بعد أربعين يومًا من ولادتها طفلتها الأولى، تركت سناء* الرضيعة تصرخ في الشقة، وصعدت إلى سطح العمارة. وهناك رأت حبلًا ملقى على الأرض، فحملته ووقفت تفكر بالطريقة التي ستموت بها، هل تقفز عن الحافة، أم تربط هذا الحبل في مكان ما وتخنق نفسها؟ كان يتصارع في ذهنها هاجسان، الأول أنها لم تعد قادرة على تحمل صوت الطفلة أكثر من ذلك، وتريد إنهاء كل شيء، والثاني هو أن ما تفعله خطأ، وعليها أن تتراجع عنه.
مضى على هذه الواقعة ثلاث سنوات. كان عمرها وقتها 25 عامًا، وكل شيء قبل الولادة كان طبيعيًا. تخرجت قبلها بسنتين من الجامعة، وتزوجت زواجًا سعيدًا، ثم بعد سنة ونصف من الانتظار حملت بطفلة، تقول إنها أمضت كل شهور الحمل «مش مصدقة متى أشوف وجهها». لهذا كان صادمًا لها، ولكل المحيطين بها أن تكون ردة فعلها بعد الولادة مباشرة النفور الشديد من الرضيعة. رفضت حملها وإرضاعها وحتى النظر إليها. «حكيتلهم خلص ما بدّي البنت، شيلوها من عندي». ووسط صدمتهم، كان زوجها وأهله وأهلها، يواصلون محاولاتهم وضع الطفلة في حجرها، معتقدين أنهم بذلك يمكن أن يستثيروا حنانها. «حكيتلهم مش حانّة، مش حانّة بالمرة».
الذي تذكره سناء أنها بعد الولادة مباشرة ومن دون أي مقدمات سقطت في «حفرة»؛ بدأ قلبها يخفق بشدة، لم تعد تنام، طوال الوقت مرتبكة ومشتتة وغير قادرة على التركيز. امتنعت عن الأكل تمامًا، ونزل وزنها خلال بضعة أسابيع من 70 كيلوغرامًا إلى 40، كانت تبكي طوال اليوم من دون سبب، وفقدت الاهتمام بأي أحد بما في ذلك زوجها الذي لم تعد تطيق أن يمسّها. وأصابها تبلد مشاعر تجاه كل ما يحدث حولها، لدرجة أن طفلًا من العائلة «تشردق» أمامها بحبة حلوى فظلت تنظر إليه بجمود وهو يختنق دون أي ردّة فعل.
أجبر هذا أمها وحماتها على التناوب في الإقامة معها، وهذا في الحقيقة ما أنقذها ذلك اليوم، لأن حماتها انتبهت إلى غيابها فأيقظت زوجها وصعدا إلى السطح ليجداها واقفة وبيدها الحبل. مشهد تقول إن زوجها عندما رآه انفجر باكيًا، وحتى لا تستثار مرة أخرى صاروا في كل مرة يرتفع فيها صراخ الطفلة يحملونها إلى السطح حتى تسكت.
في تلك الفترة كان الجميع حريصين ألا يعرف أحد من خارج العائلة ما يحدث معها، كانوا «مستحيين مني». فكانوا يرجونها أن تخرج للضيوف القادمين للتهنئة ولو لدقائق، يتولون بعدها التحجج بأنها متعبة من الولادة. وكان هناك من يلومها لأنها غير ممتنة لنعمة الإنجاب، في وقت كثيرون غيرها «محرومون من الخلفة»، وهذا تقول جعلها تشعر بذنب شديد، وكل ما كان يخطر لها هو «أنا أم مش منيحة، أنا أم مش طبيعية، أنا أم مش سويّة».
بعد عشرة أيام من الولادة، اتصل زوجها الذي يعمل في وظيفة إدارية في القطاع الصحي بطبيب نفسي يعرفه، وشرح له حالتها، وهنا عرفوا أنها تعاني مما يسمى «اكتئاب ما بعد الولادة». مرض يصيب النساء من كل الأعمار والثقافات والخلفيات الاجتماعية والاقتصادية، وأسبابه كثيرة ومتداخلة. منها البيولوجي المتعلق باختلال الهرمونات، ومنها ما هو متعلق بظروف نفسية واجتماعية واقتصادية. وهو يصيب وفق الإحصائيات العالمية ما بين 13-19% من الأمهات.
