بعد تسعة شهور قضاها دون وظيفة في الأردن، قرر المهندس المدني محمود* (33 عامًا)، الالتحاق بأحد أصدقائه للعمل في السعودية ضمن مشروع إنشائي تنفّذه شركة سعودية متعاقدة مع صندوق الاستثمار السعودي. تخصّص محمود في هندسة الطرق وسكك الحديد، لكنه وافق على العمل ضمن مشروع في مجال الإنشاءات وفي ظروف معيشية صعبة على فيزا عامل، لا فيزا مهندس، وهو ما يعني راتبًا أقلّ، «اضطريت أطلع على أي شرط»، يقول محمود.
لجأت الشركة التي تعاقدت مع محمود لاستقدامه على فيزا عامل كطريقة للتحايل على شروط السعودة التي شددت عليها في السنوات الماضية الحكومة السعودية، وتحديدًا منذ أُعلِن عن «رؤية 2030». والتي زادت من اشتراطات استقدام العمالة الأجنبية وجعلت سوق التوظيف أكثر تنافسية. جاءت رؤية 2030 لتكون «خطة ما بعد النفط للمملكة»، والتي كانت حتى وقت قريب تعتمد في 90% من إيراداتها على عوائد النفط. ومع الاستراتيجية التي أعلن عنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في 25 نيسان لعام 2016، أعلنت السعودية ضرورة تنويع مصادر دخلها وتخفيف اعتمادها على العمالة الوافدة الأجنبية والعربية خصوصًا مع تجاوز معدلات البطالة بين السعوديين نسبة 12% عام 2016.
يقول محمود إن من زار السعودية قبل عام 2016 وبعدها يدرك حجم التحوّل في اقتصاد البلد ككل، إذ قادت رؤية 2030 تنفيذ برامج اقتصادية في البنى التحتية والطاقة والسياحة والتكنولوجيا والترفيه. وقد انعكست المشاريع التي جاءت مع الرؤية وما رافقها من توسّع في تطبيق قرارات السعودة، التي تسعى لإحلال المواطنين السعوديين مكان العمالة الوافدة في وظائف القطاع الخاص بشكل رئيسي، على حوالي 19 مليون مواطن سعودي وما يزيد عن 13 مليون مقيم غير سعوديّ.
كانت العمالة الأردنية واحدة من الفئات التي تأثرت بتحولات سوق العمل السعودي خاصة وأنّ السعودية أبرز الوجهات المرغوبة لدى الشباب الأردني، إذ مع العام 2015 كان نصف المغتربين الأردنيين في العالم يتواجدون في السعودية، حيث من أصل 750 ألف مغترب أردني وقتها، كان في السعودية وحدها حوالي 400 ألف أردني، بحسب السفير الأردني لدى السعودية.[1] وقد انخفض هذا العدد إلى 235 ألف أردني عام 2025، بحسب وزير العمل الأردني خالد البكار.
هذه التغيرات الهائلة في سوق التوظيف في السعودية عنت تنافسية أشدّ على وظائف لطالما عمل فيها الأردنيون هناك، مثل الهندسة والتعليم والتمريض، وفي المقابل بدء الطلب على مجالات لم يكن العاملون فيها يحظون بفرص عمل واسعة في السعودية مثل المجالات التقنية المتقدمة والتسويق والسياحة.
مطلع عام 2011، توجّه الممرض الأردني عمر* (40 عامًا)، للعمل في السعودية في قسم الأمراض الباطنية لأحد أكبر مستشفيات الرياض الخاصة براتب يعادل 1200 دينار مكّنه من تسديد بعض الديون المتراكمة عليه وتلبية احتياجات أسرته التي تتكون اليوم من طفلين وطفلة. وبعد سنوات من العمل في المستشفى، استقبل عمر مكالمةً تنذره بنية المستشفى الاستغناء عن خدماته في غضون شهرين، بالتزامن مع تنفيذ إدارة المستشفى تسريحات جماعية منتصف عام 2018 شملت عشرات الكوادر الطبية والموظفين الإداريين من العرب والآسيويين، ستة منهم أردنيون، أحدهم لم يكمل سبعة أشهر في العمل.
