بتمامه بلغ 251 شهيدًا، أي أقلّ من عددهم في الضفّة في أقلّ من ثلاثة شهور منذ السابع من أكتوبر، وبينما انطلقت من الضفة الغربية سلسلة من العمليات النوعية في العام 2022، وهو عام أيضًا تساءل مراقبون بخصوص إن كان ما يجري فيه انتفاضة أم لا، فإنّ عدد شهداء الضفّة الغربية فيه بكامله بلغ 171 شهيدًا.

رغم حماسة المراقبين والسياسيين التي تدفعهم أحيانًا لوصف الأحداث في الضفّة الغربية بالانتفاضة، فإنّ السؤال الحائر عن الضفّة الغربية، الذي يأخذ أحيانًا صيغًا تقريعية، أو يتورط في التنميط والانطباع، ما يلبث أن يعود، حينما تصبح الضفّة الغربية في وضع من المقارنة مع قطاع غزّة ساعة المواجهة في غزّة، وهو ما من شأنه أن يكون أشد إلحاحًا مع الهول الملحمي الجاري في غزّة من بعد السابع من أكتوبر، وهو هول له صورتان، البطولة المدهشة، والفجيعة غير المسبوقة.

إنّ تفكيك الانطباعية العاجزة عن فهم الأحداث في أطرها التأسيسية، ثمّ الكشف عن تلك الأطر، لا يعني الرضا عن مستويات الفعل النضالي في الضفة الغربيّة، فهي أقلّ ممّا ينبغي أن تكون عليه أصالة، فكيف والحدث اليوم في غزّة بهذا النحو المغني عن أيّ وصف؟ بيد أنّ استنهاض الساحات، وقطع الطريق على الشعور براحة الضمير على أيّ فلسطيني كان، يجب أن يتأسس على فهم صحيح، يُلاحظ الممارسة النضالية في ضوء شروطها الموضوعية، ويزاحم الخطابات الانفعالية، فالانفعال المُستعجَل لا يطال ساحة الضفّة الغربية وحدها حينما تَقصر الحالة فيها عن مشهد الحرب في غزّة، ولكنّه طال ساحة غزّة في أوقات سابقة انشغل فيها متحدثون في الشأن العام بهجاء المقاومة في غزّة، لاسيما حماس، في فترات الهدوء، مفضّلين عليها نموذج «العمليات الفردية» بالضفّة عادين إياه النموذج الأفضل والأنسب للمقاومة في فلسطين، ولم تكن أمثال هذه الخطابات صادرة دائمًا عن خصوم حماس، ولكن الاستعجال الانطباعي والقصور المعرفي ومحدودية أدوات التفسير يحول دون الفهم الصحيح.

الخطأ في فهم أوضاع الضفة الغربية، ثمّ في تقييم الفعل النضالي فيها، ناجم عن الانطباعية المتورّطة في المقارنة، إمّا مع الانتفاضات السابقة، أو مع بنية المقاومة في غزة، دون الالتفات للفروق الموضوعية في التاريخ أو في الجغرافيا.

يتضح أن الخطأ في فهم أوضاع الضفة الغربيّة، ثمّ في تقييم الفعل النضالي فيها، ثمّ في استكشاف الخلل والإشارة إليه بدقة، ناجم عن الانطباعية المتورّطة في المقارنة، إمّا مع الانتفاضات السابقة، أو مع بنية المقاومة في غزة، دون الالتفات حتى لأدنى الفروق الموضوعية في التاريخ أو في الجغرافيا، ودون اعتبار للشروط الموضوعية التي من شأنها أن تمنح الفعل النضالي نوعه وحجمه وعمره.

بات مصطلح الانتفاضة، من بعد الانتفاضة الأولى، يحيل إلى حدث نضالي يتسم بعناصر: السعة، والكثافة، والقدرة على دمج الجماهير، والاستمرارية، وقد توفّر ذلك في الانتفاضة الأولى وبنحو ممتاز، إذ سهّلت الشروط الموضوعية حينها من إمكانية اتساع الأدوات النضالية وتنوّعها، ليتاح لأيّ فلسطيني المساهمة فيها مهما كان جنسه أو عمره أو كانت مهنته، وذلك بسبب الوجود الفيزيائي للاحتلال المنغمس بين تجمعات الفلسطينيين، لاضطرار الاحتلال لإدارة تلك التجمّعات بواسطة ما يسمّى الإدارة المدنية.

كانت الانتفاضة الأولى عصيانًا مدنيًّا شاملًا وواسعًا، وهذا هو التوصيف الأدق لطبيعتها، ومن ثمّ صار الإضراب التجاري أداة نضاليّة فعّالة ودالّة، ولأنّ الاحتلال موجود بالجيش والشرطة وحرس الحدود في قلب التجمعات السكانية الكبرى، كانت فرصة الاشتباك الشعبي معه برمي الحجارة والمولوتوف وإشعال الإطارات ونصب المتاريس متوفرة على مدار الوقت، وبحكم اللحظة الزمنية والسياسية، فقد كان رفع العلم الفلسطيني والكتابة على الجدران وتوزيع البيانات والاستعراض باللثام والسلاح الأبيض أدوات نضالية بامتياز، يمكن لأيّ فلسطيني المساهمة فيها.

فُقِدت السمات تلك كلّها مرّة واحدة مع تأسيس السلطة الفلسطينية، لسبب جوهري، وهو إعادة انتشار قوّات الاحتلال وفق اتفاقية أوسلو خارج مراكز التجمعات السكنية الفلسطينية، ليخلّص الاحتلال نفسه من انغماسه بين الفلسطينيين، مع بقائه في معسكراته ومستوطناته وعلى الحواجز وفي الطرق الالتفافية، ومن ثمّ عدمت إمكانية الاشتباك اليومي معه، وصار الزحف للاشتباك معه على الحواجز ومداخل المستوطنات والمعسكرات، عملية مستنزفة للجماهير وغير قابلة للاستمرارية.

بالتأكيد فقد الإضراب قيمته بوصفه عصيانًا مدنيًّا مع وجود إدارة فلسطينية ذاتية، ولم تعد فرصة الاشتباك اليومي مع قوات الاحتلال قائمة، ولذلك سريعًا ما تحوّلت الانتفاضة الثانية من هذا النمط من المظاهرات إلى انتفاضة مسلّحة، لتوفّر الشروط الموضوعية لذلك حينها، وأهمّها سياسة الرئيس الراحل ياسر عرفات حيث التحقت قطاعات من الأجهزة الأمنية وحركة فتح بالانتفاضة، وتمكّنت بذلك فصائل المقاومة من استعادة عافيتها، بعدما كانت السلطة بقيادة عرفات نفسها قد فككتها وأضعفتها قبل ذلك، وأما الاشتباك مع قوات الاحتلال برمي الحجارة؛ في القرى والمدن حين اقتحامها، أو على مداخل الطرق الالتفافية فلم ينقطع، بيد أنّ تغطيته إعلاميًّا متعذّرة، فضلاً عن أنّه ليس حدثًا مفتوحًا ومستمرًّا، ولكنه مرتبط باقتحامات الاحتلال الخاطفة، أو بمحاولة استدعائه للاشتباك معه في محاولات قد لا تكون مجدية، وهو أمر حاصل مع التحوّلات المتصاعدة للمقاومة بالضفّة في السنوات الأخيرة، بما في ذلك شهور الحرب الجارية الآن.

إنّ الشرط الموضوعي الأهمّ في الانتفاضة الأولى تمثّل بعدم وجود سلطة ذاتية مما فسح للجماهير النضال بأدوات واسعة التنوّع، بينما كان الشرط الموضوعي الأهمّ في الانتفاضة الثانية هو تراجع إرادة تلك السلطة عن منع الجماهير من الاصطدام بالاحتلال، وهو ما أخرج الحدث عن قدرتها على ضبطه والسيطرة عليه.

بيد أنّ ثمة شرطًا آخر مشتركًا، متصلًا بذلك الشرط الذاتي، وهو وجود التنظيم. إذ إنّ الجماهير لا يمكنها الاستمرار بفعل نضاليّ مفتوح بذات السويّة من الحشد والكثافة والزخم والاستمرارية. فحتى لو سبقت حركة الجماهير التنظيمات فإنّ حركتها الانفعالية محكوم عليها بالانحسار لاستحالة أن تُطبِق الجموع على رؤية واحدة للفعل، وإرادة واحدة للتضحيات، وقدرة واحدة على الاستمرار. فالتنظير للعمليات الفردية بديلًا عن التنظيمات، لم يكن يلاحظ استحالة استمرار العمل الفردي بالزخم المؤثّر، وأنّه لا يخضع لأجندة قصدية تفعل في الوقت المطلوب سياسيًّا، بل قد يتأخر، ويأتي في أوقات غير متوقعة، ثم على أهميته في التثوير، سيبقى مائلاً للانحسار، أو بطيء التأثير، ما لم تلتقطه إرادة منظّمة واعية، ويمكن ملاحظة ذلك بـ«هبّة القدس» التي بدأت مطلع تشرين أول 2015 في نوع من الاستجابة لحرب «العصف المأكول» في غزة من الثامن من تموز إلى 26 آب 2014، أي كانت «هبة القدس» بعد أكثر من سنة على تلك الحرب، وكذلك العمليات النوعية من الضفة التي بدأت في أواخر شهر آذار 2022، أي بعد تسعة شهور من انتهاء معركة سيف القدس.

يمكن اختصار العوامل الكابحة لتعاظم الحالة الكفاحية في الضفّة الغربية، بالإطباق الأمني للاحتلال على الضفّة بما يتبعه من تحفّز أمنيّ عال وجهد استنزافيّ لا ينقطع، بالإضافة إلى سياسات السلطة المناوئة للمقاومة والمندفعة نحو إعادة هندسة الناس، وإضعاف التنظيمات والفصائل.

إنّ عامليْ التنظيم والسلطة المحلّية، فاعلان في الكشف عن التباين في الظروف الموضوعية بين الضفة الغربية وقطاع غزّة، فبينما تمكنت المقاومة في غزّة من إعادة بناء نفسها في الانتفاضة الثانية (بداية من أواخر العام 2000)، بعد سنوات من التفكيك على يد السلطة (1994-2000)، ثمّ تطوير قدراتها وتعظيمها تأسيسًا على انسحاب الاحتلال 2005، وما يسمى الانقسام 2007، فإنّ النتائج في الضفة الغربية كانت على الضدّ تمامًا، فقد أعاد الاحتلال في عملية «السور الواقي» (29 آذار إلى 10 أيار 2002) اجتياح مناطق (أ) بالضفة مما أفضى إلى تفكيك بنى المقاومة التي نشأت في ظروف الانتفاضة الثانية، ثم انعكس ما يسمى بالانقسام في الضفّة تجريفًا لمجمل الحالة النضالية، وإغلاقًا لمجالات العمل العامّ، وتدميرًا ممنهجًا لبنى فصائل المقاومة.

دفع النظام الدولي، بالتضافر مع النظام العربي والاحتلال، نحو إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، بعد ما يسمى بالانقسام، فعقد لأجل ذلك مؤتمر «أنابوليس» في تشرين الثاني 2007، لتوفير الإطار السياسي لعمل السلطة الفلسطينية، ليكون قاعدة لإعادة التأهيل الأمني، وهو الأمر الذي جعل العداء لحماس عنوانًا لنشاط السلطة وقدّمه على الصراع مع الاحتلال، أي صار العداء لحماس قضيّة السلطة شبه الوحيدة التي حاولت في الوقت نفسه جعله قضيّة حركة فتح، وهو ما مثّل مرتكزًا لتجريف المجال العامّ، لا بملاحقة العمل المقاوم فحسب، ولكن أيضًا بسياسات إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بأدوات اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية، فإن ظلّت حركة كحماس مستنزفة وملاحقة في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الأولى لكون الاحتلال لم يخرج من الضفّة، وتاليًا على يد السلطة، فإن حالة المقاومة برمّتها لوحقت ملاحقة مزدوجة من بعد العام 2007، ليبقى المجتمع مُلاحقًا كذلك بسياسات إعادة الهندسة تلك منذ ذلك التاريخ، وهي سياسات لا بدّ وأنّها عمّقت من تأثيرها في المجتمع بما يجعل من إمكان تجاوزها وإزاحة آثارها بطيئًا.

لقد انتهت انتفاضة الأقصى ثمّ ما يُسمى بالانقسام إلى ظروف سياسية وأمنية واقتصادية متباينة تمامًا بين كلّ من الضفّة وغزّة، وفي حين أدارت غزّة سلطةٌ مقاومةٌ توفّر كلّ الظروف المناسبة لمراكمة بنى المقاومة، أدارت الضفةَ، وفي ظلّ الاحتلال الموجود والقائم، سلطةٌ مناوئة للمقاومة، وبينما أفضى ذلك في غزّة إلى وجود التنظيم القادر على البناء وتوسيع دوائر الانتساب والاستثمار في العنصر البشري، كانت التنظيمات تُسحق في الضفة، مما يعني أنّ الفرق في الإدارات والتنظيمات، أكثر منه في المجتمع نفسه، دون إنكار نتائج سياسات هندسة المجتمع، ولكنها في المحصّلة سياسات مفروضة على المجتمع من السلطة.

وإذًا يمكن اختصار العوامل الكابحة لتعاظم الحالة الكفاحية في الضفّة الغربية، بالإطباق الأمني للاحتلال على الضفّة الغربية بما يتبعه من تحفّز أمنيّ عال وجهد استنزافيّ لا ينقطع؛ يضيّق إمكانات التنظيم ومضاعفة الكادر البشري فيه ويحصر العاملين فيه بأعداد محدودة مرصودة وقابلة للاستنزاف ويحول دون المراكمة العملية على الفعل الواحد (مثلاً منفّذ أيّ عمليّة على طريق التفافي يُكتشف فورًا لوفرة أدوات الضبط والسيطرة والمراقبة، فإمّا أن يُستشهد أو يُعتقل فورًا، أو تجري مطاردته بما يشلّ حركته وبحيث يصبح الوصول إليه مسألة وقت، وهو ما يُثقل حسابات المقاومين الذين يرجون فرصة للبناء والمراكمة لا لفعل لمرّة واحدة فقط)، وأمّا بقية العوامل فهي سياسات السلطة المناوئة للمقاومة والمندفعة نحو إعادة هندسة الناس، وضعف التنظيمات والفصائل.

ولا يُغيّر من حقيقة ما سلف، ما يمكن رصده من ظواهر اجتماعية مُناقضة للوعي بالاحتلال وخطره، ولا تنمّ عن إحساس بالمسؤوليّة إزاء ذلك، كسلاح العائلات في الضفّة الغربية، والسلاح الاستعراضي الممتنع عن المواجهة، والأنماط الاقتصادية المتنكّرة لواقعة الاحتلال، فهي نتائج السياسات السلطوية الفوقية التي تستثمر في البنية التحتية وتناقضات المجتمع الأهلي، وتغلق المجال العامّ أمام خصوم خطّها السياسي، وهي مظاهر واجهت سلطة المقاومة في غزّة كسلاح العائلات الذي اضطرت لمعالجته بصرامة واضحة، ويُذكّر بسياسات السلطة في غزّة بعد تأسيسها وإلى حين الانتفاضة الثانية حينما شلّت العمل المقاوم وعملت على إعادة تكييف المجتمع مع رؤيتها ونهجها ودفعت الفصائل نحو الضمور وعجز الفاعلية.

وإذًا فالهبّات المتجددة في الضفة الغربية منذ العام 2014، وبعناصرها العفوية والتنظيمية، هي تمرد لا على الاحتلال فحسب، بل على مجمل الحالة السياسية والأمنية والاقتصادية القائمة، وهي في حجمها أكبر مما كانت عليه الحالة الكفاحية في سنوات السلطة الفلسطينية الأولى في كامل مجال السلطة في الضفّة وغزّة (1994 – 2000).

كذلك يمكن ملاحظة النجاحات النسبية للفصائل، في بناء تشكيلات مسلّحة في بعض مناطق الضفّة، ومنها مناطق غير متوقعة، كمخيم عقبة جبر في أريحا، فالارتقاء اليومي للشهداء بالضفّة يأتي؛ إمّا في مواجهة هذه التشكيلات لاقتحامات الاحتلال، أو في المواجهات الشعبية أثناء تلك الاقتحامات أيضًا.

هنا؛ يمكن التنويه مجددًا للشيخ صالح العاروري، المُتهم من الاحتلال بمحاولات إدخال السلاح إلى الضفّة، وبناء تشكيلات عابرة للفصائل كـ«عرين الأسود» لتخفيف استهداف السلطة لها بنزع العنوان الحزبي الصارخ عنها، ونجاحات حركة الجهاد الإسلامي في مخيم جنين، بالإضافة إلى بؤر المقاومة في أماكن أخرى، كمخيم نور شمس بطولكرم، وبلاطة بنابلس، وباستمرار تتكشف بؤر جديدة مع اقتحامات الاحتلال لمناطق الضفة، فهذه نجاحات مُلاحظة، وإن جرى تفكيك بعضها، في حين لم يتمدّد بعضها الآخر نحو آفاق أكثر فاعلية وقابلية للتطوّر مما جعلها عرضة استنزاف مستمرّ من الاحتلال، ومن غير المُستبعد أن يكون من أهداف الاحتلال من عملية بيروت ضرب الجهد الذي يحاول تعزيز المقاومة بالضفة، باغتيال قائدين كبيرين في القسام كانا مع الشيخ صالح، عزام الأقرع وسمير فندي.

لا يعني ذلك الرضا بالواقع، فالتفسير يسعى إلى فهم هذا الواقع لا إلى تسويغه، بل يسعى إلى التأكيد على رفضه بالكشف عن العوامل الخطيرة المُنتجة له، وكذلك يسعى التفسير إلى فهم العوامل المؤثّرة في حركة الجماهير، وذلك كلّه لتجاوز الكوابح المعيقة، ولتعديل الخطاب العامّ بتوجيه الاتهام إلى الأسباب الحقيقية، وهي في هذه الحالة، سياسات السلطة، وضعف التنظيمات التي لم تتمكن من إعادة بناء نفسها بالقدر الكافي، ولا من الوصول المناسب إلى الأجيال الجديدة التي نشأت متأثرة بدعاية المقاومة دون أن تجد الأطر التنظيمية القادرة على استيعابها وتوجيهها.

وإذا كان ضعف التنظيمات ناجمًا عن سياسات الاستنزاف والملاحقة والإطباق الأمني، فإن تغيير الواقع بمواجهة تلك السياسات من مسؤولية التنظيم، فالقضية ليست رياضية بقدر ما هي جدلية، أي أن ضعف التنظيم لا ينبغي أن يكون نتيجة حتمية لقوّة السياسات القائمة، إذ هو مُطالب بإضعاف تلك السياسات واستنهاض الجماهير، لا انتظار حركة الجماهير العفوية لمحاولة استعادة العافية من داخلها، وطالما أنّ النجاح في ذلك ظلّ محدودًا، فالتنظيمات مطالبة بإعادة النظر النقدي في عملها أطرًا وخططًا وطرقًا، بما في ذلك حركة حماس.

وهنا يمكن الختام بمقولة لينين في ذيل كراسته «بم نبدأ؟»، التي كتبها في أيار 1901، إذ يقول: «لقد تحدثنا على الدوام عن التحضير الدائب، المنتظم، المنهاجي فقط؛ ولكننا لم نقصد البتة أن نقول بهذا إنه ليس من الممكن أن يسقط الحكم المطلق إلا من جراء حصار محكم أو هجوم منظم. إن هذه النظرة هي نظرة عقائدية جامدة غبية. فالأمر بالعكس. فمن الممكن تمامًا ومن المحتمل أكثر بكثير تاريخيًّا أن يسقط الحكم المطلق تحت ضغط أحد هذه الانفجارات العفوية أو التعقيدات السياسية غير المتوقعة التي تتهدده على الدوام من جميع الجهات. ولكن حزبًا سياسيًّا واحدًا لا يسعه، إن لم ينزلق إلى المغامرة، أن يبني نشاطه على أمل حدوث هذه الانفجارات والتعقيدات. يجب علينا أن نسير في طريقنا، وأن نقوم باستقامة بعملنا المنتظم؛ وبقدر ما يقل اعتمادنا على المفاجآت، بقدر ما تزداد الاحتمالات بألاّ تباغتنا «الانعطافات التاريخية» أيًّا كانت».

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a3%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b6%d9%81%d8%a9%d8%9f-%d8%b3%d8%a4%d8%a7%d9%84-%d8%a3%d8%b2%d9%85%d9%86%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d9%88%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%b2%d9%8a%d8%a9/feed/ 0
تركة مسمومة: مخلفات الولايات المتحدة في أفغانستان https://www.7iber.com/environment-urban/%d9%85%d8%ae%d9%84%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%84%d8%a7%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d8%ad%d8%af%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d9%81%d8%ba%d8%a7%d9%86%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d9%86/ https://www.7iber.com/environment-urban/%d9%85%d8%ae%d9%84%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%84%d8%a7%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d8%ad%d8%af%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d9%81%d8%ba%d8%a7%d9%86%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d9%86/#respond Tue, 09 Jan 2024 09:53:45 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=environment-urban&p=89011 (ترجمة لنسخة مختصرة من تحقيق صحفي نشر في موقع Inside Climate News، في 25 أيلول 2023)

تغط الطيور بين الأغصان المنخفضة المتدلية فوق الجداول المتلألئة على طول المسافة من جلال آباد متجهة جنوبًا نحو منطقة آشين في مقاطعة نانجرهار في أفغانستان. ثم يتغير المشهد الطبيعي، حيث تفسح الحقول الخضراء المجال للأرض القاحلة.

تقع آشين في الأعلى بين مرتفعات من الجبال الصخرية التي تصطف على طول الحدود مع باكستان، وهي منطقة أمطرت بالقصف الأمريكي منذ بداية الحرب. يصطف العمال على طول الطريق، مغبرين ببودرة التلك البيضاء التي حملوها معهم من الجبال. تلسع ريح رملية وجناتهم الجافة المشققة وهم يحمّلون الشاحنات الثقيلة بالقرب منهم. لا يتحرك شيء آخر في المشهد الطبيعي المبيض في هذه النواحي من آشين. لم يفارق هذه التضاريس القاسية لسنوات بحسب السكان المحليين، شبحُ خطرٍ مخفيٍ قاتلٍ: التلوث الكيماوي. 

ألقى الجيش الأمريكي عام 2017، أقوى قنبلة تقليدية استخدمت في المعارك هنا حتى اليوم: قنبلة الانفجار الهوائي الهائل «جي بي يو-43/ بي» (GBU-43/B Massive Ordnance Air Blast) والتي عرفت بـ«أم جميع القنابل»، أو «مواب» (MOAB). 

أخلي الجنود الأفغان والقوات الأمريكية الخاصة من المنطقة، قبل الغارة الجوية، وتبعهم قدرة والي وغيره من سكان أسد خيل. سمح لهم بعد مرور ثمانية أشهر على الانفجار الهائل، بالعودة أخيرًا إلى منازلهم، وسرعان ما بدأ الكثير من السكان ملاحظة أمراض غريبة وطفح جلدي، كما يقول والي. 

«أصاب المرض كافة السكان المقيمين في قرية أسد خيل بعد إسقاط تلك القنبلة»، يقول والي، المزارع البالغ 27 عامًا، وهو يرفع عن ساق سرواله الشلوار ليريني الأورام الحمراء المنتشرة على بطن ساقه «إنها تنتشر في كافة أنحاء جسدي». اكتشف والي وجيرانه عند العودة إلى قريتهم بأن أرضهم لم تعد تنتج محاصيل كما كانت في السابق. لقد أتلفت الأرض، كما يقول، بفعل محيط انفجار القنبلة، والذي وصل إلى مستوطنة شدل بازار التي تبعد ميلًا ونصف عنهم. 

«كنا نجني 150 كيلوغرامًا من القمح من أرضنا في السابق، وأما الآن فلا نجني حتى النصف»، كما يقول. «عدنا لأن منازلنا وحياتنا هنا، إلا أن الأرض ليست آمنة. فالنباتات مريضة، وكذلك نحن».

إن مخلفات القنبلة التي تجتاح القرية هي مجرد مثال لتركة الحرب من السموم البيئية. ربّى الأفغان أطفالهم لمدة عقدين، وذهبوا إلى العمل، وأنجبوا الأطفال بالقرب من القواعد العسكرية الأمريكية الشاسعة وحفر المحارق، وتبقى التأثيرات بعيدة الأمد لهذا التعرّض غير واضحة، إذ يحتاج التعامل مع تبعات هذا التلوث أجيال.

دمر الاحتلال العسكري الأمريكي الذي دام 20 عامًا البيئة الأفغانية بطرق قد لا يمكن تحريها أو معالجتها بالكامل أبدًا. استخدمت القوات العسكرية الأمريكية وحلفاؤها وأغلبهم من دول الناتو، مرارًا وتكرارًا ذخائر حربية قد تترك آثارًا سامة. أدخلت هذه الأسلحة المحملة بمواد مسرطنة معروفة تشوهات على الأجنة وسموم جينية -مواد سامة يمكن أن تسبب عيوب خلقية في الأجنة وتدمر الدي إن أي (DNA)- في البيئة بدون التعرض للمحاسبة.

أبلغ السكان المحليون منذ أمد بأن القواعد العسكرية الأمريكية أفرغت كميات هائلة من مياه الصرف الصحي والمخلفات الكيماوية والمواد السامة من قواعدها على الأرض وفي مجاري المياه، ملوثة الأراضي الزراعية والمياه الجوفية لمجتمعات برمتها تقيم بالقرب منها. كما أحرقوا النفايات وغيرها من المخلفات في محارق مكشوفة للهواء -أخبر البعض أنها بحجم ثلاثة ملاعب لكرة القدم- غمرت قرى بسحب دخانية ضارة.

قدرات والي مع اثنين من أبنائه في منزلهم في أسد خيل في منطقة آشين من مقاطعة نانجرهار.

ألقى الجيش الأمريكي منذ أولى ضرباته الجوية ما بعد 11 سبتمبر والتي استهدفت طالبان والقاعدة في 2001، وعبر انسحابها الفوضوي من البلاد بعد عقدين من الزمن، ما يربو على 85 ألف قنبلة على أفغانستان. احتوت أغلب هذه القنابل متفجرًا يدعى آر دي إكس، الذي يمكنه التأثير على الجهاز العصبي، ويعتبر مسرطنًا بشريًا محتملًا من جانب وكالة حماية البيئة الأمريكية. 

إن عزو أمراض محددة إلى تلوث الهواء والماء والتربة صعب جدًا في الكثير من الأحيان، إلا أن القرويين الذي عاشوا بالقرب من قواعد أمريكية رئيسية -والأطباء الأفغان وموظفو الصحة العامة الذين عالجوهم- يقولون إن عدم رغبة البنتاغون بتوظيف حتى الحد الأدنى من الحماية البيئية قد أدى إلى أمراض خطيرة في الكلى والشرايين والأمعاء والجلد، وتشوهات جينية وأنواع متعددة من السرطانات.

كان الرئيس الأمريكي جو بايدن، غير واضح في خطابه في حالة الاتحاد عام 2022، حول مثل هذه الإصابات، إلا فيما يخص قدامى المحاربين الأمريكيين، فتحدث أن «الدخان السام المحمل بالسموم ينتشر في الهواء إلى رئتي قواتنا». ودعا الكونغرس إلى تمرير قانون «يضمن حصول قدامى المحاربين المنكوبين من جراء التعرض للسموم في العراق وأفغانستان على فوائد الرعاية الصحية الشاملة التي يستحقونها في نهاية المطاف».

مرر الكونغرس بعد عدة شهور، قانونًا عرف باسم قانون الاتفاق، مضيفا 23 سمًا ناجمًا عن حفر المحارق والظروف الصحية التي تتعلق بالتعرض للسموم والتي يمكن للمحاربين القدامى الاستفادة منها، ومن بينها التهاب القصبات ومرض الانسداد الرئوي المزمن وتسعة أنواع مؤهلة جديدة من السرطانات التنفسية، بكلفة تزيد على 270 مليار دولار على مدار العقد القادم. وقد مثل القانون أضخم توسع في فوائد قدامى المحاربين خلال عقود. ولكن لم يتفوه بايدن ولا حتى الكونغرس ببنت شفة، أو يعد بأي مساعدة للأفغان الذين عاشوا بالقرب من تلك القواعد العسكرية الأمريكية أو عملوا فيها وما زالوا يعانون حتى اليوم من ذات الأمراض والسرطانات.

نهر يمر عبر مدينة جلال آباد

وصل الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان إلى ذروته عام 2011، بحوالي 110 آلاف مستخدم -أسهمت قوات الناتو بإضافة تصل إلى 20 ألف- مولدة قرابة 900 ألف باوند من النفايات يوميًا، أحرقت بدون ضوابط للتلوث، بحسب ضابط التفتيش الخاص لإعادة بناء أفغانستان (سيغار)، وهي وكالة رصد ورقابة أمريكية. لم تطبق القوانين الأفغانية التي تحظر حفر المحارق على القوات الأمريكية والقوات الدولية الأخرى، وأصر الجيش الأمريكي، بناءً على الجنود والسكان، على استخدام حفر المحارق حتى انسحابه في آب 2021، رغم الجهود الساعية للحد من استخدامها والتي بدأت عام 2009، ومن حظر للمحارق عام 2018 «باستثناء الظروف التي تنعدم فيها أساليب تخلص بديلة ومجدية». 

