عشتُ في غزة حروبًا كثيرة، منذ أن كنتُ طفلًا وحتى أصبحتُ أبًا لثلاثة أطفال. كانت الحرب بمثابة ضيف ثقيل الظل يأتي ويذهب، تاركًا خلفه ندوبًا كثيرة، يستطيع الزمن مداواة جزء منها، فيما يبقى الجزء الآخر حاضرًا ومؤلمًا على نحو لا يُمكن التعافي منه بشكل كامل.
في كل الحروب التي مرّت على غزة كنتُ أعيش ظلالًا كثيفة من الخوف والصدمة؛ الخوف على الذات، وعلى الوالدين والإخوة والأخوات، وعلى الأقارب والأصدقاء في الدوائر القريبة. لكن الأمر اختلف جذريًا، وصار أكثر هيمنة ووضوحًا، في الحروب التي كنتُ فيها أبًا لأطفالٍ يرون فيّ المخلّص، ويظنون أنني قادر على حمايتهم من أهوال أحداث يتعرضون لها للمرة الأولى.
في تلك اللحظات، يُصبح عليّ أن أقدّم تفسيرات حول أسئلة هائلة يطرحها صغار يتفتّح وعيهم على معانٍ معقّدة تخلّفها الحرب: أسئلة الحياة والموت، الخطر والأمان، البقاء والمغادرة، الذاكرة والنسيان. تحيط بهم الأصوات والمشاهد المرعبة فجأة لتزجّ بهم في زاوية ضيقة من أفق مسدود وغريب، دون أن يكون بالإمكان وضع حدٍّ لكل هذا.
«هذا ما جناه أبي عليّ، وما جنيتُ على أحد»، أوصى أبو العلاء المعري أن تُخطّ عبارته الشهيرة تلك على قبره بعد وفاته في إشارة لرفضه العميق لفكرة الإنجاب، وامتناعه التام عن التورط في استمرار السلالة البشرية بعد حياة عاشها رهين محبسين؛ محبس العمى، إذ فقد بصره في سن مبكرة من طفولته؛ ومحبس العزلة، الذي اختاره طوعًا حين انقطع عن الناس ولازم بيته في المعرة أغلب سنيّ عمره.
تُقدّم لنا عبارة المعري خلاصة فلسفته تجاه الأبوة والإنجاب، فهو يرى أن الإنسان -بدلًا من التورّط في جلب أرواح جديدة إلى عالم غارق في البشاعة والتوحش- عليه أن يمتنع عن الإنجاب كفعل من أفعال الرحمة أو المساءلة الأخلاقية. ورغم أن رؤيته تبدو قاتمة وسوداوية، وربما أنانية في ظاهرها، إلا أنها تُعبّر عن حدس عميق بعالم يسير نحو مزيد من الخراب.
كان هذا التصور عند المعرّي بمثابة نسفٍ كليّ للتصورات المألوفة حول الأبوة، والتي ترى في الأب الغطاء الصلب، والحماية، والوصاية، والرعاية، وكل المعاني التي تمنح الأطفال شعورًا بالأمان والانتماء. ورغم سوداوية تصور المعري، إلا أنني -على نحو ما- كنتُ، لسنوات طويلة أنظر إليه باحترام وتأمل، إذ كنتُ أؤمن أن إنجاب الأطفال هو معضلة أخلاقية عميقة، لا يمكن اتخاذ قرار بشأنها بخفة أو استسلام لغريزة.
كنتُ وما زلتُ مهووسًا بفكرة العائلة، عاشقًا للأطفال، ومع ذلك اعتقدتُ أن عدم تكوين عائلة داخل فضاء بهذا القدر من الوحشية قد يكون خيارًا أخلاقيًا أكثر رحمة. لكنني، ربما بدافع من تلك الغريزة نفسها، انجرفت نحو تكوين عائلة وإنجاب أطفال، ويمكنني القول إن ذلك كان انجرافًا ممتعًا، لكنه في الآن ذاته مكلفًا.
وهكذا، وجدتُ نفسي بعد سنوات قليلة من الزواج أبًا لثلاثة أطفال. سعيتُ قدر المستطاع أن أكون لهم أبًا يُجسّد كل المعاني التي تختبئ خلف مفهوم الأبوة، كما يتخيله الناس في كل مكان. بدا الأمر لي ممكنًا ومجديًا، إلى أن جاءت الحرب الحالية، وحطّمت كل الاستعارات التي كنتُ أعلّق عليها هذا المفهوم.
