لن يصل اللاجئون إلى النرويج، كما أن النرويج التي يسعون إليها ليس لها وجود

سلافوي جيجيك: لا يمكننا التعامل مع أزمة لاجئي الاتحاد الأوروبي دون مواجهة الرأسمالية العالمية

الثلاثاء 15 أيلول 2015
لاجئون سوريون في هنغاريا

بقلم سلافوي جيجيك، ترجمة تقوى مساعدة

(نشر هذا المقال بالإنجليزية على موقع In These Times في 9 أيلول).

عرضت إليزابيث كبلر روس في دراستها الشهيرة «عن الموت والاحتضار» التسلسل الشهير للمراحل الخمس لردة فعلنا عندما نعرف أننا مصابون بمرض مميت: الإنكار (حيث يرفض المرء أن يقبل الحقيقة: «لا يمكن أن يحصل هذا فعلًا، لا يمكن أن يحصل لي أنا»)، الغضب (ينفجر الغضب عندما لا يعود بمقدورنا أن ننكر الحقيقة: «كيف يمكن أن يحصل هذا الأمر لي أنا؟») المساومة (التأمّل بأن نُؤجِّل هذه الحقيقة أو أن نقلل من شأنها بطريقةٍ أو بأخرى: «دعني أعيش لأرى أولادي يتخرجون») الاكتئاب (انطفاء الرغبات: «سأموت، فلماذا أتعب نفسي بعمل أي شيء؟») التقبُّل (لا يمكنني أن أغلب الأمر، فمن الأفضل إذن أن أستعد له). طبقت كبلر لاحقًا هذه المراحل على أي نوعٍ من أنواع الخسارات الشخصية المأساوية (البطالة، موت الأحبّة، الطلاق، الإدمان على المخدرات) وأكّدتْ أنه ليس من الضروري أن تأتي كل المراحل بنفس الترتيب، وليس من الضروري أن يمر كل المرضى بالمراحل كلها.

أليست ردة فعل الرأي العام والسلطات في أوروبا الغربية حيال تدفق اللاجئين من إفريقيا  والشرق الأوسط تمثّل خليطًا مشابهًا من ردّات الفعل المتفاوتة؟ فقد كان هنالك إنكار، بدأ في التضاؤل الآن: «الأمر ليس بهذه الخطورة، دعونا نتجاهله وحسب». هنالك غضب: «اللاجئون خطرٌ على أسلوب حياتنا، يخبئون في ما بينهم مسلمين متشددين، يجب إيقافهم بأي ثمن!» وهنالك مساومة: «حسنًا، دعونا نخصص مبالغ لهم وندعم مخيمات اللاجئين في بلدانهم» وهنالك اكتئاب: «لقد ضعنا! أوروبا تتحوّل إلى أوروبا-ستان!» الجزء الناقص هو التقبُّل، وهو ما كان ليعني في مثل هذه الحالة، خطة أوروبية شاملة متكاملة للتعامل مع اللاجئين.

إذن، ما الذي يجب فعله بآلاف البشر المحبطين الذين ينتظرون في شمال إفريقيا هاربين من الحرب والجوع، محاولين أن يقطعوا البحر حتى يجدوا الملجأ في أوروبا؟

هناك إجابتان رئيسيتان. الليبراليون اليساريون أبدوا غضبهم من الطريقة التي سمحت فيها أوروبا بغرق الآلاف في المتوسط، وحجّتهم في ذلك هو أنه على أوروبا أن تُظهر تضامنها بأن تُشرع أبوابها أمام اللاجئين. الشعبويون الرافضون للمهاجرين* يقولون إن علينا أن نحمي أسلوب حياتنا وأن ندع الإفريقيين يحلون مشاكلهم بأنفسهم.