أردنيًا ليس هناك الكثير من الاهتمام الأكاديمي بهذا المرض. ووفق دراسة أجرتها إسراء الطيبة في 2021، فإن هناك ضعفًا في توثيق مدى انتشار اكتئاب ما بعد الولادة في الأردن، والمعلومات قليلة عن تفاعلاته الاجتماعية والديموغرافية والطبية المحتملة. الدراسة التي أجريت على عينة مكونة من ألف امرأة تقريبًا، شاركن في مسح عن طريق الإنترنت، ذكرت أن 53% منهن عانين من اكتئاب ما بعد الولادة. رقم تلفت الدراسة إلى أنه أعلى من أي بلد أخرى.
عالميًّا، هناك حسم بأن ما هو متوفر من إحصائيات أقل مما هو على الأرض، خصوصًا في البلدان التي ما زالت تتعامل مع الاضطرابات النفسية بوصفها وصمة، وهي ذاتها بلدان تفتقر منظومتها الصحية لآليات مناسبة لاكتشاف المرض وعلاجه. والنتيجة هي أن الكثير من النساء يعانين بصمت.
تشرح مروة،* وهي طبيبة مقيمة متقدمة في اختصاص النسائية والتوليد في وزارة الصحة، أن هرمونات مثل الأستروجين والبروجستيرون، ترتفع خلال فترة الحمل إلى أضعاف مستوياتها الطبيعية لتهيء الجسم للولادة، ثم تنزل مباشرة بعد الولادة. هذه الهرمونات مرتبطة بشدة بالحالة المزاجية للإنسان. والتغير الدراماتيكي المفاجئ في مستوياتها في جسم المرأة يمكن أن يسبب لها صدمة تقود إلى الاكتئاب. هذا يفسر الحالة العصبية التي تصيب الكثير من النساء قبل الدورة الشهرية وأثناءها، وأيضا النساء اللواتي يأخذن حبوب منع الحمل، فهنا تحدث أيضًا تغيرات هرمونية تؤثر على الحالة النفسية، لكنها في حالة الحمل والولادة تكون أقوى بكثير. يضاف إلى ذلك، الاختلال في إفراز هرمون الغدة الدرقية، المرتبط أيضًا بالحمل والولادة، ويؤثر أيضًا على الحالة النفسية للمرأة.
هذا التأثر باختلال توازن الهرمونات، تلفت مروة، لا يحدث بالضرورة لكل النساء، بل يعتمد على طبيعة جسد المرأة، واستعدادها الجيني. لهذا فإن وجود سوابق في العائلة فيما يتعلق بالإصابة بالاكتئاب، يعني أن احتمالية إصابة المرأة به بعد الولادة أكثر من غيرها.
تحسم الدراسات أنه لا سبب واحد لاكتئاب ما بعد الولادة، وأن الإصابة به عملية معقدة تتداخل فيها الكثير من العوامل والمثيرات. فإضافة إلى التغيرات الهرمونية، ووجود تاريخ عائلي، تحدد زينب سحيري في دراستها مجموعة من العوامل المسببة لاكتئاب ما بعد الولادة، منها العلاقة السيئة مع الزوج ومع العائلة، وسوء الأحوال الاقتصادية، وتعرض المرأة أثناء الحمل أو بعد الولادة لأحداث حياتية ضاغطة، مثل وفاة مقرب أو اكتشاف مرضه أو غير ذلك، والحمل غير المخطط له، وصعوبة عملية الولادة، وتعرض المرأة أو المولود لمشاكل صحية خلال الحمل أو بعد الولادة، وكثرة الأطفال، وافتقاد المرأة للمساندة من محيطها، سواء بالدعم النفسي أو بتقديم المساعدة في المهام اليومية، وأن يكون المولود من جنس غير مرغوب به. وفي الدراسة الأردنية سابقة الذكر، كانت الخلافات الزوجية هي السبب الأول للاكتئاب.
ما تزال إحصائيات اكتئاب ما بعد الولادة أقل من الواقع، خصوصًا في البلدان تتعامل مع الاضطرابات النفسية بوصفها وصمة إلى الآن، وتفتقر منظومتها الصحية لآليات مناسبة لاكتشاف المرض وعلاجه. والنتيجة هي أن الكثير من النساء يعانين بصمت.