جاءت هذه التسريحات، التي كان عمر جزءًا منها، إثر قرار المستشفى الاستغناء عن أكبر قدر ممكن من العمالة الأجنبية على أن يتم تقليصها للحد الأدنى بشكل تدريجي بعد أن فرضت الحكومة سقوفًا معينة لنسبة العمال الأجانب في مختلف الوظائف، بالإضافة لسن رسوم شهرية تتحمّلها جهة التوظيف عن كل عامل قد تصل لـ800 ريـال شهريًا بحسب القطاع. كما أقرت السعودية رسومًا إضافية يتحملها الوافدون ارتفعت تدريجيًا من 100 إلى 400 ريـال شهريًا عن كل مرافق، وهو ما دفع بعضهم لمغادرة وظائفهم أو ترحيل عائلاتهم.
لم يتوقع عمر يومًا أن يجري تسريحه بهذه السرعة إذ شكّل القطاع الطبي واحدًا من القطاعات الرئيسة التي يتوزع عليها الأردنيون في السعودية، إلى جانب القطاع الهندسي والتعليمي. تقول المديرة التنفيذية لشركة المستقبل للتوظيف،[2] فرح مقبول، إن الخريجين الأردنيين في هذه التخصصات كانوا لسنوات من أكثر الجنسيات المطلوبة في السوق السعودي لتميّزهم التعليمي ومهاراتهم الإدارية، إلا أن سوق التوظيف اختلف بشكل كبير عبر السنوات.
تنسحب هذه القرارات على جميع العاملين في القطاع الصحي من الأطباء والممرضين والصيادلة والأشعة والمختبرات الطبية والعلاج الطبيعي، إذ نصّت رؤية المملكة ضمن برامجها على الحاجة لرفع عدد السعوديين العاملين في القطاع الصحي الخاص بنسب تتراوح ما بين 35% و80% حسب المجال لحين توطين القطاع بأكمله بمعدلات لا تقل عن 70% بحلول عام 2030. «لمّا وصلت السعودية، كان في طبيب سعودي [واحد] معانا، اليوم خريجين الطب والتمريض [السعوديين] طابور».
في الفترة نفسها التي غادر فيها عمر السعودية إلى الأردن قبل أن يجد وظيفة أخرى في قطر، أظهرت بيانات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في السعودية خروج 1.1 مليون موظف أجنبي من القطاع الخاص خلال 18 شهرًا منذ مطلع 2017 وحتى نهاية حزيران 2018، وهو ما اعتبر أكبر مغادرة جماعية للعمالة الأجنبية في تاريخ البلاد. يقول عمر إن قرار فرض الرسوم على الوافدين وعائلاتهم كان بمثابة الضربة القاضية بعد عدة قرارات أخرى «دفعت باتجاه تطفيش الناس»، إذ رفعت السلطات السعودية عام 2015 أسعار المشتقات النفطية بنسب وصلت إلى 60%، وحددت عام 2018 قائمة بالوظائف التي يُمنع غير السعوديين من العمل بها ووضعت عقوبات كبيرة على المخالفين.
يتفاوت متوسط أجور العمالة الأردنية بحسب القطاع ومكان العمل وكفاءة المتقدم، تقول مقبول، إلا أن معظم الأردنيين لا يسافرون للسعودية ما لم يكن الراتب المقترح يعادل ضعف رواتبهم في الأردن على الأقل، وهو ما يعادل خمسة آلاف ريـال (ألف دينار) كراتب أساسي يضاف له تأمين السكن والمواصلات وأي امتيازات أخرى.
إلا أن «الخليج لم يعد زي زمان»، نظرًا لارتفاع التكلفة المعيشية مقابل فرص محدودة جدًا لزيادة الرواتب أو التطور الوظيفي، يقول المهندس محمود الذي يتقاضى حوالي 1400 دينار أردني شهريًا لقاء عمله في المشاريع الإنشائية في المناطق النائية وسط الصحراء السعودية في مدينة تبوك أو جنوب المملكة قرب الحدود السعودية اليمنية، حيث ينام في «هناجر» مشتركة مع زملائه المهندسين ويحتاج لقطع ما لا يقل عن ساعتين بالسيارة للوصول لأقرب قرية مسكونة، ويفكر بشكل شبه يومي بالاستقالة.
