اقتصاد

«مش ملحقين ليرات»: ما الذي يحصل في سوق الذهب المحلي؟

يشهد سوق الذهب في الأردن إقبالًا غير مسبوق رغم أسعاره المرتفعة، فما الأسباب وراء هذا الإقبال، وكيف يتعامل السوق معه؟

منتصف نيسان الماضي، توجه محمد،* 32 سنة، إلى أحد محلات الذهب في منطقة جبل الحسين لشراء ليرتي ذهب (رشادي)، لكنه تفاجأ بعدم توافرها لدى البائع. «هات اسمك ورقمك، برنلك خلال أسبوع»، أخبره البائع أن الليرات والأونصات لديه قد انقطعت بعد تزايد الإقبال عليها مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع الرسوم الجمركية على الصين وباقي دول العالم بنسب متفاوتة. 

مع نهاية كل شهر، يدّخر محمد ما يتبقى من راتبه بشراء الذهب، وهي عادة بدأها مطلع عام 2023 بعد أن باع مزرعة كان يعرضها للإيجار كطريقة للاستثمار. يقول محمد إن المزرعة التي وضع فيها حوالي 27 ألف دينار من مدخراته كمحاسب واستشاري ضريبة «ما جابت همها» بعد خمس سنوات من عرض خدماتها للأصدقاء والأقارب ومختلف الزبائن عبر السوق المفتوح. وهو ما دفعه لبيعها وتحويل نقوده إلى الذهب وزيادتها في كل مرّة تسنح له الفرصة.

بشكل غير مسبوق، ارتفع الطلب على شراء الليرات والأونصات الذهبية في الأردن بشكل كبير منذ آذار الماضي، ووصل ذروته منتصف نيسان، ليصل لحوالي 60% مقارنة بالأسابيع السابقة بحسب أمين سر النقابة العامّة لأصحاب محلات الحلي والمجوهرات سليم ذيب. وفي المقابل تراجع الإقبال على الحلي والمصوغات الذهبية المرتبطة بالزينة والمناسبات. بعد أسبوع من انقطاعها، عادت الليرات والأونصات لتتوفر في السوق الأردني. ورغم انخفاض أسعار الذهب قليلًا منذ بداية أيّار، إلا أن الإقبال القوي مستمر، وهو يعبّر عن تحوّل في أولويات الشراء وأنماط الادخار المحلية. 

بعد أيام من إعلان ترامب رفع الرسوم الجمركية مطلع نيسان الماضي، ارتفع سعر غرام الذهب محليًا تبعًا لارتفاع الأسعار العالمية بنسبة 8٪ ليصل إلى 67.9 دينارًا لعيار 21. ورغم أن أسعار الذهب غير مرتبطة بالرسوم الجمركية بشكل مباشر، إلا أن الحالة التي خلقتها هذه الأخبار بما فيها السعي الأمريكي لخفض قيمة الدولار زادت من الطلب على الذهب وكرّست من الاعتمادية عليه كملاذ آمن، الأمر الذي رفع سعره. وفي حين أن أسعار الذهب تتأثر بالعرض والطلب، إلا أن النظر إليها في هذا الإطار وبوصفها سلعة مثل أي سلعة أخرى هو فهم قاصر للمعدن، يقول الخبير الاقتصادي حسام عايش، إذ يتأثر الذهب بمجموعة مركبة ومتقاطعة من العوامل الاقتصادية التي غالبًا ما تكون مدفوعة بأحداث جيوسياسية عالمية. 

أدّت مخاوف المستثمرين لزيادة إقبالهم على الذهب ليصل سعرًا قياسيًا بلغ محليًا 71 دينار للغرام في الثاني والعشرين من نيسان الماضي، ولم تكن أسعار الذهب المرتفعة كفيلة بكبح إقبال الزبائن على شراء الليرات والأونصات في الأسواق الأردنية، يقول أسامة أحد تجار الذهب في وسط البلد مضيفًا أن «الناس خافت وصارت تشتري بغض النظر عن السعر لأنه كان فيه اعتقاد أنه رح يغلى كمان». 

منذ بداية شهر أيّار الجاري شهدت أسعار الذهب أكثر من خمسة تصحيحات أو انخفاضات متتالية، وهو ما يعتبره أسامة «فرصة للشراء» في ظل تزايد معدلات الشراء. يستقبل أسامة طلبات تأمين الليرات والأونصات بشكل مستمر منذ بداية نيسان الماضي عبر محله ومشغله وهاتفه وحساباته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. وبعد أن كان يحتفظ عادة في محله بعشرين ليرة رشادي أو إنجليزي على الأكثر وبالكاد يتمكن من بيعها على مدار شهرين، أصبح هذا الرقم هو متوسط الليرات التي يبيعها في غضون ثلاثة أيام. 