لدى سناء تاريخ عائلي بالفعل، لكنها عرفته متأخرة عندما اعترفت لها والدتها بأنها أصيبت بهذه الحالة بعد ولادة واحدة من شقيقاتها. وأن جدتها من قبلها عانت الأمر نفسه. تقول إنها صدمت وهي تسمع حادثة ظلت طيلة هذه السنوات سرًا عائليًا، وهي أن أمها، التي عاشت مع عائلة زوجها، أصابتها العصبية في أحد الأيام من صراخ الوليدة التي كان عمرها وقتها ستة أشهر تقريبًا، ومن أجل أن تكتم صوتها أهالت عليها صفّ البطانيات التي كانت مطوية بمحاذاة الجدار. من حسن الحظ أن أحد أعمامها مر بالصدفة أمام الغرفة المفتوحة، فهرع وأزاح البطانيات عن الرضيعة. ووقتها منعوا أمها من النوم مع الطفلة لعدة ليالٍ. إضافة إلى أن حماتها صارت تأخذ عنها الكثير من عبء العناية بها.
تقول سناء إنها اليوم، بعد ثلاث سنوات، أكثر فهما لأسباب ما جرى معها، إذ تسترجع التفاصيل وترى الآن أن حياتها كانت سلسلة من الأحداث الضاغطة التي كتمتها داخل صدرها، من الزواج إلى الولادة، لأنها لم تكن راغبة في إثارة المشاكل. بدايةً أحبّت زوجها، لكنها كرهت البيئة الاجتماعية المغلقة في العمارة العائلية التي انتقلت للإقامة فيها بعد زواجها، والتي عاشت فيها مقيّدة الحركة ومنعزلة ووحيدة. وهو نمط حياة مناقض كليًّا لحياتها الحرة والمنفتحة اجتماعيًا في بيت عائلتها. هذا كان أمرًا وجدت صعوبة كبيرة في التأقلم معه. ثم تأخر حملها، وكانت تسمع بأذنيها من يقول إن «العيب منها». وبعد أن حملت أخيرًا كانت ردة فعل عائلة زوجها سلبية جدّا عندما عرفوا أنها حامل ببنت، «حماتي لما عرفت إنها بنت انجنّت». صحيح أنها صالحتها بعدها، لكن إحساسها بأنها خيبت آمال من حولها وأن الفرحة بحملها كانت منقوصة لازمتها طوال شهور الحمل.
ثم جاءت الولادة الصعبة، تقول إن تعامل الممرضات معها كان في منتهى الجفاف، في وقت كانت مرعوبة وهي وحدها في غرفة الولادة من دون مساندة أي أحد تعرفه، ثم عندما ولدت أخيرًا تمت خياطة جرحها من دون مخدر، وكان عليها كتمان صرخات الألم لأن طبيبًا هو من خاط لها جرحها. ثم ناولوها الطفلة وأول تعليقات سمعتها ممن حولها كانت حول لون بشرة البنت، «ليش هيك سمرة؟ لمين طالعة؟».
والذي زاد الأمور سوءًا أن كل هذا حدث في زمن كورونا؛ حيث حملت وأنجبت في الفترة التي كانت فيها ذروة الإغلاقات والرعب العالمي من الوباء. ووسط حمى الإغلاقات هذه أصيبت بالتهاب في المرارة وخضعت لعملية استئصالها، وتدهور وضعها بعدها فأدخلت إلى العناية المركزة. وهي تتذكر عندما أفاقت ورأت أمها فوق رأسها تبكي وتدعو لها أن تشفى لتعود لابنتها. تقول سناء إنها في تلك اللحظة رجت الله أن يميتها إذا كانت ستعود إلى اكتئابها، وإذا قرر أن يحييها فـ«يعطيني محبة هاي البنت».
خضعت سناء للعلاج النفسي، الذي تقول إنها فهمت معه أنه لا ذنب لها نهائيًا فيما يحدث. وقتها أخذت بضع جلسات ثم صار زوجها يتواصل هاتفيا مع الطبيب ويخبره بتطورات حالتها، فيعطيه الأخير إرشادات للتعامل معها. وهو أمر تقول إنه يمكن اختصاره بكلمة واحدة؛ «الدعم»، الدعم اللامتناهي وغير المشروط. تقاسمت حماتها وأمها وزوجها مهمة إنجاز كل الأعمال المنزلية، والعناية بالطفلة. ولم يضغط أحد عليها لترضعها أو حتى لتحملها، أو لتخرج لاستقبال الضيوف. تحمّل زوجها صدّها له، وتفريغها غضبها فيه، لدرجة أنها أحيانًا كانت تضربه، «كان يحكيلي اضربيني عادي». كان يحضر لها الوجبات التي تحبّها، ويأخذها لتمشي خارج المنزل، ومرة أخذها إلى حديقة «وصار يمرجحني زي الصغار». وعندما لم يكن الخروج متاحًا، كان يصعد بها إلى سطح المنزل. كانت تتبع نصيحة الطبيب بأن تواصل كتابة ما تشعر به لتفرّغ مشاعرها السلبية. وفي الأثناء شجّعها زوجها على أن تتبع شغفًا قديمًا لها وهو احتراف عمل المكياج، فاشترى لها المواد الأولية، والتحقت بدورات متخصصة أونلاين.
استغرق الأمر أشهر حتى بدأ وضعها يتحسّن شيئًا فشيئًا. تقول إن السواد بدأ ينزاح، وبدأت بالتدريج تقترب من الطفلة، تحملها وتشمّها وتغير لها ملابسها. احتاج الأمر إلى حوالي تسعة أشهر، لتقول إنها اجتازت المحنة.
الولادة تجربة حياتية كبرى، مصحوبة بتغيرات كبيرة جسدية ونفسية واجتماعية واقتصادية. ومن الطبيعي، تقول المعالجة النفسية تالا الكرد، أن تستثير لدى المرأة التقلبات المزاجية والحزن والتوتر والبكاء والقلق واضطرابات النوم والشهية.
تقول الكرد، التي تعمل في المجال منذ عشرين سنة، إنه في حالة 85% تقريبًا من النساء تضمحل المشاعر السابقة بعد أسبوعين في المتوسط. والاسم المتعارف عليه في هذه الحالة هو الكآبة النفاسية «Baby Blues». لكن استمرارها أكثر من ذلك وتزايد شدتها يعني أن المرأة دخلت على الأرجح في اكتئاب ما بعد الولادة، وهي بحاجة إلى مساعدة مختص.
وهنا، تقول الكرد، يوجد مستويان من الاكتئاب؛ المتوسط، ومعه تعاني المرأة التقلبات المزاجية الشديدة والبكاء طوال الوقت من دون سبب واضطرابات الشهية والعصبية وقلة التركيز ونوبات الهلع والتفكير بالموت والأفكار السوداوية التي يمكن أن تتحول لأفكار انتحارية وصعوبة خلق صلة مع الطفل والانسحاب من الحياة الاجتماعية وقلة الطاقة لإنجاز المهام اليومية.
أما المستوى الاعلى والأخطر، والذي يحدث بنسب أقل، هو الذهان (Postpartum Psychosis)، والذي تعاني المرأة فيه من الهلاوس والأوهام، وتحاول إيذاء نفسها أو طفلها. تتذكر مروة العديد من حالات الذهان التي مرت عليها. هذه حالات تقول إن أعراضها القاسية تجعلها مرئية، فيتم التدخل بسرعة بتحويلها إلى مصحة، لأنها تكون خطرًا على نفسها وعلى الطفل. المشكلة تقول تظل في حالات الاكتئاب المتوسط التي لا يوجد هناك الكثير من الوعي المجتمعي بخطورتها، فيتم الاستخفاف بها بوصفها إما مشاعر عادية ستمر وحدها أو باعتبارها مبالغة من الأم، ويبدأ لومها لأنها لا تتصرف مثل «الأمهات الطبيعيات».
الولادة تجربة حياتية كبرى، مصحوبة بتغيرات كبيرة جسدية ونفسية واجتماعية واقتصادية. ومن الطبيعي، تقول المعالجة النفسية تالا الكرد، أن تستثير لدى المرأة التقلبات المزاجية والحزن والتوتر والبكاء والقلق واضطرابات النوم والشهية.
وهنا تنبه الكرد إلى أن الاستخفاف بما تمر به الأم، يمكن جدًا أن ينقل اكتئابها من مستوى إلى آخر أعلى. وهذا يشمل حتى مشاعر الكآبة العادية التي تمر بها معظم النساء (Baby Blues). فحتى هذه لا يجوز افتراض أنها ستمر وحدها، بل يجب مراعاة الأم ومساعدتها على اجتيازها بتقديم الدعم النفسي، وبالمساعدة في إنجاز الأعمال المنزلية والعناية بالطفل. وأيضًا بإفساح المجال لها لأن يكون لها وقتها الخاص. لكن المؤسف، تقول الكرد، أن هذا لا يحدث غالبًا لدينا، فالمرأة عندما تلد يفترض من حولها أن الطفل مع غيره من الأطفال مسؤوليتها وحدها، وأنها مهيأة طبيعيًا لتنهض بهذه المهمة بمفردها.
مع تدني الوعي المجتمعي بخطورة اكتئاب ما بعد الولادة، تقول مروة إن المنظومة الصحية غير مصممة بحيث تلتقط حالاته. في حين في دول متقدمة يكون فحص الاكتئاب إجراءً روتينيًا تخضع له النساء خلال الحمل وبعد الولادة، وذلك لأن الاكتئاب يمكن في بعض الحالات أن يبدأ خلال الحمل. من دون انتظار أن يتطور المرض بحيث تصبح أعراضه واضحة جدًا للعيان. علمًا بأن هناك أعراض خطيرة لا يمكن معرفتها دون أن تبادر المرأة للاعتراف بها، مثل الأفكار والوساوس.
في الأردن، ورغم أن المنظومة الصحية المخصصة للأمومة والطفولة قد تقدمت كثيرًا، إلّا أنها ما زالت تفتقر بشدة إلى اهتمام موازٍ بالصحة النفسية للأمهات، وهو جزء من تردي خدمات الصحة النفسية في القطاع الصحي العام ككل.
تقول رانية* التي تعمل في تدريب القابلات المبتدئات، إن جزءًا من تدريبهنّ يقوم على ضرورة الانتباه إلى الحالة النفسية للأمهات، وسؤالهن عن مزاجهن، وتنبيههن إلى أن يكن منفتحات في التعبير عما يشعرن به حقًا. فالمفروض أن يقال للأم «إذا إنت مش منيحة إحكي أنا مش منيحة، إذا إنت بحاجة مساعدة اطلبي المساعدة». لكن هذا على مستوى النظرية، أما عمليًا، وأمام كل هذا الضغط على القطاع الصحي العام، تقول رانية إن ما يحدث هو «اولدي واطلعي».
لكن مروة التي عملت في مستشفيات القطاع الخاص، قبل التحاقها بـ«الصحة»، تلفت إلى أن ضعف الانتباه إلى الصحة النفسية للأم هو أمر يشمل القطاع الخاص الذي لا يعاني أي ضغط، فأثناء الحمل وبعد الولادة، يكون التركيز حصرًا على الصحة الجسدية للأم والوليد.
تقول رانية إن سؤال الأمهات عن مشاعرهن وما ينتابهن من أفكار مهم جدًا، لأن كثيرًا من النساء يتعرضن لتسخيف ما يشعرن به. وتقول إنها في مشاهداتها الميدانية تسمع الكثير من عبارات من قبيل «شو مالك؟ أنا خلّفت عشرة وقمت». هذا يجعل الأمهات يعتقدن أن ضعفهن هو شيء غير طبيعي، ونتيجة خلل فيهن بالذات، فيكتمن ما يمررن به.
ترى الكرد أن هذه المقارنة غير العادلة بين أمهات الحاضر والماضي، تكون في أحيان كثيرة سببًا في تعميق مشاعر الذنب لدى الأمهات. وهي مقارنة غير عادلة لأن للأمومة في هذا العصر أيضًا أعباؤها الثقيلة والمعقدة. وفي وقت كانت الأمهات في الماضي يعشن ضمن عائلات ممتدة، تتقاسم مع النساء مسؤولية العناية بالأطفال، فإن الأمهات المعاصرات مطلوب منهن أن ينهضن وحدهن بأعباء الأطفال والمنزل دون أي مساعدة، بما في ذلك العاملات منهن.
قد يظهر الاكتئاب خلال فترة الحمل ويستمر بعد الولادة. وقد يأتي بعد عدة أطفال، وليس بالضرورة بعد الطفل الأول فقط. كما أن الأعراض قد تظهر مباشرة بعد الولادة، وقد تتأخر فتظهر في أي وقت خلال السنة الأولى بعد الولادة، وهذا ما حدث لنادية.* خلافًا لسناء التي ظهرت الأعراض عليها مباشرة بعد الولادة الأولى، فإن نادية، التي أنجبت ثلاثة أطفال من دون أي مشاكل، هاجمها الاكتئاب بعد شهر تقريبًا من إنجابها طفلها الرابع. شهر تقول إنه كان «من أسعد أيام حياتي»، لأنه جاء بعد 12 سنة من الطفل الذي قبله، وخفف عن زوجها وعائلته صدمة فقدانهم شقيقه الثلاثيني الذي توفي فجأة في حادث، قبل ولادتها بشهرين.
تقول إنها منذ أربعة أشهر، بدأت تعاني من الأرق. وفقدت الاهتمام بأي شيء. وتبلدت مشاعرها «مافي شي بيفرحني ولا بيحزني». صارت تبكي كل الوقت، ولم تعد تفكر بالمستقبل، وانتقلت من حالة الخوف الشديد على أطفالها إلى حالة اللامبالاة. تسيطر عليها الوساوس فتشعر طوال الوقت أنها خائفة وقلقة، وقريبة جدًا من الموت. كما تعاني من تقلبات مزاجية حادة، فيحدث أن تستيقظ صباحًا متفائلة نشيطة ومستبشرة باليوم، ثم بعد ساعتين تنقلب أمامها «الدنيا سودة».
لا تستطيع نادية الإفصاح لمن حولها عما يحدث معها، كما كان الحال مع سناء. لقد فعلت ذلك في البداية، أخبرت زوجها وأهلها وفقدت تماسكها أمام أطفالها. فكانت النتيجة أن الجميع «انهاروا» بسببها. وأطفالها أصيبوا بالفزع وهم يشاهدون حالتها. وهذا جعلها تشعر بالذنب الشديد تجاه ما فعلته بهم. تقول إنها خذلت جميع من حولها في أسوأ وقت يمكن أن تفعل هذا بهم. فابنتها في التوجيهي هذه السنة، كما أنها أضافت همًا جديدًا على زوجها الذي يعاني أصلًا من ضغوطات شديدة في عمله، ومن تردي الوضع المادي. زوجها الذي ما زال وعائلته تحت صدمة موت ابنهم، واضطر بسبب أنه الابن الأكبر إلى حمل عبء مساندة والديه في هذه المحنة، والآن تقول إنها بدلًا من مساندته «كسرت فرحته» بالطفل. كما أنها منذ أشهر تتهرب منه، «بحس بالذنب بكل شي؛ إني مو قادرة أرجع أم، وأرجع زوجة».
العلاج النفسي النوعي في الأردن مكلف. ورغم وجود مبادرات محدودة هنا وهناك في تقديم خدمات نفسية مدعومة، إلا أن الوصول المؤسسي لخدمات نفسية نوعية ما زال محصورًا بالقادرين على الدفع.
وحتى عندما لجأت إلى أهلها لبضعة أيام كي تخفي عن أطفالها وضعها المنهار، نقلت المأساة إلى بيت أهلها، فلم يعودوا ينامون بسببها وأخذوها إلى شيخ ليعالجها. تقول إن أمها كانت تبكي وتصيح طوال اليوم، «خلص خفت عليها». لهذا صمتت، وصارت تتظاهر بالتماسك، وفقط عندما تكون وحدها تقول «بنتحر صياح».
اعتقدت نادية أنها تعاني من مشكلة في الدماغ، فراجعت أخصائي دماغ وأعصاب، ورغم أن الصور لم تظهر أي خلل، إلا أن الأخصائي وصف لها دواء، تقول إنها بعد أن أخذت منه حبة واحدة، ارتمت على الفراش مثل «الشريطة» فأوقفته.