أعادت الحرب تعريف الأبوة لي ولأطفالي وأحدثت انهيارًا جذريًا في وظائفها التقليدية لتتركنا جميعًا أمام معنى جديد غريب ومرير.
بعد مرور شهر على اندلاع الحرب، تعرّضنا لأعنف موجة قصف قرب منزلنا في مدينة حمد بخانيونس. كانت تلك الليلة أول اختبار قاسٍ لمفهوم الأبوة في عيون أطفالي. اندلع القصف فجأة بعد منتصف الليل، وكانت عشرات الانفجارات المتتالية تضيء المدينة بوهجٍ أحمر وأصفر، تهز أصواتها جدران الشقة وتزرع الرعب في قلوبنا. احتمينا في ممر ضيق داخل المنزل، وكان الرعب مسيطرًا علينا بالكامل.
مرتجفًا، التصق بي ابني الأكبر براء، أطرافه ترتعش، وشفاهه مزرقّة، وجسده يبرد شيئًا فشيئًا. لم يكن مجرد خوف عابر، بل انهيارًا كاملًا لطفل صغير لم يعرف من الحياة سوى طمأنينة البيت وصوتي. لم أكن قادرًا على تهدئته، ولا حتى على إخفاء خوفي عنه. حاولت إقناعه أننا في أمان، وأن القصف ليس قريبًا كما يظن، حتى وإن بدا الصوت ضخمًا إلى هذا الحد، حتى وإن كان بإمكانه أن يرى وهج الانفجارات على هذا النحو، حتى وإن كان قادرًا على شم رائحة البارود التي يخلفها القصف، حتى وهو يشاهدني خائفًا ومرتجفًا مثله.
كنت كمن يقنع النار بأن الماء لا تستطيع إطفاءها. لكني خشيت على الصغير أن يفقد حياته من شدة الخوف. قلت له: «ساعات وتشرق الشمس، وبمجرّد شروقها سنخرج من هنا، سنغادر الشقة، وسنذهب إلى مكان أكثر أمانًا». بدأ براء يستجدي النهار والشمس، وكلما اقترب بزوغ الفجر، كان يذكرني بأننا يجب أن نغادر الشقة، وبأنه يريد الذهاب إلى أيّ مكان آخر. كنت فيما براء يستجدي الشمس لتسرع في شروقها، أُحدّث نفسي: كم كنت سيئًا ومتهورًا وأنانيًا حين قررت أن أنجب طفلًا في بقعةٍ محكومٍ عليها بالإعدام كالتي نعيش فيها، وكم أبدو الآن عاجزًا لا أستطيع حتى إقناعه بأنني الأب القادر على حمايته من الموت، وأن أفسر له حقائق معقدة عن الحياة كالتي يختبرها صغير في عمره. يا له من ذنب لا يمكن غفرانه.
كان هذا أول خدش واضح في صورة الأب التي كان الصغير يحملها عني، كما كان كذلك خدشًا في الصورة التي أمتلكها أنا عن كوني أبًا.
كي أحاول ترميم هذه الصورة قدر المستطاع، ليس بالمعنى الذي يجعلني أشعر أنني الأب القادر على حماية الصغار في وقت كهذا، ولكن كي أكفّر عن ذنب إنجابهم ليختبروا كلّ هذا الألم صغارًا أخذت على عاتقي قرارًا بأن أهرب بهم قبل أن يقترب القصف منّا، قبل أن يكونوا عرضةً لمعايشة ليلة كتلك الليلة المرعبة.
لم يكن هذا قرارًا يمكن ضمان نجاحه، لكنه كان شيئًا يمكن لي اللجوء إليه لمحاولة الإفلات قدر المستطاع من عقدة الذنب التي أراها في عيون الصغار والخوف ينهشهم حين يدركون كم أنا عاجز عن فعل أي شيء لحمايتهم.
وهنا بدأت مسلسلًا مبكرًا من النزوح المتكرر هربًا من الخوف الذي قد يتعرض له الصغار إلى الأماكن التي ظننتها أكثر أمانًا.
