تعليم

علوم مزوّرة: كيف فقدت الأكاديميا مصداقيتها؟

مع عدم رغبة المؤسسات في مراقبة نفسها، فإن السعي وراء الحقيقة في الأكاديميا يعتمد بشكل متزايد على رقابة أفراد من الخارج وتبليغهم عن المخالفات.
بن لانداو-تايلور، ترجمة أنس إبراهيم
04 آذار 2025

ترجمة بتصرّف لمقال نشر بالإنجليزية في مجلة بالديوم مطلع آب 2024.

في عام 2006، نشر سيلفان ليسني وسبعة مؤلّفين مشاركين ورقة بحثيّة حول مرض الزهايمر بعنوان: «تجمّع معيّن من بروتين الأميلويود-بيتا في الدماغ يعيق الذاكرة» (A specific amyloid-beta protein assembly in the brain impairs memory) في مجلّة «نيتشر»، المجلّة العلميّة الأكثر شهرة في العالم. كان لهذه الورقة أثرٌ كبير في تطوّر «فرضيّة الأميلويد»؛ وهي آليّة مقترحة لكيفيّة تأثير مرض الزهايمر على ضحاياه. 

يعاني حوالي 50 مليون شخص من مرض الزهايمر، ما يجعله السبب الأكثر شيوعًا للخرف في العالم. ومن المتوقّع ارتفاع هذا العدد مع تقدّم سكّان العالم ذوي الأعمار المتوسّطة حاليًّا في العمر. ليس هناك علاج فعّال لمرض الزهايمر، ولا يزال الفهم العلميّ له ضعيفًا، وأيّ تقدّم في فهم هذا المرض يعدّ انتصارًا هائلًا للبشريّة. شجّعت هذه الورقة البحثيّة ودراسات أخرى واعدة على توجيه التمويل، إضافة إلى المواهب، نحو البحث في «فرضيّة الأميلويد»، وبحلول عام 2022، حصلت هذه الأبحاث على ما يزيد عن مليار دولار من التمويل الحكوميّ.

في ذلك العام، اكتشف عالم الأعصاب ماثيو شراغ صورًا مُعدّلة في الورقة البحثيّة، إضافة إلى أوراق أخرى نشرها ليسني، بما في ذلك أوراق تدّعي تقديم أدلّة تدعم فرضيّة الأميلويد. جرى تحرير هذه الصور يدويًّا وتركيبها معًا لتظهر بشكل مزيّف دعمًا لفرضيّات الأوراق. ومن اللافت أنّ هذه التزويرات نجحت في تجاوز عمليّات «مراجعة الأقران» في مجلّة «نيتشر»، وستّ مجلّات أكاديميّة أخرى، قبل أن يجري الكشف عنها من قبل أطرافٍ خارجيّة.

تحقيق شراغ الذي كشف عن الأوراق المزورة بدأ كجزء جانبيّ من عمله في كشف الصور المعدّلة التي استخدمت لدعم دواء «Simufilam»، وهو عقار تجريبيّ لمعالجة مرض الزهايمر. وقد ثبتت صحّة الشكوك عندما وجّهت هيئة محلّفين اتّحاديّة كبرى في حزيران 2024، اتّهامًا للمستشار الخاصّ بمطوّر عقار «Simufilam»، هاو-يان وانغ، بتهمة تزوير البيانات والصور في دراسات «Simufilam» والّتي حصل من خلالها على 16 مليون دولار على هيئة منح من «المعاهد الوطنيّة للصحّة» (NIH). جاء ذلك بعد عريضة قُدِّمت إلى «إدارة الغذاء والدواء» في عام 2021، وهي منهجيّة غير معتادة للتبليغ عن التزوير في الأبحاث، إن لم تكن نادرة. 