أيُّ الحلّين أفضل؟ إن اقتبسنا ستالين بتصرّف، فإن كلا الحلّين أسوأ. فأولئك الذين يناصرون الحدود المفتوحة هم أكبر المنافقين: فهم يعلمون في قرارة أنفسهم، أن هذا لن يحصل مطلقًا، نظرًا لأنه سيتسبب مباشرةً بثورة شعبوية في أوروبا. إنهم يعيشون دور «الروح الجميلة» التي تشعر بتفوقها على العالم الفاسد بينما تشارك فيه خفيةً.

كما يعرف رافضو اللاجئين الشعبويون جيدًا أن الإفريقيين إن تُرِكوا وحدهم فلن ينجحوا في تغيير مجتمعاتهم. لماذا لن ينجحوا؟ لأننا، نحن الأمريكيين الشماليين والأوروبيين الغربيين نحول دون ذلك.  فالتدخل الأوروبي في ليبيا هو من ألقى بالبلد إلى الفوضى، وهجوم الولايات المتحدة على العراق هو الذي أوجد الظروف التي ظهرت فيها داعش، والحرب الدائرة في جمهورية إفريقيا الوسطى ليست محض انفجار للكراهية العرقية، ففرنسا والصين تتصارعان على السيطرة على موارد النفط من خلال وكلائهما هناك.

ولكن الحالة الأوضح لذنبنا هو الكونغو اليوم، والذي يبرز مرة أخرى كـ«قلب الظلام» الإفريقي. توصّل تحقيق أجرته الأمم المتحدة سنة 2011 حول الاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية في الكونغو إلى أن الصراعات الداخلية هناك تتمحور حول الوصول والسيطرة والاتجار بخمسة موارد معدنية رئيسية هي: الكولتان، والألماس، والنحاس، والكوبالت، والذهب.  وراء واجهة الحرب العرقية هذه إذن، نرى أعمال الرأسمالية العالمية. ما عاد للكونغو وجود كدولةٍ متحدة، إنها عدة أقاليم يحكمها أمراء الحرب المحليون، يفرضون سلطتهم على بقعتهم من الأرض بجيشٍ يضمّ –قطعًا- أطفالًا مخدرين. وتربط أمراء الحرب هؤلاء علاقات عمل بدولة أجنبية أو شركةٍ تستغل ثروة الإقليم التعدينية. والمثير للسخرية هنا، هو أن كثيرًا من هذه المعادن تُستخدم في منتجات عالية التقنية كالحواسيب المحمولة والهواتف الخلوية.

هذا الانفجار الممنهج في أشكال العبودية الجديدة الفعليّة، ليس مجرّد صدفة مؤسفة بل هو ضرورة بنيوية للرأسمالية العالمية في يومنا هذا.

احذفْ شركات التقنيات الحديثة من المعادلة، وستنهار كل قصة الحرب العرقية التي تؤججها الأحقاد القديمة. يجب أن نبدأ من هنا إن كنا نريد حقًا أن نساعد الإفريقيين وأن نوقف تدفُّق اللاجئين. وأول ما علينا أن نتذكره أن أغلب اللاجئين قادمون من «دول منهارة» –حيث السلطات غير فاعلة إلى حدٍّ ما، على الأقل في أجزاء واسعة من الدولة– مثل سوريا ولبنان والعراق وليبيا والصومال والكونغو إلخ. هذا التفكك في سلطة الدولة ليس ظاهرة محلية بل نتيجةً للاقتصاد والسياسة الدوليتين، وفي حالات كحالتي ليبيا والعراق، كان التفكك نتيجة التدخل الغربي المباشر. ومن الواضح أن هذه الزيادة في «الدول المنهارة» ليست مصيبةً غير مقصودة بل هي واحدةٌ من الطرق التي تمارس فيها القوى الكبرى استعمارها الاقتصادي. كما ينبغي أن نلاحظ أنه كان بإمكاننا أن نجد بذور دول الشرق الأوسط «المنهارة» في الحدود العشوائية التي خطتها المملكة المتحدة وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى، فأوجدت بذلك مجموعة دول «مصطنعة».  وبتوحيد السُّنّة في سوريا والعراق ستجمع داعش وأخيرًا ما فرّقه سادة الاستعمار.   