في تشرين الثاني من العام 2023، ظهرت أول موجة جوع حقيقية في غزة. اختفى الطحين من الأسواق، كما أغلقت المخابز أبوابها وسُرقت مخازن وكالة الغوث التي كانت تحتوي على أطنان من أكياس الطحين.
بعد اختفائه من السوق، تمكنت من الحصول على كيس طحين واحد مسروق من مخازن وكالة الغوث بسعر باهظ لكنه بدا كنزًا.
فرِحنا به فرحًا أسود مختلطًا بالذنب والارتباك، فالطحين وحده لا يصنع الخبز ونحن لا نملك ما نخبز عليه بعد أن اختفى كذلك غاز الطهي. كان لا بد من خبز أرغفة الدقيق المرقوقة باستخدام أفران الطين، وهي أفران شعبية تقليدية تستخدمها العائلات القروية عادةً. انتشرت هذه الأفران على نحو واسع في كل المناطق، وكانت السيدات القرويات، بكثير من الروح التضامنية والمعطاءة، يقمن بخبز أرغفة الخبز بشرط أن توفر العائلات التي تريد أن تُخبَز أرغفتها ما يمكن أن يُشعل النار في تلك الأفران، من أشياء تُقذف داخلها، ككراتين أو أوراق كتب أو غيرها.
في ذلك الوقت، اقترحت زوجتي أن نستخدم كتابين من مكتبتي وقودًا لأفران الطين التي بدأت تنتشر بين الأبراج. قالت بلطف: «إطعام الصغار الآن أهم من القراءة لهم».
لطمتني الجملة كصفعة حقيقية، فلم أكن أتخيل يومًا أن توضع مكتبتي، التي بنيتها على مدار سنوات، في مواجهة مع جوع الصغار.
هكذا بدأت تتفتح أمامي الحقيقة بكلّ سطوتها؛ لا قيمة لكل تلك الذاكرة المتجسدة على هيئة كتب مرصوصة في مكتبة أمام جوع صغاري في زمن الحرب. صدمت من هول اللحظة التي وجدت نفسي غارقًا فيها. كيف وصلت الأمور إلى هذا الحد بهذه السرعة؟
لم يكن ثمة خيارات كثيرة، لكني بطريقة ما رفضت تلك المعادلة التي وجدت نفسي مجبرًا على حلها. كان ذلك اختبارًا آخر قاسيًا، ورغم أن البعض قد يظن أنه لم يكن يتوجب عليّ الشعور بكل هذا، فلا شيء يضاهي الوقوف عاجزًا أمام جوع الصغار، لكنني في ذلك الوقت كنت لا أزال أتلمس حدوث الخسارات بشعور مضاعف بالخيبة والخشية من الانزلاق فيها. لذا قلت: لا بد من حل آخر. كانت تربطني بالمكتبة علاقة خاصة، وهذا ليس تصورًا شعريًا مبالغًا فيه، بل حقيقة عشتها لسنوات، ولذا فكرت في إيجاد حل آخر.
رغم أنني تمكنت بطريقة ما من الحصول على ما يكفي لخبز أرغفة الصغار دون الانزلاق في حفرة البدء بحرق كتب المكتبة، إلا أن الحدث شكّل لي، وبصورة مبكرة، خدشًا إضافيًا في تعريف الأبوة كما كان متشكلًا لديّ.
هكذا بدأت تظهر ندوب أكثر جدية في كيان الأبوة. كنت ذلك الأب الذي كان يفكر في لحظة ما بإنقاذ الصغار من جوعهم دون أن تأكل الحرب شيئًا من روحه وذاكرته وكيانه الذي تخيّل أنه من الممكن أن يظل كاملًا، إلا أنها فعلت.
في كانون الأول 2023، وبعد أن دخلت الآليات العسكرية إلى مدينة خانيونس، قررت الهروب مع الصغار، تحديدًا بعد أن قطعت على نفسي عهدًا بألا أُعرّضهم لأهوال أكثر بشاعة ستكون حاضرة بالتأكيد مع تقدم الآليات العسكرية. توجهت إلى رفح، وفي أول ليلة لنا هناك، وبينما كنت أحاول أن أُغمض عيني، كان صوت الأنين المتقطع والسعال الجاف يملأ الغرفة.