«مش ملحقين ليرات»، يقول أسامة الذي اضطر لبيع الليرات التي يحتفظ بها شخصيًا كمدخرات على أن يعيدها لنفسه لاحقًا بعد انفراج الطلب، مستذكرًا التهافت على الأسواق قبل أسبوعين والذي انخفض بشكل طفيف لكنه ما زال مستمرًا. يؤمّن أسامة الليرات عبر تصنيع الذهب الخام المستورد من سويسرا في مشغله في عملية تستغرق ما لا يقل عن 12 يومًا من الاستيراد حتى التصنيع. إلا أن الليرات بصيغتها الأولية في المشغل غير جاهزة للبيع، إذ تشترط مؤسسة المواصفات والمقاييس دمغها بعد تفقد جودتها وعيارها ولا يمكن طرحها في السوق قبيل ذلك. 

كان فحص ودمغ كيلوغرام من المصوغات المشغولة يستغرق عادةً ما معدله من ساعة إلى ساعتين اعتمادًا على شكل المصاغ ووزنه، إلا أن كمية الليرات والأونصات المقدمة للدمغ ازدادت خلال شهري آذار ونيسان بحيث تم استلام ودمغ ما يقارب 50-70 كيلوغرام يوميًا (مقارنة بـ10-15 كيلوغرام في الأشهر التي سبقت)، مما اضطر أسامة وغيره من التجار للانتظار أكثر من ست ساعات للحصول على دمغة الليرات الذهبية، وهو ما استجابت له مؤسسة المواصفات والمقاييس «عبر اتخاذ الإجراءات الإداريّة اللازمة التي تضمن الإنجاز بكفاءة لجميع المعاملات وكميّات المصوغات الواردة إليها»، بحسب مديرية المصوغات في المؤسسة. 

مطلع الأسبوع الحالي، تراجع سعر الذهب لـ65.6 للغرام إثر اتفاق بين الولايات المتحدة والصين على تقليص الرسوم الجمركية المتبادلة مؤقتًا، ثم عاد وانخفض أكثر بعد ثلاثة أيام لـ63.9 دينار للغرام مع تزايد التفاؤل التجاري حول علاقة البلدين -قبل أن يعود ليرتفع بقيمة دينار مع نهاية اليوم-، وهو ما دفع إلى موجة شراء جديدة بحسب التجار، إلا أنه أثار كذلك بعض الهلع حول الخسارة بين مشتري الذهب على مجموعات الفيسبوك. يقول ذيب إن الذهب سيواصل ارتفاعه على المدى المتوسط والطويل في ضوء قيمته وندرته وسلوكه التاريخي والظروف الاقتصادية المحيطة، إلا أن هذه الارتفاعات الاستثنائية المفاجئة من المحتمل أن يتبعها انخفاضات هي أشبه بالتصحيحات المرحلية التي غالبًا ما ترتبط بالتسويات الاقتصادية العالمية، قبل أن يرتفع سعره مجددًا بشكل تدريجي. 

يدير المحلل الاقتصادي المتخصص في الذهب خالد نزال مجموعة فيسبوك بدأت عام 2020 يشارك عليها نصائح وتحليلات الذهب مع أكثر من 20 ألف عضو. «أول ما ينزل الذهب شوي، الناس بتصير تفكر تبيع»، يقول نزال الذي يعتبر أن هذا التصرّف لا ينم عن فهم عميق لأسعار الذهب التي ارتفعت باستمرار على مدار السنوات السابقة وبشكل استثنائي في محطات كبيرة هي ارتفاع اسعاره بنسبة 254% نهاية السبعينيات جراء التضخم المرتفع، وبنسبة 171% بالتزامن مع الأزمة المالية العالمية والتيسير الكمي من عام 2008-2011، وبنسبة 73% إثر جائحة كوفيد-19 والتوترات التجارية التي رافقتها، وبنسبة 83% منذ منتصف عام 2023. 

بالإضافة إلى حرب أوكرانيا والحرب على غزّة، ساهمت قرارات البنوك المركزية الكبرى في العالم في زيادة الطلب على الذهب في العامين الأخيرين، حيث كثّف بنك الشعب الصيني والبنك المركزي الروسي من مشترياتهما بهدف تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، بينما اتجهت بنوك مثل البنك المركزي التركي والهندي لتعزيز احتياطاتها في ظل ضغوط اقتصادية محلية. وقد انعكس هذا التوجه العالمي نحو الذهب كملاذ آمن على ارتفاع أسعاره في الأسواق الدولية وزيادة إقبال المستهلكين عليه. وأفادت تقارير مجلس الذهب إن الطلب العالمي على الذهب سجل عام 2024 مستوى قياسيًا جديدًا مع صعود مشتريات البنوك المركزية ونمو الطلب الاستثماري بقيمة 4974 طنًا مقارنةً بـ 4899 طنًا في عام 2023. 

كان الأردنيون يقبلون عادة على الذهب في مناسبات الزواج ومواسم الصيف والعطلات، إلّا أن هذا تغيّر في السنوات الأخيرة، وصاروا يقبلون عليه لأسباب اقتصادية يقول عايش. وقد انعكس هذا التحول عبر شراء أشكال محددة من الذهب المصنّع لغايات الادخار أو الاستثمار بدلًا من الذهب المشغول لغايات الزينة، وهو جزء من الإقبال العالمي المدفوع بالقلق من الأحداث السياسية المتغيرة والحاجة للتحوّط ضد الظروف الاقتصادية الصعبة. 

إضافة لتزايد الإقبال على تملّك الذهب بشكل مادي وهو الأمر الذي شهد سوقه توسعًا في السنوات الماضية، يلجأ الأردنيون لأشكال أخرى من الادخار عبر شراء الذهب بشكل افتراضي عن طريق حسابات بنكية. يقول أحد العاملين في قسم الخزينة والاستثمار في بنك محليّ إن البنك بدأ منذ عامين إتاحة هذه الخدمة عبر التطبيق الإلكتتروني. يعفي هذا الشراء الافتراضي الأفراد من تحمل أعباء تخزين وتأمين الذهب، كما يبدأ الاستثمار فيه بأي قيمة ووزن، وقد يكون مرغوبًا أحيانًا عندما يتزايد الطلب بشكل كبير على الذهب المادي، خصوصًا وأن البنك واجه ما واجهته الأسواق من تراجع في توفر الأونصات للبيع خلال الشهر الماضي، إذ إنه يستورد الذهب بشكل مستقل على شكل سبائك وأونصات ويحتاج إلى دمغه من المؤسسة العامّة للمواصفات والمقاييس أسوة بتجار الذهب.

جاءت خدمة شراء الذهب الافتراضي، والتي تحاكي مبدأ عمل الأسهم، استجابة للطلب المتزايد على الشراء خلال السنوات الثلاثة الأخيرة. وإضافة لهذه الخدمة يوفر البنك خيارات أوسع من الأونصات تستطيع مختلف الشرائح المجتمعية شراءها مثل السبائك التي لا يتجاوز وزنها غرامًا واحد، في ظل تزايد الإقبال على شراء الذهب من قبل الشباب أيضًا، وكذلك محدودية خيارات الادخار والاستثمار المتاحة محليًا. 

لاحظ نزال عبر منشورات مجموعته أن الذهب أصبح الخيار الادخاري الأول للناس بعد أن قام بعضهم ببيع أسهمه ومدخراته من الدولارات وتحويلها إلى ذهب فعلي أو أرصدة ذهب. ويتزايد هذا عندما لا تشجع الظروف الاقتصادية على فتح المشاريع الاستثمارية. فالذهب -بالنسبة لهم- يحتفظ بقيمته مقابل الأسهم التي قد تخسر شركاتها أو الدولار الذي تنخفض قيمته أو الودائع محدودة الفوائد أو حتى شراء الأرض أو العقار التي تتكدس دون مشترين ولا يمكن بيعها بالتجزئة وبسهولة ودون حدود جغرافية مثل قطع الذهب.

يتفق محمد مع ذلك مؤكدًا نيته مواصلة شراء الذهب مهما بلغت أسعاره وبأي مبلغ شهري فائض عن حاجته «حتى لو خمس دنانير»، وذلك إما عبر حجز الليرات المتوافرة عند التجار أو إضافتها لحساب الذهب الذي يملكه. بالنسبة له، فإن الذهب «إذا ما ربح، ما بخسر» حتى لو مرّت الحالة الاقتصادية العالمية بتهدئات مؤقتة، مستشهدًا بآخر التقارير التي تتوقع أن يصل سعر الذهب إلى 3700 دولار للأونصة بحلول نهاية 2025، على أن يواصل الارتفاع ليبلغ 4000 دولار للأونصة بحلول منتصف 2026، بحسب مؤسستي غولدمان ساكس ويو بي إس.