رغم ظروف العمل الصعبة التي أجبرَ محمود نفسه على التأقلم معها، إلا أن إدارة المشروع أبلغته بفصله إثر مطالبته بتصويب أوضاعه للحصول على فيزا «مهندس»، بدلًا من فيزا «العامل»، التي استُقدم عبرها ووعدته الشركة بتعديلها فور وصوله. بالنسبة لمحمود، كان تغيير الفيزا مفصليًا لأن ذلك يعني زيادة تلقائية في الراتب والحصول على شهادة خبرة رسمية في مجال دراسته، لكن الشركة رفضت لأن الفيزا الخاصة به كانت طريقتها للتحايل على اشتراطات السعودة وتفادي احتساب هذه العمالة ضمن معدلات التوظيف المسموحة قانونيًا للمهندسين الوافدين.[3]
رفعت السعودية عام 2017 شروط استقدام المهندسين من الخارج لدعم توطين الهندسة عبر إلزام الشركات والمكاتب الاستشارية الهندسية بتوظيف مهندسين سعوديين حديثي تخرج بنسبة لا تقل عن 10% من إجمالي العاملين في أي مشروع، واشتراط أن يتمتع المهندسون الوافدون بخبرة مهنية لا تقل عن خمس سنوات من أجل العمل في السعودية. «هسا فش مجال لحديثي التخرج، خمس سنين هي الخبرة الصفر في السعودية»، يقول محمود معتبرًا أن هذه التعديلات كانت من أكثر المواد تأثيرًا على استقطاب المهندسين الأردنيين.
يتفق رئيس لجنة ارتباط نقابة المهندسين الأردنيين في الرياض سامر كمال مع ذلك، مؤكدًا أن توجه السعودية نحو توطين الوظائف التقليدية أدى إلى تغييرات في تفضيلات استقطاب المهندسين الأجانب، بما في ذلك الأردنيين، نحو تخصصات محددة تتماشى مع احتياجات السوق المحلي والمشاريع الكبرى. بحسبه، فإن المهندسين الأردنيين في السعودية يتوزعون على عدة مجالات هندسية، أبرزها الهندسة المدنية والكهربائية والميكانيكية وهندسة الاتصالات وهندسة البترول، إلا أن تنفيذ رؤية 2030 زاد الحاجة إلى تخصصات هندسية جديدة مثل هندسة الطاقة المتجددة وهندسة البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات والهندسة البيئية. تضيف مقبول إنها لحظت تزايد الإقبال على توظيف مهندسي السلامة العامة الأردنيين في شركات الاستشارات الهندسية منذ أن أصبح تعيين مهندس سلامة عامة شرطًا لترخيصها، وهو تخصص تقوم جامعة البلقاء التطبيقية فقط بتدريسه.
لم يكن قرار فصل محمود من وظيفته كفيلًا باتخاذه قرار العودة للعمل في الأردن، إذ فضّل تمديد إقامته على تكلفته الخاصة ثلاث مرات فتقدّم لعشرات شواغر المهندسين أملًا في الحصول على وظيفة. «صحيح السوق صار أضيق بكثير على كل المهندسين مش بس الأردنيين، بس شو ما يكون، السعودية دايمًا عندها مشاريع، إذا خلص نيوم،[4] في مترو الرياض، إذا خلص المترو، في كأس العالم»، يقول محمود.
بشكل مشابه، فضّلت معلمة اللغة الانجليزية روند* (37 عامًا) البقاء في السعودية للبحث عن عمل بديل لوظيفتها في واحدة من المدارس الدولية في مدينة جدّة، بعد أن رفضت المدرسة تجديد عقدها بعد انتهائه عام 2023. تتدبر روند التزاماتها المعيشية عبر التدريس الخصوصي إذ لم تفلح عشرات المقابلات الوظيفية في تأمين وظيفة جديدة لها حتى الآن، وهو ما دفعها للإقامة برفقة واحدة من صديقاتها. تشير روند إلى أن التحديات التي تحيط بالعمالة الأردنية لا تقتصر على قرارات السعودة فقط، بل أيضًا على التنافس المرتفع بين العمالة الأجنبية، إذ تحتل العمالة المصرية والسودانية جزءًا كبيرًا من وظائف قطاع التعليم وتفضّل المدارس تعيينهم لانخفاض رواتبهم مقارنة بالأردنيين، «كل الجنسيات بتضرب إلا احنا بنقسّم»، تقول روند في إشارة للفرق في أسعار صرف العملة بين البلدان.