زرت صيف 2022 مواقع ثلاث من أضخم القواعد الأمريكية السابقة في أفغانستان -في مقاطعات نانجرهار وقندهار وبروان- لتوثيق ما خلفته أمريكا على الأرض. ما زالت القواعد الأمريكية الهائلة تحمل نسقًا من المخلفات السامة تقبع صامتة في مواجهة المشهد الطبيعي المهيب. سافرت عبر البلاد على مدار ستة أشهر، وتحدثت إلى 26 ممارسًا طبيًا و52 مقيمًا أفغانيًا يعيشون بالقرب من هذه القواعد، حول مشاكلهم الصحية التي يعتقدون أنها ناجمة مباشرة عن مخلفات القواعد الأمريكية. 

أخبرني المزارعون بأنهم شاهدوا المتعهدين العسكريين الأمريكيين يلقون بالصرف الصحي والنفايات في حقولهم. ووصف السكان كيف أنهم استحموا لسنوات في جداول سدت بمياه الصرف الصحي التي جرت من داخل أسوار القاعدة واستنشقوا سحب الملوثات السامة المتصاعدة من محارق الهواء الطلق. لقد شاهدت أطفالا يعتاشون من كنس الخردة من القواعد العسكرية ويعانون الآن من التهابات في العيون وأمراض جلدية مستعصية، بحسب الأطباء المعالجين. كما أخبرني أطباء محترفون بسنوات من الخبرة في معالجة أولئك المصابين، بما فيهم الأطباء العسكريون العاملون في القواعد الأمريكية والذين اعتنوا بالجنود الأفغان والأمريكيين، بالاستحالة القطعية لأن لا يكون حفر المحارق والنفايات قد ترك أثرًا على صحة كل من يعيش في محيط القاعدة، وما يزال الأثر قائمًا.

يخبئ والي في آشين في ننغارهار طفحه الجلدي وينحني فوق المنضدة في دكان صغير يبيع فيه الوجبات السريعة والمشروبات فوق جسر بالقرب من قرية موماند دارا، بينما يبقبق جدول بهدوء في الأسفل، «أعرف أن مرضي الجلدي ناجم عن القنبلة لأن مثل هذه الأمراض لم توجد من قبل» يقول محتدًا.

ينظر خارجًا نحو وادي موهماند الصامت أمامه. تموج الحقول مثقلة بالشجيرات والأشجار في أرضية الوادي. وعندما يضيق الوادي تلتحم التلال على الجانبين بالجبال، بينما تحدد سبين غار أو الجبال البيضاء الرائعة من بعيد الحدود بين أفغانستان وباكستان. يقع على مقربة مجمع كهوف تورا بورا، وقد بنيت للمجاهدين بمساعدة السي أي إيه، بعد الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979، وأصبحت معقلًا للقاعدة في أواخر التسعينيات. كما أنها كانت موقعًا لمحاولة الحكومة الفاشلة في القبض على أسامة بن لادن أو قتله في بداية الحرب الأمريكية على أفغانستان. 

أسقطت قنبلة مواب على بعد حوالي 550 ياردة من منزل والي الذي يبعد سبع دقائق مشيًا عن دكانه، هكذا يقول وهو يتقافز من حجر إلى حجر عبر غدير ضيق وهو يقود الطريق أمامنا.

تعادل قوة مواب التدميرية التي تحتوي 19 ألف باوند من مركب H6، وهو خليط قوي من متفجرات تي إن تي، و الآر دي إكس، والألمنيوم، والنيتروسيليولوز، تعادل أصغر أجهزة فترة الحرب الباردة النووية التكتيكية في الترسانة الحربية الأمريكية. وقد دفعت من مؤخرة طائرة شحن MC-130، وألقيت على مجمع كهوف يستخدمه مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية، كما روى القائد الأمريكي الأعلى في أفغانستان حينذاك. ودعى الرئيس دونالد ترامب، الذي وعد خلال حملته الانتخابية عام 2016 بأن يلاحق تنظيم الدولة الإسلامية و«يقصفهم قصفًا عنيفًا بالقنابل» هذه الضربة على أنها «مهمة أخرى ناجحة جدًا جدًا». وقد ادعى موظفو وزارة الدفاع الأفغان بمقتل 36 مسلحًا من تنظيم الدولة الإسلامية في الهجوم.

يظهر سكان قرية أسد خيل من مقاطعة آشين، حيث ألقيت قنبلة مواب عام 2017، الطفح الجلدي المتواصل والذي يعتقدون أنه ناجم عن القنبلة. 

كان يصعب رؤية آثار دمار القنبلة عندما عاد والي إلى منزله بعد عدة شهور، حيث لم يظهر انخساف واضح وهائل في الأرض؛ فقط بعض الحجارة المحطمة وبعض الأشجار المحروقة هي التي حددت موقع سقوط القنبلة. إلا أن منزله ما زال قائمًا، رغم أن الكثير من المنازل في أسد خيل لم تسلم، ويسكن الأنقاض الآن الماعز الشاردة. يعيش في القرية عشرة عائلات في منازل أعيد بناؤها، كما يقول والي. ويعاني جيرانه من ذات الطفح الجلدي الأحمر والحكة. «الجميع ما عدا اثنين أو ثلاثة في كل منزل يعانون من ذات الطفح الجلدي» كما يقول، والجميع يعتقد أن مرضهم الجلدي ناجم عن القنبلة».

تعاني والدته جانا (60 عامًا)؛ وزوجته نفيسة (20 عامًا)؛ وابنه مير حاتم (ثلاثة أعوام)، وقاسم (عامين) من ذات الحالة الجلدية. «مهما كان الدواء الذي يعطيه لنا الأطباء، فهو لا يحسن من الحالة» كما يقول والي. لم تكن هذه القنبلة الأولى التي تضرب هذه المنطقة، كما يقول، «إلا أن هذه كانت مختلفة».

يقع مطار جلال آباد الجوي إلى الجنوب الشرقي من المدينة. وكان معقلًا للجنود الأفغان والأمريكيين على مدار 20 عامًا. تحيط الأراضي الزراعية بأسواره الشرقية والجنوبية، وكذلك دكاكين الميكانيك والخردوات المكتظة بكل شيء، بدءًا من أقنعة الغاز إلى أدوات مطبوع عليها العلم الأمريكي، والمعدات الطبية، والتريد ميل، وبوستر في إطار لفيلم «المصفي». يوجد في أسفل الشارع مستودعات بداخلها سيارات همفي محطمة تنتظر تفكيكها إلى قطع للبيع. يقع إلى الشمال طريق جلال آباد توركهام السريع المؤدي إلى الحدود الباكستانية. تتدفق مياه الجداول التي تخرج من القاعدة العسكرية وتحت الطريق السريع عبر مجموعة من القرى التي يستخدم أهلها المياه للشرب والاستحمام.

«كانت المياه نقية جدا قبل قدوم الأمريكيين» يقول محمد أجمال، البالغ من العمر 36 عامًا، وهو يشير إلى جدول رمادي حليبي يتدفق من ثقب في السور العالي المحيط بالقاعدة. ملقيًا بظل عريض على المياه العكرة، يضيف قائلًا، «يعاني بعض سكان المنطقة من مشاكل في الكلى، بينما يعاني آخرون من من مشاكل تنفسية وجلدية. لست متأكدًا من كون هذه الأمراض ناجمة عن كيماويات الصواريخ في القاعدة أو عن المخلفات الملوثة التي يلقون بها في الجداول، كل شيء مسمم» كما يقول.

ربّى الأفغان أطفالهم لمدة عقدين، وذهبوا إلى العمل، وأنجبوا الأطفال بالقرب من القواعد العسكرية الأمريكية الشاسعة وحفر المحارق، وتبقى التأثيرات بعيدة الأمد لهذا التعرّض غير واضحة، إذ يحتاج التعامل مع تبعات هذا التلوث أجيال.

يقول الدكتور محمد نسيم شنواري، الذي عمل خلال 17 عامًا مضت من عيادته الصغيرة بالقرب من القاعدة، أن التلوث القادم من القاعدة هو المسؤول عن المشاكل الصحية الأكثر شيوعًا التي ترده. لا يفصل بين عيادته وبين حفر المحارق سوى حقل صغير ناشف كان يشتعل مرة أسبوعيًا على الأقل. يقول، «تخيل الآن أنك تستنشق هذا طوال حياتك».

قدم السكان شكاوى بأن المتعهدين الذين عملوا من القاعدة كانوا يفرغون صهاريج النفايات أمام منازلهم وفي حقولهم، كما أخبرني الموظف السابق في وزارة الحدود وشؤون القبائل، سعدالله كاكار قبل أسابيع. يقول شينواري إنه حتى إخلاء الأمريكيين للقاعدة، كان المتعهدون يلقون بالفضلات «سرًا» في بعض الأماكن. «وفي أوقات أخرى، كانوا يلقون بها في الحقول هنا فحسب بجانب القاعدة. ولا يستطيع أحد إيقافهم».

وصف الطبيب كيف أنه في منطقة بيته في شينوار وجارتها آشين، لم ينمو إلا عدد قليل من النباتات في الأرض خلال السنوات الخمس التي تلت إسقاط قنبلة مواب. «اعتقد الناس بأن الأمريكيين قد رشوا كيماويات في الهواء أو أضافوا شيئا إلى مصادر المياه» كما يقول، «إلا أنها كانت قنبلة مواب».

أما بالنسبة لأجمال، فإن ممر المياه الملوث المتدفق من القاعدة ما هو إلا تذكار مستمر لأطول حروب أمريكا. «الآبار في بيوتنا ملوثة أيضًا» كما يقول مقطبا حاجبيه، «يحضرون كل أسبوع صهاريج المجاري من القاعدة ويفرغونها في الجدول والأراضي المحيطة. تصبح المياه داكنة جدًا ورائحتها قاتلة. يعاني الكثيرون هنا من مشاكل في الكلى، وإذا ما نظرت إلى الأشجار التي تنمو في النهر، تجدها تالفة أيضًا» يقول مشيرًا إلى صف من الأشجار على طول ضفة النهر، وهي نصف مغمورة في المياه العكرة.

تعتبر المياه الجوفية المصدر الرئيس لمياه الشرب في أفغانستان. وقد حدد تقرير نشر في المجلة العلمية الرصد والتقييم البيئي (Environmental Monitoring and Assessment) عام 2017، نوعية المياه لنصف البلاد، حيث وجد نسبة من المواد السمية بما فيها البورون، ومستويات عليا من الزرنيخ والفلوريد في عدد من المناطق. رغم أن بعض هذه المواد قد تحدث طبيعيًا، إلا أنها ترتبط أيضًا بالاستخدام الصناعي. وجدت دراسات أخرى حول نوعية المياه أديرت في مواقع مختارة من أفغانستان النيكل والزئبق والكروم واليورانيوم والرصاص، وهي معادن ثقيلة يمكن أن تسبب ضررًا خطيرًا على الجسم، بدءًا من تعطيل تطور الصحة العقلية والجسدية للأطفال وصولًا إلى تدمير الكلى. ثم هناك أيضا الصواريخ والقذائف، كما يقول أجمال، وهو يشير إلى جدران إسمنتية مدعمة بقوة لمطار جلال آباد وهي تلوح بالأفق فوق المنازل المنخفضة.

«يمكنك أن تشم الكيماويات. ونحن نستنشقها»، ويمسح طرف أنفه من الذكرى. لقد استخدم الجيش الأمريكي في أفغانستان نظام قذائفه المدفعية عالية الحركة، المعروفة باسم هيمارس، ونظام صواريخ الجيش التكتيكية، أو أتاكمس، وكلاهما أسلحة موجهة سطح-سطح.

تحتوي مجموعة واسعة من الصواريخ والقذائف على وقود بمكونات كارثية، بما فيها البيركلورات وهو المكون الرئيس لوقود الصواريخ والقذائف، والذي يؤثر على وظائف الغدة الدرقية وقد يسبب السرطان، ويقبع في البيئة إلى أجل غير مسمى. وقد اتهم الجيش الأمريكي باستخدام ذخائر اليورانيوم المنضب محتملة السمية في أفغانستان، كما جرى في العراق، رغم إنكاره لهذه الاتهامات.

أخطأت إحدى الأسلحة وضربت منزل أقارب يقيمون بالقرب من منزله، كما يقول أجمال، مدمرة بذلك كلا البيتين. كانت زوجته حاملًا بابنه، محمد طه حينذاك. والصبي قد بلغ العاشرة الآن، إلا أنه مريض منذ الولادة، ويعاني من طفح على جلدة رأسه يترك بقعًا صلعاء وحكة.

يعيش أجمال وإخوته الثلاث وعائلاتهم على بعد 160 يارد من المطار، في منطقة تسمى غالا جولجان. يعاني تسعة أفراد من عائلة أجمال الموسعة من مشاكل صحية خطيرة. حيث يعاني اثنين من أبنائه من مشاكل خلقية بالقلب، وتبين التقارير بوجود ثقب في القلب عند أحدهم. بينما تعاني ابنته سوما وعمرها 15 عامًا، من طفح جلدي مزمن ينتشر في ظهرها وصدرها وفخذيها.

هنالك على مسافة دقائق بالسيارة من منزل أجمال طريق واسع قذر يسير بمحاذاة طريق جلال آباد-طورخم السريع، بينما تقع الحقول المفتوحة على الجانب الآخر. وقد التقيت هنا بخان محمد وهو يسلك الطريق بحذر عبر حقل بمناظر طبيعية في المنطقة التاسعة من جلال آباد، وعلى مسافة 100 ياردة من القاعدة العسكرية. يتوقف محمد في ظل شجرة لوز صغيرة ويجلس وهو يطوي ساقية تحته. لقد كان يعمل في هذه الحقول مدة 20 عامًا ويتذكر كيف كانت صهاريج المتعهدين تنقل نوعين من الفضلات من القاعدة وتلقي بها حيث كان يزرع المحاصيل.«كان أحدها أخضر مزرق ويدمر المحاصيل، في حين كان الآخر مادة حليبية بيضاء-رمادية، برائحة كريهة مثل الأسيد». ويخبرني أنهم كانوا يلقون أحيانًا بمزيج من الاثنين.

خان محمد في حقله بالقرب من مطار جلال آباد مع ابنيه عمر إلى اليسار وأمين إلى اليمين، وكلاهما يعاني من مشاكل في الكلى.

كان السائل الأزرق الذي رآه محمد صبغة تستخدم في المراحيض المحمولة في القاعدة. يمكن أن تكون الكيماويات المستخدمة في هذه المراحيض سامة لصحة الإنسان بجرعات كبيرة. بحسب مقال لماثيو ناسوتي، وهو كابتن سابق في سلاح الجو الأمريكي ومرشد حول المنظفات البيئية، فإن الحمامات في القواعد الأمريكية تولد كل من المياه الرمادية والسوداء. حيث جاءت المياه الرمادية من المغاسل ومرشات الدوش، حاملة بقايا الصابون التي تحتوي على الفوسفات وغيرها من الكيماويات. بينما جاءت المياه السوداء الملوثة من المراحيض. في حين كان على الجيش الأمريكي الالتزام بقوانين صارمة فيما يتعلق بالتخلص من فضلات المراحيض على أرضه، إلا أنه بحسب قوله لم يواجه أي قيود في أفغانستان.

عندما واجه محمد وغيره من القرويين المتعهدون الذين يقودون الصهاريج، أخبروهم أن مياه المجاري سوف «تفيد المحاصيل وسوف تنتج حصادًا جيدًا، وذكروهم بأن المجاري أرخص من شراء السماد الكيماوي وهي جيدة كمياه للشرب أيضًا» بناءً على قوله.

وجد تقرير لنادي ومركز البيئة سييرا (Sierra Club and Ecology Center) عام 2021، بأن حتى رواسب مياه المجاري الموجودة في الأسمدة الأمريكية يمكن أن تحتوي على مجموعة ضارة من الكيماويات، بما فيها الديوكسينات والميكروبلاستيك والفيوران وثنائي الفينيل متعدد الكلور والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات ومستويات مريعة من مواد بفاس PFAS السامة -والتي تعرف أيضا بـ«المواد الكيميائية الأبدية»- والتي تحتاج إلى عقود وحتى قرون لتتحلل طبيعيًا.

ربطت الدراسات التعرض لمستويات عليا من بفاس (PFAS) بمجموعة من المشاكل الصحية، بما فيها تلف الكبد وأمراض القلب والشرايين وزيادة خطر الإصابة بسرطان الكلى وزيادة خطر أمراض الغدة الدرقية واختلال الجهاز المناعي. وقد أرست دراسة فيدرالية نشرت في تموز، للمرة الأولى ارتباطًا مباشرًا بين بفاس (PFAS) وبين سرطان الخصية لدى الآلاف ممن خدموا في الجيش الأمريكي. أما النساء الحوامل اللواتي تعرضن إلى بفاس (PFAS) فقد ازدادت لديهن أخطار الإصابة بارتفاع ضغط الدم والسكري. كما أن الأجنة في الرحم والرضع أيضًا يصابون بالضعف والوهن، حيث وجدت الدراسات أن بفاس (PFAS) قد تؤثر على وظيفة المشيمة وتتواجد في حليب الرضاعة. كما أن التعرض إلى بفاس (PFAS) قد ارتبط أيضًا بنقص أوزان الرضع وخلل في النمو بين الأطفال وازدياد خطر الإصابة بالأمراض مستقبلًا. وحتى لو أن مياه المجاري تمر من خلال تكرير معالج، إلا أن الأبحاث قد بينت أن بفاس (PFAS) وغيرها من الكيماويات السامة لا يمكن إزالتها. 

يفسر محمد وهو في منزله على طرف الحقل الذي يزرعه بأن ابنيه الأصغيرين يعانيان من أمراض خطيرة في الكلى. «لكننا لا نعرف شيئًا عن السبب المحدد للمرض، سواء أكان التلوث أم شيئًا آخر»، كما يقول، لكنه يشك بأمر مكبات الصرف الصحي. 

يخرج ابنه الأكبر فاروق من المنزل، والذي يعاني من مشاكل في المثانة، وهو يحمل رزمة من الأوراق والملفات تستريح بين ذراعيه النحيلتين. يفتش محمد في جبال من الوثائق؛ هناك 44 تقريرًا طبيًا لابنه عمر البالغ سبعة أعوام ويجثم عند قدميه.

يقول محمد إن عمر قد عانى من مشاكل في الكلى وهو في عامه الأول. أراجع التقارير: شخّص الأطباء في أفغانستان وباكستان حالته بالانصباب الجنبي (سوائل حول الرئتين)، استسقاء البطن (تراكم السوائل في البطن)، وأمراض الكبد والكلى المزمنين. أما شقيقه أمين البالغ خمسة أعوام، فهو يعاني من تلف الكلى، كما تظهر فحوصات الدم أنه يعاني من فقر الدم. يساعد الولدين والدهما في العمل في الأرض يوميًا إلى جانب والدة محمد، بيبي هارو (60 عامًا) والتي تريني بدورها حالتها الجلدية التي تعاني منها منذ ثماني سنوات. كانت حمراء وتنز قيحًا في البداية، ولكنها استقرت الآن في حكة دائمة.

راجع عمر الطبيب لمدة أربع سنوات، كما تقول جدته، «ما يزال يعاني من الألم الآن، إنه يعاني يوميًا». يرنو محمد إلى عمر وهو يستكين تحت ذراعه. «يخرج الدم عندما يسعل»، ويقول «الشيء الوحيد الذي أملكه هو جرار وقد بعته من أجل علاجه. ولكن يقول أن الأطباء في بيشاور الآن يحتاجون إلى خمسة ملايين روبية باكستانية (حوالي 16 ألف دولار) لاستبدال كليتيه، ولكني لا أملك هذا القدر من المال».

تخبرني بيبي هارو، ودموع الغضب تنهمر على وجهها، كيف بات شقيقها أصمًا نتيجة تحطم مسيرة درون أمريكية في الحقل بقرب منزله. «كانوا يطيرون على ارتفاع منخفض كل ليلة لإخافتنا ونحن نائمون»، كما تقول، «قصفوا نانجرهار لسنوات، وغطى دخانهم سماءنا، لقد لوثوا كل جزء من أفغانستان».

يفتقر الأطباء في أفغانستان للمصادر والمعدات لاستنتاج الأسباب الأولية للعديد من الأمراض التي يشاهدونها يوميُا. ويضيف نظام تناظري لحفظ السجلات إلى حد كبير المزيد من الأسى، حيث لا يحتوي النظام غالبُا على تفاصيل أساسية، مثل منطقة السكن والعمر. يخبرني طبيب أورام أفغاني عمل في نانجرهار لأكثر من 20 عامًا بأنه وغيره من الأطباء في المقاطعة يشاهدون العديد من حالات السرطان، أغلبها في الرئتين والبنكرياس، ويليها سرطان الثدي. ويقول إن معظم المرضى يذهبون إلى باكستان والهند للعلاج، لأنه لا يتوفر في أفغانستان علاج كيماوي والأدوية الأخرى لا تتوفر مباشرة. أغلب المرضى هم في المرحلة الثالثة أو الرابعة من السرطان، «لأنهم لا يحصلون على كشف دوري، لذلك لا نكتشف السرطان في وقت مبكر. لقد عالجت العديد من الجنود الذين يعانون من سرطان الرئة»، كما يقول. «هذه هي أفغانستان، فإذا مات الناس من السرطان، من سيسجل ذلك؟ لا أحد يعد الموتى. هذه هي المرة الأولى التي يأتي فيها أحد ويطرح مثل هذه الأسئلة».

يدعي الأطباء في قندهار أن المواد السامة من حفر المحارق قد أضرت بنمو الأجنة. في عيادة صغيرة في خشوب، وهي على بعد 100 يارد من مطار قندهار، تنشط الدكتورة سهيلة محمدي، 40 عامًا، عبر جمهرة من الأمهات والأطفال في غرفة الانتظار الصغيرة التابعة للعيادة. تخبرني حول التشوهات القلبية والاضطرابات الجينية وغيرها من العيوب الخلقية لدى الرضع الذين عاشت أمهاتهم بالقرب من القاعدة، وتقول إن مثل هذه الأمور لم توجد بمثل هذه الأعداد قبل 20 عامًا. «أعتقد أن أغلبها ناجم عن الحرب، وعندما كانت أمهاتهم حوامل»، كما تقول.

بات عدد العيوب الخلقية في كل ألف شخص في أفغانستان يزيد بأكثر من الضعف عن ذاك في الولايات المتحدة، بحسب بحث نشر عام 2017 من جانب رويال تروبيكال إنستيتيوت (Royal Tropical Institute) في هولندا. وتلحظ الورقة البحثية أن ازدياد تعرض الحوامل لكيماويات معينة قد يؤثر على نمو وتطور الأجنة ويسهم في تشوهات خلقية. وقد سجل احتمال ازدياد التشوهات الخلقية لدى النساء الأفغانيات العاملات في قطاعات الزراعة والمقيمات بالقرب من مواقع مكبات النفايات الكارثية.

بينما كانت تعمل دكتورة السموم البيئية، موزغان سافابياسفاهاني، في جامعة ميشغان، نشرت عددا من الدراسات عن العراق، حيث تمت دراسة العيوب الخلقية هناك بشكل أفضل من أفغانستان. وقد وجدت أن الرضع والأطفال تعرضوا لمعادن على قدر من السمية، مثل التنجستن والتيتانيوم والرصاص والزئبق والكادميوم والكروميوم والثوريوم واليورانيوم، التي استخدمت بشكل مكثف في الأسلحة والمعدات العسكرية. تقول «إن أكثر التشوهات والعيوب شيوعًا هي العيوب القلبية وعيوب الأنبوبة العصبية».

يخبرني عبد الوالي عبيد وهو مدير عيادة خوشاب لأكثر من عقد من الزمن، بأنه في الأسابيع التي سبقت مغادرة الأمريكيين للقاعدة، شاهدت هيئة العاملين دخانًا يتصاعد من حفر المحارق كل أسبوع. وقال مهندس يعمل داخل مطار قندهار خلال السنوات الثمانية الماضية إن الجيش الأمريكي أحرق قبيل مغادرته للقاعدة، الكثير من الأشياء «بما فيها السيارات». وكان هناك نهر في الجانب الخلفي من القاعدة يخرج من الجدار، «حيث كانوا يلقون بالمجاري حتى اللحظات الأخيرة».

بينما كان الأمريكيون في كابول يحزمون أمتعتهم في نهاية آب 2021، التقط عامل أفغاني في السفارة الأمريكية فيديو لأحد حفر المحارق التي استخدمها موظفو السفارة في قلب كابول. «قيل لنا أن نخرج كل شيء خارج المكاتب، ونذهب إلى تلك المنطقة المحددة ونلقي بها هناك حيث يتم إشعالها، وكان على قمة كومة الحريق صورة لجون سوبكو»، المفتش الأمريكي العام لإعادة إعمار أفغانستان.

]]>
https://www.7iber.com/environment-urban/%d9%85%d8%ae%d9%84%d9%81%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%88%d9%84%d8%a7%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%aa%d8%ad%d8%af%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d9%81%d8%ba%d8%a7%d9%86%d8%b3%d8%aa%d8%a7%d9%86/feed/ 0
إسماعيل شموط: أيقونة النكبة والرسم المقاوم https://www.7iber.com/culture/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%86%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d9%84-%d8%b4%d9%85%d9%88%d8%b7/ https://www.7iber.com/culture/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%86%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d9%84-%d8%b4%d9%85%d9%88%d8%b7/#respond Mon, 08 Jan 2024 05:17:30 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=culture&p=88979 أعادت الصور المفجعة للحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول إلى الأذهان اللوحات التي رسمها الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط (1930-2006) في حقبته المبكرة عن نكبة 1948، والتي جسد فيها المظاهر الأكثر قسوة للمأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني آنذاك، وكان أحد ضحاياها والشاهد عليها. وهو ما يفسر استعادة العديد من المنابر الثقافية العربية،[1] مؤخرًا، سيرة الفنان شموط وأعماله الشهيرة التي تحولت إلى أيقونات خالدة، مثل «إلى أين» و«سنعود»، و«ذكريات ونار»، وغيرها من الأعمال التي أنجزها في خمسينيات القرن الماضي.

ورغم تعاقب عدة أجيال من الفنانين والفنانات التشكيليات الفلسطينيات، والذين مثلوا مدارس واتجاهات عدة، حداثية وما بعد حداثية، على تناول موضوع النكبة بأساليب شتى، فقد احتفظ شموط، الذي عرف بأسلوبه الواقعي التعبيري وثراء ألوانه، بموقعه المميز باعتباره السليل المباشر لجيل الرواد من فناني فلسطين، والفنان الأبرز لمرحلة ما بعد حرب 1948 والنكبة، التي شتتت غالبية الشعب الفلسطيني وحولته إلى أفواج من اللاجئين.

طفولة اللد

ولد إسماعيل شموط في مدينة اللد، يوم الثاني من آذار 1930 لعائلة محافظة أميل إلى التدين، كان والده عبد القادر شموط تاجرًا متوسط الحال، يعمل في تجارة الفواكه والخضروات، وكان إسماعيل الولد الأوسط بين ثمانية أبناء وبنات.[2] شهدت طفولته المبكرة ذروة مقاومة الشعب الفلسطيني للسياسات البريطانية والأطماع الصهيونية، حيث التحق بالمدرسة الابتدائية سنة 1936، التي افتتحت أعنف ثورات فلسطين.

ورغم نزعة والد إسماعيل للتدين التي كانت تستهجن انخراط ابنه المولع بالرسم والموسيقى، بأي نوع من النشاط الذي يندرج في مجال «التشخيص»، إلا أن إسماعيل حظي بتشجيع مدرسيه على المضي في هوايته هذه. كان من حظ إسماعيل الطفل أنه تلقى رعاية واحد من الفنانين الفلسطينيين الرواد، وهو داود زلاطيمو، الذي كان يعلم الأطفال في مدرسة اللد الابتدائية الحكومية الرسم والأشغال اليدوية.[3]

تعلم إسماعيل شموط في سن مبكرة الرسم بالقلم الرصاص والحبر الصيني [الأسود] والألوان المائية والطباشيرية، كما مارس هواية النحت على حجارة «الحور» الكلسية اللينة. وحين بلغ 14 عامًا كان قد أتقن مبادئ المنظور والضوء والظل ورسم الطبيعة الصامتة والمشاهد الطبيعية والأشخاص، كما مارس الزخرفة. ويروي شموط كيف أثارت أعماله إعجاب السيد ستيوارت، مفتش الرسم والأشغال اليدوية في فلسطين الانتدابية، فاقترح إيفاده إلى مدرسة الصناعة في حيفا، المتخصصة في الرسم الصناعي والأشغال الفنية، لكن انفجار الأوضاع في فلسطين حال دون ذلك.[4]

يقول شموط إنه تعرف على الألوان الزيتية أثناء دراسته في مدرسة اللد، وشاهد أستاذه داوود زلاطيمو وهو يرسم لوحاته الزيتية التي جذبته إليها، لكنه لم يمارس الرسم الزيتي إلا في العام الذي سبق ترحيله عن اللد، أي عام 1947. ويروي أيضًا كيف استطاع التغلب على معارضة والده للرسم، وذلك حين أقنعه أن الرسم يمكن أن يكون مهنة مدرة للدخل. حيث أخذ يزين فساتين العرس بالأزهار والطيور بواسطة الألوان الزيتية، كما بدأ يمارس رسم المناظر الطبيعية والأشخاص بأسلوب أقرب إلى الكلاسيكية.[5]

تجربة التهجير

أدى قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني 1947، وما تلاه من انفجار حاد للصراع الدامي ما بين المقاومين الفلسطينيين والتشكيلات العسكرية الصهيونية، ومن ثم اندلاع الحرب العربية الإسرائيلية الأولى، إلى قلب حياة المجتمع الفلسطيني رأسًا على عقب. ففي يوم 13 تموز 1948 كان شموط يتلقى مع أسرته وسكان مدينتي اللد والرملة أوامر القوات الصهيونية بمغادرة مساكنهم والتجمع في الساحات العامة للمدينتين. ويروي كيف اكتظت ساحة «النواعير» في اللد بآلاف الناس، وقد أحاط الجنود الصهاينة بالجموع وأيديهم على زناد بنادقهم الرشاشة.

اعتقدت الجموع الخائفة أن معاناتهم مع هذا التجمع القسري لن تطول أكثر من ساعات، ظنًا منهم أن هذا التجمع يشبه عمليات القوات البريطانية التي كانت تخرج السكان من منازلهم وتجمعهم في الساحات أثناء التفتيش عن الثوار أو عن السلاح في هذه المنطقة أو تلك. إلا أن سكان اللد الذين جمعوا في الساحات العامة سرعان ما أجبروا على التحرك في طريق محدد يقطع شوارع المدينة وأسواقها إلى خارجها.[6]

«ذكريات ونار، زيتية، 1957.

شهد شموط بعينه برفقة عائلته كيف شكل الناس الهائمون على وجوههم نهرًا من البشر يعبر المدينة، بينما المسلحون الصهاينة يزجرون الناس ويسمعونهم بكلمات عربية مكسرة شتائم قذرة. ووسط الخوف والهلع وبكاء الأطفال والغبار والحر والعطش والجوع، كانت عيون النساء والأطفال تبحث عن أجوبة لأسئلة كثيرة تدور في أذهانهم دونما جواب.

«هنا كان أبي»، زيتية، 1957.

يروي شموط الذي كان قد بلغ 17 عامًا كيف حاول عند أطراف مدينة اللد حيث انتشرت البيارات والبساتين إحضارَ بعض الماء من بركة أحد البيارات، وعندما كاد ينجح في نقل وعاء ماء، اصطدم بسيارة جيب عسكرية، حيث أجبره العساكر اليهود ومن معه على إلقاء أوعيتهم ليعودوا إلى الركب الزاحف شرقًا دون ماء، وقد ترك هذا الحادث، في عز حر تموز أثره في ذاكرته وجسده في أعماله الفنية لاحقًا.[7]

استمرت مسيرة المهجرين من اللد والرملة حوالي خمسة عشر ساعة من المشي، إلى أن وصلوا نعلين، حيث هب أهلها لنجدة المهجرين وزودوهم بالماء والخبز. ومن نعلين انتقلوا إلى رام الله ثم إلى الخليل، ومنها إلى خانيونس، حيث حلت عائلة شموط فيها. وخلال أسابيع قليلة أخرى، زحفت جموع جديدة إلى قطاع غزة، انتشرت بعدها مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في كل من قطاع غزة والضفة الغربية والأردن وسوريا ولبنان.

بعد لجوء عائلة شموط إلى خانيونس، عمل بائعًا متنقلًا للمعجنات لمدة عام قبل أن يعمل مدرسًا في إحدى مدارس وكالة الغوث [الأونروا]. كان ذلك عام 1949، حيث تمكن خلاله من تحقيق حد أدنى من الدخل يمكنه من معاودة هواية الرسم. ويصف الشاعر الفلسطيني راسم المدهون كيف اعتاد في طفولته، في مخيم خانيونس، رؤية شموط الذي كان قد أصبح معلمًا في مدارس الأونروا، ويضيف «حتى حين كنت لا أراه كنت أجده على جدران بيوت المخيم، وجدران مدرستي الابتدائية التي ألصقت عليها ملصقات ورقية تحث على اتباع الإرشادات الصحية والحفاظ على النظافة، والتي رسمها شموط».[8]

«سنعود»، زيتية، 1954.

وفي عام 1950 نظم شموط، معلم الرسم الشاب، معرضًا لرسومه في إحدى غرف مدرسة خانيونس الحكومية، بتشجيع من مديرها، وكان المعرض يضم رسومًا بقلم الرصاص والألوان المائية والزيتية، استوحى موضوعاتها من حياة اللجوء، حيث تناولت رسومه خيام اللجوء والنساء والأطفال وطوابير الحصول على الماء والغذاء. وفي العام نفسه نجح في الوصول إلى القاهرة، حيث عمل مراسلًا في استوديو للإعلانات التجارية، وتمكن في الوقت نفسه من الالتحاق بالقسم الحر في كلية الفنون الجميلة، وكان «إسماعيل شموط أول فلسطيني يدرس الرسم والتصوير في كلية الفنون الجميلة في القاهرة».[9]

«إلى أين؟»، زيتية، 1953.

صقلت الدراسة الأكاديمية في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة مواهب شموط، وكان من بين أساتذته الفنانون الكبار: أحمد صبري وحسين بيكار وحسني البناني، ورغم تمتع طلبة القسم الحر بكلية الفنون بحرية واسعة، مقارنة بطلبة القسم النظامي، حيث خاض طلبة القسم الحر غمار التجارب الحداثية، إلا أن شموط ظل متمسكًا بالأسلوب الواقعي التعبيري، لأنه «الأسلوب القادر على إيصال رسالته إلى أعرض قطاع من الناس والشعوب»، حسب تعبيره.[10]

الانطلاقة الأولى

في نهاية السنة الثالثة لدراسته الأكاديمية، كانت قد تجمعت لديه مجموعة كبيرة من اللوحات، كانت كافية لإقامة معرض شخصي كبير، حمل تلك اللوحات إلى مدينة غزة ليقيم معرضه الشخصي الأول في نادي الموظفين، حيث افتتح يوم 29 كانون الثاني 1953، ضامًا نحو 60 لوحة فنية، من بينها لوحاته الأيقونية الأولى: «إلى أين؟»، «جرعة ماء»، «بداية المأساة»، وغيرها.

«عروسان على الحدود»، زيتية، 1962.

شكل المعرض المذكور محطة هامة في حياة شموط ومسيرته، إذ رسخ الثقة عنده، ودعم «الإيمان لديه بأن للفن رسالة إنسانية عظيمة»، وأن له «قدرة هائلة في التأثير على الناس والتحدث إليهم بلغة عالمية تخاطب العقل والوجدان في آن». وهكذا عاد إلى القاهرة ليكمل سنته الجامعية الرابعة والأخيرة وليستعد لإقامة معرضه القادم في القاهرة.[11]

«الطريق»، زيتية، 1964.

في 21 تموز 1954، وبدعم من دائرة شؤون فلسطين في جامعة الدول العربية، أقيم «معرض اللاجئ الفلسطيني»، الذي ضم إلى جانب لوحات شموط التي تجاوزت الخمسين عملًا، 15 عملًا لتمام الأكحل، وعشر لوحات للفنان نهاد سباسي. وقد افتتح جمال عبد الناصر، رئيس الوزراء المصري حينذاك، المعرض الذي حضرته عشرات الشخصيات السياسية المرموقة، المصرية والعربية والفلسطينية،[12] وقد شكل المعرض حدثًا ثقافيًا هامًا على الصعيد الفلسطيني، إذ لأول مرة يقدم الفن التشكيلي الفلسطيني نفسه كعمل نضالي، فضلًا عن كونه أحد أدوات التعبير الإبداعي. وفي الوقت الذي منح معرض القاهرة لشموط قفزة معنوية جديدة، فإنه وفر فرصة التقائه مع تمام الأكحل، شريكة عمره ومسيرته الفنية الطويلة، حيث عملا معًا قبل أن يتزوجا في العام 1959.[13] 

وعلى إثر المعرض تمكن شموط من الحصول على منحة من الحكومة الإيطالية لتكملة دراسته في أكاديمية الفنون بروما، لمدة سنتين، وهو الحلم الذي راوده مبكرًا، وتمكن من تحقيقه ومن رؤية أعمال كبار فناني عصر النهضة مباشرة.[14]

انتقل شموط بعد دراسته في روما إلى بيروت، عام 1956، حيث عمل لدى قسم الإعلام في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين واستمر ذلك زهاء سنتين، وفي الأثناء أقام معرضًا متنقلًا في القدس، ونابلس، ورام الله وغزة. وفي عام 1958، غادر شموط العمل لدى وكالة الغوث ليفتتح، مع أخيه جميل، مكتبًا إعلانيًا في بيروت، اشتغل في مجالات التصميم والإعلان المختلفة. وقد استمر هذا المكتب بالعمل حتى عام 1964، وفي ذلك العام نظم شموط معرضًا آخر له تنقل ما بين عمان والقدس ونابلس.[15]

إسماعيل شموط كما رسم نفسه.

أعماله تطوف العالم

في لبنان، حيث استقر ما بين 1956 ومطلع 1964، واظب شموط على المشاركة مع زوجته تمام الأكحل في المعارض الدورية اللبنانية، ولا سيما معرضي الربيع والخريف اللذين كانا يقامان في قاعة اليونسكو ببيروت سنويًا، كما عملا معًا في تدريب معلمي الفنون في مدارس وكالة الغوث في لبنان والضفة الغربية وغزة. وفي بيروت أيضًا، أقام شموط معرضًا شخصيًا لأعماله عام 1960.

جرعة ماء، مائية، 1953.

كان عام 1964 عامًا استثنائيًا لشموط الذي انتقل إلى البيرة في الضفة الغربية. ففي ذلك العام دعته منظمة الطلاب العرب في الولايات المتحدة الأمريكية لإقامة سلسلة معارض لأعماله، شملت 12 مدينة أمريكية رئيسية، وهي الجولة الأوسع لمعرض شخصي قام به حتى ذلك الحين.[16]

كان ذلك العام قد شهد ولادة منظمة التحرير الفلسطينية، إثر انعقاد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول في القدس (28 أيار 1964)، وعين حينها الزعيم الفلسطيني أحمد الشقيري رئيسًا لها. وفي مطلع العام التالي عين شموط رئيسًا لقسم الثقافة الفنية، التابعة لدائرة الإعلام والتوجيه القومي في المنظمة، وفي العام نفسه أقام ثلاثة معارض لأعماله في القاهرة ودمشق وطرابلس الغرب.[17]

توترت العلاقات بين الحكومة الأردنية ومنظمة التحرير إثر اعتداءات «إسرائيل» على قرية السموع بالقرب من الخليل عام 1966، حيث وقع خلالها عشرات الشهداء والجرحى من الجيش الأردني وسكان القرية، وحينها طالب الشقيري بتسليح القرى الأمامية في الضفة الغربية وتشكيل قوة عسكرية تابعة لمنظمة التحرير. وجراء هذا التوتر غادر شموط القدس وعاد إلى الإقامة في العاصمة اللبنانية، لكن عام 1966 شهد أيضًا إقامة أول معرض لأعماله في الكويت، التي سيعود للإقامة فيها لسنوات طويلة فيما بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت صيف عام 1982.

في حزيران 1967 احتلت «إسرائيل» القدس والضفة الغربية إلى جانب هضبة الجولان وشبه جزيرة سيناء، وحينها اقتحم الجنود الإسرائيليون مكتب جامعة الدول العربية في القدس لاعتقال مديره، وحين وقع نظر الجنود على لوحتين كانتا تتصدران جدار المكتب فتح هؤلاء النار على اللوحتين اللتين كان قد رسمهما شموط، وهما لوحتا «النكبة» و«ربيع فلسطين».[18]

كانت حرب حزيران 1967 واحتلال كامل الأراضي الفلسطينية وأراضٍ عربية أخرى سببًا لعودة شموط إلى تجسيد مأساة الاحتلال والموجة الثانية من التشريد في أعمال جديدة، مثل لوحته «حزيران»، حيث يتصدر اللوحة وجه أم وأبناؤها الثلاثة، فيما يحيط بهم الدمار الذي تلحقه قنابل العدو الإسرائيلي.

حزيران ، زيتية ، 1967.

من النكبة إلى المقاومة

قطعت حرب 1967 مسارًا كانت تغلب عليه موجة التفاؤل والأمل في أعمال شموط، فقد كانت نهاية الخمسينيات وسنوات الستينيات، بالنسبة للعالم العربي مرحلة نهوض وتحرر، وموجة بناء اقتصادي – اجتماعي عارمة، انعكست على الحياة الثقافية والفنية العربية، وشملت هذه الموجة شموط، الذي رسم «ربيع فلسطين»، وهي اللوحة التي تظهر ثلاث فتيات فلسطينيات يرقصن أمام حقل من أشجار البرتقال. ورغم مرارة هزيمة حزيران 1967، إلا أنها حملت معها بشائر نهوض عارم لحركة المقاومة الفلسطينية، وتبلور متسارع للهوية الفلسطينية. وهكذا حلت في أعمال شموط مفردات جديدة محل مفردات النكبة واللجوء والتشرد، مفردات تشي بالتفاؤل والأمل، ولم تعد فلسطين في أعمال شموط تختزل في شقاء ومعاناة اللاجئين، بل باتت ترتدي ثوب المقاومة والتفاؤل.[19]

ربيع فلسطين ، زيتية ، 1960.

بل إن «ثيمات» إسماعيل شموط باتت تتسع لتشمل مختلف مظاهر الحياة الفلسطينية اليومية. وهكذا ظهر في لوحاته رجال ونساء يرقصن الدبكة الفلسطينية، وتكررت وجوه المرأة في أعماله، فهي بالإضافة إلى وضعها المتكرر في لوحاته كأم مع طفلها أو رضيعها، بتنا نراها في أشكال جديدة، تارة كبائعة عنب في السوق، وتارة وهي تعمل في الحقل أو تحت شجرة برتقال. وبعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر عام 1987، وجدنا أطفال الحجارة في أكثر من لوحة يلوحون بالعلم الفلسطيني، وهم في وضعية التحدي. وتتكرر مشاهد الانتفاضة في لوحات أخرى وقد تصدرتها المرأة الفلسطينية، كما لو أنه يؤرخ للتحولات التي يمر بها الشعب الفلسطيني في ثوراته المعاصرة. فهو لم يعد ذلك الشعب المشرد القانط، وإنما الشعب الذي عاد ليمسك بزمام المبادرة من أجل استعادة الأرض والحقوق.

ولقد ظلت تلك الروح تهيمن على أعماله حتى وفاته. وبدلًا من الألوان القاتمة التي سادت لوحاته المبكرة حلت ألوان مشرقة ومضيئة تتناسب مع روح التفاؤل التي غمرت أعماله الأكثر حداثة.[20]

وبينما كان شموط يواصل عرض أعماله في عواصم ومدن مختلفة من البلدان العربية والعالم، تتوجت جهوده مع زملائه من الفنانين الفلسطينيين في تأسيس اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين عام 1969، حيث ترأس هذا الاتحاد، الذي ضم فنانين من الأراضي الفلسطينية المحتلة وبعض الدول العربية، حتى عام 1984. وفي بغداد، عام 1973، انتخب أمينًا عامًا للاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب، الذي كان قد تشكل في العام نفسه، واستمر على رأسه عشر سنوات، حتى عام 1984.[21]

وضوح الاتجاه الفني

التزم إسماعيل شموط منذ المراحل المبكرة لمسيرته الفنية وحتى وفاته بأسلوب فني رئيسي هو الأسلوب «الواقعي التعبيري»، مع استثناءات نادرة لجأ فيها إلى الرمزية. وقد فسر اتجاهه الفني نحو الواقعية التعبيرية واستمراره فيها في أكثر من مناسبة ومكان.

فهو، كما يقول في كتابه «الفن التشكيلي في فلسطين»، يرى أن الأسلوب الواقعي التعبيري هو الأكثر قدرة على تحقيق الهدف، حيث وجد الرواد [وهو يقصد نفسه بالدرجة الأولى] إمكانية كبرى لنقل مشاعرهم والتعبير عن آلامهم وآمالهم، فراحوا عبر هذا الأسلوب يسكبون من روحهم ووجدانهم، ما تركته الأحداث من أثر في نفوسهم، يرسمون ويصورون وينحتون فلسطين المختزنة في ذاكرتهم والمعشعشة في مشاعرهم.[22]

شكل الأسلوب الواقعي التعبيري عنصر قوة لدى إسماعيل شموط بالنظر إلى قدراته الكبيرة على التشخيص ورسم الأجسام والوجوه البشرية، وكذلك لتميز قدراته التلوينية التي استمدها من رواد المدرسة الانطباعية، مما منح أعماله ذلك المزيج من التماسك التكويني والغنى اللوني. على أن أعماله، في مراحل مختلفة من مسيرته، شهدت تنوعات أسلوبية على صعيد الخط أو اللون، بل وأظهرت بعض أعماله تحررًا واضحًا من القواعد الأكاديمية، واتسمت أحيانًا بالخشونة اللونية أو الخروج على قواعد المنظور. ففي مجموعته المائية عن «تل الزعتر»، على سبيل المثال، أظهر ميلًا أكبر نحو الرمزية على حساب قواعد الواقعية الأكاديمية.[23]

لوحتان من مجموعة تل الزعتر، ألوان مائية، 1976.

أما مصادر واقعية إسماعيل شموط الأسلوبية فهي تعود إلى منبعين رئيسين هما المدرسة «الواقعية الاشتراكية» التي سادت في البلدان الاشتراكية، تحت تأثير الأيديولوجية الماركسية والتفاؤلية الثورية، والمدرسة الإيطالية، خاصة بعد دراسته في أكاديمية الفنون الجميلة بروما (1954-1956)، حيث استمد من هذه المدرسة أسلوب العرض الأسطوري، كما تعبر عنها المنحوتات الرومانية، حسب تحليل الدكتور مازن عصفور.[24]

كما تأثر شموط لونيًا بالمدرسة الانطباعية التي تتسم بالألوان المضيئة المستمدة من الضوء الطبيعي، وهو ما يفسر الغنى اللوني للوحات شموط بعد عودته من دراسته في روما.

«قرب برمانة»، في لبنان، لوحة زيتية تبرز تأثر شموط لونيًا بالمدرسة الانطباعية، 1970.

مساهمات متنوعة

لم يكن شموط رسامًا رياديًا فحسب و«صانع ثورة عن طريق الفن»،[25] وإنما كان قائدًا ثقافيًا، شغل مناصب رفيعة في منظمة التحرير الفلسطينية كرئيس للدائرة الفنية والإعلامية فيها، ومن خلالها، أنتج عشرات الملصقات السياسية الفلسطينية التي حملت بصمته. كما أشرف على بناء أرشيف ضخم للصور الفوتوغرافية في إطار المنظمة، يعود إلى بدايات نشأة منظمة التحرير وحتى مطلع الثمانينيات، حين اجتاحت «إسرائيل» الأراضي اللبنانية في صيف 1982، واحتلت مقرات المنظمة ومؤسساتها الثقافية والفنية في بيروت. ومن ناحية ثالثة، مارس شموط منذ عام 1967 إنتاج الأفلام الوثائقية والأشرطة السينمائية، التي شارك بعضها في المهرجانات السينمائية الدولية.[26]

ولا يفوتنا التذكير بدور شموط كباحث تاريخي ومؤلف تربوي، ترك وراءه العديد من المؤلفات، لعل أقدمها كتاب وضعه ليكون مرشدًا في مجال التربية الفنية، تحت عنوان «الفنان الصغير»، عام 1957. وتلته ستة مؤلفات، أهمها «الفن التشكيلي في فلسطين» الذي صدر عام 1989.[27]

غلاف كتاب شموط الأبرز «الفن التشكيلي في فلسطين».

وحظي إسماعيل شموط بالعديد من الجوائز، منها «درع الثورة للفنون والآداب»، و«وسام القدس للثقافة والفنون والآداب»، و«جائزة فلسطين للفنون» من قبل منظمة التحرير الفلسطينية، كما نال «جائزة الإبداع للفن التشكيلي العربي» من مؤسسة الفكر العربي، ومقرها بيروت.[28]

غلاف كتاب تمام الأكحل عن سيرتها وإسماعيل شموط.

تنقل شموط في حياته بين عدد من المدن والعواصم العربية والأوروبية، من بينها غزة، والقاهرة، وروما، وبيروت، والبيرة، والقدس، والكويت، وبرلين، وعمان. وفي عدة مراحل من حياته تعرض لمشكلات في القلب، أجريت له على إثرها ثلاث عمليات جراحية في القلب، وقد توفي على إثر العملية الأخيرة في كولون، في ألمانيا، يوم الثالث من تموز عام 2006، حيث نقل إلى عمان ودفن فيها.

إسماعيل شموط وزوجته تمام الأكحل في أحد النشاطات الفنية في عمان، ويظهر الى جانبهما الفنان المرحوم علي ماهر. (من مجموعة الكاتب).

مكانة باقية

رغم وقوع إسماعيل شموط في آفة التكرار في أعماله الأخيرة، وسمة المباشرة والنزعة الخطابية في العديد من تلك الأعمال، إلا أنه كان المجسد الأول والأبرز للنكبة في الخطاب الفني الفلسطيني، وهو الرائد في مجال تحميل اللوحة التشكيلية رسالة نقل القضية الفلسطينية إلى معترك النضال السياسي والثقافي. حيث أخذ على عاتقه مبكرًا ومنفردًا، حتى وقت طويل، مهمة توثيق المأساة الفلسطينية المتمثلة في النكبة، وتقديمها في سلسلة طويلة من المعارض الفنية في مدن وعواصم العالم.

«البطل»، مائية، 1988، و«تحية لبيت ساحور»، زيتية، 1989.

ترى مليحة مسلماني، الباحثة الفلسطينية في مجال الفنون التشكيلية، أن شموط هو «رائد تمثيل مأساة اللجوء الفلسطيني، حيث عبرت أعماله التي يبقى محورها الإنسان، عن عمق الألم الذي ألمّ بالإنسان الفلسطيني، من خلال رسمه شخوصًا تكتسي وجوهها ملامح من حزن وأسى عميقين، لكنها أيضًا شخوص يشع من داخلها الكبرياء والتحدي والأمل في استرجاع حقها والعودة إلى الوطن الأم».[29]

ولعل الناقد والشاعر العراقي فاروق يوسف، كان أبلغ من عبر عن مكانة إسماعيل شموط وأهميته في الحركة التشكيلية الفلسطينية والعربية. حيث قال: «كان مزاجه الفني الذي يصنع موضوعاته يتأثر بتجليات ما يقع من حوله. لم يكن يملك الوقت لما هو شخصي. كان ملكًا لقضية أكبر منه، وكان في الوقت نفسه واحدًا من رُسلها إلى العالم، وكانت لوحاته بمثابة مؤشر يسجل بحركته، ارتفاعًا وانخفاضًا، ما يجري لذلك الشعب المعذب الذي أوكل إليه مهمة التعبير عن فجيعته من خلال الرسم».

وبعد أن يصف فاروق يوسف إسماعيل شموط باعتباره «رجل التاريخ والحكاية الفلسطينية» يضيف: «كان شموط رسام فلسطين باعتبارها طائر العنقاء، الذي ينبعث من رماده، هو رسام أيقوناتها الذي صار هو شخصيًا أيقونة […] شموط هو الابن الحقيقي لذلك الشعب، استحضره بصريًا غير أنه، في الوقت نفسه، استلهم قوته صامدًا […] فلسطين لا تزال موجودة. هذا هو درس إسماعيل شموط».[30]

  • الهوامش

    [1] على سبيل المثال فقد دُعيتُ مؤخرًا مرتين للحديث عن إسماعيل شموط وصلة أعماله الفنية بتجربته كلاجئ في مقتبل العمر، مرة أولى من قبل تلفزيون «العربي-2» في 28 تشرين الثاني 2023، ومرة ثانية من قبل وزارة الثقافة الأردنية، في برنامج حواري يعده الدكتور مازن عصفور في المركز الثقافي الملكي في 12 كانون الأول 2023.

    [2] كان لإسماعيل شموط سبعة أشقاء وشقيقات هم: إبراهيم، وكوثر، وجميل، وميسر، وإنعام، وجمال، وتوفيق. وقد توفي توفيق، شقيقه الأصغر، من العطش أثناء الترحيل الجماعي لأهالي اللد والرملة خارج المدينتين في تموز 1948. وقد شاركه أخوه الأصغر، جميل، هواية الرسم، وعرض بعض أعماله في معارضه المبكرة (غزة، 1953) كما شارك إسماعيل في مكتب الإعلانات الذي افتتحاه في بيروت ما بين عامي 1958 و1964. وقد التحق جميل شموط مبكرًا بالأونروا، وأمضى فيها أربعة عقود متواصلة. وسجل جميل سيرته الذاتية في كتاب صدر تحت عنوان «طيور الصبار»، عن دار الكرمل بعمان، عام 2013.

    [3] يعد داود زلاطيمو (1906-2001) من الفنانين الأوائل في فلسطين، ولد في القدس، ودرس في كلية المعلمين فيها، ثم أكمل دراسته الفنية في بريطانيا، حيث تخصص في الرسم. درَّس الفنون في عدة مدن فلسطينية، ولا سيما اللد التي درس الفن في مدارسها ما بين عام 1930 وحتى عام 1948. وكانت رسومه للأحداث التاريخية فضلًا عن المشاهد الطبيعية تزين جدران مدرسة اللد الحكومية. وكان إسماعيل شموط أحد تلاميذه. وقد عادا للتواصل معًا في الكويت، عام 1985، بعد انتقال شموط إليها إثر اجتياح «إسرائيل» للبنان في صيف 1982.

    انظر/ي صفحة «لوحات وأعمال الفنان داود زلاطيمو» على فيسبوك. تاريخ المشاهدة 30 كانون الأول 2023.

    [4] انظر/ي شموط، إسماعيل، الفن التشكيلي في فلسطين، الكويت، 1989، ص48.

    [5] المصدر السابق، ص49.

    [6] المصدر نفسه، ص45.

    [7] نفذ إسماعيل شموط في الخمسينيات عددًا من لوحاته الأيقونية مثل «جرعة ماء» و«بداية المأساة»، و«إلى أين؟» (1953)، و«سنعود» (1954)، و«ذكريات ونار» (1956)، و«هنا كان أبي» (1957)، وهي الأعمال التي أنجزها خلال سنوات دراسته في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة، أو أثناء التحاقه بأكاديمية الفنون الجميلة بروما.

    [8] انظر/ي: المدهون، راسم، «ذكرى إسماعيل شموط: الفن راية الأمل والنماء والازدهار، في ضفة ثالثة»، 19 حزيران 2023.

    [9] شموط، الفن التشكيلي في فلسطين، مصدر سابق، ص49.

    [10] المصدر السابق، ص50.

    [11] المصدر نفسه، ص51.

    [12] حضر حفل الافتتاح الحاج أمين الحسيني، رئيس الهيئة العربية العليا، وأحمد حلمي باشا، رئيس حكومة عموم فلسطين التي أعلنت في غزة عام  1948 ولم تستمر طويلًا، وأحمد الشقيري، الشخصية الفلسطينية البارزة التي سوف تتولى عام 1964 رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية، وعبد الخالق حسونة، أمين عام جامعة الدول العربية حينذاك.

    انظر/ي: شموط، المصدر السابق، ص54.

    [13] تمام الأكحل، ولدت في يافا، عام 1935، ولجأت مع عائلتها بعد سقوط مدينة يافا إلى لبنان، حصلت على منحة لدراسة الفنون في القاهرة عام 1953، حيث التقت بإسماعيل شموط أثناء مشاركتهما في معرض اللاجئ الفلسطيني، عام 1954. وقد عملا معًا في تدريب معلمي الفنون في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين [الأونروا] قبل أن يتزوجا عام 1959. هذا وقد روت تمام الأكحل، في كتابها «اليد ترى والقلب يرسم»، سيرة حياتها المشتركة مع إسماعيل، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2016.

    [14] انظر/ي كارين روردانتس، إسماعيل شموط، 17 نسخة من لوحاته، دار هنشل للنشر، الفن والمجتمع، برلين، 1975. ص13.

