رأي

«إعلام ما بعد الحقيقة»: اكذبْ حتى أراك

الخميس 12 كانون الثاني 2017

من مكان إقامته في ولاية نورث كارولاينا جنوب الولايات المتحدة، خرج إيدغار ويلش وقد تملكه الغضب. ركب سيارته، وتوجّه نحو العاصمة الأميركية واشنطن على بُعد ست ساعات. كان الشاب العشريني قد قرأ خبرًا يتهم مطعم «كوميت بينغ بونغ» بتشغيل خلية لاستغلال الأطفال في تجارة للجنس، تديرها المرشحة الديمقراطية السابقة للرئاسة هيلاري كلينتون.

بمجرد وصوله موقع المطعم شمال غرب «دي سي»، ترجّل من سيارته وفي يده بندقيته الأوتوماتيكية «إيه آر 15». ما أن عبر الباب، حتى باشر بإطلاق النار في الهواء. دقائق، وكانت الشرطة قد ألقت القبض عليه. ولحسن الحظ، لم يصَب أحد بأذى.

كانت المقالات التي تتهم ذلك المطعم بإدارة خلايا للتجارة بالأطفال قد انتشرت قبل شهر من موعد الانتخابات، على يد يمينيين مؤيدين للمرشح الجمهوري، في حينه، دونالد ترامب. عدّة صحف، منها الواشنطن بوست والنيويورك تايمز، كانت قد كشفت زيف تلك المزاعم، فصنفتها في خانة الأخبار الكاذبة. لكن «الحقائق» التي بينتها تلك الصحف لم تفلح في ثني ويلش وغيره عن متابعة هذا النوع من الأخبار وتصديقها.

ستظل وسائل الإعلام والمراقبين الأميركيين يستدعون قصة هذا الشاب للدلالة على الميل المتعاظم في البلاد نحو تصديق الأخبار الزائفة على حساب الحقائق. كما ستُستخدم أيضًا كمثال للإشارة إلى الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي، وتحديدًا فيسبوك، في نشر ما بات يعرف بالأخبار الكاذبة، ما دفع الموقع لإطلاق مبادرة خاصة لمكافحتها على صفحاته.

قبل موعد التصويت في الانتخابات العامة بأسابيع، خرج الرئيس -قيد التنصيب- دونالد ترامب في مقابلة إذاعية متهمًا الرئيس الأميركي باراك أوباما ووزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون بتأسيس داعش. «تقصد أنهم، بتركهم العراق، خلقوا فراغًا ملأه الإرهابيون»، يستدرك المذيع مستوضحًا. «لا. قصدت أنه المؤسس لداعش» يرد ترامب، «لقد كان اللاعب الأكثر أهمية. أعطيه جائزة أكثر لاعب أهمية. وأعطيها لها أيضًا بالمناسبة، هيلاري كلينتون».

فات ترامب، كما ستلفت وسائل إعلام عقب اللقاء، أن داعش ليست سوى امتداد للقاعدة التي ظهرت بداية التسعينات في عهد الرئيس الجمهوري جورج بوش الأب، أي قبل ما يقرب العقدين من وصول أوباما للبيت الأبيض.

لكنه «عالم ما بعد الحقيقة»، تقول مجلة الإيكونومست؛ عالمٌ تراجع فيه دور الحقيقة في تشكيل الرأي العام. عالم تسيطر عليه الخطابات الشعبوية المتكئة على تأجيج العواطف والمخاوف. «نعم، سأكذب عليك» عنونت المجلة تعليقًا على مقابلة ترامب تلك، والتي أوردَتها كمقدمة لمقالة مفصلة حول هذا العالم الذي بدا أن الغرب قد دخله للتو.

عقب فوز ترامب، نشرت الواشنطن بوست الأميركية مقالة «تبشر» فيها بأبرز ملامح الإدارة الأميركية الجديدة. «أهلا بكم في إدارة ما بعد الحقيقة»، يقول العنوان.

لم تكن قد مضت سوى أيام قليلة على انتهاء الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني نوفمبر الماضي، حين أعلن قاموس أوكفسورد الإنجليزي اعتبار «ما بعد الحقيقة» كلمة العام 2016. وفقًا لتعريف القاموس، يعبر الاصطلاح عن الحالة التي تغدو فيها العواطف والمعتقدات الشخصية أعظم قدرة على تشكيل الرأي العام من الحقائق الموضوعية.

كانت الكلمة قد أضيفت للمعجم عقب انتشارها الواسع على ألسنة المراقبين والصحفيين خلال السباق الرئاسي الأميركي وما رافقه من انتشار للتصريحات غير الدقيقة والأخبار الكاذبة. حينها، لم تكن الصحافة في الولايات المتحدة تتوقع فوز ترامب. كانت تنبؤاتها المدججة بأرقام النماذج الإحصائية ونتائج استطلاعات الرأي لتوجهات الناخبين ترجح فوز منافسته هيلاري كلينتون وبنسب وصلت إلى 85% أحيانًا.

