ثقافة وفنون

بهرم حاجو: الغائب في مرآة اللوحة

بهرم حاجو لا يرسم الوجوه، بل يرسم ما خلفها. يرسم اللحظة التي يتفتّت فيها المعنى، ويتحوّل الكائن إلى أثرٍ، لا إلى صورة.

في زمنٍ باتت فيه الوجوه فائضة عن الحاجة، يقف الفنان التشكيلي بهرم حاجو على تخوم الفنّ كمن يصغي لصوت الغياب. لا يرسم الوجوه ليخلّدها، بل ليفكّكها، ليمحوها، ليمعن في مساءلتها. في أعماله، البورتريه ليس مرآة بل انعكاسًا مكسورًا لذاتٍ تبحث عن نفسها بين طيّات اللون والفراغ. شخوصه لا تواجهنا، بل تنكفئ وتشيح وتنأى، كأنها تسحب اعترافها بالواقع وتلوذ بالصمت. إنها كائنات ترفض أن تكون مرئية وتُفضّل الغياب كصيغة من الحضور الموجع.

في أعمال حاجو تأتي هذه الشخصيات محمّلة بثقل الأسئلة لا الأجوبة، وبقوة الانكفاء لا الوضوح. إنها بورتريهات من نوع مختلف، لا تستعرض الملامح، بل ترسم محيط الكائن وهو يذوب في قلقه. في هذا السياق، يقترب حاجو من فن البورتريه ليقوّضه من الداخل، إذ يتحول الجسد في لوحاته إلى طيف أو ظلّ، والوجه إلى أثر بعيد لا يستقر على هيئة.

يضعنا هذا الفن أمام تجربة مُغايِرة، حيث الصمت لغة، والفراغ مكوّن أساسي، واللون ذاكرة مشحونة بالحنين والمنفى. شخوص حاجو لا تعيش في زمن، بل في فراغ ما بعد الزمن، ولا تنتمي إلى مكان محدد، بل إلى فضاء رمزي مفتوح على التأويل. من هنا، تتقاطع تجربة حاجو مع شخصية «حنظلة» في رسوم ناجي العلي، حيث يتحوّل الظهر إلى موقف، والمحو إلى احتجاج.

فنّ «البورتريه»

يبدو فنّ «البورتريه» لدى بهرم حاجو وكأنه لحظة انكسار أمام المرآة؛ لا يعكس الملامح، بل ما تبقى منها؛ الشخوص في لوحاته تُدير ظهرها للمشاهد، وكأنها في حالة هروبٍ دائم. هذه المفارقة تُشكل جوهر تجربة حاجو الفنية: البورتريه كحالة غياب، أو علامة استفهام، تُشرّع الأبواب على المزيد من الاحتمالات والتأويلات.

كائنات مبتورة، لا تَرى ولا تُرى؛ كأنّه يُنكر الواجهة، كما يُنكر العالم الخارجي، ليغوص في الداخل، في هشاشة الكينونة، حيث تكون الاستدارة أكثر صدقًا، والابتعاد أكثر تعبيرًا من المواجهة.

ينحدر بهرم حاجو من مدينة تربسبيه (القحطانية) في أقصى الشمال السوري، حيثُ ولد في العام 1952، وهو من الفنانين البارزين على مستوى العالم، نظرًا لموهبته الفنية التي رسّخت مكانته كشخصية بارزة في الساحة العالميّة. غادر سوريا في الـ20 من عمره، متوجهًا إلى بغداد للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة، ثم إلى براغ، وإلى شرق برلين وغربها، قبل أن يستقر في مدينة مونستر الألمانيّة، حيثُ كرّس وقته للفن بدءًا من مطلع التسعينيات.

شخوصٌ يديرون ظهورهم؟

الشخوص في لوحات حاجو لا تواجه، بل تشيح بوجوهها عن العالم، أو تتوارى في العزلة كأنها ترفض التورط في المشهد. إنها شخوصٌ مأهولة بالصمت، مطوّقة بالعزلة، غارقة في تيهها الداخلي، وكأنّها كائنات منفية من المشهد البشري، أو طيفيّة تائهة في وجود رمادي. هذه الوضعية -إدارة الظهر- لا تبدو مجرّد اختيار شكلي، بل علامةً وجوديّة تنطوي على طبقات من المعاني: الاغتراب، الاحتجاج الصامت، والتأمل المُغلق.