    [15] أُقيم معرض إسماعيل شموط في عمان، في قاعة تابعة لأمانة العاصمة بالقرب من المدرج الروماني. وفي حينها قمت بمساعدة إسماعيل شموط في تجهيز لوحاته للعرض، وبقيت معه طيلة مدة المعرض. وتلقيت منه هدية هي عبارة عن نسخة فوتوغرافية عن أحد أعماله.

    [16] كارين روردانتس، مصدر سابق، وص13.

    [17] المصدر السابق، ص13.

    [18] المصدر السابق، ص5.

    [19] عكست لوحة إسماعيل شموط «طاقة تنتظر» والتي رسمها عام 1961، حالة التأهب التي كان يعيشها الشعب الفلسطيني في تلك الفترة، وحيث ظهر ثلاثة شبان في وضعية التأهب للانطلاق، كما لو أنهم ينتظرون اللحظة الحاسمة لذلك. وفي لوحته «الطريق»، والتي رسمها عام 1964، يظهر حشد في الوجوه ذات التعابير الصارمة، وتتخلل الوجوه أيدٍ تقبض بقوة على البنادق. وفي لوحة «مغناة فلسطينية» التي نفذها شموط عام 1970، تظهر مجموعة من النساء الفلسطينيات وهن يرقصن بأثوابهن التقليدية ذات الألوان الزاهية.

    [20] انظر إلى صفحة إسماعيل شموط (Ismail shammout) على فيسبوك.

    [21] يروي رفيق اللحام قصة تشكيل الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب في مذكراته، «رحلتي مع الحياة والفن»، وتحضيراته في صيف 1965، حيث قام إسماعيل شموط ورفيق اللحام بتشكيل لجنة تحضيرية تتوجت يوم 7 تموز 1971 بصدور بيان الهيئة التأسيسية للاتحاد التي تألفت من سبعة أعضاء يمثلون سبعة دول عربية، ويذكر رفيق اللحام أنه مع انعقاد المؤتمر العربي الأول للفنون الجميلة في دمشق (6-12 كانون الأول 1971) طُرح مشروع تأسيس اتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وعقد المؤتمر الأول للاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب في بغداد [ما بين 20 و24 نيسان 1973]، حيث انتخب إسماعيل شموط كأول أمين عام لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب.

    انظر: اللحام، رفيق، رحلتي مع الحياة والفن، دار سندباد، عمان، 2011، ص 71-173.

    [22] شموط، إسماعيل، مصدر سابق، ص50، 64 – 65.

    [23] نفذ إسماعيل شموط مجموعة أعمال مائية عام 1976، على إثر مجزرة «تل الزعتر» وقد تميزت بتقشفها اللوني وخطوطها القوية، ولكن شموط عاد فيما بعد إلى متابعة أسلوبه المعتاد «الواقعي التعبيري».

    [24] مازن عصفور. من ندوته «قراءة في التعبير الفني النضالي للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط»، 22 كانون الأول 2023، المركز الثقافي الملكي، عمان، الأردن.

    [25] التعبير للناقد العراقي فاروق يوسف. انظر هامش [30] تاليًا.

    [26] من قائمة أفلام إسماعيل شموط: معسكرات الشباب (1972)، ذكريات ونار (1973)، النداء الملح (1973)، على طريق فلسطين (1974). وكانت تجربة إسماعيل شموط في اللجوء موضوعًا لفييلم نورا الشريف، والذي حمل اسم «إسماعيل».

    انظر/ي موقع مركز رؤيا للتنمية السياسية، موسوعة النخب الفلسطينية 11 تموز 2023. انظر/ي أيضًا: يوسف نعنع، «عن معلمي إسماعيل شموط» 7 تموز 2023.

    [27] انظر/ي موسوعة النخب الفلسطينية، مصدر سابق.

    [28] المصدر نفسه.

    [29] انظر/ي مسلماني، مليحة، النكبة في الخطاب الثقافي الفلسطيني، الفن التشكيلي نموذجًا. بديل المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، بيت لحم، 2007.

    [30] انظر/ي يوسف، فاروق، «الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط، ثورة عن طريق الفن»، انظر موقع وكالة وطن للأنباء، 12 شباط 2017.

/
]]>
https://www.7iber.com/culture/%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%86%d8%a7%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86%d9%8a-%d8%a5%d8%b3%d9%85%d8%a7%d8%b9%d9%8a%d9%84-%d8%b4%d9%85%d9%88%d8%b7/feed/ 0
إبادة المكان: محوُ غزة هدفٌ للحرب https://www.7iber.com/environment-urban/%d8%a5%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%83%d8%a7%d9%86-%d9%85%d8%ad%d9%88%d9%8f-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%87%d8%af%d9%81%d9%8c-%d9%84%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/ https://www.7iber.com/environment-urban/%d8%a5%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%83%d8%a7%d9%86-%d9%85%d8%ad%d9%88%d9%8f-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%87%d8%af%d9%81%d9%8c-%d9%84%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/#respond Thu, 04 Jan 2024 14:20:46 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=environment-urban&p=88958 منذ تأسيسه للوحدة الإسرائيلية 101 التي نفذت في قطاع غزة عمليتيْ السهم الأسود عام 1955 ومذبحة قبيّة عام 1953، نضج في مخيلة أرئيل شارون، وهو آنذاك شاب في العشرينات من عمره، تصورٌ عن العمران الفلسطيني فحواه أن الصراع المسلح مع الفلسطينيين هو مشكلة حَضَرية جوهرها التوسع المطرد في إنشاء مخيمات اللاجئين التي أسماها «جهاد البُنيان» طامحًا إلى تفكيكها بالمجازر. وفي حالة غزة التي اضطر للانسحاب من المستوطنات فيها عام 2005، كانت المدينة بحد ذاتها «موطنًا طبيعيًا للإرهاب» الذي لا يمكن إبادته إلا من خلال تغيير مظهره المادي.[1]

طوّر القادة السياسيون الإسرائيليون فهمهم عن الحيّز المكاني الفلسطيني باعتباره خطّ اشتباك دائم، و«حدودهم المؤقتة» باعتبارها أطر لقتل الحلول السياسية و«إقامة الاستيطان في صميمها بحيث لا يمكن استجلاء الفرق بين الداخل والخارج».[2] أما أدوات التخطيط والعمارة فهي وسائل للتجريد من الملكية وخلق نمط من الفوضى المركبة التي يمتلك فيها الاحتلال الإسرائيلي السلطة لإصدار القوانين وإنفاذ القوة العسكرية واحتكار الموارد الطبيعية من باطن الأرض حتى المجال الجوي فوقها.

بالنسبة للإسرائيليين، فإن إبادة غزة كمدينة أو مركز حضري ليست مُعضلة، على العكس، فهي جزء جوهري من أهداف الاحتلال الإستراتيجية التي يصبح فيها تدمير غزة «هدمًا خلّاقًا». وبقدر ما يرتكب الاحتلال اليوم إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في حربه الحالية على المقاومة، فإنه يتعمد كذلك ارتكاب إبادة مكانية لمعالم غزة الحضارية ومبانيها السكنية وبنيتها التحتية، وحتى نسيجها الاجتماعي، عبر سياسات وممارسات بدأت قبل العدوان الحالي بكثير.

عن الإبادة المكانية التي يرتكبها الاحتلال حاليًا في غزة، واستخدامها كأداة لتفكيك النسيج الاجتماعي فيها وتحقيق أهداف سياسية وعسكرية، نحاور عبد الرحمن كتّانة، الأستاذ المساعد في الهندسة المعمارية بجامعة بيرزيت. قبل أن يحصل كتّانة دراسته على بكالوريوس الهندسة المعمارية، كان قد اعتقل مع شقيقه باسل عام 2003[3] على خلفية مشاركتهما في الانتفاضة الفلسطينية الثانية. بعد خروجه من السجن عام 2007 تابع دراسة الهندسة حتى حصل على درجة الدكتوراه، باحثًا في أطروحته[4] عن العلاقة بين العمارة والمقاومة. وقد نشر أبحاثًا أخرى تناقش استخدام العمارة كأداة عنف وقمع وتحكم بيد الاستعمار.

حبر: ما الذي يعنيه مصطلح «الإبادة المكانية»؟ ومتى ظهر وشاع استخدامه؟

كتّانة: قبل الحديث عن تعريف الإبادة المكانية، من المهم أن نفهم العلاقة بين الحرب والمدينة لأن علاقة تطورهما متبادلة؛ يؤثر تطور المدينة بكيفية تطور الحرب وأسلحتها وأساليب القتال، والعكس صحيح أيضًا. هكذا نفهم وجود أسلحة مخصصة لاستهداف البُنى بحسب عمرانها مثل الأنفاق والقلاع والسلالم وغيرها. اقتربت المدينة من الحرب وتطورت علاقة الإبادة بينهما منتصف القرن التاسع عشر. قبل ذلك كانت الحروب خارج المدن رغم أنها قد تنتهي بإبادة سكان المدينة وتدمير بعض معالمها، أي عندما تذهب الجيوش -كنوع من الانتصار- لاغتنام الأموال وسبي النساء وتدمير المدينة أو فرض السيطرة عليها، ما يعني أن إبادة المدينة هو المحصلة، لكنه ليس الحرب أو مسرحها.

مع تطور الثورة الصناعية أصبحت المدينة تعبّر عن ثقل اقتصادي ومركز سياسي، وصار استهدافها ليس غاية عسكرية للقضاء على الجيوش، إنما للتأثير على صناعة القرار السياسي الذي يقيس مدى قدرة المدينة -وبالتالي النظام الحاكم- على الصمود. ظهرت في القرن التاسع عشر أيضًا الدول القومية التي تتحمل مسؤولية الدفاع عن مُدنها وما تمثله من مراكز حضارية بتفاعلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بعكس الإمبراطوريات متعددة التمركز أو دول المدن (city states) التي يُقضى عليها بمجرد القضاء على المدينة. في الحرب العالمية الأولى، بدأ قصف المدن الكبرى كهدف سياسي مقصود رغم أن معظم المواجهات كانت في المساحات المفتوحة، وساعد تطور السلاح على استهداف المدن دون الحاجة إلى جيوش لاجتياحها بريًا، إنما عبر القصف الجوي، وهو ما قامت به إيطاليا لأول مرة عند استهداف العاصمة الليبية طرابلس عام 1911.

«قتل المدن هو أقدم قصة في العالم»، يقول الكاتب الماركسي الأمريكي مارشال بيرمان، في إشارة إلى أن الإبادة المكانية كممارسة أقدم بكثير من المصطلح الذي ظهر في الستينيات ما بين 1963-1968 لوصف ممارسات التجديد الحضري العنيفة في الولايات المتحدة، مثل هدم مناطق واسعة لإعادة بنائها بهوية مختلفة.

بعد حصار سراييفو الذي امتد لثلاث سنوات وعشرة أشهر (نيسان 1992 – شباط 1996) خلال حرب البوسنة، أصبح المصطلح يستخدم بشكل متزايد من قبل المهندسين المعماريين والمخططين الحضريين والمؤرخين لوصف العنف العسكري الموجه لتدمير نسيج منطقة حضرية، خصوصًا وأن تعريف الإبادة الجماعية على أنها «خطة مُحكمة من الإجراءات المقصودة التي تهدف لتدمير أسس المجموعات الوطنية»[5] لم يتطرق للعنف الذي لا يستهدف الأجساد البشرية.

بكلمات أخرى، يمكننا التفكير بالإبادة المكانية وكأنها تخفيض رتبة المدينة إلى أقل من كونها مدينة، عبر ممارسة العنف على كل مقوماتها الحيوية بما فيها منظومتها المعمارية والبنيوية والتحتية والاجتماعية، ونظامها الاقتصادي، وتنوعها الثقافي، وحتى الحالة الذهنية التي يتشاركها سكان المدينة حولها. «الإبادة الجماعية أو التطهير العرقي» والإبادة المكانية متلازمان في الغالب، ويجادل البعض بأن قتل المدن يُجب أن يُفهم على أنه جزء من الإبادة الجماعية، لأن تدمير منازل الناس يعني تدميرهم، لكن وجود مفهوم الإبادة المكانية يساعدنا على تفادي النظرة السطحية للدمار المعماري كضرر جانبي للحروب بل كهدف سياسي يكون متعمدًا أحيانًا دون أي ضرورة عسكرية أو أمنية. في ختام الحروب اليوغوسلافية، ظهر المصطلح كمفهوم قانوني في القانون الدولي، لكن تعريفه ومؤشراته ما زالت غير دقيقة وموضع نقاش.

منطقة العطاطرة شمالي قطاع غزة في أيار 2023، وبعد تعرضها لقصف سجّادي في تشرين أول الماضي.

كيف وظّف الاحتلال الإسرائيلي العمارة كأداة استعمارية ضد الجغرافيا والعمارة الفلسطينية؟

تشكل فلسطين مثالاً معاصرًا لأكثر الصراعات الجيوسياسية تعقيدًا والتي يمثل فيها الاحتلال الإسرائيلي مشروعًا استعماريًا إحلاليًا. استعرضت الدعاية الصهيونية فلسطين كأرض فارغة لأرض الميعاد وصورت العلاقة بين الوجود اليهودي مع الطبيعة على أنها علاقة طبيعية ومتبادلة بعكس علاقة الفلسطيني بالأرض. الجغرافيا مكون جوهري من المشروع الصهيوني لأن الأرض هي المُشكل الرئيسي للأمة وصياغة هويتها الوطنية والجماعية. رافقت هذه الأيديولوجيا إجراءات شراء الأراضي والتشجيع على الهجرة وبناء المدن والمستوطنات وتطوير الزراعة وإنشاء الصناعات.

بحسب التصنيف الذي أرسته منهجية كتاب «الإبادة المكانية: فضاءات القمع والصمود» لمؤلفته نورهان أبو جدي، يمكن تتبع ثلاثة أنماط من الدمار في فلسطين تاريخيًا. أولًا، التدمير المادي للمكان الحضري الفلسطيني بفضائه وعلاقاته، مثل قيام الميليشيات الصهيونية بتجريف أكثر من 400 قرية فلسطينية وإبادة المراكز الحضرية الكبرى في مدن طبريا ويافا واللد والرملة وعكا وحيفا وصفد وأجزاء من القدس بين عامي 1947 و1948، واستهداف الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 القرى الفلسطينية الاستراتيجية لقطع الاتصال المكاني بين المناطق الفلسطينية المدمرة وخلق تواصل مكاني بين المدن اليهودية والقدس، وضرب الحواضن الشعبية للمقاومة في نابلس ورام الله ومخيمات اللجوء خلال الانتفاضة الثانية عام 2000.

ثانيًا، التدمير عبر إعمار مناطق حضرية إسرائيلية في الحيز المكاني الفلسطيني مثل المستوطنات اليهودية -وما يرافق ذلك من محو للهوية العربية وإضفاء الطابع التوراتي- وشبكات الطرق المخصصة للإسرائيليين وبناء جدار الفصل العنصري. انتشر الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية وغزة بعد عام 1967، وتوسع مع صعود حزب الليكود إلى السلطة عام 1977. اعتبارًا من يناير 2023 يوجد 144 مستوطنة إسرائيلية في الضفة الغربية، 12 منها شرقيّ القدس، أقيمت باستخدام القوانين والأدوات العسكرية لمصادرة الأراضي. كما يبلغ طول الطرق المخصصة للمستوطنين فقط 980 كم تساهم في تقييد حركة الفلسطينيين، إلى جانب الجدار الذي بدأ بناؤه عام 2002 على 770 كم من الأراضي الفلسطينية بهدف حماية المستوطنات الإسرائيلية قرب الخط الأخضر من هجمات فلسطينيي الضفة الغربية.

ثالثًا، التدمير بالسيطرة، والذي يتجسد في خلق أدوات رقابية على الفلسطينيين من خلال الحواجز العسكرية ونقاط التفتيش والكتل الخرسانية والبوابات والتلال الترابية. رصد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) حتى آب من عام 2023 وجود 565 حاجزًا إسرائيليًا تمنع أو تعيق وصول الفلسطينيين إلى وجهاتهم. وقد أنتجت الديناميكيات الإسرائيلية فضاءات مكانية تعزل المناطق المبنية الفلسطينية عن محيطها وتحوّلها إلى مجتمعات عائمة تبدو وكأنها دخيلة أو غريبة في بيئتها الطبيعية.

توّلد هذه الأشكال الثلاثة الإبادة المكانية للجغرافيا والهوية الفلسطينية، والتي استخدمها الاحتلال منذ نشأته عبر أدوات مختلفة؛ التجريف في النكبة مثلاً كان وسيلة لإبادة قرى فلسطينية كاملة وإتاحة حيز مكاني تقوم عليه «إسرائيل»، وهو ما تمارسه السلطات الإسرائيلية اليوم في اقتحامات جنين ونابلس وطولكرم كسلاح للعقاب الجماعي وتشكيل التكوين الجيوسياسي للأرض.

كيف استهدف الاحتلال الإسرائيلي الإرث المعماري في غزة قبل طوفان الأقصى؟

بدايةً، لم تتناول الأدبيات البحثية الإرث المعماري لمدينة غزة بشكل معمق، إذ غالبًا ما عولجت غزة في سياق الدمار الذي خلفته الحروب، وإن كان فيها مئات المباني التاريخية، ويقع جزء كبير منها في مناطق البلدة القديمة، والتي تتخذ أنماطًا معمارية مختلفة من العصور المملوكية والعثمانية وبداية الانتداب البريطاني. يتنوع هذا الإرث ما بين المساجد والكنائس والأسواق والزوايا والمدارس والكتاتيب، مثل الجامع العمري الكبير وقصر الباشا وحمام السمرة وكنيسة بورفيريوس وسبيل السلطان عبد الحميد، بالإضافة للبيوت الحجرية الأثرية، ومن أشهرها قصر آل الرضوان في حي الدرج، وبيت عبد القادر بسيسو في حي الشجاعية، وبيت الترزي في حي الرمال.[6]

لا ينحصر إرث غزة في تاريخ هذه الأماكن الأثرية التي كان غالبها قائمًا حتى السادس من تشرين الأول الماضي، إذ إن عشرات المباني الأثرية الأخرى أبيدت أو اندثرت جراء الحروب السابقة التي شهدها القطاع، أو بسبب غياب الترميم اللازم لصيانة هذه المواقع. ومن هنا يمكننا القول إن غزة تعرضت لإيقاعيْن من التدمير العمراني قبل اندلاع الحرب الحالية، الأول هو التدمير بوتيرة بطيئة أو طويلة المدى والمتمثل في الحصار المفروض عليها منذ عام 2007. والثاني هو التدمير السريع الذي أحدثته الغارات الجوية الصاروخية خلال الحروب على غزة في الأعوام 2008، و2012، و2014، و2019، و2021، فضلًا عن الحرب الحالية. ليس بالضرورة أن تكون الإبادة المكانية جراء هجوم لحظي أو استهداف عسكري، يمكن لتحويل مسار المياه أو إعادة توجيهها في أحد الأنهار التسبب بإبادة مدينة أو خلق مقومات الحياة في أماكن أخرى.

فرض الاحتلال الإسرائيلي الحصار على منافذ غزة البرية والبحرية والجوية في أعقاب تولي حركة حماس الحكم السياسي فيها عام 2006. عندما نتحدث عن الحصار لا نقصد فقط البُعد المرتبط بتقييد حركة الفلسطينيين من وإلى غزة فحسب، بل بعزل غزة عن محيطها الطبيعي وجعل الممارسات اليومية لأهلها في غاية التعقيد. الجدار الذي أقيم حول غزة بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي منها وتفكيك مستوطناته عام 2005، وإقامة مستوطنات غلاف غزة التي تحيط بالقطاع على امتداد 40 كم، وفرض القيود المشددة على دخول مواد البناء الخام والمعدات الثقيلة، والصلاحيات شبه المطلقة للاحتلال في التحكم بموارد غزة الطبيعية من إمدادات المياه والكهرباء والاتصالات والصرف الصحي، هي جميعًا أشكالٌ للحصار.

تخلل الحصار الإسرائيلي ستة حروب على غزة كان لها أثرٌ مباشرٌ في تدمير المعالم العمرانية والبنية التحتية بشكل مباشر. ناقش كتاب أبو جدي أن «عملية الرصاص المصبوب» وما رافقها من غزو للقوات البرية أواخر عام 2008 يمكن وصفها بالإبادة المكانية. ضربت الطائرات الحربية الإسرائيلية عدة أهداف في وقت واحد صباح اليوم الأول من الحرب، واستخدم الجيش الإسرائيلي جرافاته المدرعة لتحطيم المباني وإنشاء طرق بديلة، ودمرت كتائب المشاة عشرات المباني برفقة الكلاب البوليسية بحثًا عن القنابل، كما استهدفت المدارس والمستشفيات والمساجد والمنشآت الزراعية والبنية التحتية الأساسية بُغية كسب الحرب في أسرع وقت ممكن.

تتفاعل هذه العوامل وتتشابك من أجل تحقيق هدف الاحتلال في تقليص فُرص غزة لتكون مكانًا ملائمًا للعيش، حيث ساعات الكهرباء محدودة ومياه الشرب ملوثة ومستوى الرعاية الصحية متدني والأمن الغذائي معدوم وتصريحات المعابر شبه مستحيلة. هذه المظاهر الحيوية هي جزءٌ أصيلٌ من العمران وعلاقة الأفراد بمدنهم، ولذلك يَحول الحصار والحروب الإسرائيلية منذ 17 عامًا دون تقدّم غزة كمدينة. حتى نكون قادرين على تخيّل أثر الحصار، يمكنني القول إن غزة في سياق طبيعي وبموقعها الساحلي على أحواض الغاز في البحر الأبيض المتوسط وأهميتها الاقتصادية التي تشكلها خصائص القطاعات الزراعية والصناعية، كانت لتكون مركزًا حضاريًا ونقطة وصل عالمية أكثر أهمية من دبي اليوم لولا وجود الاحتلال الإسرائيلي.

هل يمكننا وصف مشهد الدمار الذي خلفته الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة بالإبادة المكانية؟ وكيف ندلل على ذلك؟

بكل تأكيد. يرتكب الاحتلال الإبادة الجماعية في غزة عبر ثلاث مستويات، هي الدمار الذي لحق بالبنية الفوقية أو جسم المدينة، واستهداف البنية التحتية التي تخدم كل العمليات الحيوية في المدينة، وتفكيك النسيج الاجتماعي الذي يعبّر عن العلاقات التي تربط الأفراد والجماعات ببعضها. يمكن التفكير بكل مستوى من هذه المستويات عبر أنماط التدمير الذي ذكرت سابقًا وهي الإبادة المادية أو الاستبدال ومحو الهوية أو السيطرة والتحكم، كما يمكن التفكير بها كوتيرة قصيرة المدى مثل لحظة سقوط الصاروخ أو القصف المدفعي، أو الاستهداف المتراكم طويل المدى الذي نلمس آثاره بعد قرابة 90 يومًا من الحرب، وستظل آثاره ماثلة لما بعدها.

بحسب آخر تحديث نشره المكتب الإعلامي الحكومي في غزة في 28 تشرين الثاني الماضي، دمّر الجيش الإسرائيلي 103 مقرًا حكوميًا، و266 مدرسة خرجت 67 منها عن الخدمة، و88 مسجدًا بشكل كلي و174 مسجدًا بشكل جزئي، إضافة إلى استهداف ثلاث كنائس، كما تعرّضت 50 ألف وحدة سكنية لهدم كلي، و240 ألف وحدة للهدم الجزئي. وخرج 26 مستشفى و55 مركزًا صحيًا عن الخدمة.

كنيسة القديس بورفيريوس الأثرية بعد استهدافها بغارة جوية إسرائيلية، 20 تشرين الأول 2023، تصوير علي جاد الله، وكالة الأناضول.

بقايا مسجد دمرته الغارات الإسرائيلية وسط قطاع غزة، 8 كانون الأول 2023، تصوير دعاء روقة.

قد لا يوجد اليوم شارع واحد في غزة لم يشهد دمارًا، ولا حي لا يحمل آثار المتفجرات الثقيلة، صارت غزة مدينة من الركام حيث لا يمكن أن تقع عينك على مبنى غير مدمّر، تمثل هذه الأضرار ما لا يقل عن 65% من البنية الفوقية لغزة. إلى جانب الضرر الذي يلحق بالبنية التحتية من الحصار ويجعلها أكثر بدائية من مثيلتها على بعد كيلومترات قليلة في المدن «الإسرائيلية» أو حتى مدن الضفة الغربية. دمّر الاحتلال في الحرب الحالية البنية التحتية، بما فيها إمدادات المياه المتمثلة في عشرات الآبار ومحطات التحلية والمعدات والخطوط الناقلة، وقطع 10 خطوط مزودة للكهرباء بالتزامن مع قصف مقر شركة الاتصالات الفلسطينية وعشرات الأبراج التابعة لها وقطع اتصالات الخطوط الأرضية وشبكات الإنترنت والهواتف النقالة.

وأغلق الاحتلال أيضًا معبّر رفح، فيما انهارت المنظومة الصحية وتعطلت كل العملية التعليمية في غزة ودمرّت بنيتها التحتية المتمثلة في المدارس والجامعات. عطّلت الحرب معظم العمليات الحيوية الأساسية في القطاع، ما يؤثر على قدرة الناس على الصمود، فحتى لو بقيت بعض المنازل قائمة نسبيًا، فإن قدرة الأفراد مثلاً على استخدام الحمام في بيوتهم أصبحت مستحيلة مع غياب الصرف الصحي والمياه ومستلزمات النظافة الشخصية. هذه هي الإبادة المكانية التي وصفها وزير الحرب الإسرائيلي يوآف غالانت في العاشر من تشرين أول الماضي قائلًا إن «غزة لن تعود أبدًا إلى ما كانت عليه».

أما عن إثبات الإبادة المكانية أو التدليل عليها، فيستخدم المعماريون والمخططون الصور الجوية وبيانات الغارات الجوية ونوعية الأسلحة المستخدمة، وبعض التقييمات التي تنشرها المنظمات الدولية، بالإضافة للقطات الكاميرات المثبتة على طائرات بدون طيار، ومقابلات عمال الإغاثة ومقدمي الرعاية الصحية وخبراء في الذخائر والحرب الجوية. ما زلنا لا نمتلك وصولًا فعالًا لهذه المصادر، إذ تقيّد الشركات التقنية الامريكية جودة لقطات الأقمار الصناعية أو إمكانية نشرها بحجة الكشف عن العمليات البرية للقوات الإسرائيلية. كما أن هذه اللقطات يجب أن تحلل بعناية شديدة وضمن سياقها، لا تقدّم لقطات الأقمار الصناعية مثلاً مشهدًا ثلاثي الأبعاد، ولذلك قد يختلف تعداد المباني السكنية في المخيمات عن تعدادها في أماكن أخرى، وكذلك عدد الأشخاص المتضررين في كل منها.

تحدثت عن تفكيك النسيج الاجتماعي بوصفه واحدًا من مستويات الإبادة المكانية التي يستهدفها الاحتلال الإسرائيلي في حربه الحالية على غزة، ما أثر الإبادة المكانية على النسيج الاجتماعي، وكيف يؤثر هذا الدمار على علاقة الناس بالمدينة؟

قدرة المجتمعات على الصمود مرتبطة بشكل أساسي بقدرة المدينة وبنيتها التحتية على تغطية الاحتياجات. مع انهيار القطاعات الأساسية في غزة، يضطر الفلسطينيون لتدبر أمورهم في البحث عن المسكن والطعام والعلاج في ظل قصف مستمر وبيئة موبوءة محيطة. في غضون ثلاثة أشهر، فقد ملايين الأشخاص مساكنهم واضطروا للنزوح إلى مراكز الإيواء، بعضهم فقد أفرادًا من عائلته في قصف المستشفى الذي آوى إليه، وبعضهم يتقاسم مع عائلة أخرى غرفة صفية في إحدى المدارس، 300 ألف شخص يعيشون في خيم متهالكة في أقرب نقطة حدودية للقطاع مع مصر. صاروا، ضمن روتين يومي، يقطعون عشرات الأميال بحثًا عن المياه، ويقفون في طوابير طويلة للحصول على معونة غذائية ويجلسون بجانب أقاربهم الجرحى إلى حين وصول دورهم في العلاج، ويعودون لمنازلهم المهدّمة بحثًا عن ذكريات ممكنة، ويبحثون بشكل متواصل عن مكان لدفن الجثث.

الإبادة المكانية تشوّه أيضًا مشاعر الأفراد حيال أمكنتهم التقليدية؛ مدارسهم التي قضوا فيها أعوامًا يعيشون فيها اليوم كنازحين، دكانة الحي التي يبتاعون منها الحاجيات أصبحت رفوفها فارغة، شاطئ البحر الذي جلسوا عليه مع أصدقائهم ضاحكين تحيط به النفايات والمياه العادمة. استهدف الاحتلال معالم غزة الشهيرة منذ بدء القصف لتدمير ذكريات المدينة في أذهان أهلها. كما نبشت القوات الإسرائيلية مقابر الموتى وكتبت عبارات عنصرية على جدران المنازل التي تمركزت بها، وجرّفت الإسفلت من الشوارع المعبّدة.