يفضل بعض الأردنيين العودة للعمل في السعودية أو الخليج نظرًا للرواتب المجزية مقارنة بالسوق المحلي وفرص التطور المهني عبر العمل في مشاريع ضخمة وتحسن مستوى جودة الحياة، يقول كمال. أما عمر ومحمود وروند فيتفقون على أن المنافسة في السوق السعودي اليوم تتطلب مهارات ومعارف نوعية، وفي كثير من الأحيان التخصصية في مجال العمل، مثل التفرع في تخصصات طبية دقيقة تنطلق من العلوم الأم، أو التوجه لدراسة تخصصات مطلوبة مثل الطب الفيزيائي وإعادة التأهيل، أو اكتساب المعرفة الرقمية اللازمة لاستخدام مهارات التصميم والتخطيط وإدارة الجودة في مشاريع الهندسة، أو اكتساب الخبرة في أساليب التدريس الحديثة والتفاعلية المطلوبة في المدارس الدولية.[5]
كان المضيّ نحو التحوّل الرقمي أحد الأهداف الرئيسة في رؤية السعودية 2030، وهو توجّه يسعى لتعزيز البنية التحتية التكنولوجية لتشمل كافة مناحي الحياة، صحة وتعليمًا واقتصادًا وغيرها من المجالات. تُقَدر قيمة القطاع الرقمي في السعودية بأكثر من 40 مليار دولار تشكّل حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي ويضم أكثر من 300 ألف وظيفة؛ مما يجعله واحدًا من أكبر القطاعات في المنطقة. ومع المزيد من الاستثمارات المتوقع بلوغها 24 مليار دولار خلال 2025، تكون المملكة من بين الأعلى في الإنفاق الحكومي على التكنولوجيا في العالم. عندما كان معاذ،* 33 سنة، طالبًا في هندسة الحاسوب في جامعة اليرموك عام 2013 بدأ العمل مع زميل له في إنشاء الواجهات الرقمية لواحدة من الشركات السعودية. تقاضى معاذ خمسة دنانير عن كل تصميم تفاعلي يقوم بإنتاجه، ومنذ ذلك الوقت قرر أنه يريد العمل في السعودية فور تخرجه.
قضى معاذ خمس سنوات في سوق العمل الأردني منتقلًا بين وظائف لا يرى فيها علاقة وثيقة بتخصصه مثل بناء المواقع وإنتاج الوسائط المتعددة وبيع مشاريع التخرج لطلبة التخصص، قبل أن يتقدم لوظيفة مبرمج في شركة تكنولوجية ناشئة تصمم عددًا من تطبيقات الألعاب الإلكترونية السعودية. توسعت السعودية في الاستثمار في هذه المجال سعيًا منها لتكون مركزًا عالميًا لصناعة الألعاب والرياضات الإلكترونية، إذ تستهدف أن يساهم هذا القطاع بحوالي 13 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030، ولذلك أطلقت هيئة للألعاب والرياضات الإلكترونية ومبادرات تابعة لصندوق الاستثمارات العامة وتمويلات سخية من صندوق التنمية الوطني للشركات الناشئة.
لم يملك معاذ حينها أي خبرة عملية في البرمجة تؤهله للتقدم للوظيفة، وهو ما دفعه للدراسة المكثفة لشهرين متتالين من أجل اجتياز امتحان الشركة ومقابلاتها. بالنسبة لمعاذ، فإن هذه الوظيفة هي فرصة الأحلام لبدء مساره المهني، فضلًا عن راتبها الذي يساوي سنويًا مجموع ما تقاضاه من العمل المتفرق خلال خمس سنوات، ناهيك عن قدرته على العمل عن بعد دون الحاجة للسفر للسعودية. كما أن هذا التعاقد يعفيه من الرسوم الحكومية على الوافدين ويخفف من الأعباء التعاقدية على مكان عمله ومن الالتزامات المرتبطة بالمعيشة في الرياض.
مطلع العام الجاري، وقعت الحكومة الأردنية اتفاقًا مبدئيًا مع السعودية لإنشاء منصتين للعمل تمكنان من تسويق العمالة الأردنية للقطاع الخاص السعودي. كما دعا وزير العمل خالد البكار لتأهيل الشباب الأردني في مجالات البرمجة وتكنولوجيا المعلومات، قائلًا «إذا لم نتبنَّ سياسات تدريب وتأهيل جديدة، ولم نُدخل التكنولوجيا في القطاعات كافة، فلن نتمكن من خلق فرص عمل كافية في المستقبل».