كان يبدو للمتابع أن الإعلام الأميركي واثق من قوة «الحقائق» التي جمعها وكشفها للرأي العام حول المرشح الجمهوري، بدءًا من قضايا الفساد المرفوعة على جامعته، مرورًا بتحرشه بعدد من النساء، وليس انتهاء بخطابه المعادي للأقليات. كان الاعتقاد السائد أن التقصي الصحفي والحقائق الموثقة كفيلة بتشكيل رأي عام معارض لمرشح بدا تهديدًا للديمقراطية الأميركية.

لكن ذلك ما لم يحصل.

فاز رجل الأعمال الثري بفارق كبير على منافسته، رغم أن 32% من تصريحاته كانت كاذبة، و18% كاذبة بالغالب و15% نصف صحيحة، وفق رصد موقع بوليتي فاكت المتخصص في التحقق من تصريحات الساسة والمسؤولين الأميركيين والحائز على جائزة «البوليتزر» الرفيعة. فاز ترامب، ودخل الإعلام في حالة ذهول وصدمة لا يبدو أنه خرج منها بعد.

إن تراجع أهمية الحقيقة إلى هذا الحد، كما هي القناعة الآن في العالم الغربي، يهدد جوهر العمل الصحفي والغاية من وجوده. فإن لم تكشف الصحافة عن الحقائق، فما هو دورها؟

من يتحمل المسؤولية؟

يبدو هذا التراجع في أهمية الحقيقة وكأنه تطور طبيعي لأزمة الثقة القديمة المتجددة بين المواطن الأميركي والإعلام. أحدث مسوحات مركز غالوب للأبحاث أظهرت وصول تلك الثقة إلى أدنى مستوياتها في تاريخ استطلاعات المركز، بنسبة 32%.

أحد تفسيرات فجوة الثقة تلك، قد يحال إلى التهميش الإعلامي الذي شعرت به فئات اجتماعية بعينها في الولايات المتحدة على امتداد العقد الماضي تقريبًا. كانت الصحافة الأميركية، ولعلها لا تزال، مستغرقةً في تغطية قضايا ما يعرف بـ«ليبرالية الهوية» (Identity Liberalism)، حيث يتركز الاهتمام على حقوق الأقليات من السود، والمسلمين، والمهاجرين من أميركا اللاتينية، فضلًا عن حقوق النساء والمثليين، على حساب المشاكل الاقتصادية العابرة للأعراق.

يرى مارك ليلي في مقالة نشرتها صحيفة النيويورك تايمز أن هذا أحد أبرز أسباب اندفاع العمال البيض والمتدينين الإنجيليين للتصويت بكثافة لترامب. «إذا ما أردت الإشارة لمجموعات، فالأفضل أن تشير لها جميعًا، لإنك أن أشرت لبعضها، فأولئك ممن جرى تجاهلهم سيلاحظون وسيشعرون بالإقصاء»، كتب أستاذ الإنسانيات في جامعة كولومبيا في مقالته تلك، التي حملت عنوان «انتهاء ليبرالية الهوية»، معلقًا على التغطية الإعلامية لقضايا الأقليات.

الصحافة العربية: ما قبل أم ما بعد الحقيقة؟

إلى حد بعيد، لا يزال اصطلاح «ما بعد الحقيقة» وعلاقته بالصحافة وليد الحالة الراهنة في الغرب، وتعبيرًا عن الأزمة التي تعيشها تلك الدول في ظل صعود التيارات المحافظة، بدءًا ببوش الابن، ووصولًا إلى ترامب، في الولايات المتحدة، وامتدادًا من تنويعات اليمين الأوروبي، كحركة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، إلى «بريغيدا» الألمانية، والجبهة الوطنية الفرنسية، أو حتى بعض تيارات اليمين في الدول الإسكندنافية. ومع الإقرار بأن بعض المصادر ترجع  ظهور الاصطلاح لبداية عقد التسعينيات، إلا أن استخدامه بقي على نطاق ضيق نسبيًا قياسًا بانتشاره الواسع في الوسط الصحفي الغربي مؤخرًا. ولعل هذا ما يفسر قلة التحليلات أو الدراسات المنشورة حول علاقته بالإعلام.