ولا مفرّ من أن نلاحظ أن بعض دول الشرق الأوسط التي لا يمكن أن تُعدّ غنيةً (تركيا، مصر، العراق) أكثر انفتاحًا أمام اللاجئين من دولٍ أخرى أكثر ثراءً (السعودية، الكويت، الإمارات العربية المتحدة، قطر). فالسعودية وقطر لم تستقبلا أي لاجئ، رغم أنها تقع على حدود دولٍ تعاني من أزمات، وهي دول أقرب ثقافيًا للّاجئين (ذوي الأغلبية المسلمة) من أوروبا. بل إن السعودية أرجعت لاجئين مسلمين من الصومال، فهل هذا لأن الحكومة السعودية حكومةٌ دينيةٌ متشددةٌ لا تتهاون أبدًا مع الدُخلاء الأجانب؟ نعم، ولكن يجب أن نُبقي في حسباننا أن السعودية نفسها مندمجة اقتصاديًا بالكامل مع الغرب. ومن وجهة نظر اقتصادية، فهل السعودية والإمارات دولتان معتمدتان بشكل كامل على عائدات النفط، وليستا محض موطئي قدم للرأسمالية الغربية؟ على المجتمع الدولي أن يضغط بالكامل على دولٍ مثل السعودية والكويت وقطر، لكي تقوم بواجبها بإدخال حُصّةٍ من اللاجئين. كما أن السعودية بدعمها للثوار المناهضين للأسد مسؤولةٌ عن الوضع في سوريا. وينطبق الأمر نفسه بدرجاتٍ مختلفة على دول أخرى عديدة، فكلّنا شركاء في ذلك.

عبودية جديدة

هنالك خاصية مشتركة أخرى بين هذه الدول الغنية، وهي ظهور العبودية الجديدة، ففي الوقت الذي تُشرّع فيه الرأسمالية نفسها على أنها النظام الاقتصادي الذي يؤمّن الحرية الشخصية ويعمّقها (كشرطٍ لتبادلات السوق)، فقد أوجدتْ العبودية بنفسها، وكجزء من ديناميكيتها: رغم أن العبودية انقرضت تقريبًا في نهاية العصور الوسطى، إلا انها انفجرت في المستوطنات منذ بداية الحداثة وحتى الحرب الأهلية الأمريكية.  ويمكننا أن نفترض أننا نعيش اليوم ضمن حقبة الرأسمالية العالمية الجديدة حقبة عبوديةٍ جديدةٍ متزايدة. ورغم أنه لا يوجد حاليًا وضعٌ قانونيٌ مباشرٌ لأشخاصٍ مستعبدين، إلا أن العبودية تأخذ عدة أشكالٍ جديدة: ملايين المهاجرين العاملين في الجزيرة العربية (الإمارات، قطر، إلخ) محرومون فعليًا من حقوقهم المدنية وحرياتهم الأساسية، والسيطرة المطلقة على ملايين العمال الآسيويين الذين يعملون عملًا مضنيًا في مصانع عادةً ما تتمّ إدارتها كما تدُار معسكرات الاعتقال، والتشغيل القسري لأعداد هائلة من العمال ممن يعملون في استخراج الموارد الطبيعية في دول وسط إفريقيا (الكونغو وغيرها).

إلا أننا لسنا بحاجة لأن ننظر بعيدًا، ففي الأول من كانون الأول 2014، تُوفي سبعة أشخاص على الأقل عندما احترق مصنع ألبسة يملكه صينيون في منطقة صناعية في مدينة براتو الإيطالية، التي تبعد 19 كيلو مترًا عن وسط مدينة فلورنسا، مما أسفر عن مقتل العمال الذين حوصروا داخل مهجعٍ مُرتجل مبنيٍّ من الكرتون داخل المصنع. وقعت الحادثة داخل منطقة «ماكرولوتتو» وهي الحي الصناعي في المدينة، الشهيرة بمصانع الألبسة. ويُعتقد أن هنالك آلاف المهاجرين الصينيين ممن يقيمون بشكلٍ غير شرعي في المدينة، ويعملون حتى 16 ساعةً يوميًا لدى مجموعةٍ من تجّار الجملة والمصانع، وينتجون ألبسة رخيصة الثمن.  

وهكذا، فإننا لسنا بحاجة لأن نبحث عن حياة العبيد الجدد التعيسة في ضواحي شنغهاي (أو في دبي أو في قطر) وأن ننافق وننتقد الصين، فالعبودية من الممكن أن تكون ها هنا، في عقر دارنا، إلا أننا فقط لا نراها، (أو لعلنا ندعي بأننا لا نراها).  إن هذا الأﭘارتايد الفعليّ الجديد، وهذا الانفجار الممنهج في أشكال العبودية الجديدة الفعليّة، ليس مجرّد صدفة مؤسفة بل هو ضرورة بنيوية للرأسمالية العالمية في يومنا هذا.

ولكن ألا يقدّم اللاجئون الداخلون إلى أوروبا أنفسهم ليصبحوا قوى عاملةً رخيصةً ومؤقتة، وفي أغلب الحالات على حساب العمال المحليين، والذين يستجيبون لهذا التهديد بالانضمام إلى الأحزاب السياسية المناهضة للمهاجرين؟ بالنسبة لأغلب اللاجئين سيكون هذا هو واقع حلمهم الذي تحقق.

اللاجئون ليسوا مجرد هاربين من بلدانهم التي مزقتها الحرب، فهنالك حلمٌ يستحوذ عليهم أيضًا. هذا ما نراه مرارًا وتكرارًا على الشاشات. يصرّح اللاجئون في جنوب إيطاليا بأنهم لا يريدون أن يبقوا هناك، فهم على الأغلب يريدون أن يعيشوا في الدول الإسكندنافية. وماذا عن آلاف اللاجئين المخيّمين في كاليه غير الراضين عن فرنسا ولكنهم مستعدون للمغامرة بحياتهم لدخول المملكة المتحدة؟ وماذا عن عشرات آلاف اللاجئين في دول البلقان الذين يريدون أن يصلوا ألمانيا على الأقل؟ إنهم يعبّرون عن هذا الحلم بصفته حقهم اللامشروط، ولا يطالبون السلطات الأوروبية بأن تُقدّم لهم الطعام والرعاية الصحية الملائمة فحسب، بل يطالبون أيضًا بإيصالهم إلى الأماكن التي اختاروها.

هنالك شيءٌ طوباوي مُبهم في هذا الطلب المستحيل: وكأنه واجب أوروبا أن تحقق حلمهم، وهو بالمصادفة حلمٌ بعيدُ المنالِ لأغلب الأوروبيين. فكم من مواطني جنوب وشرق أوروبا يفضلون أن يعيشوا في النرويج أيضًا؟ هنا يمكننا أن نرى مفارقة الطوباوية: ففي اللحظة التي يجد فيها الناس أنفسهم وسط الفقر والبلاء والخطر، ونفترض أنهم سيرضون بالحد الأدنى من السلامة والرفاه، حينها بالضبط تنفجر الطوباوية كلّيًّا. الدرس الصعب الذي على اللاجئين تعلّمه هو أنه «لا وجود للنرويج»، حتى في النرويج. سيتوجب عليهم أن يتعلموا كيف يُخضعون أحلامهم للرقابة: فبدلًا من ملاحقة الحلم في الواقع، يجب عليهم أن يركزوا على تغيير الواقع.