شمل الاستثمار السعودي في التكنولوجيا استحواذات واسعة في تطبيقات الألعاب الإلكترونية والتواصل الاجتماعي والحلول التكنولوجية، والتي كان للأردن نصيب منها. فاستحوذت على شركة POSRocket الأردنية التي تقدم نظاما لنقاط البيع عبر تقنية الحوسبة السحابية، وأعلنت شركة السوق المفتوح عن إغلاق جولة استثمارية بقيمة 24 مليون دولار أمريكي بقيادة شركة الصندوق السعودي الأردني للاستثمار، وتتوجه شركات مثل دواتك[6] وشركة التقنية التعليمية الأردنية[7] لدعم خططها التوسعية إلى السعودية بعد إغلاق جولات استثمارية بقيمة ملايين، واستثمرت شركة سعودية في منصة الذكاء الاصطناعي للمحتوى العربي الأردنية «موضوع» مقابل حصة استراتيجية، وأعلنت شركة أخرى عن توقيع اتفاقية استحواذ بنسبة 49% من شركة «الرحلة السريعة» التي تُركِّز على تطوير التطبيقات الهاتفية المتخصصة في حلول قطاع النقل في المملكة.
يقول معاذ إن توجه عشرات الشركات الريادية الأردنية والمبادرات الرقمية المتخصصة في إنترنت الأشياء وحلول الذكاء الاصطناعي للتوسع في السعودية أو تقديم خدماتها لشركات سعودية يخلق طلبًا على العمالة الأردنية في القطاع، إلا أن حجم منافسة العمالة الأردنية في قطاعات البرمجة والذكاء الاصطناعي، أو حتى حجم التطبيقات الأردنية ضمن التطبيقات الأجنبية المستحوذ عليها سعوديًا ما زال محدودًا، نظرًا لتفوق العمالة المصرية والهندية في القطاعات التقنية. بحسب معاذ، فإن مخرجات التعليم في الجامعات الأردنية الحكومية والخاصة في تخصصات مثل هندسة الحاسوب والبرمجيات والذكاء الاصطناعي ما زالت غير قادرة على تمكين الطلبة من المهارات التقنية الأساسية وبالتحديد الاحتياجات التدريبية التي تجعل الخريجين مؤهلين لسوق العمل السعودي أو العالمي.
من ناحية أخرى، يرتبط استثمار السعودية في البنية التحتية التكنولوجية بتطوير شبكات الاتصالات وتوسيع نطاق النفاذ إلى الإنترنت بسرعات عالية في جميع أنحاء البلاد، مما يسمح بتسريع وتيرة التحول الرقمي في القطاعين العام والخاص. تعتبر هندسة الاتصالات في السعودية واحدة من أكثر المجالات التي يعمل بها المهندسون الأردنيون خصوصًا وأن قرارات توطين السعوديين في مهن قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات لم تتجاوز بعد 25%، يقول مهندس الاتصالات عدي* (55 عامًا)، الذي بدأ العمل كمهندس مشروع في شركة أجنبية تتعاقد مع جهات محلية منذ عام 1999.
رغم أن عمله كان مستقرًا، تقدّم عدي لوظيفة في السعودية، يقول: «كنت شغال على مشروع قريب الدوار السابع حجمه 70 ألف دولار، قلت لحالي أحسنلي اشتغل في مشروع حجمه 70 مليون دولار، بجرب حظي وبعتبر حالي بقضي سنتين خدمة علم». لم يترك عدي العمل في السعودية منذ تلك اللحظة إذ أمضى 25 عامًا من حياته في قطاع الاتصالات متسلقًا سلم التطور الوظيفي في أقسام مختلفة من شركته ومؤمنًا بضرورة تطوير نفسه لمواكبة سوق العمل السعودي حتى لا يتم الاستغناء عنه.