نازحون في إحدى مدارس خان يونس، 14 تشرين الأول، تصوير يوسف مسعود، نيويورك تايمز.

امرأة فلسطينية نازحة تطهو على شاطئ دير البلح جنوبي قطاع غزة، 28 تشرين الأول، تصوير سمر أبو العوف، نيويورك تايمز.

تغيرت علاقة الأفراد مع المدينة بالطبع، وفي واقع متسارع لا يتيح لهم استيعاب الصدمة، يصبح همّ الناس التركيز على إنقاذ حياتهم حتى لو كانت المدينة المحيطة بهم تعج بالجثث والدمار والخوف، حيث لا تصبح قدرتهم على الصمود مرتبطة برغبتهم بالصمود بقدر ما هي مرتبطة بعدم وجود خيار آخر. جراء تضرر شبكة النقل والطرق صار الناس يتنقلون بواسطة العربات التي تجرها الحمير بعد تضرر سياراتهم أو نفاد الوقود، هذه العربات صارت تنقل الجثامين والمصابين للمستشفيات أيضًا مع تعطل خدمات الإغاثة والدفاع المدني. يحاول الناس في هذه الظروف استخدام المتاح من الإمكانيات، لتغطية احتياجاتهم من الأكل والتنقل أو حتى الترفيه. ولذلك نشاهد مقاطع مصوّرة للأطفال يلعبون في حفرة خلّفها الصاروخ، ولأنشطة موسيقية يعقدها متطوعون في ساحات المدارس، ولحملات تنظيف شوارع المستشفى، هكذا يحاول الناس خلق شكلٍ من «الحياة العادية» تحت الحرب، حيث تصير الابتسامة أو كوب شاي ساخن أو الاستحمام إنجازًا، مقارنة بالوقت والظرف الذي يمرون به.

تصل إمكانية الأفراد على الصمود تحت الحرب إلى ذروتها وتسمى بتأثير الصدمة الحادة، لأن النجاة هي الأولوية، بعكس قدرة الأفراد على تجاوز الصدمة طويلة الأمد والتي تتبع الحرب. ومع تقلص مقومات الصمود، حتى إمكانية إيجاد قماش لصناعة خيمة أو أطباق معدنية لاختراع فرن يدوي تصبح مستحيلة، فإن كل ما يدفع الناس للموت أو الانهيار موجود في غزة، ولكن الناس متماسكة بفعل الإيمان؛ الإيمان غير المرتبط بالضرورة بالتديّن ولكنه يفسّر الواقع أو يبرره كثمن للتحرر. بكلمات أخرى، لم تتغير علاقة الناس بمدينتهم من ناحية الدمار فحسب، بل من ناحية القدرة على المقاومة أيضًا. بعض أهالي غزة الذين لم يتمكنوا من العودة لمنازلهم في شمال القطاع، شاهدوا غرف نومهم ومطابخهم التي أصبحت مساحات اشتباك مع جنود الاحتلال في فيديوهات الإعلام العسكري التي يتحرك بها المقاومون، وبذلك تصبح العمارة جزءًا من التكتيكات العسكرية وفضاءات المقاومة التي تكّرس الإيمان وتلهم الصبر في قلوب الفلسطينيين.

في فهمنا للعمارة واستهداف الاستعمار لها، علينا أن لا نفترض أن الفلسطينيين كانوا مجرد متفرجين حيال تدمير وتفكيك مدنهم وأراضيهم. تجسد توظيف العمارة في المقاومة حتى قبل عام 1948 عندما استخدم الفدائيون معرفتهم الحدسيّة المتأصلة بالمكان وشبكاتهم الاجتماعيّة لتأمين عمليات الكرّ والفرّ والهجوم والتمويه والاختفاء. في الحرب الحالية، فإن ثبات الفلسطينيين في غزة عمومًا وتمسكهم بالتواجد شمالي القطاع رغم القصف العنيف والتحذيرات المستمرة هو مواجهة للاحتلال لا تقل أهمية عن قدرة فصائل المقاومة الفلسطينية على التحرك عبر الأنفاق أو إطلاق صواريخ محلية الصنع واختراق المجال الجوي الذي ظلت «إسرائيل» تحتكره لسنوات.

ما هي الأهداف العسكرية والسياسية التي يسعى الاحتلال لتحقيقها من خلال الإبادة المكانية لغزة في هذه الحرب؟

تساعد الإبادة المكانية الاحتلال الإسرائيلي على تحقيق بعض أهدافه العسكرية. ارتبط القصف السجّادي، وهو تكتيك عسكري لقصف منطقة عبر القنابل غير الموجهة بكثافة وتدميرها بالكامل حتى تتسطّح معالمها،[7] بقيام الاحتلال بفتح ممرات مكشوفة للآليات العسكرية بالتزامن مع بدء العملية البرية أو قبلها. يمنح القصف السجادي جنود الاحتلال قدرة أكبر على المناورة والسيطرة، مقابل مقاتلي المقاومة الذين يحاولون استدراجهم للمباني السكنية التي تمنحهم الأفضلية في استخدام الشبابيك والسلالم والتنقل عبر الغرف.

من ناحية أخرى، جزء كبير من حرب الاحتلال الحالية على غزة يهدف إلى تدمير البنية التحتية الخاصة بالمقاومة، ولأن جزءًا من شبكة الأنفاق مرتبط بفتحات في البنية الفوقية داخل المباني، يقوم الاحتلال باستهداف المنازل لقطع هذا الاتصال بين الفضائيْن أو لقتل أي أفراد محتملين داخل الأنفاق.

تحقق الإبادة المكانية أيضًا أهدافًا سياسية، إذا لم يفلح مسح مربع سكني كامل في تدمير نفق أو اغتيال قيادي، فإنه بالضرورة سيقتل عشرات الشهداء من المدنيين وسيدمر أي إمكانيات للحياة يحتاجها المواطنون، ويحاول بذلك دفعهم إما للهجرة أو النزوح، أو لفظ المقاومة والانتفاض عليها. قصف الاحتلال أماكن لا يحتمل تواجد المقاومين فيها مثل آبار المياه والمستشفيات ومراكز الإيواء، لكنه بتعظيم المأساة الإنسانية يجبر الفلسطينيين في غزة على تغيير أماكنهم بحثًا عن احتياجاتهم التي يستخدمها كأداة حرب، و/أو يدفعهم ليصبحوا في قمة السخط على المقاومة التي ينخرط العدو في محاربتها.

ذهبت التقديرات الأولية إلى أن تكاليف بناء غزة بعد وقف إطلاق النار قد تتجاوز عتبة الخمسين مليار دولار، كيف تقرأ مشهد إعادة الإعمار ودور المنظمات الدولية فيه في ضوء عمليات الإعمار السابقة لغزة؟

لم ترقَ عمليات إعادة إعمار غزة في أي من الحروب السابقة للمستوى المطلوب، إذ كانت تتم ببطء شديد. بعد مرور عام على حرب 2021 تمكنت وزارة الأشغال العامة والإسكان الفلسطينية من البدء بإعمار حوالي 200 وحدة سكنية من أصل 1700 وحدة دُمّرت بشكل كامل، بتمويل من لجنة إعادة الإعمار القطرية والتي قصف مقرها في الحرب الحالية. كما تخضع إعادة الإعمار لرقابة إسرائيلية صارمة بشكل يحدد طريقة استخدام كل ذرة اسمنت يتم إرسالها.

لم تضع مؤتمرات إعادة الإعمار السابقة أية بنود لضمان عدم تكرار سيناريو الدمار المادي في غزة، وذلك لأنها لا تحمّل «إسرائيل» مسؤولية الدمار الذي أحدثته، بل تتماشى مع اعتباراتها الأمنية. تتعامل خطط إعادة الإعمار مع الدمار في غزة كما لو أنه نتيجة كارثة طبيعية وليس نتيجة أعمال سياسية وعسكرية ممنهجة، ولذلك تشارك به الدول المانحة على أنه إغاثة إنسانية أو عمل خيري. إن تجاهل الجذور السياسية للأزمة والحلول الأساسية المتمثلة في إنهاء الاحتلال وفك الحصار يساهم في توظيف إعادة الإعمار كأداة لخنق المقاومة.[8]

أرى أيضًا أن فهم وفلسفة المؤسسات الدولية للإعمار إشكالي، إذ تفترض أن هذا الإعمار أبدي وأن الصراع انتهى، المشكلة في هذا الفهم أن قدرة المدينة على الصمود أو تحمّل الحروب القادمة لا تتطور. لم تفكر خطط الإعمار البتة بكيفية حماية البنية التحتية لغزة حتى يتم تقليل أضرار استهدافها ولا يموت الناس عطشًا عندما تقصف إمدادات المياه، ولا كيف توفر الملاجئ للعائلات حتى يقل عدد الخسائر البشرية، ولكنها ركزت على تقديم سقوف يمكن للناس العيش تحتها، وفي كثير من الأحيان فشلت حتى في تقديم هذا الهدف، فقام الناس بإعادة إعمار بيوتهم على مسؤوليتهم الشخصية.

لذلك، نلمس مؤشرات الإبادة المكانية في غزة بعد ثلاثة أشهر فقط من بدء الحرب، ونرى القطاعات الأساسية منهارة، على عكس المقاومة، التي لم تبن للسلام أو لمستقبل ورديّ، بل بنتْ للحرب التي تواجه بها «إسرائيل». إن استكشاف المقاومة لفضاء عمراني مستقل عبر الأنفاق هو ما يجعلها اليوم متماسكة رغم أن المدينة وكل مقومات الحياة فوق الأرض معدومة.

  • الهوامش

    [1] كتاب «مدن تحت الحصار: فضائح العنف السياسي وعسكرة التنظيم المدني»، ستيفان غراهام، 2004، صفحة 333.

    [2] كتاب «أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي»، إيال وايزمان، 2017، صفحة 14.

    [3] خرج باسل من سجون الاحتلال عام 2018 ورمّم مع عبد الرحمن وزوجته مبنى في نابلس يبلغ عمره حوالي 200 عام، وأسسوا فيه مقهى ثقافيًا ومشروعًا معماريًا يهدف لخلق مساحة تفاعل وتثبيت صمود لأهل البلدة القديمة في نابلس.

    [4] بعنوان «العمارة كفضاء للصمود والمقاومة الشعبية في النزاعات الحضرية المسلحة: دراسة حالة مدينة نابلس»، 2019.

    [5] كتاب «الإبادة المكانية: سياسة التدمير الحضري»، مارتن كوارد، 2009، صفحة 11.

    [6] كتاب «التراث المعماري في مدينة غزة»، لمؤلفته نهاد محمود المغني، 2007.

    [7] بحسب بحث «إثبات الإبادة المكانية: نظرة مدنية وحضرية تجاه قصف العواصم» لمؤلفته كينيث هيويت، 2015.

    [8] ورقة بحثية بعنوان «إعادة إعمار قطاع غزة: الخلفية والتحديات»، خالد وليد محمود، 2014، صفحة 9.

]]>
https://www.7iber.com/environment-urban/%d8%a5%d8%a8%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%83%d8%a7%d9%86-%d9%85%d8%ad%d9%88%d9%8f-%d8%ba%d8%b2%d8%a9-%d9%87%d8%af%d9%81%d9%8c-%d9%84%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8/feed/ 0
تحت الحصار: «حوّارة مدينة أشباح» https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%ad%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b5%d8%a7%d8%b1-%d8%ad%d9%88%d9%91%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a9-%d8%a3%d8%b4%d8%a8%d8%a7%d8%ad/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%ad%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b5%d8%a7%d8%b1-%d8%ad%d9%88%d9%91%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a9-%d8%a3%d8%b4%d8%a8%d8%a7%d8%ad/#respond Wed, 03 Jan 2024 09:06:39 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=88922 في شباط الفائت، تصدّر المشهد وزير المالية الإسرائيلي، والوزير في وزارة الأمن، بتسلئيل سموطريتش حين قال إنه يجب محو قرية حوّارة من الوجود، وأضاف أن هذه مهمّة دولة «إسرائيل» لا مهمّة أفراد. في إشارة إلى الهجوم الذي شنّه المستوطنون على القرية الفلسطينية الواقعة في نابلس، والذي استشهد نتيجته شابٌ وجرح عشرات الفلسطينيين، وأحرقت خلاله عشرات المنازل والمحال التجارية ومئات السيارات.

تقع قرية حوّارة جنوب مدينة نابلس، ويقطنها حوالي سبعة آلاف فلسطيني. وهي كما باقي قرى الضفة الغربية، محط أنظار المستوطنين منذ سنوات. 

 يقطع شارع حوارة طريق القدس نابلس -كما كان يعرف قديمًا- القرية من منتصفها، فيقسمها إلى قسمين؛ شرقي وغربي، وهو من أهم الطرق في المنطقة، إذ هو الطريق الرئيسي الرابط بين شمال الضفة وجنوبها، بين القدس ورام الله ونابلس.

وللمستوطنين يعدّ هذا الشارع شارعًا رئيسيًا، إذ إنه جزء من شارع الستين، وهو شارع يقطع فلسطين من الناصرة شمالًا، وحتى بئر السبع جنوبًا، وهو طريق المستوطنين الرئيسي للوصول إلى مستوطنات ما يسمى «غلاف نابلس»، ويربط ما بينها أيضًا وما بين مستوطنات منطقة رام الله والقدس.

قبل دعوات سموطريتش لمحو القرية، وبعدها، تتعرّض قرية حوّارة منذ سنوات لهجمات متكررة من المستوطنين، وتحديدًا لأنها محاطة بمستوطنات يسكنها أكثر المستوطنين أيديولوجية، سواء في مستوطنة «يتسهار» أو«تبواح» و«حافات شاكيد» بالإضافة إلى النقاط العسكرية على التلال فوقها. وما ينطبق على حوّارة ينطبق على قرى الضفة الغربية بأشكال مختلفة، إذ ومنذ سنوات تشهد الضفة الغربية تصاعدًا في اعتداءات المستوطنين، وتتركز هذه الاعتداءات في الريف. فمثلًا شهد العام 2021 حوالي 1100 اعتداء، وارتفع في 2022 إلى حوالي 1200 اعتداء، وبحسب هيئة مكافحة الجدار والاستيطان، وصل عدد الاعتداءات في النصف الأول من هذا العام إلى 1148 اعتداء، وهذا كان قبل طوفان الأقصى، والسعار الذي أصاب المستوطنين معه، والذي عنى تصاعدًا حادًا في عمليات القمع والتهجير للفلسطينيين في قرى الضفة، بدعم حكومي إسرائيلي متصاعد، من شواهده توزيع وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير بنادق على مستوطني الضفة. 

قبل اندلاع طوفان الأقصى، كانت حوّارة تتعرّض لإغلاقات مع كلّ عملية مقاومة تنفذ في القرية، وكان آخرها إغلاقًا فرضه الاحتلال مع العملية التي نفذت يوم الخامس من أكتوبر، إذ أجبر الاحتلال المحال على إغلاق أبوابها، وانتشر الجيش بشكل كبير في القرية، وتم تشديد الإجراءات على الحواجز الاحتلالية. 

ومع العدوان على غزة، شدّد الاحتلال ومستوطنوه الهجمة على الضفة الغربية، ما أدى لارتقاء أكثر من 300 شهيد حتى اليوم، وتحوّل الإغلاق الذي عرفته حوّارة حصارًا كاملًا، فلم يعد الأهالي قادرين على التحرك داخل قريتهم، ولا على فتح محالهم.

في الفيديو التالي من قرية حوّارة، نستعرض الحصار المفروض على القرية، وكيف يتعامل أهل القرية معه، وما الذي يعنيه أن يعيش المرء مترقبًا هجمات من المستوطنين المسلّحين، والمدعومين دومًا من جيش الاحتلال. 

]]> https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%ad%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b5%d8%a7%d8%b1-%d8%ad%d9%88%d9%91%d8%a7%d8%b1%d8%a9-%d9%85%d8%af%d9%8a%d9%86%d8%a9-%d8%a3%d8%b4%d8%a8%d8%a7%d8%ad/feed/ 0 الإبعاد إلى الأمام: مرج الزهور وصعود حماس https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%b1%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%87%d9%88%d8%b1-%d9%88%d8%b5%d8%b9%d9%88%d8%af-%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b3/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%b1%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%87%d9%88%d8%b1-%d9%88%d8%b5%d8%b9%d9%88%d8%af-%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b3/#respond Tue, 02 Jan 2024 08:33:19 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=88912

«لقد قامت السلطات بإبعادنا عن وطننا وظنّ الكثيرون أننا وقعنا في مصيبة كبرى لا تساويها مصيبة، وأن نقمة حلّت بنا، وأن محنة عظمى نمر بها، وجميع المحبين أشفقوا لحالنا، ولكن يشاء الله ويقدر لنا خيرًا مغلفًا بهذا الشر، ويجعل النقمة نعمة، والمحنة منحة، ويجعل الشر خيرًا ويجعل هذا الإبعاد بردًا وسلامًا لنا وحقدًا وثأرًا في قلوب الأعداء، ويعيد كيدهم إلى نحورهم. وما سقطنا على أرض جنوب لبنان حتى ألّف قلوب الناس جميعًا لنا، وجعل كل الناس قلوبهم تهوى إلينا، وألهمنا سبحانه وتعالى أن نقف الموقف الذي فيه عزتنا وكرامتنا وحفظ حقوقنا والرفعة لنا». 

تلخص هذه الكلمات لحماد عليان الحسنات، عضو المكتب الإداري العام للإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة المؤسس لحماس، والتي خطها في «ذكريات مرج الزهور» ونشرها بعد عودته من الإبعاد مباشرة، الكثير مما قيل عن تجربة مرج الزهور، حين أبعدت المئات من كوادر حركة حماس والجهاد الإسلامي قسرًا إلى جنوب لبنان قبل 31 عامًا، وأثر تلك التجربة في حركة حماس وكادرها. فالإبعاد الذي كان مساويًا للموت، صار مدخلاً للقلوب، وإذ به يفتح الباب لتحولات جديدة في حماس وتجربتها.

«الطوفان»

فجر الجمعة 11 كانون الأول 1992 استشهد قائد مجموعات «عشاق الشهادة» عصام عزيز براهمة في بلدة عنزة جنوب جنين، بعد معركة طويلة قتل خلالها قائد قوة الاقتحام الخاصة وجرح أربعة من جنودها. لم يكن هذا الاشتباك غريبًا في  ذاك الشهر ولا في بقية أيام العام 1992، إذ كانت الانتفاضة تشهد موجة جديدة تسيد فيها السلاح وأهله، وبرزت عمليات مطاردي تنظيمات «المعارضة»، خصوصًا الإسلامية منها، وعلى رأسها العمليات التي نسبت لكتائب الشهيد عز الدين القسام احتفاءً بذكرى انطلاقة «حماس»، ومنها عملية نفذها المطارد عماد عقل، قتل فيها ضابط وجنديان على طريق بيت لاهيا-الشجاعية (في السابع من كانون الأول)، وعملية «الحاووز» في مدينة الخليل التي قتل فيها ضابط وأصيب فيها ضابط آخر وجندي (في 13 كانون الأول).

هذا النشاط العسكري دفع الصهاينة لتنفيذ حملة اعتقالات واسعة لهذه القوى، إذ وجه رابين في الربع الأخير من العام 1992 لبدء حملة أمنية لـ«خفض مستوى العنف في المناطق، والسماح لمحادثات السلام بأن تجري بهدوء»، فغاية رابين كما نقل كانت عدم توجيه الأضواء نحو الأراضي المحتلة. وفي الرابع من كانون الأول، كانت مصادر العدو الأمنية تتحدث عن أنه «يمكن الإحساس بنتيجة موجة الاعتقالات على الأرض، فقد ضعف نشاط الحركة في الضفة مؤخرًا». وإحصائيًا، تحدث العدو عن اعتقال ثلاثة آلاف ناشط في حماس، بينهم زعيمها الروحي أحمد ياسين.

أخبار الشيخ ياسين كانت تتصدر الصحف والمجلات تلك الفترة، خصوصًا وأن وضعه الصحي لم يكن على ما يرام. وفي خلفية هذه الأخبار والعمليات العسكرية، وجد حراك مفاوضات، بمسارات علنية وأخرى -كما تبين لاحقًا- سرية، احتفى في الأسبوع الأول من كانون الأول 1992 وأشاد بقرار الكنيست الذي يسمح بإجراء اتصالات بين الإسرائيليين وأعضاء منظمة التحرير. واعتبرت الناطقة باسم الوفد الفلسطيني لمحادثات السلام، حنان عشراوي، ذلك «اعترافًا ضمنيًا بمنظمة التحرير».

في ظلال هذا كان «الطوفان» كما وصفه المبعد إلى مرج الزهور فتحي القرعاوي في كتابه «مرج الزهور بعد 25 عامًا: معركة المبعدين الإعلامية». إذ فوجئ موظفو الصليب الأحمر في رام الله بملثمين يسلمونهم رسالة وصورة لهوية جندي صهيوني أسر في اللد، في حوالي الساعة 11 من صباح يوم الأحد 13 كانون الأول 1992. كانت تلك عملية أسر الجندي نسيم توليدانو، التي طالبت كتائب القسام فيها بإطلاق سراح الشيخ ياسين وعدد من الأسرى، مهددين بإعدام الجندي في حال عدم تحقيق المطالب خلال 10 ساعات، وهو ما نفذوه بالفعل. بدأ العدو بعد ذلك إجراءات مختلفة كان أبرزها حملة اعتقالات شاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد إعلانه أن «عملية مكافحة الإرهاب تدخل عهدًا جديدًا» لاستثنائية العملية.

صورة عن البيان الرسمي الصادر عن كتائب القسام وفيه مطالب آسري توليدانو. من أرشيف الباحث.

مساء الخميس 17 كانون الأول، بدأت حافلات صهيونية بدخول منطقة الحزام الأمني المحتلة جنوبي لبنان، لتستقر الحافلات المحملة بـ415 مبعدًا داخل معبر زمريّا ويدفع المبعدون إلى داخل الحدود اللبنانية، وبعد أخذ وردّ قرر المبعدون الذين شكلوا قيادة ميدانية أن يستقروا في موقع بين بلدتي مَيْمِس ومرج الزهور رافضين قرار الإبعاد، ومعلنين «معركة» العودة.

بعد تسعة شهور، أعلن عن قرار سلطات العدو إعادة دفعة أولى من المبعدين في 17 أيلول 1993 على أن يعود البقية حتى نهاية كانون الأول من العام نفسه. فأعلن المبعدون على لسان الناطق الرسمي باسمهم، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، موافقتهم على العرض المقدم، مع «إيماننا الكامل بحق كل مبعد في العودة إلى وطنه وسنعمل إن شاء الله على عودة أربعة ملايين من أبناء شعبنا إلى وطنهم فلسطين».

تمت العودة الأولى، واستمرت المعركة لعودة البقية، وخلال ذلك أعلن توقيع ما سمي اتفاق أوسلو، ثم اشتدت المقاومة في الأرض المحتلة، واستشهد المطارد الأبرز عماد عقل. ثم كانت عودة البقية يوم 17 كانون الأول 1993.

الإبعاد يبرز نموذجًا مغايرًا

خلال العقدين الماضيين، أرّخت الأدبيات الصادرة لجزء أساسي من كيفية تحول الإخوان المسلمين في فلسطين إلى المواجهة، وهو كما ظهر مسار متعدد الأبعاد، قادته وجوه الجماعة المختلفة داخل الأرض المحتلة وخارجها، بعد مسار نقد داخلي طويل، وانقلابات ناعمة. ومع انطلاقة الانتفاضة الأولى، كان الإعلان عن هذا التحول بتأسيس حركة المقاومة الإسلامية، التي عرفت لاحقًا باسم حماس. 

لم يكن هذا التحول طارئًا ولا مفاجئًا، واستند إلى بنية تنظيمية راسخة، ذات هرمية محددة، تربع على رأسها داخل الأرض المحتلة المكتبُ الإداري العام للإخوان المسلمين في الضفة والقطاع. ورغم اشتغال الإخوان المسلمين خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات على توسيع القاعدة التنظيمية، والتحول التدريجي للعمل الجماهيري، إلا أنه يمكن الخلوص في ضوء القراءة المجهرية لهذه التجربة إلى أن تحول هذا البناء التنظيمي إلى حركة جماهيرية كبرى لم يكن وليد لحظة إعلان حماس. 

وفقًا لشهادة أحد الكوادر الأولى للإخوان المسلمين في منطقة رام الله، ولاحقًا أحد كوادر جهاز الدعوة البارزين في منطقته، فإن انفتاح الحركة على الجماهيرية ارتبط بفعلها العسكري وتفاعل سلطات العدو معه. وبرأيه، فإن المحطة الأولى باتجاه التحول نحو «الجماهيرية» ارتبطت بحملة الاعتقالات التالية لعملية أشرف البعلوجي (الذي انتظم في صفوف حماس متأثرًا باعتقال الشيخ أحمد ياسين وقيادة الحركة في القطاع عام 1989) ومروان الزايغ، التي نفذت بالسكاكين في ذكرى انطلاقة حماس الرابعة في كانون الأول 1990.

بدل أن تقود عملية «الإبعاد» إلى تفكيك البنية التنظيمية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي داخل الأرض المحتلة، فإنها أسهمت سريعًا في تعزيز نفوذهما، وحضورهما الموازي لتيار قوى المفاوضات.

نفذ البعلوجي والزايغ عمليتهما في مصنع داخل يافا المحتلة، وبعد قتلهما ثلاثة أشخاص، وقّعا تبنيًا للهجوم داخل المصنع، قائلين إن «حماس تعلن مسؤوليتها عن عملية القتل بمناسبة الانطلاقة الرابعة لحركة حماس، تحية إجلال وإكبار إلى شيخ الانتفاضة الشيخ أحمد ياسين». وبدأت عملية ملاحقة ومطاردة لهما، حيث انتقل أشرف لرام الله ومروان لغزة. وعن الحملة، كتب يحيى السنوار في كتابه عن أشرف البعلوجي وعمليته: «جن جنون العدو وطارت عقولهم من وقع الحدث وبدأت إذاعتهم تنقل الأخبار المتتالية عن ضربة قاصمة حسب تعبيرهم للحركة وكل من يفترض أن له بها أدنى علاقة، وبدأ عدد المعتقلين يرتفع تدريجيًا ليصل خلال يومين أو ثلاثة إلى 1600».

أما الحدث التالي فكان «الإبعاد» إلى مرج الزهور، إذ إن حملة الاعتقالات والإبعاد طالت قيادة معظم أعضاء المكتب الإداري العام المسير لعمل حماس في الضفة والقطاع، كما طالت معظم كوادر جهاز الدعوة القيادية في مختلف المناطق، وبعض الكوادر التي فرزت للعمل مطلع التسعينيات في الجهاز العسكري. تحدث رابين إثر عملية أسر توليدانو فأشار إلى أن هدف عمليات حماس والجهاد يتمثل في إحباط عملية السلام في أوساط الشعب الفلسطيني للدفع باتجاه معارضة المسيرة السلمية. وبهذا، أظهرت هذه المواجهة «حماس» و«الجهاد الإسلامي» بوصفهما رأس حرب المعارضة الأبرز لمسار التفاوض. 

وبدلًا من أن تقود عملية «الإبعاد» إلى تفكيك البنية التنظيمية للحركتين في داخل الأرض المحتلة، فإنها أسهمت سريعًا في تعزيز نفوذهما، وحضورهما الموازي لتيار قوى المفاوضات. وأسهم في ذلك المسار أمرين، الأول مرتبط بالمبعدين وقراراتهم، والثاني متصل بكادر «حماس» داخل الأرض المحتلة. إذ بعد لحظات من الإبعاد اجتمعت قيادتهم، وأسهم في سهولة الاجتماع أن قيادة حماس الرئيسية القائدة لمسارها داخل الأرض المحتلة كانت من ضمن المبعدين، وانعكس ذلك في التشكيل القيادي الأول المختار لقيادة المبعدين، والذي شكل انعكاسًا لبنى القيادة في المكتب الإداري العام للضفة والقطاع ولقيادة المناطق. وإثر الاجتماع -كما ينقل أحد أعضاء المكتب الإداري العام للمبعدين حماد الحسنات- تقرر أنه «لو عض كل واحد منا على صخرة فلن نغادر هذا المكان، فإما العودة إلى ديارنا أو الموت». كما تقرر الطلب من حكومة لبنان عدم استقبال المبعدين أو السماح لهم بدخول لبنان. ورفض أن تكون قضية الإبعاد قضية إنسانية تحتاج إلى المساعدات والطعام، وإنما قضية سياسية لا حل لها إلا العودة. 

من اعتصام نفذه مبعدو مرج الزهور.