تابو يساري

يجب أن نكسر أحد التابوهات اليسارية الكبرى: فكرة أن حماية أسلوب الحياة هو أمر يُصنّف بحد ذاته على أنه عنصريّ وشبه فاشيّ. فإذا لم نتخلّ عن هذه الفكرة، فإننا نفتح الباب لموجة معاداة المهاجرين المتنامية في كل أنحاء أوروبا (فحتى في الدنمارك، تفوّق الحزب الديمقراطي المناهض للاجئين ولأول مرةٍ على الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وأصبح بذلك الحزب الأقوى في البلاد). التعامل مع مخاوف الناس العاديين حيال التهديدات التي تتعرض لها طريقة حياتهم هو شيء يمكن أن يتمّ من اليسار أيضًا،  وبيرني ساندرز مثالٌ حيٌّ على ذلك! الأجانب ليسوا التهديد الحقيقيّ لأسلوب حياتنا بل هي ديناميكيات الرأسمالية العالمية: فالتغيرات الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ساهمت خلال العقود الماضية في تدمير الحياة الجماعية في المدن الصغيرة أكثر من كل المهاجرين مجتمعين.

ردة الفعل اليسارية الليبرالية الاعتيادية هي طبعًا انفجار أخلاقيّ متعجرف: في اللحظة التي نصدق فيها دافع «حماية أسلوب حياتنا» فإننا بدأنا نساوم موقفنا، حيث نقدم نسخة أكثر تواضعًا مما يدافع عنه الشعبويون المناهضون للمهاجرين. ألم تكن هذه هي الحال خلال العقود الأخيرة؟ أحزاب الوسط ترفض العنصرية العلنية التي يتبناها الشعبويون المناهضون للمهاجرين، ولكنها تزعم في الوقت ذاته أنها «تتفهم مخاوف» الناس العاديين وتقرّ صيغًا أكثر «عقلانية» من السياسات نفسها التي يتبناها المناهضون للمهاجرين.  

كانت الهجرات ملمحًا دائم الحضور في التاريخ الإنساني، وكانت التوسعات الاستعمارية هي السبب الرئيس لهذه الهجرات في التاريخ الحديث.

وفي الوقت الذي يحتوي فيه هذا الطرح على القليل من الحقيقة، فإن الشكاوى الأخلاقية على شاكلة «أوروبا فقدت تعاطفها، ولا تبالي بمعاناة الآخرين.. إلخ»، تمثّل الوجه الآخر لوحشية معاداة المهاجرين. الموقفان يتشاركان نفس الافتراض – الذي لا يمكن إثباته بأي شكل كان- بأن حماية أسلوب حياة ما تتعارض جوهريًا مع شمولية الأخلاق. بالتالي، علينا أن نتجنب الوقوع في اللعبة الليبرالية القائمة على «كم بوسعنا أن نتسامح؟»، هل نتسامح معهم إن منعوا أولادهم من الالتحاق بالمدارس الحكومية، أو إن دبّروا زيجات تقليدية لأطفالهم، أو إن ارتكبوا الفظاعات في حق المثليين جنسيًا من بني جلدتهم؟ عندما تصل الأمور إلى هذا الحد فنحن لسنا متسامحين بشكلٍ كافٍ أبدًا، أو أننا متسامحون أكثر من اللازم، إلى الحد الذي نهمل عنده حقوق المرأة، وغير ذلك. الطريقة الوحيدة للخروج من هذا الدرب المسدود هو أن ننتقل من مجرد التسامح أو احترام الآخرين إلى أن نكافح بشكلٍ مشترك.

يجب علينا الآن أن نوسّع منظورنا: اللاجئون هم ثمن الاقتصاد العالمي. ففي عالمنا المعولم، تتحرك البضائع بحرية، أمّا البشر فلا، بينما تبرز أشكال جديدة من الأبارتايد. فموضوع الجدران غير المنيعة، والتهديد من أن يُغرقنا طوفان الأجانب، هو أمر متأصل في الرأسمالية العالمية، وهو مؤشر على ما هو مزيّف في العولمة الرأسمالية. كانت الهجرات ملمحًا دائم الحضور في التاريخ الإنساني، وكانت التوسعات الاستعمارية هي السبب الرئيس لهذه الهجرات في التاريخ الحديث، فقبل مرحلة الاستعمار، كانت دول الجزء الجنوبي من الأرض دولًا مكتفيةً ذاتيًا وكانت مجتمعاتها منعزلةً نسبيًا، وكان الاستعمار وتجارة العبيد هما المسؤولين عن اقتلاع أسلوب الحياة هذا من جذوره، وتجديد الهجرات على نطاق واسع.