في بداية اكتئابها، طلبت نادية من زوجها أن يأخذها إلى طبيب نفسي، لكنه ظل لفترة رافضًا تمامًا. وكان يقول لها إنها ليست بحاجة لمساعدة من أحد، وإنها وحدها من يستطيع إخراجها من هذه الحالة. ثم وافق أخيرًا وأخذها إلى طبيب شخصها باكتئاب متوسط، وحولها إلى معالجة نفسية، وقال لها إنهم سينتظرون أسبوعين من العلاج النفسي، ليروا إن كانت حالتها تستدعي دواء. لكن نادية خرجت من عنده ولم تعد.
تقول إنها لا تريد العلاج النفسي، أولًا لأنها مقتنعة بكلام زوجها، وتعتقد أن الأمر يتعلق على الأرجح بكيمياء الدماغ التي قد يحلها الدواء، لهذا لجأت إلى طبيبها النسائية الذي نصحها بأحد مضادات الاكتئاب. أخذت الدواء وأوقفته بعد أقل من أسبوع لأنها، ورغم تأكيد الطبيب أنه لا يؤثر على الرضاعة، خافت أن يؤثر على حليبها، وهي لا تريد المزيد من مشاعر الذنب، بحرمان ابنها من الرضاعة الطبيعية.
والآن بعد أن زاد وضعها سوءًا، وزادت لديها الأفكار والوساوس «البشعة»، هي مدركة أن عليها العودة إلى الطبيب النفسي. لكن إضافة إلى قلة قناعتها بجدوى العلاج النفسي فإن الكلفة المادية تشكّل معضلة، في حال تطلب الأمر علاجًا طويل الأمد. الجلسة الواحدة تكلف في المتوسط خمسين دينارًا، وتقول إن دخل زوجها لا يتحمل ذلك، لهذا تأمل بشدة أن يكفي في حالتها الدواء.
تقول الكرد إن تحديد الخطة العلاجية يتم من خلال مختص، هناك حالات يكفي فيها العلاج النفسي وحده، وحالات أخرى يجب أن يوصف لها إضافة إلى ذلك دواء. وتلاحظ أن هناك بعض الاستسهال في وصف مضادات الاكتئاب قبل أن يعطى للعلاج النفسي فرصته. وخطر ذلك أن الكثير من الحالات لا تحتاج إلى دواء، لأن مثيرات الاكتئاب هنا تتعلق بعوامل نفسية واجتماعية. وفي هذه الحالة، فإن ما تحتاجه الأم هو أن تتدرب، من خلال العلاج النفسي، على اكتساب المهارات الحياتية اللازمة للتعامل مع نفسها ومع محيطها، بما يساعدها على التأقلم. هذا ما سيساعدها على علاج الاكتئاب، من خلال التغلب جذريًا على مسبباته. في هذه الحالات فإن الاكتفاء بالدواء لا يفعل أكثر من إخفاء الأعراض.
لكن تظل بالطبع، تقول الكرد، مشكلة أن العلاج النفسي النوعي في الأردن مكلف. ورغم وجود مبادرات محدودة هنا وهناك لتقديم خدمات نفسية مدعومة، إلا أن الوصول المؤسسي لخدمات نفسية نوعية ما زال محصورًا بالقادرين على الدفع.
بالعودة إلى سناء، فقد أنجبت قبل سنة طفلًا ثانيًا، تقول إن اكتئابًا خفيفًا أصابها بعده، لكن الأمور بشكل عام مرت بسلام، بفضل مساندة زوجها الذي يقاسمها مهام العناية بالطفلين. وتقول إنها من دونه والعائلة لم تكن لتنجو.
حاليًا تشعر بانتكاسات خفيفة خلال الدورة الشهرية، وما زالت توترها رائحة مشروب القرفة الذي يقدم تقليديًا للضيوف المهنئين بالمواليد، وتكره بعنف التواجد في المستشفيات، لكن علاقتها بالطفلين عظيمة، خصوصًا طفلتها التي تقول إنها ما زالت تحاول تعويضها عما حدث في سنتها الأولى. وهي الآن سعيدة جدًا بمسارها المهني الواعد في مجال المكياج، وتقول إن أعظم تغيير خرجت به من محنتها هو أنها لم تعد تحمّل نفسها أكثر من طاقتها، ببساطة لأن «صحتي النفسية أهم من الدنيا كلها». تقول إنها صارت تضع حدودًا عادلة لعلاقاتها، والأهم أنها لم تعد تكتم مشاعرها في صدرها، «بحكي للأمهات فضفضن».