كان باسل الصغير يعاني من نوبة برد حادة، يكاد لا يستطيع التنفس، وقد احمرّ وجهه وارتفعت حرارته بشكل مقلق. تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وجلست بجواره أحاول تهدئته، أحاول أن أزيل عنه وطأة الألم التي كانت تنهشه.
حملته بين ذراعيّ وسرت به داخل الغرفة جيئة وذهابًا، محاولًا تخفيف ألمه، لكن دون جدوى. كانت أنفاسه تضيق، وبدأت أرى في عينيه نظرات خوف لم أعتدها. شعرت بالعجز والوحدة يتكاثفان داخلي كغمامة سوداء. قلت في نفسي: لو كنتُ في خانيونس، إلى جوار أمي، كانت ستعرف ما تفعل في مثل هذه اللحظات. لو كنتُ قريبًا من إخوتي، أو على الأقل في مكان أعرف فيه من أين أطلب المساعدة. اجتاحتني دوامة من الندم، شعرت أنني قصّرت، وأنني في وسط هذه الحرب لم أعد ذلك الأب القادر على الحماية. لكن رغم كل شيء، لم يكن أمامي سوى أن أستمر.
خرجت من الغرفة، وعلى جانبيْ الممر الطويل كان عدد من الرجال نائمين: شاب في الثلاثينيات، ورجلان في عمر الكهولة، وبعض المراهقين. اقتربت بحذر من الثلاثيني وأيقظته برفق. فتح عينيه ببطء وهمس: «شو في؟» قلت له: «ابني مريض، يسعل كثيرًا، حرارته مرتفعة، ونفسه يضيق. بتقدر تساعدني؟» أجابني وهو يحاول أن يستيقظ تمامًا: «بصراحة ما بعرف شو ممكن أعمل، بس شوي… خليني أصحي أبو بيان، هو صيدلي وممكن يفيدك».
وبالفعل، أيقظناه سويًا. بدا أبو بيان رجلًا مريحًا، هادئًا، يحمل من الوقار ما يجعل القلب يطمئن. نهض من فراشه وقال: «خير، مال الصغير؟» شرحت له ما يحدث، فهزّ رأسه بتفهم، ثم قال: «ما عندي الدواء المناسب، لكن خذ هذا المسحوق، ادهن به قدميه، وخذ هذا القرص، قسمه إلى نصفين وذوب نصفه في ملعقة ماء، حاول أن يشربه، إن شاء الله بيخف».
أخذت الدواء وعدت إلى باسل. جلست إلى جواره وبدأت بتطبيق ما أوصاني به أبو بيان، وكل ما يدور في ذهني في تلك اللحظة: «هل يراني باسل كما أريد أن يراني؟ كأبٍ يمكنه أن يحمي؟ أم أن الحرب تسحب مني تلك الصورة شيئًا فشيئًا؟» لكن فكرت أنني حتى في لحظات ضعفي، كنت أحاول أن أكون له سندًا. ربما لا أملك الدواء، ولا الأمان، لكني أملك قلبي وذراعيّ، وقلقي عليه، وكل ما تبقى من حبٍّ لم تدمّره الحرب.
في رحاب الحرب، تنهار ثوابت الأبوة وتتفكك الصور النمطية التي طالما أسرتنا بها ثقافتنا ومخيلتنا. الأب لم يعد حصنًا صلبًا يقي من الخطر، بل صار معلقًا بين الخوف والضعف، بين الإحساس بالعجز وحمل المسؤولية التي لا تنتهي. الأبوة هنا ليست فقط فعل حماية أو رعاية، بل تجربة وجودية عميقة، مواجهة مع الانهيار المتواصل للذات والهوية، حيث تتقاطع الأخلاق مع الألم، ويتصادم الحلم بالواقع. في هذا الامتحان القاسي، يصبح الأب -رغم هشاشته- حاملًا لمعنى أعمق للحب والتضحية، يحاول أن يصوغ من رماد الخراب حياة جديدة لأبنائه، يحمل في قلبه صدى الأسئلة الكبرى عن الحياة والموت والمعنى في عالم يتآكل فيه الأمان ويتبدد فيه المستقبل. الأبوة إذًا، ليست مجرد فعل يومي، بل صيرورة مستمرة من التأمل والمعاناة، بحث عن نور صغير وسط الظلام الدامس.