أوروبا ليست المكان الوحيد الذي يمرّ بموجة لجوء، ففي جنوب إفريقيا هنالك أكثر من مليون لاجئ من زيمبابوي، يتعرضون لهجمات من الفقراء المحليين لأن اللاجئين سرقوا منهم وظائفهم. وسيكون هنالك المزيد، ليس فقط بسبب الصراعات المسلحة، بل أيضًا بسبب «الدول المارقة» الجديدة، والأزمات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية (يفاقمها التغيّر المناخي) والكوارث التي يتسبب بها الإنسان، إلخ. من المعروف أنه عندما حدثت كارثة فوكوشيما النووية، اعتقدت السلطات اليابانية لوهلة أنها ستضطر لإخلاء منطقة طوكيو بأكملها -20 مليون نسمة- أين كان ينبغي أن يذهبوا لو اقتضى الأمر ذلك؟ وفي أي ظروف؟ هل كان ينبغي أن يُعطوا قطعة أرض أو أن يتشتتوا في العالم؟ ماذا لو أصبح شمال سيبيريا أكثر ملاءمة للسكن وللزراعة، بينما أصبحت مساحات واسعة من إقليم الصحراء جافّة إلى الحد الذي لا يمكن معه أن تعيل عدد سكانها الكبير؟ كيف سيتم توزيع السكان؟ عندما حصلت أمور مشابهة في الماضي حدثت معها تغيرات اجتماعية هائلة بشكلٍ عفويّ، رافقها العنف والتدمير (تذكروا الهجرات الكبرى في نهايات الإمبراطورية الرومانية).  إن مثل هذه الاحتماليات ستكون كارثيّةً في عالمنا اليوم خاصةً وأن دولًا كثيرةً تملك أسلحة دمار شامل.

الدرس الرئيسي الذي ينبغي على الإنسانية أن تتعلمه هو أن عليها الاستعداد للعيش بطريقة «بلاستيكية» مرنة متنقلة: فالتغيرات البيئية المحلية والعالمية قد تتطلّب تحوّلات اجتماعية هائلة وغير مسبوقة. إلّا أن هنالك شيئًا واضحًا، وهو أنه ينبغي إعادة تعريف السيادة الوطنية جذريًا، ويجب أن تُستحدث مستويات جديدة من التعاون العالمي. وماذا عن التغيرات الكبيرة فيما يخص الاقتصاد والتخزين، التي نجمتْ عن أنماط الطقس أو عن نقص المياه والطاقة؟ ما هي إجراءات اتخاذ القرار التي ستُسلك حتى يتمّ اتخاذ مثل هذه القرارات وتنفيذها؟ يجب أن تُكسر الكثير من التابوهات ويجب أن تُتخذ الكثير من التدابير المعقّدة.  

أولًا، على أوروبا أن تؤكد على التزامها الكامل بتوفير ما يضمن للاجئين العيش بكرامة. لا ينبغي أن يكون هنالك أي مجال للتسويات، فالهجرات الكبيرة هي مستقبلنا، والبديل الوحيد لهذا الالتزام هو تجدًّد البربرية (وهو ما يسميه البعض «صِدام الحضارات»).