ثمة تشابه لا يمكن تجاهله بين هذه الأجساد المُنكفئة وشخصيّة «حنظلة» في رسوم الفنان الراحل ناجي العلي (1938-1987)؛ الطفل الفلسطيني الذي يدير ظهره للعالم احتجاجًا وانتظارًا وإدانةً صامتة. لكنّ الفارق الجوهري بينهما يكمن في طبيعة الغياب. فـحنظلة هو غيابٌ مشحون سياسيًا، في حين أنّ شخوص حاجو تنسحب من المشهد لا لتدين العالم، بل لأنّها لم تعد تجد نفسها فيه. هي لا تراقب الحدث من الخلف، بل تفرّ منه، تحتمي باللاوجود، وتغرق في صمتها كأنّه الخلاص الوحيد من الضجيج الكوني.

هكذا، لا تبدو هذه الشخوص مجرّد إسقاطات لفردانية معزولة، بل هي مرايا وجودية تمثّل هشاشة الإنسان المعاصر، ذلك الكائن المُمزق بين الرغبة في الانتماء والخوف من الذوبان، بين الحضور الثقيل والاختفاء الحميم. وفي هذا السياق، يتحوّل الجسد إلى أثر، لا إلى كيان، وإلى علامة على قلقٍ داخلي متجذّر. هذه الأجساد التي تلتف، وتنحني، وتختفي جزئيًا، تمارس نوعًا من المقاومة الصامتة ضد كل تصنيف، ضد كل قسر رمزي. حاجو لا يمنحها ملامح واضحة، بل يمنحها حق الغموض، كأنّها تحتج على ما يُفرض على الكائن من ملامح وأسماء وهويات جاهزة.

يقف كل من حنظلة وشخوص حاجو، على اختلاف المسافة، في لحظة رفض، لكن رفض كلٍّ منهما ينبثق من منبع مختلف: الأول سياسي يقيني، والثاني وجودي شكاك. الأول شاهدٌ لا يتغير، والثاني كائنٌ يذوب في احتمالاته، لا ينتظر شيئًا، بل يعكس شتات الذات في مرايا العدم.

من التشخيص إلى البوح

يرسم بهرم حاجو ذاته كما يرسم الآخرين: من الداخل لا من الخارج. وجهه يتكرّر في لوحاته، لا كصورة فوتوغرافية، بل كصدى داخلي، كظلّ لشعور أو حالة، كأثر لعلاقة مضطربة مع الهويّة والزمان. البورتريه لديه ليس تمثيلاً لملامح بقدر ما هو تخطيط للقلق، خريطة للحزن، وانحرافٌ متعمّد عن التشخيص المباشر.

في هذا الأسلوب، يبدو حاجو أقرب إلى التعبيرية التجريدية، لكنه يضخّ في أعماله لمسة شخصية تستند إلى اللون والتركيب والتشويه المدروس. الألوان الترابية، والخطوط الممزّقة، والتفاصيل الغائبة، كلّها تنقلنا من ملامح الوجه إلى أعماق النفس، ومن التشخيص إلى البوح الصامت.

وغالبًا ما يبدو الفنان بطلًا وحيدًا في مساحاته التصويرية، يلوّن ذاته بقلق الداخل لا بهوية ثابتة. إذ يتخذ من البورتريه ذريعة لكشف هشاشة الحضور الإنساني، ويعتمد على الفراغ، كامتداد للروح، وكاحتمال للتأمل والانغماس، وكموقع للمجهول الذي يسكن الكائن ويتهدده في الآن معًا.

الذات في لحظة تيه 

من المعروف أن البورتريه يُرسَم ليُخلّد. أمّا عند بهرم حاجو فالبورتريه يُرسَم ليفنى. هو محاولة إمساك بالهوية في لحظة تفتتها وليس احتفاء بها. حتى في اللوحات التي يرسمها حاجو لذاته، لا يظهر وجهه كيقين بل كاحتمال، كظلّ منطفئ أو كشبح يعبر مشهدًا داخليًا غامضًا.

في البورتريه، يقدّم حاجو نفسه ككائن هارب من المعنى: جسد مقلوب، نصف ظلّ، هيئة تغرق في لون كثيف. رغم ظهورهِ في عدد كبير من لوحاته، إلا إنه لا يمنح نفسه حضورًا مباشرًا؛ بل يحوّل وجهه إلى رمز، ويزرع ذاته ككائن غير مكتمل داخل مشهدٍ غير مكتمل أيضًا.

في هذه اللعبة المزدوجة، يُفرغ الفنان فكرة «البورتريه» من بعدها التوثيقي، ويحمّلها وظيفة تأمّلية: الذات في لحظة تيه، كجغرافيا مُفككة، أو كاحتمال دائم للانفصال. كأن البورتريه هنا اعترافٌ بأن الملامح لم تعد قادرة على قول شيء؛ لا أهمية للأنف أو العين أو الفم، لأن الكارثة لا تترك مكانًا للجمال التشريحي. المهم هو ما تبقّى من الكائن بعد الطوفان: قميص متدلٍ، هيئة مسترخية بانكسار، رأس مائل، وظهرٌ لا يزال دافئًا رغم كل هذا الغياب.

حضور الصمت

ألوان بهرم حاجو ليست اختيارًا بصريًا، بل مزاجًا داخليًا؛ في الخلفية ثمة رماد بصريّ مجبول بالطين والحنين والمنفى.

ألوانه رواسب زمن، وطبقات من الذاكرة؛ ألوانٌ ترابيةٌ، باهتة أحيانًا، لكنها مشحونة بالعاطفة والقلق. ثمّة هناك حضور دائم للرمادي والبنّي، كأنها مستخرجة من ذاكرة كُردستان وتربتها، أو من قاع النَفْسِ ورماد المنفى الأوروبي.

ويبدو اللون كجسد آخر للشخصيّة، يُعبر عن مأساتها حين تعجز تعابير الوجه عن ذلك، شبيهًا بطيفٍ يحكي عن الوجع والاغتراب والحنين العميق الذي لا يعبّر عن نفسه بصراخ بل بذبذبات بصرية خافتة، هو لون الوجود حين ينسحب من المعنى.

لا تكتمل شخوص بهرم حاجو من دون فضائها؛ ثمّة فراغ مُهيمن ليس نقصًا في تكوين اللوحة، بل هو جوهر تكوينها نفسه. الخلفيات ضبابيّة، أو عبارة عن مساحات مفتوحة بلا نهاية. هذه الفجوات المرئية ليست مجرد بياض، بل هي صدى داخلي للتيه، للمنفى، للهوية الممزّقة.

الفراغ في لوحات حاجو ليس مجرد خلفية صامتة، بل كيانٌ ينبض بالحسّ الفلسفي. هو مساحة للانتظار، للضياع، للانخطاف. وكأنّ الأجساد لا تستقرّ داخل اللوحة، بل تطفو في فضاءاتٍ غير محدّدة، بين الحضور والغياب، بين الشكل والمعنى، بين الهويّة والعدم.

هنا يصبح الفراغ بطلًا ثانيًا، يحاور الجسد ويكمله، أو يفضحه. إنه صوتٌ آخر للصمت، خلفية رمادية تتذكّر جغرافيا منفية، كأنّها كردستان ذهنية أكثر منها مكانًا فعليًا. هذه العلاقة المعقّدة بين الجسد والمكان، بين الذات والفراغ، تعكس التباس الهوية في عالم المنفى، وتحوّل اللوحة إلى مرآة مزدوجة: ترى الكائن وتتساءل عنه في الوقت نفسه.

يترك حاجو في فضاءاته فجوات تأويل، ويحمّل الفراغ مسؤولية التواطؤ مع الحنين، مع الذاكرة، ومع التساؤل المفتوح. هكذا، يصبح كلّ فراغ دعوة صامتة للرائي كي يملأه بتجربته، بقلقه، بشكّه. إنه فراغ وجودي أكثر منه بصري، يعكس ضياع الإنسان في عالمٍ لم يعد يحمل يقينًا، ويمنح اللوحة بعدها الأكثر شعرية: الصمت كصوت، والخواء كمعنى.

داخل لوحتهِ: يراقبُ

لا يختفي بهرم حاجو من لوحاته، بل يذوب فيها. لا يرسم نفسه كموضوع، بل كجزء منه، ككائن خاضع للزلزال نفسه. هو لا يُراقب من بعيد، بل يعيش داخل الطين واللون والخوف.

كل لوحة عبارة عن بورتريه ذاتي مخفي، لا يرسم فيها وجهه فقط، بل يرسم حالة ما عاشها، أو هرب منها، أو لا يزال يسكنها. في لوحات كثيرة، نشعر أن الحضور الغامض في الزاوية هو الفنان نفسه، جالسًا على طرف الحكاية، يُصغي لا إلى صوته، بل إلى ما تقوله العتمة.

ما يفعله بهرم حاجو في فن البورتريه هو انقلاب تام على الفكرة. هو ينزع القناع لا ليُظهر ما تحته، بل ليكشف أن ما تحته ليس وجهًا بل ندبة. شخصياته لا تشبهنا بل تشبه ما نخفيه جميعًا، هي اختزال الكائن لحظة انكشافه أمام نفسه، حين يُدرك أنه لم يعد يعرف من يكون.