قاد هذا الصمود السريع، وغير المتوقع صهيونيًا كما أظهرت القراءات الصهيونية التالية، إلى إبراز نموذج لشخصيات مغايرة، وإبراز كادر حماس والجهاد -كما عبر الحسنات- كمجموعة متجانسة، تجمع على القرار الصحيح في أسرع وقت وتلتزم بالرأي الواحد، وثقتها ببعضها كبيرة. وسرعان ما تفاعل الجميع مع النموذج المغاير، الذي وجد احتضانًا فوريًا من معارضي المسار التفاوضي من أهل فلسطين -خصوصًا الجبهتين الشعبية والشعبية القيادة العامة- ومن قوى بارزة حاضرة في لبنان آنذاك -الدولة السورية والحرس الثوري الإيراني وحزب الله-. كما وجد احتضانًا إسلاميًا وعالميًا كبيرًا، انعكس في حضور إعلامي يومي أبرزَ مغايرة نموذج المبعدين ومغايرة رجاله. 

داخل الأرض المحتلة، وكما كان لحملة الاعتقالات التالية لعملية البعلوجي–الزايغ أثرها الفوري في جماهيرية حماس، فإن عملية الإبعاد التي أتت في ذروة عمليات حماس العسكرية الجريئة، التي تسيدها عماد عقل ورفاقه، أرفدت حماس بكادر جديد، وأنصار جدد، بدأوا يتفاعلون مع رسالة المبعدين اليومية، ويسدون الثغرات في بنيتها التنظيمية، وينطلقون بفعلها العسكري نحو مسارات جديدة. وتحول «الإبعاد» ومعركته، إلى ساحة مواجهة جديدة اشترك فيها مقاتلو حماس، الذين لم يتأثروا كثيرًا بعملية الإبعاد. فالبناء العسكري لحماس كان في بواكيره، وأبعد عدد محدود من كوادره، أما الكادر الأساسي فكان مطاردًا أو مجهولًا.

وكما كان اعتقال الشيخ ياسين دافعًا رئيسًا لعدد من عمليات «حماس»، ومنها عملية البعلوجي–الزايغ، كذلك أصبحت معركة الإبعاد، التي تزامنت مع معركة رفض مسار التفاوض والانحراف عن مطلب التحرير. وعبر عن ذلك أولًا بيان للقسام في أواخر العام 1992 جاء فيه أن «الإرهاب لن يزحزح ثقتنا بأن العاقبة لنا بإذن الله، ونقول لزعيم عصابة الإجرام رابين ردًا على خطابه: الأرض لمن يدفع ثمنها من دمه، ونحن لها». وأعلنت كتائب القسام عن بداية مرحلة جديدة ضد عدو لا يفهم إلا لغة القوة. ثم عبّر عن ذلك فعل القسام التي صعدت من عملياتها في العام 1993، فنفذت عملية احتجاز رهائن شعارها «هكذا التفاوض.. وإلا فلا» (تموز 1993)، وسلسلة عمليات إطلاق نار مختلفة. وبلغت ذروتها بالعملية الاستشهادية الأولى التي أشرف عليها المهندس يحيى عياش في نيسان 1993 ونفذت بالتزامن مع مسيرة الأكفان التي نظمها مبعدو مرج الزهور، وقدمت العملية كهدية للمبعدين. 

صورة عن بيان للقسام صادر في 17 كانون الأول 1992. من أرشيف الباحث.

تتالت العمليات تحت شعار الخيار العسكري أولًا، وازدادت وتيرة المعركة داخل الأرض المحتلة، وقدمت القسام عددًا من خيرة مقاتليها في العام 1993، وبدأ نجم عياش بالصعود. وترافق مع ذلك استمرار معركة مرج الزهور حتى كانت أولى موجات العودة بعد أيام من توقيع اتفاق أوسلو، بعد مؤتمر صحفي تحدث فيه الرنتيسي قائلًا: «نحمد الله عز وجل أن أكرمنا حيث كان للمبعدين شرف هدم أول مخيم أقيم للفلسطينيين وهذا فأل خير بقرب هدم كل مخيمات اللجوء». وعلى الحدود سئل الرنتيسي كيف تعلق على الواقع الجديد بعد اتفاق غزة أريحا، فأجاب أن الواقع لم يستقر بعد والمباحثات لا زالت متعثرة. وسئل أنتم ماذا ستفعلون هل ستزيدون في تعثير هذه المفاوضات أم ماذا، ليجيب «باختصار، فلسطين كل فلسطين أرض عربية إسلامية من نهرها حتى بحرها، ولن نتنازل عن ذرة من ترابها».

وكأن الرنتيسي كان يرد على خطاب رابين الأول. أما كتائب القسام داخل الأرض المحتلة، فكانت رسالتها يوم الثامن من تشرين الأول 1993 بتوقيع يحيى عياش، بعملية استشهادية ثانية نفذها الشهيد سليمان غيظان أحد الكوادر الرئيسة في الجهاز العسكري لحماس في المنطقة الغربية لرام الله، وكانت رسالة بيان الكتائب:

«لقد عمد رابين وزبانيته المجرمون في الآونة الأخيرة إلى ممارسة سياسة إعلامية مبرمجة هدفها إشعار الشعب الفلسطيني أن قواه المجاهدة، وعلى رأسها حركة حماس المجاهدة وكتائب عز الدين القسام قد منيت بضربة قاصمة لا تستطيع بعدها مواصلة الجهاد والوقوف في وجه المؤامرة، ولكننا نقول له يا هذا لا عيب في الشمس إن لم يرها العميان، ولا عيب في البركان إن لم يسمع به الأصم، فهذه هدية أولى لك يا رابين وسيتبعها هدايا أخرى..
وإن غدًا لناظره قريب».

مساحات جديدة

بروز حماس إلى المشهد العام كوجه المعارضة الأبرز، الذي تجسد بتفاعل مقاتليها مع معركة المبعدين، لم يكن الانعكاس الأوحد لتجربة الإبعاد على حماس وجندها. إذ إن الإبعاد أيضًا شكل فرصة استثنائية لنشاط حماس على جبهات مختلفة، وفتح نوافذ جديدة، وعزز أخرى. 

على المستوى الداخلي، كانت جماعة الإخوان المسلمين ثم حماس تحرص على التواصل الدائم بين كوادرها في ملتقيات مختلفة، كان أبرزها المؤتمرات الطلابية والاعتكافات العامة في المساجد عمومًا، ثم في المسجد الأقصى خلال سنوات الثمانينيات. بالإضافة إلى لقاءات المستويات القيادية العليا الدورية والتي استمرت لسنين تالية بعد اندلاع الانتفاضة الأولى وإطلاق حماس. لكن كما تبرز مراجعة يوميات المبعدين، فإنهم حولوا الإبعاد إلى مدرسة مكثفة في مستويات مختلفة، وصار المبعدون ورموزهم وجوهًا مألوفة حاضرة في كل خبر. 

مجموعة من المبعدين يصلون في مرج الزهور.

أما على المستوى العام، فرغم وجود تواصل دائم بين كادر حماس، داخل وخارج الأرض المحتلة، إلا أن الإبعاد شكل فرصة للقاء الدائم والتواصل المستمر، ولتأسيس شبكات علاقات مختلفة داخل التنظيم، وكذلك بين حماس والحركات السياسية الفلسطينية المعارضة، وبين حماس والحركات العربية والإسلامية الرافضة لخيار المفاوضات. وشكل التواصل الذي ابتدأه المعتقلون فرصة لتعزيز العلاقات مع الحرس الثوري الإيراني خصوصًا والجمهورية الإيرانية عمومًا -مع الإشارة إلى أن العلاقات الرسمية كانت سابقة لذلك- خصوصًا وأن الحرس الثوري وحزب الله شكلا الداعم اللوجستي الأول للمبعدين، واستمر الحضور الرسمي للحرس والحزب حتى نهاية الإبعاد. كما شكل فرصة لفتح علاقات مع الدولة السورية استثمرتها حماس خلال سنوات تالية. 

مستوى آخر من مجالات إفادة حماس، لم تتكشف الكثير من تفاصيله بعد، متصل بتعزيز تجربتها العسكرية. إذ تؤكد الشهادات المتوافرة أن المبعدين حرصوا على استغلال أوقاتهم، والاستفادة من تخصصاتهم المختلفة. من ذلك تعزيز الخبرة العسكرية لبعض كادر الجناح العسكري لحماس، خصوصًا ممن عادوا إلى الأرض المحتلة، إذ إن عددًا من الكوادر العسكرية الذين اكتشفت صلتهم بالعمل العسكري كإسماعيل الحبازي وعز الدين الشيخ خليل ظلوا خارج الأرض المحتلة، وخلال سنوات تالية أشرف الشيخ خليل على قيادة العمل العسكري في الخارج حتى استشهاده في أيلول 2004.

كان أبرز الكوادر الذين تدربوا في لبنان في معسكرات الجبهة الشعبية-القيادة العامة، ومعسكرات حزب الله الشهيد محمود أبو هنود، الذي نشط في كتائب القسام بعد عودته في منطقة شمال الضفة الغربية، وقاد الجهاز العسكري للحركة وصار أبرز مطارديها بعد شهادة عادل وعماد عوض الله في أيلول 1998، حتى شهادته عام 2001. وكذلك الأسير المحرر سليمان خليل القواسمة الذي نشط في كتائب القسام في الجنوب بعد عودته من الإبعاد حتى اعتقاله. 

من أجل كل ذلك، كانت تجربة مرج الزهور رغم مصاعبها رافعًا لحركة حماس، نقلتها من مكان لآخر، سواء على مستوى حضورها العسكري أو شعبيتها فلسطينيًا وعربيًا أو تطور قدراتها وعلاقتها. كل ذلك كان أساسًا ساهم في تشكيل المرحلة القادمة من تاريخ الحركة.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%a8%d8%b9%d8%a7%d8%af-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d9%85%d8%b1%d8%ac-%d8%a7%d9%84%d8%b2%d9%87%d9%88%d8%b1-%d9%88%d8%b5%d8%b9%d9%88%d8%af-%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b3/feed/ 0
تاريخ خلف القضبان: كتب من الأسرى وعنهم https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%ae%d9%84%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b6%d8%a8%d8%a7%d9%86-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%b1%d9%89-%d9%88%d8%b9%d9%86%d9%87%d9%85/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%ae%d9%84%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b6%d8%a8%d8%a7%d9%86-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%b1%d9%89-%d9%88%d8%b9%d9%86%d9%87%d9%85/#respond Sun, 31 Dec 2023 05:00:41 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=88864 هذه القائمة جزء من سلسلة «على هامش الحرب: كتب عن فلسطين».

لا تكتمل أي محاولة تأريخ أو بحث في سير الفلسطينيين وقضيتهم ومقاومتهم دون الإضاءة بشكل خاص على الحركة الأسيرة. فأكثر من ثلث الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة تعرض للاعتقال -ولو لمرة واحدة- داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي بين الأعوام 1967-2016، أي ما يُقارب نحو مليونيْ فلسطيني. وهذا قبل موجات الاعتقال الواسعة التي نشهدها الآن في الضفة والقطاع. 

لكل هؤلاء سيرة في سجون الاحتلال هي جزء من القصة الفلسطينية الكاملة. لكن الأهم هو أن الحركة الأسيرة بشمولها قيادات تاريخية للمقاومة بمختلف فصائلها لم تكف يومًا عن لعب دور رئيس في مسار القضية الفلسطينية، بل ظلت دومًا جزءًا أساسيًا من توجيه المسار الفلسطيني ككل، انطلاقًا من شرعية مكتسبة في النضال. 

في هذه القائمة كتب تضيء على تجربة الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية، وأخرى كتبوها أنفسهم من قلب السجون.

أسرى بلا حراب: المعتقلون الفلسطينيون والمعتقلات الإسرائيلية الأولى 1948-1949
مصطفى كبها ووديع عواودة
مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت 2013

نُشر الكثير من الكتب حول تداعيات نكبة فلسطين العام 1948، مثل مجريات المعارك وتشريد أهل فلسطين، وجرائم العصابات الصهيونيّة، ومن ثم إعلان دولة «إسرائيل»، وأُغفلت بالمقارنة مع ما سبق قضيّة الأسرى الفلسطينيين والعرب في تلك الفترة؛ إذ لم يكتب فيها إلا بشكل هامشيّ أو على شكل شهادات فرديّة لبعض هؤلاء الأسرى.

يأتي هذا الكتاب الذي اعتمد على أرشيفات جيش الاحتلال الإسرائيليّ والصليب الأحمر، بالإضافة إلى  عشرات المقابلات الشفوية مع من وجدوا أحياء من الأسرى في تلك الفترة، ليقدّم صورة شاملة لوضع الأسرى في تلك الفترة وارتباط قضيّتهم بمواضيع مهمّة مثل تشريد الفلسطينيين إلى دول الجوار، وعمليات التطهير العرقي والمجازر التي قام بها الجيش، بالإضافة إلى تأسيس الكثير من المؤسسات الإسرائيلية حينها.

خلال هجمات العصابات الصهيونية على المدن والقرى الفلسطينية العام 1948 كان يجري تشريد النساء والأطفال والشيوخ أولًا، ومن ثم اعتقال كل الرجال في القرية القادرين على حمل السلاح والتحقيق معهم ثم تصنيفهم: إطلاق سراح أو تصفية.

ثم صدرت تعليمات أخرى يجري فيها تصنيف الأسرى إلى «أسير حرب»، وهو الشخص الذي قام بأعمال مقاومة ضد المشروع الاستيطاني، أو «معتقل» وهو العربيّ الذي يُوحي سلوكه بأنه مشتبه به، لذا كثر عدد الأسرى ولم يكن هناك إمكانية إقامة معتقلات لهم بالإضافة إلى صعوبة توفير حراسة لهم؛ فجرى إجبارهم على العمل بالسخرة كعاملين في جني المحاصيل التي تركها أهلها والمشاركة في بناء الكثير من المنشآت بعد إعلان قيام «إسرائيل»، وبعد فترة ساومهم جيش الاحتلال: الحريّة مقابل الإبعاد إلى خارج فلسطين.

يحتوي الكتاب على فصول تناولت كيفية تعامل الصليب الأحمر مع هؤلاء الأسرى، والظروف التي كانوا معتقلين فيها، وتفاصيل تشييد المعتقلات الأولى. كما يضم الكتاب في الجزء الأخير منه نصّ المقابلات التي أجراها الباحثان مع المعتقلين، وجدولًا بأسماء ما يزيد عن خمسة آلاف أسير بين العامين 1948-1949 مع اعتراف الباحثان أن هناك آلاف أخرى لم يتسن لهما الوصول لهم.

صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب
وليد نمر دقة
الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2010

بخلاف فترة الحرب، لا يشبه القمع والتعذيب في السجون الإسرائيلية في بعض الأحيان حالات القمع والتعذيب التي تصفها أدبيات السجون في العالم من حرمان فعلي من الطعام أو الدواء أو وضعهم في زنازين قذرة تحت الأرض أو تكبيلهم بالسلاسل المشدودة إلى كتل حديدية طوال النهار. إنما هناك نوع آخر من التعذيب والقمع وهو ما تطرق له هذا الكتاب الذي ألّفه الأسير وليد دقّة، الذي ما يزال وضعه اليوم مجهولًا، وهو المشخص بمرض السرطان، والأسير منذ أكثر من 37 عامًا.

يصف دقّة في هذا الكتاب طرق التعذيب التي تأتي في عصر ما بعد الحداثة ويجري فيها استهداف الروح والعقل، وهو تعذيب كما يقول أشد وطأة «بحضاريّته» ويهدف إلى إعادة صياغة البشر عبر صهر الوعي. هذا الكتاب إذًا محاولة فكريّة لتفسير ما يعجز الأسير عن تفسير ما يجري له ذهنيًا لا كقضيّة حقوق إنسان، إنما كحالة سياسيّة.  

لا يقف المؤلف عند مفهوم صهر الوعي داخل السجون إنما يربطها كذلك بحالة صهر وعي في المجتمع الفلسطيني والتي تقوم على إجباره على دفع ثمن مرتفع لفعل المقاومة مثل استخدام وسائل القوة المفرطة في ملاحقة وقتل المطاردين أو هدم بيئته التي يعيش فيها الأمر الذي يرفع من كلفة الفعل المقاوم على حاضنة المقاوم وبالتالي إعادة تشكيل وعي المجتمع الحاضن له.

يرتكز الكتاب على تفسيرات ميشيل فوكو لمفهوم السيطرة، ومفاهيم زيغمونت باومان، وعلم النفس مثل نتائج تجارب الدكتور دونالد أوين كاميرون على مرضاه، بالإضافة إلى أخبار صغيرة منشورة في الصحف الإسرائيلية يضفي عليها المؤلف تأويلات ودلالات ترتبط بفكرته.

لا تقتصر تفسيرات المؤلف على الإطار النظريّ التي يحاجج فيها إنما يستمّد كذلك مشاهداته لما يجري للأسرى داخل السجون من ظروف معيشية يومية وتعامل السجّان معهم والتغييرات التي حدثت على حراك الحركة الأسيرة، يقول دقّة: «لقد خصخصت إسرائيل النضال الجماعي للأسرى كما خصخصت المشروع الوطني الفلسطيني». 

خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ
حسن عبد الرحمن سلامة
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2022

هذا الكتاب يحكي تفاصيل ما نظّر له وليد دقّة في كتابه، بما يرويه من تفاصيل مرحلة واحدة من السجون وهي مرحلة العزل الانفرادي الذي يخضع لها بعض الأسرى.

مؤلف الكتاب الأسير حسن سلامة الذي ينتمي لحركة حماس والمحكوم بـ48 مؤبدًا، قضى منها  27 عامًا في السجن، منها خمسة آلاف يوم في العزل الانفرادي.

يصف سلامة في هذا الكتاب الذي جاء على شكل يوميات تفاصيل ما يُعانيه داخل هذه السجون من الناحية النفسيّة بشكل أكبر من الناحية الجسدية وإن كان الجانب الأخير حاضرًا في الكتاب. فمثلًا يتناول كيف تسعى إدارة السجون إلى تحطيم قادة الحركة الأسيرة؛ نواة وعي الأسرى، أو خلق النزاعات بين الأسرى مثل تعمّد وضع الأسرى مع معتقلين إسرائيليين وعرب محكومين بقضايا جنائيّة مثل مهربي المخدرات داخل غرفة واحدة.

تقدّم هذه اليوميّات معلومات مهمّة عن سجون الاحتلال الإسرائيلي مثل وجود محققين من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي حققوا مع سلامة نفسه بحجة أن العمليات التي نفذها أدت لمقتل أمريكيين، أو أن يروي فيه تفاصيل مقابلته مع الأسير الدكتور ضرار أبو سيسي الذي خطفه الموساد من أوكرانيا.

في الصفحات الأخيرة من هذا الكتاب يقدّم سلامة تفاصيل ما يجرى للأسرى في الحادثة الأبرز في تاريخ الأسرى في السجون الإسرائيلية في السنوات الأخيرة وهي فترة المفاوضات بين حركة حماس والاحتلال على صفقة الوفاء للأحرار، راصدًا الحرب النفسية التي شنتها إدارة السجون على الأسرى من حركة حماس ممن لم تشملهم صفقة التبادل وكيف حاولت التأثير على علاقة هؤلاء الأسرى بتنظيمهم في الخارج. 

على طول صفحات هذه اليوميات سيجد القارئ آليات مقاومة الحركة الأسيرة لإدارة السجون، مثل تنفيذ الإضرابات عن الطعام وكيف يجري التنسيق بين أسرى الفصائل الأخرى في تحديد موعد الإضراب والأهداف السياسية أو المطلبيّة له. ومع ذلك بعد الانتهاء من الكتاب سيكون القارئ لهذه اليوميات قد تعرّف على كيف تحاول إدارة السجون دفع هؤلاء الأسرى في المعازل الانفرادية إلى الجنون. 

الجوانب الإبداعية في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة
رأفت حمدونة
وزارة الإعلام الفلسطينية، رام الله، 2018 

بسبب العدد الكبير من الأسرى في الضفة الغربية وقطاع غزة، الذين اعتقلوا نتيجة ممارسة عمل سياسيّ أو عسكري ضد المحتلّ، وبسبب أن الكثير منهم محكوم بفترات سجن طويلة، صيغت داخل السجون حالة من التنظيم بين الأسرى على مدى سنوات طويلة بهدف تحقيق مكاسب مطلبيّة للأسرى داخل السجون، ومطالب سياسيّة تهدف إلى مواصلة الفعل المقاوم حتى من داخل السجن، حتّى صار هناك ما هو أشبه بما يكون بدولةٍ صغيرة داخل السجون جرى فيها صياغة أعراف وقوانين وانتخابات وهيكلية تدير شؤون الأسرى، امتدّ أثرها ليس داخل السجون وحسب إنما كذلك داخل المجتمع الفلسطيني.

يبحث هذا الكتاب، في المراحل التي مرّت بها الحركة الأسيرة حتّى وصلت إلى هذا الشكل من التنظيم، منذ المرحلة الأولى التي منع فيها الأسرى حتّى من الجلوس مع بعضهم، واستخدموا كعمّال بالسخرة لدى مؤسسة جيش الاحتلال، إلى مرحلة خوض الإضرابات عن الطعام مثل إضرابيْ سجن نفحة 1980، والجنيد 1984، والاحتجاجات مثل إحراق محتويات الزنازين من أجل تحسين حياتهم داخل المعتقلات، مثل إدخال التلفاز والراديو والكتب والملابس وتحسين وجبات الطعام، حتى الوصول إلى مرحلة متقدمة من التنظيم الذي وصل إلى التنسيق فيما بينهم ليس في السجن الواحد وحسب وإنما كذلك داخل كافة السجون، والتي انتهت إلى صياغة معادلة مع إدارة السجون يصعب بسببها على المحتل التعدى على حقوق الأسير دون أن يدفع الثمن في المجال المطلبيّ داخل السجون. ولم يقتصر ذلك في المسألة المطلبيّة وحسب، بل وصلت قيادات الحركة الأسيرة إلى المشاركة في الحياة السياسيّة الفلسطينية في الخارج، وتمثّل ذلك في صياغة وثيقة الأسرى التي طرحت لإنهاء الانقسام الفلسطيني والتي ستعرف لاحقًا باسم «وثيقة الوفاق الوطني» عام 2006.

هموم الحركة الأسيرة في ظلّ السلام
قدورة فارس، راضي الجراعي، عيسى قراقع، عوني المشني، أحمد الصيّاد
وزارة الإعلام الفلسطينية، رام الله، 1995

يتناول الكتاب واقع الأسرى الفلسطينيين فترة التفاوض ومن ثم التوقيع على بنود اتفاق أوسلو بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي وهو مخرجات ندوة شارك فيها مجموعة أسرى فلسطينيين كانوا في الأسر في تلك الفترة.

«كان الاعتقاد السائد [لدى الأسرى] أن موضوع المعتقلين احتلّ أولويةً وهامشًا واسعًا في الاتفاق، وانتظرت الحركة الأسيرة النصّ الحرفي للاتفاق ليتم التأكد من موقع قصّتها في إطار الاتفاق، وكانت المفاجأة الصدمة أن الاتفاق لم يتضمن أيّ إشارة لا من قريب ولا من بعيد لموضوع الأسرى». بهذه الجمل يصف الأسير في تلك الفترة، ورئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينية الرسميّة هذه الأيّام، قدورة فارس، حال الأسرى الفلسطينيين فترة المفاوضات ومن ثم التوقيع على اتفاقية أوسلو. 

بعد مناقشات مطوّلة، وتحت وطأة خيبة الأمل هذه، اتخذت قيادة الحركة الأسيرة القرار بالتنسيق فيما بينها من أجل تفجير قضيّتهم داخل السجون وخارجها بالتعاون مع نادي الأسير الفلسطيني عبر مجموعة من الفعاليات الشعبية في الشارع الفلسطيني إلى الحد الذي أحرج السلطة الفلسطينية.

يتناول الكتاب بعدها كيف دفع هذا التحرّك السلطة الفلسطينية إلى وضع قضيّة الأسرى على طاولة المفاوضات التي أعقبت اتفاق أوسلو، مثل مفاوضات القاهرة، لكن دون أن يكون هناك حل لقضيتهم وكيف ناشد أحد المفاوضين خلال المفاوضات الحركةَ الأسيرة بالكف عن ممارسة الضغط بحجّة أن «إسرائيل» اتخذت من موضوعهم وسيلة للابتزاز في قضايا جوهريّة أخرى. 

تكمن أهمية الكتاب في أنه وثّق لمجريات قضيّة الأسرى في فترة المفاوضات والشروط التي وضعتها «إسرائيل» للإفراج عنهم مثل إكمال محكوميتهم لدى السلطة أو الإبعاد إلى مناطق بعيدة عن سكناهم مثل غزّة وأريحا أو اشتراط توقيعهم على وثيقة يؤيدون فيها السلام، وتوثيقه كذلك عدد من فضّل البقاء في الأسر على الإفراج المشروط بالتوقيع على هذه الوثيقة وهم 1200 أسير فلسطيني.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d8%ae%d9%84%d9%81-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%b6%d8%a8%d8%a7%d9%86-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d9%85%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%b3%d8%b1%d9%89-%d9%88%d8%b9%d9%86%d9%87%d9%85/feed/ 0
تاريخ في أتون المعركة: حماس في خمسة كتب https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%aa%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b3-%d9%81%d9%8a-%d8%ae%d9%85%d8%b3%d8%a9-%d9%83%d8%aa%d8%a8/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%aa%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b3-%d9%81%d9%8a-%d8%ae%d9%85%d8%b3%d8%a9-%d9%83%d8%aa%d8%a8/#respond Sat, 30 Dec 2023 05:00:29 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=88853 هذه القائمة جزء من سلسلة «على هامش الحرب: كتب عن فلسطين».

تتناول هذه القائمة بالعرض الموجز خمسة كتب حول حركة حماس، الأربعة الأولى منها دراسات أكاديمية، والأخيرة مذكرات عُرِضت منفصلة لانفرادها بمعلومات خاصّة حول حماس في الضفة الغربية. وبينما يصعب إيجاز هذه الدراسات، فقد تفاوتت مساحة العرض بين كلّ واحدة منها، لتطول في دراستين بالإنجليزية «احتواء حماس: صعود مقاومة فلسطينية وركوده» لطارق بقعوني، والأخرى «حماس: تاريخ من الداخل» لعزام التميمي، وذلك لمنح القارئ العربي فرصة أفضل للاطلاع على أطروحتي الكتابين والإضافة المُقدمة في كل منهما، لا سيما مع ندرة المراجعات لهما بالعربية، علمًا بأنّ كتاب بقعوني سيصدر مترجمًا إلى العربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وقد عرضت هذه المادة كذلك الكتاب الصادر عن مركز الزيتونة «حركة المقاومة الإسلامية- حماس، دراسات في الفكر والتجربة»، وهو مجموعة من الدراسات لا دراسة واحدة، ودراسة خالد الحروب «حماس الفكر والممارسة السياسية»، وفي ختام العرض غالبًا كان يجري اقتراح عناوين أخرى للإثراء والاطلاع.

قد لا تكفي هذه الكتب لفهم حماس كما ينبغي، وهي التي تخوض اليوم كبرى معارك الفلسطينيين في «طوفان الأقصى»، وتضع تاريخها هذا كله في أتون هذه المعركة، لكن يبقى ما في هذه الكتب جانبًا من تاريخها والسجال معه الذي لا بدّ من الاطلاع عليه ونحن نعيش الفصل الأخطر والأكثر ملحمية في تاريخها هذا.

احتواء حماس: صعود مقاومة فلسطينية وركودها
طارق بقعوني
جامعة ستانفورد، 2018

تأتي أهمية كتاب طارق بقعوني من كونه دراسة أكاديمية، ممّا يعني توقّع قدر معقول من الموضوعية النقدية في مقابل الرؤية الذاتية الصرفة. وهذه الدراسة وإن كانت مكتوبة بالإنجليزية، فهي، كما يُفترض، في طور الترجمة إلى العربية، ممّا يوفّر للجمهور العربي إمكانية الاستفادة منها.

يبني الكتاب أطروحته على جملة واسعة من الوثائق والأدبيات والخطابات المعلنة لحركة حماس، وغيرها من القوى الفلسطينية، ولا سيما من الفترة الواقعة بين عاميّ 1987 و2017، مما يمنح الأطروحة قيمة إضافية نسبية لقربها الزمني من اللحظة الراهنة.

قرب صدور الكتاب من اللحظة الراهنة، هيأ له سرد مسارات حماس التالية على إدارتها لقطاع غزة مرورًا بسلسلة المواجهات الكبرى التي عبرتها منذ حرب العام 2008/2009 ومرورًا بالحرب الأكبر حتى ذلك تاريخ صدوره، أي حرب العام 2014، مع قراءة نقدية بطبيعة الحال لتعاطي حماس مع الهبّات العربية التي اندلعت في العام 2011.