ثانيًا، كنتيجة ضرورية لهذا الالتزام، فيجب على أوروبا أن تنظّم نفسها وأن تفرض قواعد وتعليمات واضحة. يجب أن تُفرض سيطرة الدول على تدفّق اللاجئين عبر شبكة إدارية واسعة تشتمل على الاتحاد الأوروبي كاملًا (للحيلولة دون البربرية المحلية كالتي قامت بها السلطات في هنغاريا وسلوفاكيا) ويجب أن تتم طمأنة اللاجئين على أمنهم، كما يجب أن يوضّح لهم أن عليهم أن يقبلوا العيش في المنطقة التي تحددها لهم السلطات الأوروبية، كما يجب أن يحترموا القوانين والقواعد الاجتماعية للدول الأوروبية: فلا تسامح مع العنف الديني أو الجنسي أو العرقيّ من أيًّ من الجانبين، ولا يحقّ لأيًّ من الطرفين أن يفرض أسلوب حياته أو دينه على الآخر، وأن تُحتَرم حرية أي شخص في التخلّي عن عاداته الجماعيّة، إلخ. فإن اختارت امرأةٌ أن تُغطّي وجهها فيجب أن يُحتَرمَ خيارها، ولكن إن اختارت ألّا تغطيه فيجب أن تُضمن لها حريتها في ألا تغطيه. صحيحٌ أن هذه القواعد تُعطي الأفضلية لأسلوب الحياة الأوروبي الغربي، ولكن هذا هو ثمن الضيافة الأوروبية. يجب أن يُنصّ على هذه القواعد وأن تنفّذ من خلال تدابير قمعيّة (تقمع المتشددين الأجانب كما تقمع عنصريّينا المناهضين للمهاجرين) إذا اقتضى الأمر.

ثالثًا، يجب أن يُستحدثٌ نوعٌ جديدٌ من التدخلات الدولية: تدخلات عسكرية واقتصادية تتجنب الوقوع في مصائد الاستعمار الجديد. ماذا لو قامت القوات التابعة للأمم المتحدة بحفظ السلام في ليبيا وسوريا والكونغو؟ ونظرًا لأنه مثل هذه التدخلات مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالاستعمار الجديد فسيكون هنالك حاجة لإجراءات وقائيّة متشددة. فحالات العراق وسوريا وليبيا تثبت كيف أدى التدخل الخاطئ (في العراق وليبيا) وعدم التدخل (في سوريا، ووراء مظهر عدم التدخل، تتدخلّ قوى كبيرة كروسيا والسعودية والولايات المتحدة؟) إلى نفس الطريق المسدود.

رابعًا، المهمة الأصعب والأهمّ هي تغيُّر اقتصادي جذريّ من شأنه أن يلغي الظروف الاجتماعية التي تجعل من الناس لاجئين. فالسبب المطلق لوجود اللاجئين هو الرأسمالية العالمية بذاتها وألعابها الجغرافية السياسية، وإذا لم نغيرها من الجذور فسينضم المهاجرون من اليونان وغيرها من الدول الأوروبية قريبًا إلى اللاجئين الإفريقيين. عندما كنت شابًا كان مثل هذه المحاولة لتنظيم العامّة تسمّى الشيوعية. ربما يتوجب علينا أن نعيد اختراعها. ربما يكون هذا على المدى البعيد هو الحل الوحيد في متناولنا.

هل يبدو كل هذا طوباويًا؟ ربما، ولكن إن لم نقم به فسنضيع حتمًا، وسنستحقّ ذلك الضياع.


سلافوي جيجيك – فيلسوف ومحلل نفسي سلوفيني، كبير الباحثين في معهد العلوم الإنسانية في كلية بيربيك بجامعة لندن. وهو أستاذ زائرٌ في أكثر من عشر جامعات حول العالم. لجيجيك عدة كتب، من بينها «العيش في آخر الزمان»، و«كمأساة اولًا»، و«ثم المهزلة»، و«سنة الأحلام الخطيرة»، و«متاعب في الجنة».  

صورة المقال: طفل سوري يبكي بين يدي والده وهما يعبران نقطة شرطة هنغارية، بعد أن أوقفتهما الشرطة مع مجموعة كبيرة من المهاجرين يحاولون استقلال قطار إلى ميونخ، ألمانيا، في محطة كيليتي للقطارات في بودابست، 9 أيلول. (تصوير وين مكنامي، جيتي إيمجز).

* يستخدم جيجيك كلمة Immigrant لا Migrant لوصف هؤلاء.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية