سياسة

في الذكرى الثمانين لهزيمة النازية: عن عالمٍ لا يتضامن إلا مع ضحايا «الإبادات الماضية»

في الذكرى الثمانين لهزيمة النازية، أصبحت الذكرى -التي من المفترض أن تنتصر للضحية- توظف لخدمة «إسرائيل» كضحية مستمرّة حتى وإن كانت جلادًا.

بينما يُشعِل العالم الشموع للأموات في ذكرى هزيمة النازية، تطفئ «إسرائيل» أرواح الأحياء في غزة. لتتحول ذاكرة الإبادة إلى مجرد متحف. 

في السابع من أيار 1945، عند الساعة 2:41 صباحًا وفي إحدى غرف مدرسة فرانكلين روزفلت الثانوية بمدينة رانس الفرنسية ماتت النازية الألمانية بوصفها نظام حكمٍ وقوةً عسكرية. قبل الفجر أرغم الجنرال الأمريكي والتر بيديل سميث رئيس أركان قوات الحلفاء، نظيره الألماني ألفريد يودل ممثل القوات المسلحة للرايخ الثالث، على التوقيع على وثيقة الاستسلام. ثم وقع الجنرال السوفييتي إيفان سوسلوباروف نائبًا عن الجيش الأحمر، والجنرال الفرنسي فرانسوا سيفيز نائب رئيس أركان الدفاع الوطني، بصفته شاهدًا. وفي اليوم التالي، وتحديدًا عند الساعة 11:01 ليلًا بتوقيت ألمانيا وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها.

طوى العالم صفحة داميةً من تاريخ البشرية تاركًا وراءه أكثر من خمسين مليون قتيل، معظمهم من المدنيين: 400 ألف أمريكي، ومثلهم من البريطانيين، و600 ألف فرنسي، وثمانية ملايين ألماني، وعشرين مليون سوفييتي. ومع ذلك ظلت النقطة المركزية في هذه الحرب، وعلى نحو أدق في الذاكرة التي أنتجت بعدها، هي المحرقة، أو الإبادة الجماعية المنظمة التي قتلت حوالي ستة ملايين يهودي وملايين آخرين من الغجر وذوي الإعاقة. 

تحوّلت الإبادة النازية مع الزمن إلى رمز لتيار عالمي معادٍ للحربٍ وملتزم بعدم تكرار فظائع النازية وسائر النزعات العنصرية. ورغم أن هذا الوعد سرعان ما تبدّد بعودة القوى التي شاركت في هزيمة النازية إلى حروبها الاستعمارية، ولا سيما فرنسا في الجزائر والهند الصينية، والقصف النووي لهيروشيما وناغازاكي من قبل الولايات المتحدة، وكذلك والأهم، بحلّ المسألة اليهودية الأوروبية على حساب العرب من خلال نكبة فلسطين عام 1948. إلا أن دحر النازية ظلّ دائمًا متلازمًا مع انتصار دماء ضحايا الإبادة، درس البشرية الأوضح في كون السماح بالإبادة وإطلاق العنان للعنصرية المسلحة، ستكون تكاليفه باهظة ليس فقط على الجلاد والضحية ولكن على المتفرجين وغير المبالين. 

وقد كرست تيارات الفكر الرئيسية في الغرب ووسائل الإعلام هذه الرمزية، رغم أنها لطالما خانت نفسها عبر تبرير الحروب، إلا أن ما نشهده اليوم من انجراف بعيد عن هذه الرمزية في التعامل مع الإبادة الجماعية الجارية في غزة، يطرح أكثر من سؤالٍ عما سيغيره السابع من أكتوبر، ليس فقط من خرائط على الأرض، بل من أفكارٍ وطرق تفكيرٍ وقيمٍ. هل يمكن للذكرى التاريخية أن تحتفظ بقوتها الأخلاقية إذا انفصلت عن الفعل في الوقت الحاضر؟ واليوم وفي الذكرى الثمانين لهزيمة النازية، يحارُ المرء أمام سياسات التلاعب بالذاكرة والتاريخ، حيث أصبحت الذكرى -التي من المفترض أن تنتصر للضحية- توظف لخدمة «إسرائيل» كضحية مستمرة حتى وإن كانت جلادًا. فكيف يمكننا أن نحتفل بهزيمة أحد أعظم الشرور في التاريخ بينما نبدو غير مبالين أو مشلولين في مواجهة الشر القائم اليوم؟ لكن ما يطمئن هو أن نتذكر دائمًا أن هذه الذكرى تؤكد لنا حتمية سقوط أي نظام قائم على العنصرية والإبادية.

ألمانيا دائمًا في صف الإبادة

في خطابه الشهير أمام الرايخستاغ، الذي ألقاه في 30 كانون الثاني 1939، بمناسبة الذكرى السادسة لاستيلاء الحزب النازي على السلطة. يقول هتلر: «اليوم سأكون نبيًا من جديد. إذا نجح الممولون اليهود الدوليون، داخل أوروبا وخارجها، في جرّ الأمم مجددًا إلى حرب عالمية، فلن تكون النتيجة بلشفة الأرض وبالتالي انتصار اليهود، بل إبادة العرق اليهودي في أوروبا». في ذلك الوقت، شكلت الإبادة مصلحة الدولة الألمانية العليا في نظامٍ عنصري يؤمن بالتفاضل بين الأعراق. وبعد سبعة عقودٍ وصفت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل الارتباط الألماني بـ«إسرائيل»، في خطاب ألقته أمام الكنيست الإسرائيلي عام 2008 بأنه «المصلحة الأعلى للدولة الألمانية». للوهلة الأولى يبدو الموقفان متعارضين تمامًا، لكنهما في الجوهر موقف واحد.

ألمانيا دائمًا في صف الجلاد، ولم يتغير سوى الضحية، كان يهوديًا فأصبح فلسطينيًا. لذلك فإن الموقف الألماني الداعم للإبادة في غزة منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم، منسجم مع ذاته سياسيًا وتاريخيًا. وقد قال المستشار الألماني السابق أولاف شولتز في تل أبيب بعد أيامٍ من انطلاق الحرب إن «تاريخ ألمانيا ومسؤوليتها عن الهولوكوست يلزماننا بالحفاظ على أمن إسرائيل ووجودها».

لم يعد الأمر يتعلق بالاعتقاد بأن الهولوكوست جعل ألمانيا تتحمل مسؤوليةً تجاه الإنسانية بل أصبح متعلقًا بمسؤوليتها تجاه «إسرائيل» وحدها. وهو ما تلخصه المؤرخة باربرا ستولبرغ-ريلينغر بالقول: «عندما يسأل المرء نفسه، كألماني، ما الذي ينبغي أن يترتب على الشعور بالذنب الألماني، هل ينبغي أن يكون الاستنتاج هو دعم السياسة الإسرائيلية في جميع الظروف ودون قيد أو شرط؟ ألا ينبغي أن يكون الأمر متعلقًا بالدفاع عن حقوق الإنسان في جميع الظروف دون قيد أو شرط؟». 

هذا الإصرار على تفرّد الهولوكوست يؤدي وظيفة أعمق في ألمانيا، كما يشير إلى ذلك الأكاديمي اليهودي المعادي للصهوينية والمتخصص في دراسات الهولوكوست راز سيغال، حيث يسمح للنازية بالانفصال عن بقية التاريخ الألماني، أي تطهير ألمانيا من لوثة الإبادة، مما يجعلها حدثًا خارج الزمن، منفصلًا عن أي استمرارية مع الماضي الاستعماري وما بعد النازية للبلاد، قبل وبعد الهولوكوست. تحجب هذه الخدعة الروابط بين النازية والإبادة الجماعية الاستعمارية التي ارتكبتها الإمبراطورية الألمانية في ناميبيا بين عامي 1904 و1908، وقُتل خلالها أكثر من 80% من شعب الهيريرو و50% من شعب الناما، أي قبل حتى أن يكون الحزب النازي في السلطة. كما أنها تعمل على محو عودة ظهور القومية الألمانية الإقصائية والعنصرية ضد المهاجرين واللاجئين.

بهذا المعنى نجد أن النازية لم تكن سوى مرحلة من تاريخ ألمانيا القومي العنصري، أو ذروة الطبيعة الإبادية للكيان الألماني. سيما وأن النزعات الفلسفية الألمانية لا تخلو من أفكار التفوق العرقي والقومية الاستعلائية، وهو ما تؤكده شعبية حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي يمثل امتدادًا للنازية الألمانية في شكل أكثر معاصرةً، والذي دعا زعيمه بيورن هوكه، الألمان في خطاب ألقاه عام 2017، إلى التوقف عن التكفير عن جرائم النازية، وإجراء «تحول جذري» في طريقة تذكرهم لماضيهم. وفي المقابل تعرّض راز سيغال، الذي وصف الحرب الإسرائيلية في غزة بالإبادة الجماعية، انطلاقًا من عدة مفاهيم اكتسبها على مدى عقود من دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية، لخسارة منصبه في جامعة مينيسوتا بسبب الضغوط السياسية الشديدة قادها ضده اللوبي الصهيوني.

يعيد الكاتب الألماني، هانز كوندناني، في كتابه «يوتوبيا أوشفيتز»، هذه المتلازمة الألمانية الغربية تجاه الصهيونية إلى ستينيات القرن الماضي، حين انبثقت ثقافة الذاكرة الألمانية من يسار جديد سعى لمواجهة الماضي النازي. كان هؤلاء النشطاء أول الألمان الذين ربطوا هويتهم الوطنية بمسؤولية بلادهم عن المحرقة. لكن أفكار هؤلاء لم تصبح موضع تطبيقٍ في السلطة إلا بعد أن أصبح يوشكا فيشر، وزيرًا للخارجية عام 1998، الذي جاء إلى يسار الوسط قادمًا من تجربة في اليسار الثوري المسلح. عندما أصبح فيشر وزيرًا للخارجية في حكومة الاشتراكي الديمقراطي، غيرهارد شرودر، أتيحت له الفرصة لوضع أفكاره موضع التنفيذ، ليصبح الدفاع عن الصهيونية جزءًا من السياسة الخارجية الألمانية. وتحت شعار «لن يتكرر أوشفيتز أبدًا» دافع فيشر عن مشاركةٍ عسكريةٍ ألمانية في قصف الناتو لصربيا عام 1999، بسبب التطهير العرقي في كوسوفو. وقد ورث اليمين المسيحي هذا الالتزام عن اليسار في عهد ميركل، التي كرسته كأحد المصالح العليا الاستراتيجية للدولة، ليصبح إجماعًا بين جميع الأطياف السياسية. وخلال تشكيل الحكومة الائتلافية عام 2021، بين الاشتراكيين الديمقراطيين والخضر والديمقراطيين الأحرار، نص الاتفاق بينهم حرفيًا على أن: «وجود إسرائيل وأمنها هو من مبادئ الدولة».

أسطورة «لن يتكرر هذا أبدًا»

من الشعارات الألمانية التي تضجّ بها ذكرى هزيمة النازية هذا العام وكل عامٍ شعار: «لن يتكرر هذا أبدًا». هو شعار ذو وجهين؛ وجه محق، فما حدث في المحرقة اليهودية، التي خططت لها ونفذتها ألمانيا لن يتكرّر، لأن ريع المحرقة الرمزي والتاريخي قد استولت عليه «إسرائيل»، ودفعت ثمنه ألمانيا. ووجه يُكذّبه الواقع، فالإبادة تكررت منذ المحرقة مراتٍ ومراتٍ في كثيرٍ من بقاع العالم، وتتكرر اليوم على نحو غير مسبوقٍ من البشاعة في غزة. لذلك يبدو شعار يوشكا فيشر، «لن يتكرر أوشفيتز أبدًا»، أكثر صدقًا وانسجامًا مع ذاته الألمانية. فكل الوعود الألمانية بالتوبة عن الإبادة تتعلّق بالإبادة اليهودية.