«مع الوقت أدركت إنه طول ما أنا شغال تيكنيكال، يمكن الاستغناء عني ومستحيل آخذ راتب عالي»، يقول عدي الذي كان يقضي ساعات طويلة تحت الشمس ويقطع مئات الكيلومترات لحفر الإمدادات، لكنه قرر أن يتخذ مسارًا بالتطور الوظيفي عبر التنقل ما بين مناصب مختلفة من العمل الميداني التقني إلى العمل الإداري الإشرافي بعد خضوعه لعشرات التدريبات الدولية المعتمدة في مجال الإدارة والمبيعات والتخطيط وتطوير الموارد، معتبرًا أن اتخاذه لهذا القرار هو الذي جعله اليوم في موقعه بدلًا من أن يكون مع ثمانية مهندسي اتصالات أردنيين عادوا أدراجهم من السعودية من أصل 10 جاء معهم عام 1999.
يعتقد عدي أن الكفاءات الأردنية في قطاع التكنولوجيا والاتصالات ينبغي عليها أن تسعى للتطور الوظيفي لأن هناك دائمًا من يمكنه تنفيذ المهام التقنية مقابل راتب أقل، في حين أن استلام الوظائف الادارية يمنح الموظف حصانة ما، بحيث لا يعود من السهل الاستغناء عنه. إلا أنه من ناحية أخرى يقول إن خريجي الجامعات السعودية والأجنبية من الكفاءات، والتشجيع الرسمي للشباب السعودي على استلام الوظائف الإدارية يجعل من التطور الوظيفي للعمالة الأجنبية -وإن كان متاحًا للكفاءات- محدودًا بسقف معيّن لا يمكنه تجاوزه إن لم تكن سعوديًا.
منذ العام 2015، أسست السعودية العديد من الهيئات والجهات المعنية بالأنشطة الترفيهية والثقافية ومن أبرزها هيئة الترفيه، التي استضافت وأقامت المئات من الفعاليات المختلفة، وهو ما عنى استقطاب موظفين من جهات مختلفة من حول العالم للعمل في تلك الأنشطة. تقول مقبول إن القطاع الترفيهي هو أحد أكبر القطاعات الواعدة في السعودية والتي تشهد استقطابًا للكفاءات الأردنية، «تخيلي صرنا نطلّع مدرّسين موسيقى وصحافة وإعلام وفنون وإخراج مسرحي»، تقول مقبول. تشغّل المنشآت العاملة في قطاع الترفيه والفنون في السعودية اليوم أكثر من 32 ألف موظف، وتأمل الجهات الرسمية أن تصل مساهمة هذا القطاع إلى 4.2% من الناتج المحلي وأن تخلق 450 ألف فرصة عمل بحلول العام 2030.
بدأ أمين* (35 عامًا) العمل كاستشاري في السعودية منذ عام 2022 بعد حوالي عشر سنوات من شغف في تطوير قطاع السياحة في الأردن وتنظيم الرحلات ومسارات التنقل والتجارب الطبيعية تطوعيًا عبر مجموعات الفيسبوك أو بشكل مدفوع لقاء خدماته في المجال. لم يتخيل أمين يومًا أن السعودية ستشكّل وجهته المهنية، لكن أحد أصدقائه شجعه على التقدمّ بطلب لشاغر أعلنت عنه واحدة من كبرى شركات الاستشارات العالمية التي تعمل في الرياض وتتعامل بدورها مع الجهات الحكومية المعنية بتطوير السياحة. وجد أمين في هذه الوظيفة مصدرًا لدخل منافس ومساحة لتطوير مشاريع سياحية وتقييم مشاريع قائمة وإدارة فعاليات ترفيهية وإعداد استراتيجيات سياحية مرتبطة بأنشطة محددة بعينها أو بالبنى التحتية للمدينة.
«على الأقل زاد عدد الأردنيين الضعف في الشركة من أول ما إجيت»، يقول أمين في إشارة لزيادة الإقبال على العمالة الأجنبية في قطاع السياحة والذي تحتل العمالة اللبنانية الجزء الأكبر منه. يأتي هؤلاء الموظفون من خلفيات متنوعة، بحسب قوله، فبعضهم درس الآثار أو التصميم أو العمارة أو هندسة الزراعة، إذ تصب جميع التخصصات في تطوير المدينة وتنمية السياحة خصوصًا وأن الرؤية السعودية تتوسع في تطوير السياحة على كافة الأصعدة. «شو ما يخطر على بالهم بنفذوا، يعني ممكن يكون عندهم محصول حمضيات، يروحوا يعملوا إيفنت ضخم لبيع الحمضيات وتشجيع السياحة حتى لو ما كان الهدف الأساسي من زراعة الحمضيات هو تشجيع السياحة»، يقول أمين.
يقدم العمل في السعودية لأمين امتيازات نوعية لم يكن تحت أي ظرف سيتمكن من تحصيلها في الأردن؛ تشمل بدل تأمين السكن وسيارة للتنقل وبدل المحروقات وتذاكر السفر وحتى شحن الهاتف. يعتبر أمين نفسه يعيش بمستوى أوروبي في بلد عربي تفصله عن عمّان ساعات قليلة بالطائرة وهو ما يجعل مشاكل غلاء المعيشة هامشية بالنسبة له، إلا أنه يعتقد أن وقته محدود في السعودية. بالنسبة له، فالهدف الأساسي من توظيفه هو توريد المعارف والخبرات لأقسام بأكملها وبناء استراتيجيات تؤسس لتطوير السياحة على المدى الطويل، قبل أن تتمكن السعودية من توطين هذا القطاع أيضًا والاستغناء عن خدمات الأجانب فيه. ولذلك، يتطلع مستقبلًا لنقل مشاريعه السياحية المسجلة في الأردن إلى السعودية أملًا في تقديم خدماته لجهات مختلفة واستكشاف خيارات وظيفية أوسع من مجرد البحث عن وظيفة أخرى.
بالنسبة لأمين، فإن السعودية قد تصبح وجهة سياحية رئيسة في الشرق الأوسط، إذ تسخّر مواردها المالية والبشرية والإدارية لاستكشاف أكبر نطاق ممكن من الأنشطة من المصارعة الحرة للمناطيد لسياحة المغامرات لمعارض الكتب، ولاستبدال مفاهيم نمطية التصقت بالمملكة مثل التضييق على النساء والتشدد الديني. ينعكس هذا الاهتمام السعودي الجاد في تنمية القطاعات الترفيهية والثقافية والرياضية والسياحية على قطاع التصميم والدعاية والإعلان الذي يرتبط بشكل وثيق بترويج الأنشطة الترفيهية والاحتفال بالأيام السعودية الوطنية واستعراض التنوع التجاري والثقافي في المملكة.
تقول فرح (31 عامًا) إن التسويق الرقمي المعتمد على الوسائط المرئية ومواقع التواصل الاجتماعي جزء مركزي من طبيعة المشاريع التي انخرطت بها في عملها مع شركة سعودية تدير خطوط إنتاج حملات إعلامية ورقمية ودعائية للقطاع الترفيهي والتجاري السعودية. خلافًا لما يحصل في الأردن، تتوفر في السعودية ميزانيات ضخمة للعمل على التسويق ولا يتعامل معه أصحاب الأعمال ضمن اعتبارات ثانوية بل كخطة أساسية لترويج منتجاتهم وخدماتهم وأفكارهم وهو ما يجعل من الإقبال على هذا المجال كبيرًا وقد فتح المجال حتى أمام الهواة للانخراط بالعمل، تقول فرح.
اكتسبت فرح بحكم دراستها الهندسة المعمارية مهارات التصميم والتحليل والبحث والتفكير البصري وتفاعل المستخدمين وهو ما أهّلها للعمل في هذه الوظيفة عن بعد، قبل أن تقرر ترك وظيفتها في الأردن كمحاضرة جامعية للاستقرار مع زوجها في السعودية. «راتبي في التسويق أحسن من راتبي في التدريس الأكاديمي»، تقول فرح التي يشكل المستوى المعيشي الدافع الوحيد لاستمرارها في هذه الوظيفة التي لا تنسجم مع طموحها واهتمامها رغم كثرة الوظائف في هذا المجال وفرصتها للتطور داخل المؤسسة وتحصيل امتيازات إضافية. «بالتسويق في مشكلة الاستقرار الوظيفي عند الشركات مش عند الموظفين، لإنه الناس بتظل تطلع بسبب توافر الفرص الكبيرة مش لأنه الشركات بتروّح الناس».
تسعى فرح للعثور على فرصٍ أخرى في المستقبل القريب للعمل في مجال دراستها في الهندسة المعمارية التي تشهد اهتمامًا كبيرًا في السعودية، أولًا لأن توظيف مكونات العمارة السعودية يخدم البنى التحتية والمشاريع السياحية والترفيهية التي تزيد الإيرادات، وثانيًا لأن العمارة واحدة من أشكال ترويج التراث والهوية السعودية والثقافة الخليجية ككل لإطلاق مبادرات تدمج بين التاريخ العمراني للمملكة وطموحها. وهو ما يدفع فرح للاستمرار في تطوير نفسها والانخراط في الفعاليات الثقافية والفنية أملًا في تشكيل فهم أعمق للسوق والمجال وإيجاد وظيفة تستثمر وتطوّر فيها مهارات ذات قيمة مضافة للسوق السعودية لا يسهل الاستغناء عنها.
يكاد لا يختلف أحد على حجم التحوّل الذي تعيشه السعودية وتبعاته على أسواق المنطقة العربية وكذلك على مخرجات العملية التعليمية. بالنسبة لمن قابلناهم فإن السعودية أصبحت أكثر من أي وقت مضى مركزًا لاستقطاب العمالة الوافدة، ولكن ليس أي عمالة. فالطالب الجامعي الذي يتطلع لأن يتمتع بوظيفة لائقة في السعودية تؤمن له الرفاه الاقتصادي عليه أن يفكر بالقيمة النوعية التي يقدمها للسوق السعودي وقدرته على منافسة الكفاءات العربية والعالمية ومرونته للتطور بما يلائم هذا التحول السريع، آخذًا بعين الاعتبار تفضيلات الوظائف والتخصصات المطلوبة. كما عليه كذلك الانتباه للتوسع في توظيف السعوديين من من 1.7 مليون في عام 2019 إلى 2.3 ملايين لعام 2023، ما أدى إلى انخفاض نسبة البطالة الإجمالي إلى 8.3%.
قد لا يستمر أيٌ ممن قابلناهم لهذا التقرير في العمل بالسعودية مستقبلًا، وقد يضطر بعضهم لتغيير وظيفته أو مساره المهني بالكامل، إذ من المحتمل أن تؤدي سياسات السعودة التي وصلت لـ100% في بعض القطاعات إلى تسريحهم في ظل فرص التطور الوظيفي المحدودة أمامهم، إلا أن هذه التجربة حتى لو كانت مؤقتة فهي مركزية في تجربتهم العملية وفي تأهيلهم لفرص أخرى في السوق السعودي أو الخليجي أو العالمي. يقول معظمهم إنهم في أسوأ الأحوال سيعودون للأردن من أجل افتتاح مشاريعهم الخاصة، ولحين ذلك فإنهم سيعملون على إطالة أمد وظيفتهم لآخر نفس بينما يستعدون للحظة التي ستستغني فيها السعودية عن خدماتهم. يقول أمين «أنا عارف إنهم ممكن يروّحوني بأي وقت، بس هو الأمان الوظيفي بالأردن مقطّع بعضه؟».
[1] من المهم الانتباه إلى أن المصادر المختلفة تتحدث عن أرقام مختلفة لأعداد الأردنيين في السعودية خلال السنوات المختلفة.
[2] وهي شركة أردنية تأسست عام 2004 وحصلت على اعتماد وترخيص الملحقية القنصلية السعودية لتوظيف الأردنيين في مختلف القطاعات المهنية.
[3] ظهرت ممارسات أخرى من «السعودة الوهمية» وتشمل لجوء بعض شركات القطاع الخاص لتوظيف المهندسين عبر عقود تديرها شركات أخرى أو عقود استشارية تتعامل مع الموظفين كعاملين عن بعد بينما تطلب منهم الحضور للسعودية عبر تأشيرات شخصية يتحملون تأمينها وتكلفتها أو حتى توظيف السعوديين معها بشكل وهمي مقابل تفاهمات بين الطرفين.
[4] مشروع سعودي لمدينة مخطط لبنائها في منطقة تبوك ضمن إطار التطلعات الطموحة لرؤية 2030 بتحويل المملكة إلى نموذجٍ عالمي رائد في مختلف جوانب الحياة، من خلال التركيز على استقطاب سلاسل القيمة في الصناعات والتقنية.
[5] بحسب مقابلات متفرقة مع ثلاثة مكاتب توظيف، ما زال المعلمون الأردنيون ينافسون في تدريس مواد العلوم (فيزياء وكيمياء واحياء) والرياضيات واللغة الإنجليزية، إلا أن تخصصات مثل اللغة العربية والتربية الدينية فقد جرى سعودتها بشكل واسع.
[6] منصة التقنية الطبية الأردنية
[7] هلو وورلد كيدز