كانت متابعة أدلّة التزوير على ليسني بطيئة؛ فقد أدّى اكتشاف شراغ إلى عامين من المماحكة انتهت بموافقة جميع المؤلّفين المشاركين في الورقة -باستثناء ليسني- على سحب الورقة المنشورة في «نيتشر» عام 2006. في تقريرها، ذكرت مجلّة «ساينس» في عام 2022 أنّ «الورقة المنشورة في «نيتشر» قد استُشهِدَ بها فيما يقارب 2300 مقال علميّ؛ أي أنه كان خامس أكثر تقرير يستشهد به من جميع الأبحاث الأساسيّة المتعلّقة بمرض الزهايمر منذ عام 2006، وفقًا لقاعدة بيانات «Web of Science». منذ ذلك الحين، ارتفع دعم «معاهد الصحّة الوطنيّة» للدرسات المتعلّقة بـ«الأميلويد، الأوليغمر، والزهايمر»، من لا شيء تقريبًا إلى 287 مليون دولار في عام 2021. ويعتقد الخبراء أن ليسني وزميله آشي، المؤلّف المشارك، ساعدا في إشعال ذلك الانفجار». 

الآن، يتعيّن على العلماء تفكيك خيوط التزوير التي نُسِجَت عبر عقود من المجادلات العابرة لأبحاث علميّة تبلغ قيمتها مليار دولار. وربّما تكون مساهمة الورقة في تخصيص مبلغ كهذا سببًا آخر لعدم الإبلاغ عن التزوير في وقتٍ مبكّر، رغم الاستشهاد بها على نطاق واسع وقراءتها من قبل آلاف الخبراء، إذ كان يجب أن تجري ملاحظة التزوير من بعضهم. وسواء استمرّت فرضيّة الأميلويد أو لم تستمرّ، فمن الممكن أنّ هذا التأخير قد أدّى إلى تأخير تطوير أدوية كان من شأنها إنقاذ حياة عشرات الملايين من الناس لأعوامٍ قادمة. وإن كان هذا الأمر صحيحًا، فهو يعدّ كارثة إنسانيّة أكبر من معظم الحروب. 

لا عواقب للاحتيال 

ينفي جميع المشاركين في ورقة «نيتشر» ممَّن تحدّثوا علنًا معرفتهم وتورّطهم في عمليّة التزييف، بل يعترفون بأنّه من الواضح أنّ الصور قد جرى التلاعب بها. بينما بَقِيَ الجاني آمنًا حتّى الآن في صيغة المبنيّ للمجهول. مَنْ الّذي تلاعب بالصور حقًّا؟ هل كان ليسني؟ هل كان مؤلّفًا مشاركًا ولكن بعلمه؟ هل كان موظّفًا مرهقًا عَمِلَ وحيدًا وبسرّيّة ليلبي توقّعات مُشرفه؟ الأدلّة الظرفيّة تشير إلى ليسني، على الأغلب، لكن ليس هناك دليل قاطع بذلك. 

على أيّة حال، لا تكترث «جامعة مينيسوتا»، حيثُ يعمل ليسني، بهذه الأسئلة؛ فمن الواضح أنّه استمرّ في عمله كبروفيسور في الجامعة وكذلك في تلقّي تمويل «معاهد الصحّة الوطنيّة». لكنّ الجامعة كانت تحقّق في عمله منذ حزيران 2022، وقد أخبر متحدّث باسم الجامعة مجلّة «نيتشر» أنّهم راجعوا صورتين من الصور محلّ الفحص، و«أنهوا المراجعة دون اكتشاف أيّ إساءة مهنيّة فيما يتعلّق بأيّ من هاتين الصورتين». وليس هناك أيّ جهود جارية من قبل الجامعة للعثور على الفاعل. 

لكنّ احتيال ليسني الواضح ليس حدثًا منعزلًا. في عام 2023 أُجبِرَ مارك تيسييه-لافين، الذي كان رئيسًا لـ«جامعة ستانفورد» آنذاك، على الاستقالة من منصبه بعد الكشف عن معلومات مزيّفة في أبحاثه السابقة خلال عمله في شركة تطوير الأدوية «جينيتيك»، بما في ذلك ورقة مسحوبة عن فرضيّة الأميلويد جرى الاستشهاد بها أكثر من ألف مرّة. كان السبب في ذلك الكشف طالب في عامه الأوّل في «ستانفورد»، وهو سليل عائلة مؤثّرة من الصحافيّين. لكن في عام 2024 عاد تيسييه-لافين من جديد ليصبح الرئيس التنفيذيّ لشركة «Xaira Therapeutics»، وهي شركة ناشئة لاكتشاف الأدوية تمكّنت من جمع أكثر من مليار دولار من المستثمرين المغامرين. 

مرّة أخرى، لا توجّه تعليقات «ستانفورد» الرسميّة الاتهام إلى أحدٍ بعينه، لكنّها تلقي اللوم على «إدارة تيسييه-لافين وإشرافه على مختبراته العلميّة»، حيث «يظهر أنّ عددًا من أعضاء مختبرات د. تيسييه-لافين قد تلاعبوا بالمعلومات على مدار الأعوام»، وفقًا لتقرير مجلس أمناء «ستانفورد» الرسميّ. يحتوي التقرير على تصريحات غير معقولة مثل القول إنّ «عمليّة تطوير المنهج العلمي في الورقة البحثية التي جرت في مخبر د. تيسييه-لافين، والتي نُشِرَت في شباط 2009، افتقرت إلى الدقة المتوقّعة لورقة بحثيّة يُحتمل أن يكون لها مثل هذا التأثير، رغم أنّ اللجنة لم تجد دليلًا على الأدلّة المتاحة بأنّ د. تيسييه-لافين كان على دراية بهذا الأمر». 

كما يصرّ المجلس على أنّه «لن يكون معقولًا توقّع أن يكتشف د. تيسيه-لافين حوادث التلاعب بالمعلومات قبل أو في وقت نشر الأوراق البحثيّة المعنيّة»، ذلك رغم أنّ العديد من الفبركات قد جرى الكشف عنها لاحقًا من خلال الفحص البصريّ للصور المتلاعب بها. موقف «ستانفورد» الرسميّ يرى بأنّه من غير المعقول توقّع أن يكون باحثوها على دراية بما يجري في مختبراتهم وبما يُنشَرِ بأسمائهم. 

مرّة أخرى، ليس ثمّة جهد يُذكر لمعرفة الجاني الحقيقيّ؛ فإن كنّا سنأخذ بتقرير مجلس الأمناء كما هو، إذًا هناك عدة مزوّرين في العديد من المختبرات، لكن يبدو أنهم غير قلقين من الاحتمال الواضح بأنّ هؤلاء المزوّرين المزعومين يستمرّون في اختلاق بيانات مزيّفة لأبحاث طبّية في غاية الأهمّيّة. يصرّ مجلس الأمناء على أنّ السبب وراء التلاعب هو «ثقافة المختبر والإدارة»، وعليه، ضمنيًّا، لا يوجد فرد واحد يمكنُ تحميله مسؤوليّة التزوير الفعليّ للبيانات أخلاقيًّا أو إجرائيًّا. وكما رأينا مع «جامعة مينيسوتا»، فهذا الموقف اعتياديّ بالنسبة للمشرفين على العمل الأكاديميّ.  

لكن في حين أنّ تيسييه-لافين قد أجبِرَ على الخروج بدلًا من التمتّع بحصانة كاملة مثل ليسني، لا ينبغي اعتبار هذا الأمر نوعًا من أنواع العدالة. الاحتيال الطبّيّ من هذا الحجم هو جريمة قتل جماعيّ؛ فإن حرَمت كلّ سكان إسبانيا من الدواء، ذلك سيكون عدد الناس الذين يعانون من الزهايمر في العالم كلّه، وهذه الأدوية -وربّما العلاج في يوم من الأيّام- قد جرى تأخيرها كلّها لصالح مهنة رجل واحد. وفي عالم عادل لن يكون ممكنًا انتقال الجاني ببساطة من وظيفة مرموقة إلى أخرى. في عالم عادل ستكون محاكمة رجال مثل سيلفان ليسني وتيسييه-لافين شبيهة بشهرتها بمحاكمة سام بانكمان-فريد ،(1) وإن وُجِدُوا مذنبين سيذهبون إلى السجن لعقود. 

أزمة التكرار تتكرّر عبر الحقول

قد يكون الاحتيال الطبيّ أشدّ أنواع الاحتيال الأكاديميّ شرًّا، لكنّه ليس الوحيد من نوعه، ولا حتّى الأكثر شيوعًا. الأكثر شهرة هي «أزمة التكرار» في حقل علم النفس الأكاديميّ، حيث أصبح معروفًا على نطاق واسع منذ حوالي عام 2010، أنّ معظم أبحاث علم النفس تفشل في تكرار النتائج، وهي طريقة مهذّبة للقول إنّ البحث في معظمه احتيال أو تلاعب إحصائيّ، مثل التلاعب في دلالة البيانات (p-hacking)، أو ببساطة هراء.(2) والمثير للدهشة أنّ هذا الأمر لم يكن له أثر كبير على الحقل، حيثُ استمرّ دون أيّ تغييرات تجميليّة تقريبًا، على الرغم من معرفة جميع المراقبين المطلّعين بأنّ أغلب محتواه مزيّف. 

تفترض النقاشات الفكريّة منذ زمن طويل أنّ علم النفس سيّء بشكل خاصّ مقارنة بالحقول الأخرى، سواء بسبب صعوبة دراسة المواضيع في «العلوم الإنسانيّة»، أو الضغوط السياسيّة، أو أيًّا كان السبب. لكن، ورغم مكافحة الأكاديميا لهذه المشكلة من برجها العاجيّ، إلّا أنّ علم النفس الأكاديميّ بَقِيَ خاضعًا للتأثير السياسيّ. فكتب مثل «Nudge»، وهو كتاب شهير صدر عام 2008 حول علم النفس والاقتصاد السلوكيّ، قدّم دعمًا كبيرًا لدور «الخبراء» في إدارة الرأي العام خلال جائحة كورونا. في الأعوام الأخيرة أصبح من الواضح أنّ علم النفس كان جيّدًا. يبدو أنّ اللامبالاة بالحقيقة متفشّيّة في جميع أو معظم المجالات، وعلماء النفس مثل دانييل كانيمان الحائز على «جائزة نوبل»، مؤلّف كتاب «التفكير، بسرعة وببطء» والّذي روّج للعديد من هذه النتائج، كانوا قادرين علنًا على الاعتراف بهذه المشاكل ومناقشتها قبل عقد من أقرانهم. هذا أتى بعد سنواتٍ من عمل كانيمان، وقد استند بشكلٍ كبيرٍ على دراسات فشلت في تكرار النتائج، وأدّى دورًا هامًّا في إلهام حركة «العقلانيين». 

قد يكون المثال الأكثر فظاعة في علم النفس هو البروفيسور الشهير والمؤلّف الأكثر مبيعًا دان آريلي، الذي ربّما يكون عالم النفس الأكثر شهرة على قيد الحياة. فقد واجه عدّة مشكلات تتعلّق بفشل أوراقه البحثيّة في تكرار النتائج أو تصادمها مع البيروقراطيّات الأخلاقية للبحث، لكنّ الحادثة الأكثر فظاعة أتت في عام 2021. إذ نَشَرت مدوّنة «Data Colada» التي تركّز على تحليل سوء السلوك البحثيّ في العلوم الاجتماعية، تحليلًا أجراه «مجموعة مبلّغين مجهولين خائفين طفح بهم الكيل»، أظهر أنّ البيانات في ورقة بحثيّة صدرت عام 2012 حول عدم الأمانة كانت مفبركة بشكل فاضح لتُظهِرَ نتيجة إيجابيّة. أجْمَعَ المؤلّفون المشاركون الخمسة على أنّه من الواضح فبركة البيانات وأنّ آريلي، أحد المؤلّفين المشاركين، كان الشخص الذي مرّر هذه البيانات المفبركة لزملائه. 

ادّعى آريلي بشكل غير مقنع أنّ البيانات كانت مفبركة بالأصل عندما استلمها من شركة التأمين التي تعاون معها المؤلّفون، بينما ادّعت شركة التأمين أنّ الفبركة حصلت بعد إرسالها البيانات لآريلي. ويبدو أنّ هذا العذر الواهي كان كافيًا لأرباب عمله في «جامعة ديوك»، للتغطية على الأمر ونسيانه. في عام 2024، قال آريلي أنّ تحقيق «جامعة ديوك» قد انتهى إلى أنّه لم يتلاعب بالبيانات عن علمٍ، هذا على الرغم من أنّ آريلي يظلّ المصدر الوحيد لادّعاء كهذا؛ فقد صرّحت «جامعة ديوك» للصحافة بأنّها «ليست في موقع يمكّنها من التأكيد أو التدقيق في أيّ شيء بهذا الشأن». 

وفي حين ركّزت معظم التقارير على آريلي باعتباره الجاني المحتمل للتزوير، يبدو لافتًا أيضًا أنّ أحدًا من المؤلّفين المشاركين الأربعة في الورقة لم يكلّف نفسه عناء التدقيق في بياناتهم بما يكفي ليعرف أنّها كانت هراء مستحيلًا. يتساءل المرء ما الذي يفعلونه بوقتهم عوضًا عن ذلك. العديد من أوراق آريلي الأخرى لا تبدو مقنعة، ومع ذلك لا أحد يدقّق بما فيه الكفاية حتّى الآن للكشف عن تزوير معيّن. 

لا تتعلّق المسألة بالكشف عن بعض الأخطاء الشاذّة التي قد تظهر في أيّ عمل ضخم، بل هو فساد مُمَأسس داخل ثقافة الباحثين الأكاديميّين، مع تواطئ وتشجيع من الإدارة. خلال كتابة هذا المقال، عثرت عرضًا على مزيد من أمثلة التزوير البحثيّ المؤثّر من قبل أكاديميّين بارزين يتصدّرون مجالاتهم، أكثر ممّا أستطيع عرضه هنا. إذا كنتم تريديون أمثلة، يمكنكم إيجادها طوال الوقت. ما يدفع إلى السؤال: كم من عمليّات الاحتيال المشابهة تبقى غير مُكتشفة؟ وجدت دراسة أنّ نسبة الأوراق في الطبّ الحيويّ الأوروبّيّ، الّتي نُشِرَت وسُحِبَت لاحقًا، قد تضاعفت أربع مرّات بين عامي 2000 و2021.  

ولم لا؟ إذا لم يكن متوقّعًا من عمليّة مراجعة الأقران البيروقراطيّة، أو من المؤلّفين المشاركين في الأوراق، أن يدقّقوا بما فيه الكفاية لملاحظة التزوير الفاضح، وإذا كان اكتشاف التزوير يجري فقط من قبل محقّقين مستقلّين وفقط عندما يختارون الشروع بحملة شخصيّة طويلة الأمد في مواجهة الرياح المؤسّساتيّة المُعاكِسة، وإذا كان اكتشاف عمليّات التزوير تلك لا يظهر إلّا بعد عقود من وقوعها، في هذه الحالة، يمكننا أن نكون واثقين من أنّ معظم عمليّات التزوير تلك قد أفلتت من العقاب. لماذا لا يُسلِّمون النتيجة المثيرة الّتي وعدوا بها المانحين؟ لم لا يقبلون الشهرة والترقيات والمال؟ هل ستردعهم الخشية من أنّه بعد عشرين عامًا، قد يكون هناك بعض المقالات السيّئة على الإنترنت، ولكنّهم مع ذلك سيحتفظون بوظائفهم بينما يلتفّ زملاؤهم من حولهم؟ 

حتّى في حالة تيسييه-لافين، الذي اضطُرَ لمغادرة «جامعة ستانفورد» ليتولّى إدارة شركة ناشئة بمليار دولار، يبدو أنّه الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة، فهو لم يواجه أيّ عواقب بسبب ما اقترفه من تزوير، بل لأنّ ثيو بيكر كان لديه الصلات العائليّة الّتي مكّنته من إسقاط شخصيّة بارزة- الأمر الّذي يستحقّ الإشادة في هذه الحالة. قد ينتهي الأمر بهاو-يان أن يدفع ثمنًا أشدّ في حالة إدانته بفبركة البحث الخاصّ بـ «simufilam»، لكنّ ذلك يبدو ممكنًا فقط لأنّ متّهميه توقّفوا عن البحث وراء الحقيقة والعدالة داخل نظام المجلّات العلميّة. 

بدلًا من الدعوة إلى سحب الأوراق البحثيّة، توجّهوا مباشرة إلى الجهات التنظيميّة الفيدراليّة في «إدارة الغذاء والدواء» الأمريكيّة، ما أدّى إلى فتح تحقيق من قبل «لجنة الأوراق الماليّة والبورصات» (SEC). في كلّ حالات التزوير الواضحة الّتي نظرت فيها، لم أصادف أحدًا تعرّض لعقوبة جدّيّة من زملائه العلميّين أو الجامعة الّتي يعمل بها، إلّا في حال تعرّضت الجامعة لضغوطٍ خارجيّة من قوى مؤثّرة مثل الصحافيّين أو المدّعين الفيدراليّين. 

لكنّ الأكيد أنّ التزوير ليس المشكلة الوحيدة في العلوم الأكاديميّة؛ فالأكثر شيوعًا هي الجرائم الأقلّ درجة مثل التلاعب بالبيانات للوصول إلى نتائج إيجابيّة كاذبة و«الافتراض بعد معرفة النتائج» (HARking). كما أصبحت السرقات العلميّة أكثر فضائحيّة مؤخّرًا، ما أجبر كلودين جاي على الاستقالة من رئاسة «جامعة هارفارد»، المنصب الأعلى في النظام الأكاديميّ الأمريكيّ. وقد طفحت العديد من الحقول الأخرى بالمنشورات المليئة بالهراء والتلاعب اللفظيّ، بحيث أنّها عديمة المعنى إلى درجة أنّ تصنيفها «صحيحة» أو «خاطئة» لم يعد حتّى مفيدًا. لكنّ البيانات المزوّرة هي الأسوأ من بين هذه الخطايا، لأنّها مسؤولة عن أكبر كمّيّة من الأضرار الّتي يصعب على الباحثين الآخرين إصلاحها. ومع ذلك، كلّ هذه أعراض للمرض نفسه. 

مع بعض الاستثناءات المشرّفة، معظم الأكاديميّين لا يهتمّون كثيرًا بالحقيقة المطلقة، بل يفضّلون الحقيقة على الأكاذيب، إلّا إن كانت تكلفة الحقيقة لا تتعدّى دولارين. لكن إن كان ثمن الحقيقة جدّيًّا، فهم غير مستعدّين لدفعه. تكمن المشكلة في المؤسّسات التي تُجبر الأكاديميّين على الاختيار بين الثروة والمكانة والنجاح المهنيّ من جهة، وبين السعي وراء الحقيقة من جهة أخرى. لكنّه أيضًا خلل في شخصيّة الأكاديميّ الذي يختار أن يدير ظهره للحقيقة من أجل هذا. لقد أوجدَت حضارتنا الجامعات ومنحتها الامتيازات الخاصّة لأنّنا ندرك أنّ السعي غير المقيّد وراء الحقيقة هو السعي الأنبل، وأيضًا الأكثر فائدة. لقد مُنِحَ هؤلاء الأشخاص ثقة مقدّسة، وخانوها في سبيل سعيهم لتأمين مكانة أكثر راحة. لا يمكن التقدّم بالمعرفة البشريّة بمجموعة من المهنيّين النفعيّين والبيروقراطيّين، مهما كانت كمية الورق التي تُطبع. تأتي المعرفة، ودائمًا ما كانت تأتي، من أشخاص مجانين في رحلة روحيّة نحو الحقيقة، أشخاص سيتجاهلون المشاغل الدنيويّة في سعيهم الذي لا يشبع نحو المعرفة. يعيش الأكاديميّون اليوم على أنقاض معبد بناه رجال أفضل. 


1) سام باكمان فريد، رجل أعمال أمريكي، أسس شركة FTX، وهي واحدة من أكبر منصات تداول العملات الرقمية في العالم قبل انهيارها في عام 2022. وقد سجن عام 2023 بتهمة الاحتيال وغسيل الأموال.
2) يشير مصطلح (p-hacking) وبالعربية «جرف البيانات» إلى نمط من التلاعب بالبيانات للعثور على أنماط فيها يمكن تقديمها على أنها ذات دلالة إحصائية.