وهذا يقودنا إلى مسألة أكثر بشاعةٍ من دعم الإبادة وهي إنكار وجودها، أي حرمان الضحايا من أن يكونوا ضحايا في الحاضر والمستقبل. فلا تكتفي ألمانيا برفض استخدام مصطلح «الإبادة الجماعية» لتوصيف الحرب الإسرائيلية في غزة ولكنها تعتبر الإبادة بمثابة حقٍ إسرائيليّ مشروع في الدفاع عن النفس. ورغم أنها تعرب عن قلقها إزاء الأزمة الإنسانية، فإنها تتجنب إلقاء اللوم على «إسرائيل» بسبب الضرر غير المتناسب الذي يلحق بالمدنيين، وكأن الأزمة الإنسانية تحدث من تلقاء نفسها دون جلادٍ، ممعنةً في التصويت ضد قرارات الأمم المتحدة التي تدعو إلى وقف إطلاق النار وبشأن دعوات المساءلة. الدولة التي تعهدت بعدم تكرار ذلك في الحقيقة لم تتعهد بألا يتكرر ذلك أبدًا لأحد، ولكن لبعض البشر فقط.

لكن هذا الانكار ليس بدعةً ألمانية، بل تتقاسمه مع عدد كبير من الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة، التي تتصدر مع فرنسا وبريطانيا المحتفلين بدحر النازية الإبادية. فسواء نظرنا إلى غزة باعتبارها موقعًا لجرائم الحرب، أو التطهير العرقي، أو الإبادة الجماعية، وبغض النظر عن التوصيف القانوني لما يجري وهو ذريعة تافهة يتشبث بها المنكرون، فإن الثقل الأخلاقي لموت الأطفال بالمئات، والقصف العشوائي، والرضّع المدفونين تحت الأنقاض، يفرض نفسه على ضمير من يخلّد هذه الذكرى. 

الهدف من تذكر الهولوكوست وهزيمة النازية لم يكن مجرد تذكر المعاناة اليهودية، بل صحوة جماعية على الهاوية التي يمكن أن تسقط فيها البشرية، وإلى الشر الذي لا يأتي كقوة غريبة؛ وإنما يتشكل من قرارات لم تُتخذ، وكلمات لم تُنطق، وتعاطف حُجب. 

في مكان ما يحذر فالتر بنيامين من أنه «حتى الموتى لن يكونوا في مأمن من العدو إذا انتصر»، لكن العدو ليس دائمًا شخصًا أو أمة، أحيانًا يكون المنطق الذي يقول إن بعض الأرواح أقل قيمة، وأن بعض المعاناة ليست كافيةً أو في مستوى معاناة سابقة بحيث لا يمكن الاعتراف بها، وأن بعض الجرائم مكلفة سياسيًا للغاية بحيث لا يمكن تسميتها.

تظل أسئلة الذاكرة عالقةً في حيز اللامنطق، بين الذكرى وحاضرها: ما هي القيمة الأخلاقية للذاكرة إذا لم توجه القيم والسلوك في الحاضر؟ تصبح الذكرى جوفاء إذا لم تكن مرتبطة بالعدالة. وعندما يحتفل العالم بانتصارات الماضي على الشر بينما يلتزم الصمت أو يتواطأ في الحاضر، فإنه يخاطر بتحويل الذاكرة إلى أسطورة. لذلك فإن السابع من أكتوبر، ما زال مستمرًا في كسر مقدّسات وأساطير كيان الاحتلال، مجرّدًا إياه من رأسماله الرمزي والتاريخي والمعنوي في الغرب قبل الشرق.