لا تنحصر قيمة الكتاب في ذلك، فملاحظات المؤلف في كيفيات التعاطي مع حماس والنظر إليها، تتطابق مع الجاري الآن في معركة «طوفان الأقصى»، فمثلًا يذكر المؤلف في مقدمته التمهيدية كيف شاهد إسكات المتحدثين الفلسطينيين في القنوات التلفزيونية الغربية لفشلهم في إدانة حماس، وقد كانت تلك الإدانة المطلوبة شرطًا للانخراط في أيّ نقاش لتلك الحرب على غزّة، وكيف أن التفسير الوحيد الذي يقدّمه الإعلام الغربي لضحايا تلك الحرب هو «ما تمثّله حماس من كراهية وتعطش للدماء»، الأمر الذي دفع المؤلف للبحث في أسباب رفض النظر إلى حماس بوصفها وجهًا من وجوه النضال الفلسطيني، والسؤال عن ديناميات عزل حماس وتشويهها؛ ليفضي ذلك إلى معاناة فلسطينية أوسع بعدد سكان قطاع غزّة، فوصف حماس بالإرهاب وفق معيار أمريكي مختلّ يعني بالضرورة تجريد نضال الفلسطينيين من السياسة وتجريدهم من إنسانيتهم لشنّ حرب شاملة عليهم.

يلاحظ المؤلف كذلك كيف أن حركة مركزية في النضال الفلسطيني تعاني جهود التهميش من منافسها المحلّي، وفي النظامين الإقليمي والدولي، وإذا كان يجري تصوير غزّة غربيًّا بوصفها ملاذًا للإرهابيين ومن ثمّ تفهم تكتيكات الحرب الإسرائيلية الفتاكة بسكانها المدنيين، فإن ذلك يعني أن مصير غزّة وحماس قد صار شيئًا واحدًا وبنحو لا رجعة فيه. وإذا كان ذلك واضحًا في حرب العام 2014، فإنه الآن في حرب «طوفان الأقصى» أكثر وضوحًا. بيد أنّه، وفي حين كان الغزّي، وبقطع النظر عن موقفه من إدارة حماس للقطاع، يشعر بالفخر لاستثنائيته في التحرّر من الحضور الاستعماري المباشر، بالقياس إلى أخيه الفلسطيني في الضفة، وإلى تحديه الإسرائيلي قياسًا المجال العربي عمومًا، فإنّ نتائج «طوفان الأقصى» لم تتبين بعد على هذا الصعيد.

يمكن القول إذن إنّ ثمّة رواية مضادة لمحاولة عزل حماس عن سياقها الفلسطيني وحقيقة الاستعمار الإسرائيلي، مما يستدعي سردًا تاريخيًًا، لا يزعم فيه المؤلف أنه يقدم به تاريخًا شاملاً للعقود الثلاثة منذ انطلاق الحركة وحتى كتابه، ولا يزعم كذلك أنه يطرح مراجعة للسياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، ولكنه يقدم لمحة عن مسار حماس التاريخي، ابتداء من الفصل الأوّل الذي حمل عنوان «صعود القومية الفلسطينية الإسلامية»، والذي يتتبع فيه المؤلف تحوّلات الحركة الإسلامية في فلسطين منذ تأسيس أوّل فرع للإخوان المسلمين فيها عام 1945 وحتى الإعلان عن حماس عام 1987، لينتقل تاليًا في فصله الثاني الموسوم بـ«المقاومة العسكرية تتراجع» إلى معالجة علاقة حماس بالسلطة الفلسطينية الناجمة عن اتفاقية أوسلو وانعكاس ذلك على إضعاف الحركة، لتدخل الحركة تاليًا بعد انتفاضة الأقصى في تحوّلها الأكبر والأكثر جذرية بمشاركتها في الانتخابات التشريعية وتشكيلها الحكومة وهو الأمر الذي عالجه فصله الثالث «سياسة المقاومة»، إذ أفضى فوز حماس إلى حصارها والدفع نحو عزلها وتهميشها، أو كما وصف فصله الرابع «خنق حماس»، وقد انتهت هذه المشاركة وسياسات الخنق إلى الانقسام الذي عملت حماس، بحسب المؤلف، على مأسسته كما يروي فصله الخامس «إضفاء الطابع المؤسسي على الانقسام»، لتنتهي فصول الكتاب بمراجعة سياسة حماس إزاء الهبّات العربية التي اندلعت عام 2011 ووصفها عنوان الفصل السادس بـ«مصائب إقليمية».

استدعت الخاتمة النقدية العام 2014، وتحديدًا حدثي اتفاقية المصالحة بين حماس وفتح (اتفاق الشاطئ)، وحرب العام 2014، للقول إن تلك الحرب انتهت باحتواء حماس، وفرض الهدوء عليها إلى حين، وبينما يقدم المؤلف قراءة نقدية لاختيارات حماس السياسية وإجراءاتها الإدارية، فإنّه يفكك في الوقت نفسه المفاهيم الغربية والإسرائيلية سواء من حيث التعريف المختلّ للإرهاب أو تجريد حماس من سياقها الفلسطيني، وتجريد نضالها من أبعاده السياسية، واختزالها بوصف الإرهاب، الأمر الذي يسمح بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتبرير الحروب الإسرائيلية الفتاكة عليهم بذريعة دفاعها عن نفسها،  وذلك في حين أنّ حماس، بحسب رؤية المؤلف، حركة قومية فلسطينية بإطار إسلامي، تفترق عن السلفيات الجهادية، وعن الأممية القتالية الإسلامية، لتكون عناصر القوّة الأيديولوجية لها في فشل مشروع التسوية الذي تبناه خصمها السياسي، وفي نجاحات المقاومة كانسحاب الاحتلال من غزة عام 2005.

كان المؤلف واعيًا بكون حماس طيفًا واسعًا، متعدد الوجوه، يتسم باللامركزية، ويضمّ عددًا من التوجهات، بما يضطرها لإدارة توازناتها باستمرار، وبما يجعل من اختزالها مجازفة علمية، إلا أنّ منهجه في تحليل الخطاب، يحول دون تحليل البنى التنظيمية للحركة وتوازناتها الداخلية وأنماط اشتغالها ومصادر تمويلها، كما أنّ تعدد مجالات اشتغالها يتطلب تعريفًا أكثر تحديدًا من كونها حركة فلسطينية بإطار إسلامي، إذ تمثّل الحركة أرضًا بكرًا لتأطيرها مفاهيميًّا من حيث طبيعتها وموقعها، إن كانت حركة اجتماعية، أم فصيلاً مسلحًا، أو غير ذلك.

ولإثراء الجانب التاريخي عن حماس، يمكن اقتراح عناوين أخرى، مثل دراسة خالد أبو العمرين «حركة المقاومة الإسلامية «حماس»: جذورها، نشأتها، فكرها السياسي»، الصادرة عن مركز الحضارة العربية عام 2000، ودراسة نهاد الشيخ خليل «الإخوان المسلمون في قطاع غزة 1967 – 1987» الصادرة عن مركز التأريخ والتوثيق الفلسطيني عام 2011، ومحاورات أحمد منصور مع الشيخ أحمد ياسين في برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة والصادرة في كتاب «الشيخ أحمد ياسين.. شاهد على عصر الانتفاضة» والصادر عن الدار العربية للعلوم عام 2004.

حركة المقاومة الإسلامية – حماس: دراسات في الفكر والتجربة
تحرير: محسن صالح
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2004

يجمع الكتاب سلسلة من الدراسات التي حاولت البحث في فكر الحركة وممارستها السياسية والنضالية، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام: الأوّل الدراسات، وبلغت أحد عشر دراسة، ولتنوعها وتعدد كتابها، سيُكتفى بالإشارة إلى مواضيعها وكتابها، لبيان القيمة التي يمثّلها هذا الكتاب، ولهذا السبب لن تكون المراجعة النقدية متاحة لهذا العدد المتنوع من الدراسات.

أما القسم الثاني فهو سلسلة مقالات لخمسة من قيادات حماس، هم خالد مشعل، وإسماعيل هنية، وموسى أبو مرزوق، وسامي خاطر، وأسامة حمدان، بحيث يمكن عدّها وثائق، إلى جانب القسم الثالث (ملحق الوثائق) والذي ضمّ ثمانية عشرة وثيقة.

في الدراسات، تناولت الدراسة الأولى لمحسن محمد صالح قراءة تاريخية في رصيد تجربة حماس من العام 1987 وحتى العام 2005، بالمرور على أهمّ المحطات في الأثناء من النشأة وعبورًا بالانتفاضة الأولى ثم اتفاقية أوسلو وانتهاء بانتهاء الانتفاضة الثانية.

تتناول الدراسة الثانية ليوسف رزقة الرؤية السياسية لحماس، من حيث ماهية الفكر السياسي لحركة إسلامية وامتياز هذا الفكر عن الإسلام وروافده التي تستقي منها الحركة للخروج بتصوّر عن ماهية الحركة بكونها حركة فلسطينية وطنية بمرجعية إسلامية، ثمّ يأتي المؤلف على موقع الدين والدولة والدستور والقانون والوطنية والعلمانية والديمقراطية والأقليات في فكر الحركة.

وليس بعيدًا عن هذا الحقل تأتي الدراسة الثالثة لمصطفى أبو صوي التي تتناول رؤية حماس للآخر الذي هو عدوّها، مفككًا طبيعة الخطاب إزاء اليهود، بالعودة إلى البحث في ميثاق حماس والتباسات كتابته تاريخيًّا.

تتناول الدراسة الرابعة، لأحمد سعيد نوفل ومحسن صالح، الآخر الوطني، وتحديدًا منظمة التحرير الفلسطينية، وقواها، حركة فتح، واليسار الفلسطيني.

أما الآخر الإسلامي، فقد كان موضوع الدراسة الخامسة، لسميح حمودة، والتي ابتدأت بأسس علاقة حماس بالإسلاميين الآخرين، ثم تناولت تلك العلاقة تفصيلاً مع حزب التحرير والجماعات الصوفية والسلفية وحركة الجهاد الإسلامي.

أما الدراسة السادسة، لرائد نعيرات، فقد رصدت تحولات الموقف السياسي لحماس من عملية التسوية السلمية، من الصدام إلى الدمج الذاتي والموضوعي.

الدراسة السابعة كانت لحافظ الكرمي، عن رؤية حماس للإصلاح الاجتماعي والسياسي.

وتناولت الدراسة الثامنة لعدنان أبو عامر علاقات حماس العربية من حيث المحددات والمنطلقات والأهداف والأبعاد الشعبية، مع الإتيان على موقفها من الربيع العربي، وعدم الغفلة عن المواقف العربية منها.

يستدعي ذلك دراسة علاقات حماس مع العالم الإسلامي، وهو ما فعلته الدراسة التاسعة، لطلال عتريسي، متخذًا من تركيا وإيران نموذج الدراسة، مع إطلالة على علاقة حركة حماس بمنظمة المؤتمر الإسلامي.

الدراسة العاشرة كانت قراءة لبلال الشوبكي في أيديولوجيا حماس من حيث تجربتها في الحكم من العام 2006 وحتى العام 2012، بالعودة إلى دخولها انتخابات العام 2006، وما يتعلق بذلك من إشكاليات في النظام السياسي الفلسطيني، وفحص كيفيات تعامل حماس معه، في إطار ما واجهته من تحديات ذاتية وموضوعية.

وإذ لا يمكن فصل حماس عن المنظور الغربي لها، عالجت الدراسة الأخيرة ليوسف أبو السعود نظرة الدراسات الغربية لحماس التي تفاوتت بين أنها ميليشيا عسكرية محافظة ومنظمة سياسية واقعية وما اتصل بذلك من جدل حول ميثاقها ومشكلة الإرهاب الدولي، وما يستدعيه ذلك من سجال داخل حماس وحولها.

حماس: تاريخ من الداخل
عزام التميمي
مطبعة أوليف برانش، ماساتشوستس، 2007، 2011

صدر كتاب عزام التميمي «حماس: تاريخ من الداخل»، بالإنجليزية، في طبعتين، في عامي 2007 و2011، متوخيًا، أن تصل قصّة حماس بنحو أكثر دقة للعالم الناطق بالإنجليزية، بعدما كادت أن تنحصر الرواية الإنجليزية تجاه الحركة في وجهة النظر الإسرائيلية، كما في كتاب «حماس: السياسة والعمل الخيري والإرهاب في خدمة الجهاد» (Hamas: Politics, Charity, and Terrorism in the Service of Jihad) لماثيو ليفيت، الذي كان وقت نشره كتابه هذا عام 2006؛ مساعدًا لوزير الخزانة الأمريكية لشؤون الاستخبارات والتحليل، والذي صوّر حماس حركة إرهابية بجميع مناشطها، بما في ذلك العمل الخيري والدعوي، ومن ثمّ يأتي كتاب التميمي تصحيحًا لهذه الأطروحات، بتناول حماس في إطار أوسع، من حيث كونها حركة من شعب عربي مسلم صادف أنّه الشعب الفلسطيني الذي وقع عليه الاستعمار الصهيوني.

وتبدو قيمة الكتاب الأولى في تاريخه الزمني، بصدوره بعد فوز حماس بالانتخابات التشريعية عام 2006، مما يمنحه فرصة تفسير صعود الحركة ذلك الوقت. بيد أنّ قيمته لا تتوقف على ذلك، ولا تنحصر في الجمهور الغربي، ولا سيما الفصول المتعلقة بوجود الحركة في الأردن، وهي الفصل الرابع «إلى الأردن»، والفصل الخامس «قضية مشعل»، والفصل السادس «خارج الأردن»، وهي الفصول التي تتناول تاريخ انتقال قيادة الحركة للأردن، وتحولات علاقاتها بالحكم الأردني، والتباسات علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين الأردنية، وما اعترى هذه العلاقة من توترات آخر الأمر.

يبدأ الكتاب في فصله الأول «البدايات» بالتأريخ الموجز لجذور الحركة من بعد نكسة العام 1967، وحتى العام 1977 الذي بدأت فيه الجماعة الإخوانية الفلسطينية بالتفكير في الالتحاق بمسار مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، لتبدأ الجماعة بالتحول «من الدعوة إلى الجهاد» كما عبّر عن ذلك الفصل الثاني، وفي حين أنّ المشروع تبلور في العام 1987، فإنّ «الحرب الشاملة» كما عبّر الفصل الثالث بدأت على الحركة سريعًا، ومن ثمّ يعالج هذا الفصل أبرز ملامح تلك الحرب ومحطاتها.

يدخل الفصل السابع في مناقشة «الأيديولوجية التحررية لحماس»، بما في ذلك موقفها من اليهود و«إسرائيل» وتكتيكات النضال، مع موقف نقدي من ميثاقها الأول، ولمحة عن السجال الذي ظلّ يدور حوله، لينتقل بعد ذلك إلى مناقشة مفاهيم «الجهاد والاستشهاد» لدى الحركة في الفصل الثامن، متضمنًا الجدل الذي دار حول العمليات الاستشهادية.

وأخيرًا، وبالنظر إلى تاريخ إصدار الكتاب، أي إبان فوز حماس بالانتخابات وما تلاه من صراع مع فتح والسلطة، فإنّ فصله التاسع «حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية» مفيد لفهم تاريخ علاقة حماس بالمنظمة والسلطة وتحولاتها، وصولاً إلى «حماس في الحكومة» وهي القضية التي عالجها الفصل العاشر، ثم التساؤل بـ «نحو الانتفاضة القادمة» في الفصل الحادي عشر، بتناول أزمة العلاقات بين حماس وفتح إثر عدم اعتراف الأخيرة العملي بفوز حماس، وما نجم عن ذلك من انقسام فلسطيني، ثمّ يختم الكتاب بعدد من الوثائق الأصلية للحركة، مذكرتين لمكتبها السياسي، وثلاث مقالات منشورة في الصحافة الغربية لقادتها مشعل وأبو مرزوق وهنية، والبيان الانتخابي لكتلتها «التغيير والإصلاح»، وبما يساعد على ملاحظة تحولات الخطاب السياسي للحركة.

بالتأكيد، يتوقف الكتاب عند العام 2007، إلا أنّ مضامينه التاريخية، وموقعه من رصد تحولات الحركة، تبقى قضايا مهمة قابلة للاستدعاء، وإثراء القارئ العربي حال ترجمة الكتاب، وبما أنّ فصوله الوسطى حول حماس في الأردن، هي الأهمّ، فقد تجدر الإشارة إلى كتاب «اقتل خالد» لبول ماغوو، الذي صدرت نسخته العربية عن الدار العربية للعلوم والنشر عام 2009، ومذكرات الدكتور موسى أبو مرزوق الصادرة عن مركز الزيتونة، الجزء الأول عام 2019، والجزء الثاني عام 2020، ومذكرات إبراهيم غوشة «المئذنة الحمراء» الصادرة عن مركز الزيتونة، عام 2008، ومحاورة غسان شربل لخالد مشعل والتي صدرت عن دار النهار عام 2006 بعنوان «حماس وتحرير فلسطين.. خالد مشعل يتذكر».

حماس: الفكر والممارسة السياسية
خالد الحروب
مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1996

بقدر ما تقادم الزمن على أطروحة خالد الحروب «حماس.. الفكر والممارسة السياسية»، إذ إنّها صدرت في العام 1996، إلا أنّها تحتفظ بقيمة خاصة، من ثلاث حيثيات، أولًا من حيث كونها من أوائل الدراسات الأكاديمية عن حركة حماس، وثانيًا من حيث ملابستها لزمن المحنة السياسية القاسية التي مرّت بها الحركة بعد تأسيس السلطة الفلسطينية، ومواجهة الحركة أسئلة الشكّ والحيرة والتردد تجاه مقولتها السياسية بعدما كان مشروع التسوية بدا وكأنه يبشّر بنجاحه مع تأسيس السلطة الفلسطينية فعليًّا، لا سيما وأنّ الحروب كان قد وضع لمساته الأخيرة على كتابه في آذار 1996، في حين كانت الانتخابات الأولى للسلطة الفلسطينية قد جرت بالفعل في كانون الثاني من العام نفسه، وهي الانتخابات التي قاطعتها الحركة، وثالثًا لما ضمه الكتاب من وثائق منشورة يفيد الاطلاع عليها في مكان واحد في تتبع الفكر السياسي للحركة، وما ضمته مرجعيته في ذلك الوقت من مصادر خاصة، كان منها إجابات خطية لبعض قيادات حماس، بما يتيح رصد تحولات الحركة.

ينقسم الكتاب إلى ستة فصول، الأوّل، كما في شأن أكثر هذه الدراسات، ينظر في السياق التاريخي لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين منذ العام 1946، بحسب المؤلف، وحتى انطلاقة الحركة.

بينما يمكن عدّ الفصل الثاني، أهم فصول الكتاب، لتتبعه تحولات رؤية حماس للصراع، من الحل التاريخي «فلسطين من النهر إلى البحر» إلى استدخال حلّ الدولة في فكر الحركة أو طرحها للهدنة، بالاستناد إلى أدبيات الحركة المعلنة، وأوراقها الداخلية، وتصريحاتها الصحفية، والمقابلات الخاصة التي أجراها المؤلف مع قيادتها، مما يوفّر مرجعية جيدة للاطلاع على هذا الجانب من تحولات خطاب حماس.

الفصل الثالث يتناول علاقات حماس السياسية الفلسطينية، مع المنظمة، والسلطة، والمسيحيين الفلسطينيين والحركة الإسلامية في الأراضي المحتلة عام 1948، وأمّا الفصل الرابع فعن علاقاتها الخارجية، ليكون أهمّ ما فيه موقف «إسرائيل» من حماس ومن الظاهرة الإسلامية عمومًا.

الفصل الخامس لا يقلّ أهمية عن الفصل الثاني، لتناوله تحولات خطاب حماس وممارستها في جملة من القضايا السياسية المتصلة بالفكر السياسي للحركة، كموقفها من التعددية السياسية، وتاريخ انخراطها في الممارسة الانتخابية، الطلابية والنقابية والبلدية، مرورًا بانتخابات السلطة المشار إليها سابقًا، ليأتي هذا الفصل على اشتغالات الحركة الأخرى؛ العمل الأهلي والاجتماعي والمسجدي والعسكري.

وأخيرًا، يختم المؤلف كتابه بالفصل السادس في جملة من الاستنتاجات النقدية على المستويين العملي والنظري.

ويمكن أن يُضاف في إطار الاقتراحات حول الدراسات المبكرة عن الفكر السياسي لحركة حماس، كتاب «دراسة في الفكر السياسي لحركة حماس 1987 – 1996»، تحرير: جواد الحمد وإياد البرغوثي، والصادر عن مركز دراسات الشرق الأوسط في عمان عام 1996.

إلى المواجهة: ذكريات د. عدنان مسودي عن الإخوان المسلمين في الضفة الغربية وتأسيس حماس
تحرير: بلال محمد
مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2013

الأهمية الخاصة لهذه المذكرات، بالرغم من وجازتها، هو في كونها من النصوص القليلة، والنادرة، التي تناولت دور الضفة الغربية في التأسيس لحماس، فبينما تكاد تحصر الرواية شبه الرسمية تأسيس الحركة بقرار خاص صادر من غزّة، وبينما صار الحديث ممكنًا عن عدد من الروايات عن قيادات حماس خارج فلسطين، فإنّ رواية مسودي تتحدث عن مكتب إداريّ عام للإخوان المسلمين في الضفّة الغربية وقطاع غزّة عمل فيه عضوًا من العام 1980 وحتى العام 1990، وأنّ هذا المكتب هو الذي أخذ القرار في اجتماع ببلدة دورا في محافظة الخليل في 23 تشرين الأول 1987، بالمواجهة مع الاحتلال، مع ترك القرار الميداني للمناطق، لتكون الفرصة مواتية في غزة بعد حادثة استشهاد أربعة عمال فلسطينيين صدمهم مستوطن بسيارته عند حاجز بيت حانون (إيرز) بغزة.

بهذا الاعتبار يكون الفصلان السادس «نحو حماس 1981 – 1989» والسابع «ذكريات في مرج الزهور 1992 – 1993»، الأهم من بين فصول الكتاب السبعة لكونهما المخصصين للحديث عن حماس، لا سيما السادس الذي يقدّم فيه مسودي معلوماته المثيرة، وإن كانت موجزة، عن المكتب الإداري العام للإخوان المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وقياداته من كلا المنطقتين، واجتماعاته السابقة على تأسيس حماس، واللاحقة، والبيانين الأولين للحركة اللذين صدرا في غزة، وقصة اختصار اسم حركة المقاومة الإسلامية إلى حماس، وبعض ملابسات كتابة الميثاق، وحكاية الضربة الأولى للحركة عام 1989، وظروف التنسيق البكر بين الضفة الغربية وقطاع غزّة.

الملاحظ أن مساحة هذا الفصل محدودة، كما هو شأن هذه المذكرات عمومًا، بيد أن معلوماته على قلتها مهمة لإعادة بناء تاريخ حماس بصورة أكثر دقة. ومع ذلك، وبعد تجاوز الفصل الأول الذي يتحدث فيه مسودي عن نشأته، تبقى بقية الفصول مثيرة، فالفصل الثاني يقصّ من موقع شاهد العيان والمنغمس في الأحداث تاريخ الإخوان المسلمين في الخليل من العام 1956 وحتى العام 1962، وتداخل ذلك مع إخوان الأردن، لكون الضفة الغربية، ومنها الخليل، كانت جزءًا من المملكة الأردنية الهاشمية. وأما الفصل الثالث عن دراسته الطب في سوريا من العام 1962 إلى العام 1970، وكذا الفصل الخامس حيث عاد إلى سوريا لاستكمال دراسته من جديد من العام 1975 وحتى العام 1980، فهما مفيدان بالإشارة إلى واحد من روافد التأثير الإخواني الإقليمي على الإخوان الفلسطينيين، حيث انصبغ مسودي بالشخصية القطبية التي انعكست على أطروحاته في الخليل في الفترة الواقعة بين عامي 1970 و1976 وهو ما يشرحه في الفصل الرابع.

ولإثراء المعرفة بروافد الحركة الإسلامية في فلسطين قبل تأسيس حماس، يمكن العودة كذلك إلى «سِيْدِي عُمَر: ذكريات الشيخ محمد أبو طير في المقاومة وثلاثة وثلاثين عامًا من الاعتقال»، تحرير: بلال محمد شلش، والصادر عن «مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات» عام 2017،  و«نشأة الجماعة الإسلامية في سجون الاحتلال الإسرائيلي» لمحسن ثابت، بلا معلومات نشر.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%aa%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ae-%d9%81%d9%8a-%d8%a3%d8%aa%d9%88%d9%86-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b1%d9%83%d8%a9-%d8%ad%d9%85%d8%a7%d8%b3-%d9%81%d9%8a-%d8%ae%d9%85%d8%b3%d8%a9-%d9%83%d8%aa%d8%a8/feed/ 0
إبحار بلا شطآن: كتب عن غزة https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d8%a8%d8%ad%d8%a7%d8%b1-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%b4%d8%b7%d8%a2%d9%86-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%b9%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d8%a8%d8%ad%d8%a7%d8%b1-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%b4%d8%b7%d8%a2%d9%86-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%b9%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/#respond Fri, 29 Dec 2023 05:00:08 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=88841 هذه القائمة جزء من سلسلة «على هامش الحرب: كتب عن فلسطين».

نشرت خلال السنوات الماضية عن فلسطين وتاريخها عشرات الكتب، لكن لكل كتاب منها ثغراته وإشكالاته. كما أن الكتابة التاريخية البحثية، خصوصًا العربية، ما زالت قاصرة عن تأريخ الكثير من لحظات فلسطين وأهلها في القرن الماضي، وحذف من السرد الكثير من الحكايا والتجارب لأسباب كثيرة، كتطهير كثير من وثائق فلسطين وأهلها، واختفاء الكثير من المصادر بتتابع الحروب، وتكاثر المراقبين والعسس. 

لكن وبخلاف هذه النصوص تكاثرت خلال السنوات الماضية أيضًا، نصوص أمكن العودة إليها دائمًا لمن يبحث عن التاريخ الحي للناس وأمكنتهم. من أبرزها نصوص السير والمذكرات ونصوص ما يمكن أن يسمى كتب التاريخ المحلي أو البلدانيات. إضافة لبعض الأبحاث الأكاديمية. في هذه القائمة بعض هذه الكتب التي تناولت تاريخ غزة بالتحديد.

إبحار بلا شطآن: فصول من سيرة ذاتية
هارون هاشم رشيد
دار المجدلاوي للنشر والتوزيع، عمّان، 2004

ختم هارون هاشم رشيد، سيرته الأولى في آذار 1998، لتنشر بعدها بست سنوات. و«هارون الرشيد» كما أسماه والده الغزي يوم مولده في عام الزلزال، من أبناء حارة الزيتون، التي أكلت الحرب العالمية الأولى ومعارك غزة الأولى والثانية جل كروم زيتونها. في سيرته هذه يكتب رشيد تاريخًا من «لحم ودم»، يحكي سيرته الأولى في الحي، وسيرته مع مدن وبلدات فلسطين في ظل الاستعمار البريطاني، وسيرة الكتّاب فالمدرسة فالكلية الأولى. ويطعم هذه السيرة بالشعر، لالتصاق تجربته الشعرية مع سيرته الذاتية كما يقول. 

في هذه السيرة لقاء حميمي بين الحياة اليومية والتعبير عنها، كما عبر أدونيس، وصعود من الخاص إلى العام ومن العام إلى الخاص، إذ يرتحل رشيد بين سيرة المكان وسيرة أهله، من حرب إلى حرب، ومن مقاومة إلى مقاومة، ومن صمود وانبعاث إلى صمود وانبعاث متجدد. تحضر المقاومة اليومية لأهل غزة، ومقاومة فدائييها العابرة للأزمنة في السيرة بشكل جلي، وتقرأ سير مقاتلين صنعتهم الحرب، وآخرين أبوْا ترك غزة وحيدة، فعبروا الطريق من الخليل إلى غزة بحثًا عن حكايتها مع العدوان، وإثراءً لمقاومتها. ابتدأت السيرة بالزلزال الكبير، وختمت بزلزال حرب حزيران 1967 وقرار «الرشيد» أن لا يسلم نفسه لقوات العدو، فعبر الطريق إلى نابلس، ليعبر منها النهر شرقًا، وتبدأ تغريبته، كما تغريبة الكثير من الغزيين وأهل البلاد.

إتحاف الأعزة في تاريخ غزة
عثمان مصطفى الطباع
مكتبة اليازجي، غزة، 1999

كتب التاريخ المحلي لغزة، مدنها وبلداتها ومخيماتها، متعددة، وإن لم تلق رواجًا وانتشارًا يليق بغزة وتاريخها، وهذه للأسف سمة أساسية في هذه النصوص، إذ أن جلها ينشر محليًا، ويكون توزيعه محدودًا على الرغم من قيمته العليا في إبراز صوت الأهالي، وسرد حكيهم. ولعل هذا الكتاب هو أبرز كتب التاريخ المحلية الغزية، وهو كتاب موسوعي في تاريخ المدينة وناسها (تاريخ المدينة وعائلاتها وأنسابها وتراجم لأعلامها)، أنهيت مسودته في العام 1947 وتعددت مصادره بتعدد الأزمنة التي أرخ الطباع لها، لكن أبرزها في محطاته للتأريخ للراهن، بدءًا من معارك غزة في الحرب العالمية الأولى وصولًا لبواكير النكبة، شهادة المؤلف الشخصية. بقي نص الطباع مخطوطًا، وحضر في كتب تالية كمصدر رئيس، إلى أن اشتغل على تحقيقه ونشره عبد اللطيف أبو هاشم في العام 1999.

غزة عبر التاريخ
إبراهيم خليل سكيك
المطبعة العربية الحديثة، القدس، 1980-2001

بالإضافة للنص الموسوعي السابق، وجدت سلسلة نصوص إبراهيم خليل سكيك -وينقل عن الطباع في غير موضع- الصادرة في سبعة عشر جزءًا.

يقدم سكيك في الأجزاء الثلاثة الأولى (صدرت عام 1980) سيرة غزة عبر التاريخ الإسلامي الطويل وصولاً للاستعمار البريطاني (الجزء الرابع، 1981)، ثم العمليات الحربية في الديار الغزية الذي تناول حرب 1947-1949 (صدر عام 1981)، وخصص الجزء السادس للحديث عن القرى العربية في الديار الغزية، أما السابع والثامن (1982-1983) فخصصت لقطاع غزة تحت الإدارة المصرية.

أما الأجزاء التالية فتزداد قيمتها لزيادة حضور الشخصي فيها، إذ صارت الأجزاء أقرب إلى نصوص تذكر وتأمل، حول المجتمع الغزي، وشخصياته وحكاياته، وحول الأحداث الراهنة كالانتفاضة الأولى (1984-2001).

قطاع غزة 1948-1967: تطورات اقتصادية وسياسية واجتماعية وعسكرية
حسين أبو النمل
مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1979

بخلاف النصوص السابقة «المحلية»، نشر أيضًا خلال السنوات الماضية عدد من النصوص البحثية/الأكاديمية عن غزة تاريخها الاجتماعي والسياسي، وكذلك عن حركتها السياسية ومقاومتها، خصوصًا مع تطورات الوضع في القطاع خلال العقود الثلاثة الماضية. 

عربيًا كان مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية من أول من طرقوا الاهتمام بالقطاع، كجزء كما يبدو من الاهتمام العام في الأرض المحتلة، إذ أصدر حسين أبو النمل هذا الكتاب عام 1979. حاول فيه رسم تاريخ متعدد الأبعاد لتشكل قطاع غزة، ولفترة الحكم المصري للقطاع. واستند لمصادر أولية اختفى جزء رئيس منها مع سرقة مكتبة مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية إثر الاحتلال الصهيوني للبنان عام 1982.

انعكست المرحلة، وموقعية المؤلف السياسية والبحثية، على لغة الكتاب وميزته عن النصوص البحثية التالية. فمثلا يعنون الكتاب الفصل الثاني بـ«سنوات الجوع والضياع 1949-1952»، فيما فصله الثالث «الصمود، التبلور 1952-1955»، وهو فصل تمهيدي للحديث عن حرب الفدائيين 1955-1956 التي اعتنى فيها أبو النمل عناية خاصة. ويعد تأريخه لهذه المرحلة من بواكير النصوص التي اعتنت بالتجربة وحاولت تأريخها. وسبق أن نشر أبو النمل جزءًا من هذا التاريخ في العام 1977 كجزء من استعادة تاريخ المقاومة المسلحة في الأرض المحتلة عمومًا، وفي قطاع غزة خصوصًا.

قطاع غزة: السياسة الاقتصادية للإفقار التنموي
سارة روي
مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2018

أما النصوص المنشورة بالإنجليزية، فكان هذا الكتاب الصادر بالأصل عام 1995 من أبرزها. وختمته سارة روي بحديثها عما أسمته «وجه المستقبل»، وتتساءل فيه إن كان اتفاق غزة – أريحا سيكون نهاية الإفقار التنموي. لكن روي عادت في طبعات تالية، ترجمت الثالثة منها إلى العربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية للتأكيد على استمرار سياسات الإفقار. وتبرز في مقدمتها للطبعة الثالثة أن ضعف غزة سياسة متعمدة، تقترب من نهاية منطقية هي «جعل غزة غير قابلة للحياة». هذه النتيجة متوقعة في ضوء منطلقات كتاب روي، التي اعتبرت المشروع الاستعماري الصهيوني مشروعًا يسعى لغاية نهائية حاكمة هي الطرد. فالكتاب الذي بحث في التحليل المنهجي لتأثير سياسة الاحتلال التالية لحرب 1967 في التنمية الاقتصادية في قطاع غزة، بدراسة مفصلة، انقسم إلى أربعة أجزاء رئيسية، كان آخرها «وجه المستقبل»، وقدم أولها التاريخ السياسي والاقتصادي للقطاع في القرن الماضي، وركز الثاني والثالث على النهج الاقتصادي الخاص بالاحتلال تجاه قطاع غزة، والذي أسمته بالإفقار التنموي. وعرفته بأنه عملية تُشَوه، ومن ثم تُحبط التنمية من خلال حرمان الاقتصاد أو تجريده من قدراته ومن إمكان إحداث تحول بنيوي عقلاني فيه أنماط طبيعية من النمو والتنمية، ومنع نشوء أي نوع من وسائل التصحيح الذاتي.

تختم روي مقدمتها للطبعة الثالثة باقتباس من خطاب دايان الشهير في تأبين أحد قتلى الهجمات الفدائية على ناحال عوز في العام 1956، ومما قاله: «نحن جيل الاستيطان، ومن دون الخوذة الفولاذية وفوهة المدفع، لن نكون قادرين على زرع شجرة أو بناء بيت […] قدر جيلنا، هذا هو خيار حياتنا، أن نكون مستعدين ومسلحين أقوياء وثابتين، لئلا يتم نزع السيف من قبضتنا، فتنتهي حياتنا». في هذه المقدمة تفصل روي السياسات الصهيونية التالية لما سمي فك الارتباط لعزل غزة وإنهائها. ورغم أن فاعلية الفلسطيني تغيب في كثير من الأحيان عن الكتاب، إلا أن الكتاب يثري المشهد الخلفي ليوم العبور في السابع من أكتوبر، ويبرز قيمة فعل غزة وسعيها لتجاوز السياسات الاستعمارية لقتلها، ولفك القيد عن أهل فلسطين عمومًا، ونزعها للسيف الصهيوني من ناحال عوز وجوارها مجددًا.

وقد صدر لروي أيضًا: حماس والمجتمع المدني في غزة، 2011 (Hamas and Civil Society in Gaza)؛ إنطاق غزة: تأملات في المقاومة، 2021 (Unsilencing Gaza: Reflections on Resistance).

حكم غزة: البيروقراطية، السلطة، والعمل من القاعدة
إيلانا فيلدمان
منشورات جامعة ديوك، دورهام، 2008

وبينما كانت روي تنهي كتابها، كانت الأنثربولوجية الأميركية إيلانا فيلدمان تتنقل في سيارتها الأميركية بين مدن ومخيمات وحواري قطاع غزة، وبقية فلسطين المحتلة خلال سنوات أوسلو، لتشتغل على جمع المادة البحثية لكتابها هذا. 

قدم هذا الكتاب تاريخًا أنثربولوجيا لقطاع غزة من زوايا نظر لم تطرق سابقًا. واقتصر الكتاب على العهد الاستعماري البريطاني (تسميه انتدابًا)، وسنوات الإدارة المصرية للقطاع. وتضيء فيلدمان على دور سلطة جديدة دولية إثر حرب 1947-1949، أي سلطة الاونروا. 

حاولت الكاتبة فهم التناقض بين غزة التي بدا أنها غير قابلة للحكم في كثير من اللحظات وبين تعدد حكوماتها واستمرار العمل اليومي رغم كل الأزمات. وتشير إلى أن دراستها لهذا الجانب يمكن أن ينتج إحساسًا جديدًا بالحوادث، وخصوصًا المركزية منها كالنكبة، التي أعادت تعريف ماهية غزة من قضاء فرعي إلى كيان فريد. وكما يظهر فإن الكتاب أضاء من خلال دراسته للحكم على الحياة اليومية للغزيين، وأبان عن أثر التحولات عليهم. 

حاول الكتاب الانطلاق من حديث عن استمرارية ما، رغم الأزمات، لكنه أيضًا تحدث عن القطائع في هذه الاستمرارية. فتردد بين الاستقرار والأزمة في الممارسات البيروقراطية. وتقرأ فيلدمان ما تسميه «الحكومة التكتيكية» التي تركز على مستقبل متخيل أكثر من كونه احتمال واضح التحقق، واجهته بتكتيكات قصيرة الأمد (لا تخطيط طويل الأمد) كالتأجيل والإلهاء، وبرأيها فإن هذا -بالإضافة لإنشاء السلطة من خلال الممارسة والتكرار اليومي- ما سمح باستمرار الحكم في غزة، في ظل ظروف مشحونة وغير مؤكدة على الدوام. 

ميزة اشتغال فيلدمان بالإضافة لمقاربتها المغايرة، والتي قد تقود لزاوية نظر جديدة لغزة والغزيين، هي إفادتها من المزاوجة بين الأرشيف والإثنوغرافيا، إذ مكنها ذلك من التعامل مع الحكم ليس كمؤسسة محددة بل كنظام ممارسة، وسمح لها بفهم الانقطاعات الناجمة عن تباين الأراشيف وسياسات الأرشفة، وبالتركيز على الحياة اليومية وعلى الأشخاص واللحظات التي تبدو هامشية، من خلال التركيز على المكاتب ودوائر الممارسة اليومية للبيروقراطية. 

صدر لفيلدمان أيضًا عن جامعة ستانفورد في العام 2015 كتابها مواجهات الشرطة، الأمن والمراقبة في غزّة تحت الحكم المصري (Police Encounters: Security and Surveillance in Gaza under Egyptian Rule).

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a5%d8%a8%d8%ad%d8%a7%d8%b1-%d8%a8%d9%84%d8%a7-%d8%b4%d8%b7%d8%a2%d9%86-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%b9%d9%86-%d8%ba%d8%b2%d8%a9/feed/ 0
أيديولوجيا المحو: كتب حول الصهيونية https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a3%d9%8a%d8%af%d9%8a%d9%88%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%88-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%ad%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a9/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a3%d9%8a%d8%af%d9%8a%d9%88%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%88-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%ad%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a9/#respond Thu, 28 Dec 2023 06:00:01 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=88818 هذه القائمة جزء من سلسلة «على هامش الحرب: كتب عن فلسطين».

ما تزال الحركة الصهيونية، بتجسّدها  في الكيان الإسرائيلي، حركة منتجة لحقائق وعمليات تاريخية يستوجب فهمها العودة إلى الجذور الأيديولوجية للحركة والديناميات التي حكمتها على مدى أكثر من قرن من الزمان. في هذه القائمة من الكتب استعراض لعدد من هذه الأسس.

اختراع الشعب اليهودي
شلومو ساند، ترجمة سعيد عياش
المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، والدار الأهلية للنشر والتوزيع، رام الله وعمّان، 2011

وحدت اليهود على مر التاريخ مكونات عقائدية وطقوس قديمة، لكن الإيمان لا موطن له، وإنما الشعوب هي التي لها أوطان. لذلك يقول شلومو ساند، لجأت الصهيونية إلى تأميم الديانة اليهودية، أي تحويلها إلى قومية أو أمة، وتحويل تاريخ جماعاتها إلى سيرة شعب إثني. 

خلق الاستيطان الصهيوني شعبين في فلسطين: شعب فلسطيني يناضل من أجل وطنه الضائع، وشعب إسرائيلي يحمل لغة وثقافة لا يتشارك بها مع الجماعات اليهودية الأخرى في العالم. 

يشكك ساند بأسطورة أن يهود اليوم هم من ذرية اليهود القدماء الذين خرجوا من مصر وأسسوا مملكتي يهوذا وإسرائيل ومن ثم تشردوا نحو ألفي عام بعد دمار الهيكل، ولم يذوبوا مع شعوب الأرض الأخرى التي عاشوا بينها. ويعتبر أن هذه الرواية انتفت تمامًا حتى نهاية القرن التاسع عشر. بل يعتبر أن الحركة الصهيونية قد استفادت من أبحاث مفبركة من أجل غايات استعمار فلسطين.

يرتكز ساند على نقطتين للتفكيك وهما نفي الشتات اليهودي وطرد الرومان لليهود، إضافة لدحض فكرة التبشير في الدين اليهودي، بحيث بقي اليهود أنقياء كعرق لم تدخل فيه قوميات أخرى. 

اختراع «أرض إسرائيل»
شلومو ساند، ترجمة أنطون شلحت وأسعد الزعبي
المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، والدار الأهلية للنشر والتوزيع، رام الله وعمّان، 2013

هذا الكتاب هو الثاني ضمن ثلاثية شملت «اختراع الشعب اليهودي»، و«كيف لم أعد يهوديًا».

يهدي ساند الكتاب «إلى ذكرى قرية الشيخ مونس التي اقتلعت في الماضي البعيد من المكان الذي أعيش وأعمل فيه في الحاضر القريب». الأهداء بحد ذاته محمل بالدلالات، إذ أن الشيخ مونس هي إحدى القرى المدمرة التي قامت تل أبيب على أنقاضها، رغم الادعاء الصهيوني بأن تل أبيب هي مدينة قامت بأيدي يهودية على كثبان خاوية من الرمال، في محاولة لطمس التاريخ وإعادة كتابته صهيونيًا. ويعود ساند ويفرد الفصل الأخير من الكتاب لقرية الشيخ مونس كمثال للمحو والتهجير وإعادة الكتابة التي قام بها الكيان الصهيوني.

يجهد ساند في الكتاب على تفكيك السرديات الصهيونية حول صلة اليهود بأرض فلسطين ودحضها. حيث قامت الصهيونية باختراع ما أسمته «أرض إسرائيل» باعتبارها وطنًا تاريخيًا للشعب اليهودي، محولة مصطلحًا دينيًا إلى مصطلح جيو-سياسي، بحسب المترجم أنطون شلحت. وقد بدأت هذه العملية الممنهجة منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، من أجل قلب هذه الأسطورة إلى حقيقة واقعة. وجرى كل هذا بدعم مسيحي بروتستانتي بريطاني، اعتبر أن عودة بني إسرائيل إلى أرض أجدادهم هو مقدمة للخلاص البشري الذي يؤذن بعودة المسيح. وبذلك نجد أن هذه التسمية كانت اختراعًا صهيو-مسيحيًا وليس يهوديًا في المقام الأول، وهو ما تم بالرغم من النهي الديني اليهودي القاطع عن المجيء إلى أرض فلسطين.

يقول ساند: «إن وضعًا فيه الكثير من القوة لا ينتج شرًا مفسدًا فقط، بل ينتج أيضًا شعورًا بالتسلط لا يطاق على البشر الآخرين ويفضي في نهاية المطاف إلى التسلط على المكان. وكلي ثقة بأن أجدادي معدومي القوة، والذين عاشوا في نطاق الاستيطان في أوروبا الشرقية، لم يدركوا ما الذي سيرتكبه ذراريهم في الأرض المقدسة».

أساطير الصهيونية
جون روز
دار بلوتو، لندن، 2004

في هذا الكتاب الصادر باللغة الإنجليزية، يعمل روز على تفكيك الرواية الصهيونية برغم تعقيداتها بأسلوب مثير للاهتمام. ويركز على المصادر الثقافية والأيديولوجية لهذه الرواية في نقده للصهيونية، وعلى الجذور التاريخية والثقافية والسياسية، وكيفية تجذرها في الميثولوجيا القديمة والوسيطة والحديثة أيضًا. وقد استخدمت هذه الأساطير من أجل تبرير مطامع وأهداف سياسية تجلت في نهاية المطاف في تشريد شعب بأكمله واحتلال أرضه والاستمرار في قمعه وإخضاعه.

يستعين روز في الكتاب بأدبيات واسعة في سعيه للتفريق بين الواقع أو الحقيقة والخيال، ويدحض الادعاءات الصهيونية الزائفة في المجال الديني والتاريخي على السواء. ويعتبر روز أن ادعاءات الصهيونية بكونها جاءت كرد فعل على معاداة السامية في أوروبا ما هي إلا أكاذيب لتبرير احتلالها لأرض فلسطين. كما يعتبر بن غوريون أفضل صانعيها، مذكرًا بقوله إن «أية أسطورة تصبح حقيقة إذا ما آمنت بها». ويرى أن بن غوريون قد دمر أي أمل في التصالح مع العرب أو الفلسطينيين، وأن الصهيونية بذاتها كانت مصدر العداوة التي استحكمت بين الطرفين كمحصلة لأفعاله. 

يرى المؤلف أن أفضل ازدهار شهده اليهود في تاريخهم المبكر في أوروبا جاءت جذوره من حقبة التعايش الإسلامي اليهودي. وأن الأسطورة الصهيونية حاولت التعمية على المكون العربي الإسلامي في التاريخ اليهودي وتجاهله. كذلك يتحدى المؤلف فكرة النفي والشتات والاضطهاد التي سادت في الفكر الصهيوني. كتاب سهل وتفكيك يستحق القراءة بإمعان. 

اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني
كيث وايتلام، ترجمة سحر الهنيدي
منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1999

يعتبر هذا الكتاب من أفضل ما كتب في موضوع تاريخ فلسطين القديم الحديث حتى حينه، وقد اعتبره إدوارد سعيد عملًا أكاديميًا وجريئًا ومن أفضل ما كتب في نقد العديد من الفرضيات حول تاريخ «إسرائيل» التوراتي. وقد تعرض المؤلف لحملة شعواء عند صدور الكتاب باللغة الإنجليزية.

يتميز الكتاب بأنه يتناول المؤلفين الصهاينة والغربيين الذين زيفوا تاريخ فلسطين واختلقوا سردية تخدم مصالح سياسية واجتماعية بحتة، ويفند سردياتهم واحدًا واحدًا بأسلوب أكاديمي بارع وشيق.

يعتبر وايتلام أن تاريخ اليهود القديم هو جزء لا يتجزأ من التاريخ الفلسطيني القديم. لذلك يجب إعادة الاعتبار لهذا التاريخ الفلسطيني وإحيائه كموضوع قائم بذاته وليس في سياق التاريخ اليهودي الذي يشكك في وجوده أصلًا ويعتبره مختلقًا لدوافع مغرضة تمامًا. ويرى أن فلسطين قد تعاقبت عليها حضارات عدة ولم يكن اليهود إلا خيطًا رفيعًا في نسيج التاريخ الفلسطيني الغني القديم. ما يميز فكر وايتلام أنه يرى أن هذه العودة إلى الماضي ومحاولة إحيائه إنما ترتبط بالهوية السياسية للحاضر، وأن اعتبار «مملكة إسرائيل» القديمة  حقيقية تاريخية لا جدال فيها إنما جاء لتأكيد الاستمرارية التاريخية والربط بين «إسرائيل» القديمة ودولة الكيان الصهيوني المعاصرة.

يحث وايتلام الفلسطينيين على استعادة تاريخهم المصادر والمطموس، وليس فقط تاريخهم الحديث، واسترداده من يد الدراسات التوراتية كي يتمكنوا من إسماع صوتهم الذي طالما تم إسكاته. ويؤكد ضرورة تعيين موقع التاريخ الفلسطيني والاعتراف بالرواية البديلة والتحرر من قيود اللاهوت التوراتي في معالجة التاريخ الفلسطيني، معتبرًا «إسرائيل» القديمة والحديثة مجرد كيان صغير أمام تاريخ فلسطين الحقيقي.

يهم الكتاب الذي يعنى بأكثر من مجال الباحثين والمهتمين بدراسات التاريخ القديم إلى جانب الدراسات الدينية والاجتماعية والسياسية الشرق-أوسطية المعاصرة وعلم الآثار.   

فكرة إسرائيل: تاريخ السلطة والمعرفة
إيلان بابيه، ترجمة محمد زيدان
المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2015

منذ قيامها كدولة على أرض فلسطين، ظلت فكرة «إسرائيل» مطروحة للنقاش وتؤرق الكثير من المثقفين والسياسيين، وظل التناقض جزءًا مهمًا من تاريخها القصير. فالتناقضات بين العلمانية والتدين، واليمين واليسار، واليهود الشرقيين ويهود أوروبا، ومن يتطلعون إلى التسوية ومن يرغبون بالمزيد من التوسع، ودعاة العنصرية والمطالبين بالديمقراطية، وإذا ما كانت دولة عسكرية أو مدنية، وظيفية تعمل قاعدة للغرب الإمبريالي أم دولة قائمة بذاتها، ما زالت تعصف بالكيان الصهيوني حتى الآن.

سعى التيار الذي يسمى ما بعد الصهيونية والمتمثل بعدد من الكتاب والأكاديميين في الكيان الصهيوني، إلى تفكيك السرديات التي انبنت عليها الدولة. حتى أن البعض قد سعى إلى فضح أساطيرها المؤسسة واعتبارها دولة استعمارية استيطانية، قامت على أسس توراتية وأسطورية أدت إلى نشوء مخيال يهودي عن الذات وعن الآخر الفلسطيني والعربي. 

إلى كل جانب هذا، يركز بابيه على القمع الممارس على سكان الأرض الفلسطينيين ويدحض فكرة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، التي شرعنت أيديولوجية الصهيونية وممارساتها الاستعمارية. ويلجأ إلى الأرشيفات التي باتت متاحة الآن أمام الأكاديميين الذين يبحثون عن الحقيقة التي طمست لسنوات طوال.

كذلك يناقش بابيه المستوطنين الأوائل واستعلائهم على الفلسطينيين والسعي للتخلص منهم. كما يستدعي أسماء هامة من اليهود الرافضين للصهيونية، ويتطرق إلى تاريخ حركة الفهود السود الإسرائيلية ومنظمة ماتزين وإسرائيل شاحاك الذي كان من أشد المنتقدين للكيان الصهيوني، والذي اعتبرها آلة حرب لا يصدر عنها إلا الشر.

يعرج بابيه على الانتفاضة الفلسطينية وكيف أسفرت عن ظهور مجموعة جديدة من تيار ما بعد الصهيونية. حيث تأثرت جماعة هذا التيار بإدوارد سعيد ونعوم تشومسكي والتفكيكية ونظريات المعرفة والسلطة. كما يتحدث عن الهولوكوست وتأثيره في تشكيل سردية تبريرية ضد الفلسطينيين وضد الأوروبيين أيضًا. ويذكر عددًا لا بأس به من الكتاب والأكاديميين الذين تصدوا لهذا الموضوع الشائك.

نهب الممتلكات العربية في حرب 1948
آدم راز، ترجمة أمير مخول
المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار، رام الله، 2023

تعرضت الممتلكات العربية في فلسطين إلى سلسلة ممنهجة ومنظمة من النهب والسلب ما تزال مستمرة حتى اللحظة. لم تكتف العصابات الصهيونية والجيش الإسرائيلي بسلب الأرض، ولكن استكملوه بعملية سلب شملت كل ما على الأرض من بيوت وممتلكات منقولة تخص الشعب الفلسطيني الذي طرد وشرد من فلسطين إبان النكبة.

يعتمد المؤلف على أرشيف واسع من الروايات والسرديات والشهادات المروعة عما جرى عام 1948. حيث أن النهب والسلب لم يكن عملًا فرديًا للمنظمات الإرهابية اليهودية أو الجيش الإسرائيلي، بل كان سياسة رسمية للدولة الصهيونية، باتت أكثر علنية في حرب 1967، عندما سلبت ونهبت متاجر القدس في البلدة القديمة. وقد تحدثت الصحافة الإسرائيلية عن هذه الأعمال الشائنة بدون خجل. يعتبر هذا الكتاب الأول من نوعه الذي يكتب من جانب مؤلف صهيوني. 

يتألف الكتاب من فصلين. يتناول الأول عمليات السلب التي طالت الممتلكات العربية بحسب تسلسلها الزمني حتى منتصف عام 1949. بينما يتناول الفصل الثاني الموضوع من جوانبه السياسية والاجتماعية. ذلك أن المؤسسة السياسية الإسرائيلية سمحت كذلك بالنهب والسلب الفردي كي تتيح للجمهور المدني الانخراط والضلوع بتفريغ فلسطين مما خلفه سكانها العرب وراءهم.

يجدر بالذكر أن المعماري إيال وايزمان يذكر في كتابه «أرض جوفاء» أن «موظفي مكتبة الجامعة العبرية قد جمعوا ما يقرب من 30,000 كتاب ومخطوط ومجلة وجريدة تركها سكان القدس الغربية خلفهم في الفترة ما بين أيار 1948 وشباط 1949».

]]> https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%a3%d9%8a%d8%af%d9%8a%d9%88%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%ad%d9%88-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%ad%d9%88%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%b5%d9%87%d9%8a%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a9/feed/ 0 على هامش الحرب: كتب عن فلسطين https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%b9%d9%86-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86/ https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%b9%d9%86-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86/#respond Wed, 27 Dec 2023 09:24:51 +0000 https://www.7iber.com/?post_type=politics-economics&p=88873 Read More]]> في نهاية كل عام، اعتدنا في حبر أن نطلب من كتابنا أن يشاركونا أفضل الكتب التي قرأوها والتي ينصحون قراءنا بأن يبدأوا عامهم الجديد بها، وأن يخبرونا بما عنت هذه الكتب لهم ولماذا وجدوها ذات أهمية وراهنية. 

لكن نهاية هذا العام ليست كسابقاتها، في ظل حرب الإبادة التي تشنها «إسرائيل» ومن خلفها الولايات المتحدة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. من هنا، خصصنا هذه القائمة السنوية لكتب تقرّبنا من فلسطين، ضمن عناوين مختارة وجدناها ذات صلة بسياق الحرب المستمرة. 

اخترنا في القوائم الإضاءة على خمسة عناوين عريضة، تبدأ من تاريخ فلسطين قبل النكبة، حيث يقدم عمّار الشقيري كتبًا تسعى للإجابة على سؤال: كيف كانت الحياة في أرض فلسطين قبل أن تطأها أقدام الصهيونية وتغيّر فيها وتشّرد أهلها؟ ليشمل عناوين تبحث في أحوال البلاد الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصادية في الفترة بين القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وقف بعضها عند الفترة التي دخل فيها الاحتلال البريطاني أو الصهيوني، فيما تعدّى ذلك بعضها الآخر راصدًا التغيّر القسريّ الذي أحدثه الاحتلال الصهيوني في البنى الاجتماعيّة والاقتصادية وحتى العمرانيّة.

وتستعرض ريما العيسى كتبًا تناقش وتفنّد الجذور الأيديولوجية للحركة الصهيونية، التي ما تزال حقائق وعمليات تاريخية تشكل واقع فلسطين المحتلة، وتشرح الديناميات التي حكمت هذه الحركة على مدى أكثر من قرن من الزمان.

وبإضاءة خاصة على غزة، يقترح بلال شلش عددًا من الكتب التي تروي فصولًا من تاريخ المدينة والقطاع، القديم والحديث، سواء تاريخها المحلي، تاريخ الناس والأمكنة، ونصوص السير والمذكرات التي تكشف الكثير من الحكايا والتجارب، أو الكتب البحثية والأكاديمية التي تناولت تاريخ غزة الاجتماعي والسياسي، وحركتها السياسية ومقاومتها، خصوصًا خلال العقود الثلاثة الماضية.

وفي ظلال المعركة الكبرى التي تخوضها حركة حماس إلى جانب بقية فصائل المقاومة اليوم، يعرض ساري عرابي خمسة كتب تقدم لمحة على تاريخ الحركة، نشأتها وتطور عملها وفكرها السياسي، سواء بأقلام بعض قياداتها أو باحثين ممن حاولوا دراستها عن قرب، فيما هي اليوم تعيش الفصل الأكثر ملحمية في تاريخها هذا.

ولا تكتمل أي محاولة تأريخ أو بحث في سير الفلسطينيين وقضيتهم ومقاومتهم دون الإضاءة بشكل خاص على الحركة الأسيرة، التي انضم لصفوفها خلال الحرب الدائرة ألوف من الأسرى الجدد، والتي لم تكف يومًا عن لعب دور رئيس في مسار القضية الفلسطينية، بل ظلت دومًا جزءًا أساسيًا من توجيه المسار الفلسطيني ككل، انطلاقًا من شرعية مكتسبة في النضال. من هنا، اختار عمّار الشقيري كتبًا تضيء على تجربة الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية، وأخرى كتبوها أنفسهم من قلب السجون.

قد يكون من الصعب في ظل الأهوال القائمة أن يبتعد أحدنا عن شاشات القنوات الإخبارية وصفحات العواجل والمستجدات التي لا تتوقف، لكن هذه الكتب قد تقدم مدخلًا لمن دفعته الحرب لمحاولة التعمق في فهم أبعاد القضية التي وصلت بنا إلى اللحظة الحالية القاسية.

]]>
https://www.7iber.com/politics-economics/%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b1%d8%a8-%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%b9%d9%86-%d9%81%d9%84%d8%b3%d8%b7%d9%8a%d9%86/feed/ 0