على أن ذلك لا يمنع محاولة فتح النقاش حول ما إذا كان العالم العربي يعيش بدوره حقبة مشابهة لـ«ما بعد الحقيقة» بنسختها الغربية. أم أنه ربما يعيش، عالم ما قبل الحقيقة؟

منذ عهد ما بعد الاستقلال، عقب الحرب العالمية الثانية، انتشرت الانقلابات العسكرية وانقسم العالم العربي إلى معسكرين، «تقدمي» و«رجعي»، يمثلان انعكاسًا للانقسام العالمي بين الكتلتين الشرقية والغربية خلال الحرب الباردة. مذّاك، التحقت الصحافة العربية بدورها بالنظم الجديدة عاكسة استقطابات السياسة والإيديولوجيا. اعتمدت وسائل الإعلام في حينه نهجًا إعلاميًا تعبويًا يخاطب عواطف الرأي العام، يشيطن الآخر المخالف في الرأي ويهادن السلطات. كان ذلك قبل انتشار الفضائيات والاستثمارات الإعلامية الخاصة، وطبعًا قبل الربيع العربي الذي حطم المحرمات السياسية في المنطقة.

لكن الوضع بعد الربيع لم يتغير كثيرًا.

وفي واحد من الأمثلة الدالة، تبدو الحقيقة فعلًا غائبة أو مغيبة، لدى الرأي العام العربي وفي غرف الأخبار على السواء، إذا ما تعلق الأمر بسوريا مثلًا. الملاحظ، والمحزن ربما، هو أنه وبخلاف نظيرتها الغربية، ليست مشكلة الصحافة العربية هنا في عدم تصديق الناس للحقائق التي تقدمها، بل في عدم التزامها هي بتقديم الحقائق ابتداء.

فمثلًا، غضت وسائل الإعلام المؤيدة للنظام السوري الطرف بشكل شبه كامل عن جرائمه وإخفاقاته على الصعد السياسية والاقتصادية والحقوقية. وكان أن انخرطت فيما يشبه السياسة الممنهجة لتخويف الرأي العام من التغيير وإقناعه بالقبول بالأمر الواقع. بدا الإعلام المؤيد للنظام في «حالة إنكار» رافضًا الاعتراف باستهداف المدنيين من قبل الآلة العسكرية للسلطات السورية، متجاهلًا للمسؤولية التي تتحملها عن تراجيديا النزوح واللجوء والقتل اليومي للملايين من المدنيين.

طبعا، أعطت هذه التغطيات مفعولًا عكسيًا تمامًا في بعض الأحيان، إذ دفعت كثيرين للانحياز للمعارضة وليس العكس. لكنها أيضا أجبرت آخرين على اتخاذ موقف متشكك حيال عموم ما ينشر من أخبار حتى لو احتوت على حقائق قاطعة.

الإعلام المؤيد للمعارضة أيضًا ليس بأفضل حالًا.

لم تدفع المقاطع المصورة والتقارير الموثقة للهيئات الحقوقية الدولية حول انتهاكات المعارضة مثلًا، وسائلَ الإعلام المؤيدة لها نحو ممارسة دورها في تقصي ما ارتكبته الجماعات المسلحة من انتهاكات إنسانية على امتداد سنوات الصراع. عوضًا عن ذلك، انصب تركيز تلك المؤسسات في تغطياتها على مخاطبة عواطف المشاهدين وتجاهل الحقائق المتعارضة مع موقفها. تحولت وسائل الإعلام تلك إلى طرف في استقطاب سياسي حاد لا يتورع كل فريق فيه عن توظيف الأخبار المفبركة وأنصاف الحقائق لتشكيل رأي عام مؤيد لوجهة نظره.

كان لهذا النمط من التغطية التي يعوزها التوازن والدقة دوره في عزوف كثيرين عن متابعة تلك المؤسسات، فيما بدا آخرون أكثر استعدادًا لتقبل رواية إلإعلام المؤيد للنظام عن الأحداث وباتوا ينظرون لتلك التغطيات كجزء من «مؤامرة» سياسية دولية.

وبين تطرف الحالتين، سيلجأ جمهور عريض لما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي هربًا من حال الاستقطاب الإعلامي الواضح في المنطقة. ومع افتقاره المعرفة اللازمة للتحقق من صحة المواد الإعلامية، سيسقط جزء ليس قليلًا من هؤلاء المواطنين فريسة لما تزخر به موقع التواصل من أخبار مفبركة أو غير دقيقة.

وسط كل ذلك، وأكثر من أي وقت مضى، يبدو أن المنطقة العربية بحاجة لإعلام متوازن لا يركن للتبسيط والاختزال والعاطفة، ويذهب بعيدًا في التحليل وتفنيد المعطيات ومحاولة استجلاء الحقائق التي تساعد الرأي العام على تكوين وجهة نظر مدروسة مؤسسة على أقصى ما يمكن الوصول إليه من حقائق قابلة للقياس والتثبت.

ربما لم يخرج الكثير من الصحفيين العرب من عالم الحقيقة إلى ما بعده، لأنهم، كما يبدو، لم يدخلوه بعد.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية