ثوار فلسطين المزعجون

الإثنين 19 تشرين الأول 2015
A Palestinian uses a slingshot to throw stones at Israeli troops during clashes in the West Bank city of Bethlehem October 14, 2015. REUTERS


ترجمة تقوى مساعدة

(نُشِر هذا المقال بالإنجليزية على مدونة الكاتبة في 12 تشرين الأول 2015).

عندما حملت سمر بابنها الخامس سنة 1995، شكّ الأطبّاء بأن الجنين يعاني من تشوّه في النمو، وأنه قد لا يعيش.

كانت سمر وزوجها وأبناؤها الأربعة قد انتقلوا حينها للسكن في مخيم شعفاط في القدس المحتلّة، وانتقلت معهم والدة سمر التي اعتنت بها ببالغِ الاهتمام والحنان. أنجبت سمر طفلًا سليمًا أسموه صبحي على اسم جده لأمه الذي كان مناضلًا مع منظمة التحرير الفلسطينية في السبعينيات، وأسيرًا سابقًا في السجون الإسرائيلية.

أبو صبحي، إبراهيم، كان أسيرًا أيضًا في هذه السجون أثناء الانتفاضة الأولى، وكذلك حال اثنين من إخوة صبحي حيث أمضى كلٌ منهما سنةً في السجن.

وقبل أن يتجاوز صبحي سن الحادية العشرة، كان كثيرًا ما يُرى وهو يرشق جنود الاحتلال الإسرائيليين بالحجارة عندما كانوا يداهمون المخيم لتنفيذ الاعتقالات.

يذكر باسل الأعرج، وهو أحد صيادلة المخيم في ذلك الحين، كيف كان الصغير صبحي يجمع بعض الحجارةٍ من أمام صيدليته، ثم يرميها على الجنود، ويركض ليختبئ خلف القاطع في الصيدلية، وكان ينجح في إعادة هذه الحركة مِرارًا، مثيرًا حيرة الجنود الذين لا يعرفون من أين تأتي الحجارة. صبحي الذي تربى على يد أجداده المناضلين الذين طُرِدوا من بيوتهم إثر التطهير العرقي لمدينة اللد أثناء نكبة الــ48، كان في الحادية عشرة من عمره ولم يكن يخشى لا الاعتقال ولا تهديدات الجيش الإسرائيلي رغم حداثة سنه.

يوم الخميس، الثامن من تشرين الأول 2015 ، طعنَ صبحي أبو خليفة، وهو في التاسعة عشرة من عمره الآن، جنديًا إسرائيليًا في التلة الفرنسية بالقدس. تناقل الفلسطينيون بشدة على موقع التواصل الاجتماعي فيديو له بينما كان رهن اعتقال جنود الاحتلال، كان وجهه فيه مشعًّا بابتسامة.

في حين تمّ ترويض أبرز نشطاء فلسطين من خلال عقلية المنظمات غير الحكومية المتنامية والهوس بإعطاء صورة لطيفة تخلو من العنف، فإن هذا الجيل الجديد لم تنطلِ عليه خدعة النمو الاقتصادي والتنمية.

لقد انضم صبحي أبو خليل إلى قائمةٍ متناميةٍ من الشبّان الفلسطينيين الذين يتبنّون تكتيك «الذئب المنفرد» في الهجوم. استُخدِمَ هذا التكتيك في تشرين الأول والثاني من العام الماضي، وصار الآن رمزًا للهبة الفلسطينية الحالية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

وبينما يدور جدلٌ حول إن كانت فلسطين تشهد بداية انتفاضة ثالثة، فإنّ جيلًا جديدًا من الشباب الفلسطيني في القدس والضفة الغربية يكبرون ويتحدون الوضع الراهن القاهر الذي أوجدته أوسلو ويدعمه الاحتلال الإسرائيلي، وتحميه السلطة الفلسطينية مع نخبتها النيوليبرالية التي ترى في هؤلاء الشباب ثلة من المشكلجيين المتهورين الذي يتصرفون بانفعال بعيد عن العقل.

وفي حين تمّ ترويض أبرز نشطاء فلسطين من خلال عقلية المنظمات غير الحكومية المتنامية والهوس بإعطاء صورة لطيفة تخلو من العنف، فإن هذا الجيل الجديد لم تنطلِ عليه خدعة النمو الاقتصادي والتنمية. فالمحاولات التي كانت تقوم بها بلدية الاحتلال في مدينة القدس، بقيادة رئيس البلدية نير بركات، لتجميل وجه الاحتلال عن طريق الزيارات الدورية للأحياء الفلسطينية، وتأسيس المراكز المجتمعية، وتقديم الوعود بالإصلاحات الاقتصادية، كلها فشلت في تهدئة الغضب الفلسطيني.

ففي الوقت الذي كان بركات يبذل أقصى جهده للترويج للقدس، تحت السيادة الصهيونية، على أنها الوجهة المثلى للسياح وأنها منارة التسامح الديني والاستقرار والتنوع، أفسد عليه شباب الطبقة العاملة المقدسيين مخططه.

سطحيًا، يبدو أن الشرارة التي أشعلت موجة الغضب الأخيرة التي بدأت في القدس وامتدت بعدها إلى الضفة الغربية وغزة، وعلى نطاق أضيق داخل الأراضي المحتلة سنة 1948، كانت اقتحامات المستوطنين المتكررة والمدعومة بالجيش للمسجد الأقصى.

وبالطبع فإن هذا يتماشى تمامًا مع البروباغندا الإسرائيلية في التقليل من شأن الحدث ليبدو وكأنه ناتج عن خلاف ديني يمكن احتواؤه حالما تتوقف اقتحامات الأقصى بعد انتهاء الأعياد اليهودية. ومع أن الدفاع عن المسجد الأقصى كان من أبرز الروافع الإيديولوجية لها، إلا أن هبّة الشبابِ لها جذورٌ عميقة كانت محجوبةً وراء هدوءٍ خادع. إنه غضبٌ يغلي دائمًا خلف ظاهر الأمور، ينتظر الانفجار في أي لحظة. والسؤال دائمًا هو: متى؟

سيتبين مع الوقت إن كانت هذه الهبّة ستتحول إلى انتفاضة ثالثة، إلا أن ما نشهده الآن ما زال بحاجة لأن ينتشر ليأخذ شكل حركة اجتماعية واسعة تدفعها دوافع عدة، لأسباب لا يتّسع المجال هنا لشرحها. ولكن الشيء الأكيد الآن هو أن هذه الهبة جزءٌ مهمٌ من تصعيدٍ أوسع، سيؤدي بالضرورة إلى تغيير جذري، وأنها حتى اللحظة أدت بالفعل إلى تغيّرٍ في ميزان التهديد.

بالرغم من قوتها العسكرية، إلا أن إسرائيل اهتزّت جراء هجمات «الذئاب المنفردة» الأخيرة، فالكاميرات تصوّر رئيس البلدية بركات، الذي كان يتفاخر قبل فترة بسيطة باستقرار وأمن القدس تحت قيادته، وهو يحمل سلاحًا ويظهر عليه القلق بينما يمشي في شوارع القدس القديمة. المنشأة السياسية والعسكرية الإسرائيلية تتخذ أقصى الإجراءات لإيقاف هذه الموجة، ويدعو مسؤولون رفيعو المستوى اليهود الإسرائيليين إلى تسليح أنفسهم.

الاستجابة الدموية على رمي الفلسطينيين للحجارة ليست شيئًا جديدًا، والآن صارت تلقى تأييدًا رسميًا وبلا خجلٍ من الدولة. تقوم الحكومة الإسرائيلية بهدمٍ انتقامي لبيوت من يشتبه في ضلوعهم أو قيامهم بهجمات «الذئاب المنفردة»، وتقوم الشرطة الإسرائيلية، بدعمٍ مطلقٍ من الدولة والعامّة، بالتصفية الفورية للشبان الفلسطينيين في الشوارع. كل الأطياف السياسية الإسرائيلية، من اليمين إلى «اليسار» منهمكةٌ بـ«توجيه» الحكومة لإدارة هذه الأزمة.

في حالةٍ يظهر فيها اختلال توازن القوى بين الطرفين بهذا الوضوح، لا يمكن للمرء أن يقلل من أهمية هذه الموجة والأثر الذي أحدثته.

وفي غياب المظاهرات التقليدية واسعة النطاق، صارت الهجمات الفردية هي من تضبط إيقاع الهبّة والمواجهات، وتبيّن أن أثرها يفوق ما يحدث في الهجمات نفسها.

من الممكن جدًا أن يؤدي قرار إسرائيل بالرد بعقوبات جماعية قاسية إلى آثار عكسية، حيث أدى حتى الآن إلى تزايد التضامن الجمعيّ والدعم المتبادل بين الفلسطينيين بدلًا من توجيه اللوم للشباب الثائرين.

عندما داهمت القوّات الإسرائيلية مخيم شعفاط يوم الخميس ذاك بحثًا عن بيت صبحي أبو خليفة، جابهتهم مقاومة هائلة من كلِّ من في المخيم. وبحسب أم صبحي فإن «صبايا ملثمات ألقين الحجارة على الحاجز».

وبعد الهجوم الذي قام به ابنه، طُرِدَ أبو صبحي من عمله كعامل نظافة في بلدية الاحتلال، وعندما سُئلَ إن كان هذا سيدفعه للامتعاض مما فعله ابنه أجاب بأنه لا يمكن في يوم من الأيام أن يُقدّم وظيفته على كرامته.

في غياب المظاهرات التقليدية واسعة النطاق، صارت الهجمات الفردية هي من تضبط إيقاع الهبّة والمواجهات.

مما لا شك فيه أنه سيكون هنالك دائمًا أصوات فلسطينية في القدس، تعارض مثل هذه الهجمات وتطالب بالهدوء خوفًا من انتقام إسرائيل، إلا أن الأغلبية الساحقة تدعم الهبّة هذا إذا لم تكن قد شاركت فيها كذلك.

لقد بدأت مجموعات محلية -تكاد تكون بلا قيادة وعفوية في الغالب- بتنظيم نفسها الآن لإحباط مداهمات وهجمات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين في نابلس والخليل بينما تقف القوى الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية جانبًا دون أن تفعل أي شيء لأجلهم.  

وللتغلّب على قمع إسرائيل وتواطؤ السلطة الفلسطينية وللمحافظة على زخم الهبة، سيتوجب على الفلسطينيين أن يتنظموا ويوسعوا شبكاتهم التضامنية الجماعية وأن يزيدوا الدعم الأفقي ليصبحوا قوة اجتماعية لربما يطلقون الانتفاضة الثالثة المُنتظرة.  

صفوهم بما تريدون، ولكن الشبّان «ساخني الدم» يقودون الموجة الحالية وهم مدركون تمامًا أن السكاكين والحجارة لن تحرر فلسطين، ولكنهم يعرفون أيضًا أن محادثات السلام الجوفاء لن تحررها كذلك، لأنها لم تؤدِّ إلى أي شيء سوى المزيد من التوسع الاستيطاني والمزيد من الجرائم الإسرائيلية، والأدلة على هذا تحيط بهم من كل جانب.

وبالرغم من حداثة سنهم وقلة خبرتهم، إلا أن هؤلاء الشبّان أكثر نضجًا وشجاعة من النخبة الفلسطينية التي استفادت من الوضع الراهن، ومن الجيل الأكبر الذي يحاول تهدئتهم. لقد عاشوا الآثار الكارثية لاتفاقية أوسلو ومحادثات سلامها الفاشلة. إنهم ضحايا مشروع دفع المجتمع الفلسطيني نحو النيوليبرالية وتمظهرات هذا المشروع.

الحرية والكرامة أهمّ بالنسبة لهم من التمدّن والاحترام. لقد تجاوزوا الخطوط والأسياج التي لطالما قسّمت فلسطين، مثبتين أن الخط الأخضر ما هو إلا مهزلة.

إنهم من يغامرون بحياتهم على خطوط المواجهة، بينما الناشطون البارزون والنخبة يتخلّفون بعيدًا وراءهم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية